يعش ذميما ويصل سعيرا، فيا واجب الوجود، ويا فائض الجود، ويا غاية كل مقصود، نوع البشر وتبيينه للناس بكشف معانيه وإبراز أحوال الأعيان الخارجية من عالمي الغيب والشهادة وتمهيد قواعده التي تستخرج منها الأحكام الجزئية، ذكر أن المكلفين في الاهتداء بالمنزل المذكور على ثلاثة أقسام: الأول من كان له قلب، والثاني من ألقى السمع وهو شهيد، والثالث من أطفأ نبراسه أي مصباحه الذي هو فطرته السليمة التي خلق الناس كلهم عليها كما قال الله تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها [الروم: 30] ووجه انقسامهم إليها هو أن كل إنسان في مبدأ ولادته مخلوق على فطرة الإسلام أي على التمكن من تحصيله والاستعداد لقبوله وهي الفطرة السليمة الخالية عن العقائد الباطلة والأخلاق الرديئة المستعدة لقبول الحق المبين، ثم إنهم عند بلوغهم أوان التكليف واستماعهم نداء صاحب الشرع القويم ودعوته إلى الصراط المستقيم صاروا قسمين: القسم الأول من اشتعل نور فطرته الأصلية وأثمرت شجرة قابليته الفطرية بأن أجاب من دعاه إلى الرشاد وسلك ما هداه إليه من سبل السداد، والقسم الثاني من أطفأ نور فطرته السليمة وأبطل قابليته الفطرية ولم يتنبه من رقاد غفلته بالنداء وأصم واستكبر واستغشى ثوب الردى. والقسم الأول فرقتان:
فرقة بلغت بإجابة الدعوة واتباع الشريعة إلى حيث تنورت رياض بصيرتها وتوقدت أنوار معرفتها حتى تمكنت من التفكر في حقائق القرآن ودقائقه ومن الاطلاع على نكته والوقوف على دقائقه ومن الغوص في لجج معانيه العميقة لاستخراج لأليه واستنباط عجائب مكنوناته، وفرقة لم تبلغ إلى هذه المرتبة ولم تزد على ما نالته من شرف إجابة الدعوة وقبول الحق وسلوك سبيله ولم يتيسر لها الارتقاء إلى مدارج الفضائل العلمية ومصاعد الكمالات العرفانية لعدم تجرده عن الشواغل البشرية والصوارف النفسانية لكنه مصغ لاستماع الحق وجامع حواسه عن التفرق إلى ما لا يعنيه وهو حاضر القلب يعلم ما يتلى عليه ويفهم ما يلقى إليه.
فالمصنف أشار إلى الفرقة الأولى بقوله: «فمن كان له قلب» والتنكير فيه للتعظيم أي قلب كامل خالص عن الشواغل النفسانية مكمل بالمعارف الإلهية والمعارف الربانية، وإلى الفرقة الثانية بقوله: «أو ألقى السمع وهو شهيد» أي حاضر بقلبه ليفهم ما بلغ إليه من التنزيل الإلهي وما فيه من التكاليف ليعمل بموجبها وحكم على كلا الفريقين بأن كل واحد منهما حميد في الدنيا وسعيد في العقبى، وأشار إلى القسم الثالث بقوله: «ومن لم يرفع إليه رأسه» أي لم يلتفت إليه إيثارا للبطالة العاجلة على سعادة الدارين «وأطفأ نبراسه» أي مصباحه والمراد به الفطرة السليمة التي هي بمنزلة المصباح في كونها وسيلة إلى نيل المطلوب. قوله: (يعش ذميما في الدنيا ويصل سعيرا) أي يدخل جهنم في الآخرة يقال: صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها ويقال: صلى فلان النار بالكسر يصلي صليا أي احترق. وفي
पृष्ठ 17