وأفحم من تصدى لمعارضته من فصحاء عدنان، وبلغاء قحطان، حتى حسبوا أنهم سحروا تسحيرا. ثم بين للناس ما نزل إليهم حسبما عن لهم من مصالحهم ثبوت الفعل لفاعله ولا تدل على المبالغة. قوله: (وأفحم) أي واسكت لغاية فصاحته وكمال بلاغته من تصدى لمعارضته. والظاهر أنه معطوف على قوله: «فلم يجد به قديرا» بين بالقرينة الأولى عدم قدرتهم على ذلك رأسا وبالثانية عدم ظهور قدرتهم على معارضته وإتيان مثله بعد التصدي بمعارضته ممن توهم أن له قدرة ما على ذلك قبل التصدي. وفي أكثر النسخ «افحم» بدون الواو إما على الاستئناف جوابا عما يقال من أين علم عدم وجود من يقدر على ذلك رأسا؟ فكأنه قيل في الجواب إنه أعجز كل الفصحاء والبلغاء فلزم عجز الكل ضرورة، وإما على أنه تأكيد وتقرير لما سبق من نفي قدرة فصحائهم وبلغائهم عموما على سبيل الكناية لأن القدرة على ذلك إذا انتفت عن أكملهم في البلاغة لزم انتفاؤها عن الجميع فنفيها عن الكمل باعتبار دلالته على هذا اللازم يكون تأكيدا لما سبق. والمراد بعدنان وقحطان قبائل العرب المشهورة بكمال الفصاحة والبلاغة. قوله: (حتى حسبوا أنهم سحروا تسحيرا) إذ لم يهتدوا إلى التفرقة بين السحر والمعجزة. ثم إن المصنف لما فرغ من تحقيق إعجاز القرآن شرع في بيان أسلوبه في الدلالة على ما فيه من الحكم والإحكام وفي كيفية تكميله وإرشاده للأنام فقال: (ثم بين للناس) أي لكل نوع البشر عموما وإن لم ينتفع البعض بذلك التبيين ولم يتبين له المراد لعدم تبصره وسلوكه طريق الانتفاع بذلك البيان، وأشار بكلمة «ثم» إلى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن لم يجز تأخيره عن وقت الحاجة إلى العمل بمضمونه، وأخذه من قوله تعالى: ثم إن علينا بيانه [القيامة: 19] فإن الآيات القرآنية منها محكمات اتضح معناه وخلا عن الإجمال وتعدد الاحتمال بأن يظهر عند العقل أن المعنى هذا لا غير، ومنها متشابهات وهي ما لم تكن كذلك بل يكون لها محتملات عند العقل لا يتضح المراد منها لإجمال أو مخالفة ظاهر أو نحو ذلك فينغلق باب الاطلاع على المراد إلا ببيانه بالتنصيص على المقصود أو بنصب ما يدل عليه كالقياس، ودليل العقل والمحكم والمتشابه بهذا المعنى غير ما اصطلح عليه الحنفية لأن المحكم بهذا المعنى يتناول الظاهر والنص والمفسر وأن المتشابه يتناول الخفي والمشكل والمجمل ولا مشاحة في الاصطلاح. قوله: (حسبما عن لهم من مصالحهم) أي بين ما نزل إليهم قدر ما ظهر واعترض لهم من مصالحهم يقال: ليكن عملك بحسب ذلك أي بقدره وعدده، وقد تسكن السين في الضرورة. ويقال: عن لي كذا يعن بضم العين وكسرها عنا أي سنح ولاح واعترض. وقوله: «من مصالحهم» بيان لما وفيه إشارة إلى ما وقع عليه الاتفاق من أنه تعالى يراعي مصالح عباده إلا أن ذلك عندنا بطريق التفضل وعند المعتزلة بطريق الوجوب.
पृष्ठ 12