ليل يكر عليهم ونهار
وخير لنا يا سيدتي وقد طار من بيننا الحب، أن نضع مكانه صداقة نقية كريمة، هي بنا أليق، وبذكرياتنا القديمة أجدر.
إن حبنا لم يطر يا أحمد. - قولي ما شئت يا سيدتي. - لا تقل «يا سيدتي» قل «يا عائشة». - قولي ما شئت يا عائشة، فإن قلبي إذا انصرف عن شيء عجز أهل الأرض عن إكراهه عليه. - دعه لي يا أحمد وأنا أعرف كيف أروضه، وكيف أعيده إلى سالف عهده، دعه لي يا أحمد، وهلم بنا نفر من هذا البلد المشئوم لنعيش في أي بلد آخر زوجين سعيدين. - إن قلبي ليس بين جنبي. - آه إنه عند ولادة أيها الأحمق! لقد كنت أريد لك الخير كله، كنت أريد أن أنقذك من ابن جهور، وكنت أريد أن أنقذك من ولادة، ولكنك كالفراشة الخرقاء تسقط على النار فلا تفارقها حتى تحترق. إن صيحة مني الآن تجمع عليك العسس ورجال الشرطة، وتزج بك في ظلمات السجون. فقلها كلمة واحدة أتريد أن تكون لي زوجا؟ - لا. - فصاحت عائشة: يا بلال! وما كاد بلال يسمع نداءها حتى صرخ بأعلى صوته: اقبضوا على ابن زيدون! اقبضوا على ابن زيدون! وسمع أعوان الوالي صوته فاندفعوا نحو الدار في لغط وصياح، وأقبلوا ليقفوا على جلية الأمر، وقال أحد الجنود: أين ابن زيدون؟ فأشار بلال إلى دار حمدانة، وتكاثر الجند على الباب فخلعوه، واندفعوا في فناء الدار كأنهم الأتي
6
الجارف، وتسللت عائشة من الباب، واندست بين الجمع المحتشد تبحث عن بلال لتبادر معه الفرار. وما كان الجند يقبضون على ابن زيدون حتى سمعوا نداء من مئذنة مسجد الشهداء، فتسمعوا فإذا المؤذن يقول: سلام على الإسلام بعد ابن جهور! سلام على الحق والعدل بعد ابن جهور! سلام على الجهاد في سبيل الله بعد ابن جهور! أيها المسلمون مات ابن جهور وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها الساعة راضية مرضية. أيها القرطبيون! مات خادم الدين، وحامي المسلمين، فترحموا على تلك النفس الزكية، واضرعوا إلى الله أن ينزلها عنده في جنات النعيم. أيها القرطبيون! مات ابن جهور وخلفه ابنه أبو الوليد محمد، وهو من تعرفون حزمه وعزمه ودينه وغيرته على الإسلام، فادعوا له بالعز والتوفيق.
وما كاد ابن زيدون يسمع الدعاء حتى صاح بالجند: أدركوا المرأة الأسبانية، أدركوا جاسوسة الإفرنجة. ثم جذب رئيسهم من ذراعه، وأشار بيده إلى المرأة وكانت قد ابتعدت عن الدار، فكر نحوها الجنود، وقبضوا عليها، ثم اتجه ابن زيدون إلى رئيس الجند وقال: والآن تستطيع أن تشد وثاقي إذا أردت.
فقال الجندي متهكما: وإذا لم أرد؟ - كان ذلك خيرا لك وأدعى إلى مكافأتك. - كيف؟
لأني كنت طريد ابن جهور، وهو قد لاقى ربه كما سمعت من نداء المؤذن. أما خليفته أبو الوليد فأحب الناس لي، وأعطفهم علي، وقد بذل جهد طاقته لتخليصي من السجن أيام أبيه فلم يستطع. - عذرا يا سيدي فإني لا أعرف ذلك، ولكني أمام شخص يقال إنه فر من سجنه، ولا أملك إلا أن أذهب به إلى صاحب المدينة ليرى فيه رأيه. - افعل ما شئت أيها الجندي الشجاع، ولكن حذار من أن تفلت من يدك هذه المرأة، فإنها أضر على الدولة من جميع الأسبان في الشمال. ثم انطلقوا جميعا إلى دار عميد الجماعة الجديد.
وكان ابن زيدون وهو في الطريق يغمغم بأبيات من الشعر ازدحمت بصدره تطلب متنفسا، فلما مثل أمام أبي الوليد ابن جهور، قام له وأخذ يعانقه مداولا بين الترحيب والاعتذار له عما ناله من ضر أيام أبيه، ثم شد على يديه وهو يقول: لقد عفا عنك أبي قبل موته، دخلت عليه في مرضه فأحسنت فيك القول، وذكرت ما أصابك من ضعف النفس والجسد، وألححت عليه في ألا يجعل إهدار حياتك آخر ما يتقدم به إلى ربه. فقال في صوت خافت: إن ابن زيدون كوكب الأندلس، والكواكب لا تطفأ بالأفواه، وقد تمر السحب فتحجب من ضيائها، ثم تنقشع. فأسرعت أقول: أعفوت عنه يا أبي؟ فهز رأسه فيما يشبه الرضا وقال: ومن أنا يا ولدي حتى أعفو عنه؟ الله يعفو عنه ويعفو عنا جميعا. ولم أرد أن أثقل عليه بعد أن عرفت حسن رأيه فيك. ورجوت أن يبل من مرضه بعد أيام، وأن يطلق سراحك بنفسه، ولكن المنية فاجأتنا فيه يا أبا الوليد.
فاتجه ابن زيدون إلى السماء يستمطر الرحمات على الكريم الراحل، ويعتذر عنه بأنه لم يعمل إلا ما كان يراه حقا وصوابا، وبأنه أنصت إلى الوشاة فزينوا له الباطل، وأدخلوا عليه من زخارف القول ما لم يستطع له تكذيبا. ثم هنأ الحاكم الجديد ودعا له بالتوفيق والسداد، ومد يده فأخرج من كمه رقعة ثم أنشد:
अज्ञात पृष्ठ