हसद फलसफी
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
शैलियों
ومع ذلك فقد كشفت النهضة العلمية عن بداياتها في هذا العصر متمثلة في بعض الكتابات التي تميزت بشدة وعيها بالواقع التاريخي لحاضرها مثل «أطلنطا الجديدة» لفرنسيس بيكون، و«مدينة الشمس» لتوماسو كامبلانيلا، وهما المؤلفان اللذان كشفا عن إمكانات هائلة للتطور التقني بفضل قراءة مؤلفيهما لواقع عصرهما ودراسته بالعلم، فاستطاعا أن يستخرجا إمكاناته الكامنة التي أمكن تحقيقها في المستقبل. وقدما صورا لاختراعات علمية عديدة اهتمت بها، وحققتها القرون التالية لهما، كما حقق التقدم العلمي والثورة الصناعية بعد ذلك الكثير من هذه الصور. ولا تخلو كل إبداعات النهضة من إلقاء هذا الضوء على إمكانات الواقع الكامنة ولا من استشراق الجديد القادم في المستقبل.
كان عصر النهضة - إذن - لحظة (إذا جاز لنا استخدام هذه اللفظة) تتوسط بين الماضي بكل ما فيه من تراث ثقافي يحمل قيما يمكن أن تدفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، وبين المستقبل بكل ما يحمله من إمكانات لم تتحقق بعد. وهي لحظة يمكن أن توصف بالغموض والنقص وعدم الاكتمال، وعلى الرغم من كل ذلك فهي اللحظة التي وضعت العقل الأوروبي على طريق المستقبل، كما كانت بمعنى آخر لحظة خروج من الكهف الوسيط إلى الوعي بحرية السؤال والبحث بغير حدود. إنها الميلاد الجديد الذي شمل كل ميادين الفكر والروح والعلم والكشف والمعرفة، وتأسس معه «حاضر» حمل في أحشائه المستقبل الذي ما يزال مستمرا ومتجددا إلى اليوم، بحيث نستطيع أن نقول إن حاضر أوروبا الآن والتقدم الذي نعيش فيه هو الابن الشرعي للأسس التي وضعها عصر النهضة. لقد كان - أي حاضر أوروبا الآن - هو المستقبل الذي حملته النهضة في أحشائها. ولقد امتزج التراث الثقافي والعلمي للزمن الماضي بالذات المكونة والفعالة والمبدعة في هذه النهضة، أي الإنسان، مما أدى إلى انطلاق النهضة في مجالات عديدة شكلت في مجموعها الكل الحضاري للبشرية الغربية الواعية الفعالة؛ ففي مجال الفلسفة كان جورداتو برونو وكامبانيلا وباراسيلزوس وياكوب بوهمه وفرنسيس بيكون. وفي مجال العلوم الطبيعية كان جاليليو وكيبلر ونيوتن. وفي فلسفة الحق والقانون والدولة والتاريخ كان ألتوسيوس وماكيافيلي وبودان وجروسيوس وتوماس هوبز وفيكو. وكل هذه الإبداعات الحضارية على تنوعها واختلاف مستوياتها والموجهة من أجل الإنسان لم يخلقها سوى الإنسان نفسه. الإنسان المزود بالوعي التاريخي بالمستقبل، وبالإرادة القادرة على تحقيق أحلامه المستقبلية في الواقع المتغير والمتحول باستمرار. وبهذا يمكن القول إن أعظم ما أبدعته النهضة الأوروبية أو أنتجته هو هذا الإنسان الجديد نفسه، وأن أعظم ما في هذا الإنسان هو وعيه الجديد أو بالأحرى وعيه التاريخي والجدلي بماضيه وحاضره ومستقبله.
المفارقة التاريخية عند نيتشه
إرادة الحياة بين الحس التاريخي والحس اللاتاريخي
مقدمة
يثير عنوان هذا البحث العديد من علامات الاستفهام أولها: ما هي المفارقة التاريخية؟ وثانيها: كيف تتأرجح دراسة التاريخ بين الحس التاريخي - وهو الأساس الذي تستند إليه أية دراسة موضوعية وجادة للأحداث التاريخية - وبين الحس اللاتاريخي وما يثيره من علامات تعجب لم تألفها الدراسات التاريخية؟ وثالث هذه التساؤلات وأهمها: لماذا نيتشه الآن؟ وهو سؤال لا يثيره عنوان هذا البحث فقط، بل هو مطروح في الدوائر الثقافية العالمية منذ فترة طويلة مضت وحتى أيامنا هذه. فعلى الرغم من مرور مائة عام على رحيل نيتشه، إلا أنه ما زال الفيلسوف الذي تدور حوله الدراسات في أنحاء عديدة من العالم، ليس فقط لأنه من كبار الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر، وليس فحسب لتفرد شخصيته في تاريخ الفكر وأهميته الكبرى في تاريخ الفلسفة وتعامله مع أصعب المسائل تعقيدا، بل لأهمية أفكاره الفلسفية في ميادين عديدة من البحث المعاصر. وعالمية فكر نيتشه يتوقع لها أن تستمر وتزدهر في المستقبل في شكل سلسلة من الدراسات لتحليل وتفسير وتقييم الجوانب العديدة من فكره. وربما يكون الهدف من هذه الدراسات - على تنوعها - هو الإسهام في مراجعة فكر نيتشه الذي تعرض لسوء الفهم وسوء الاستخدام ما يقرب من قرن من الزمان، وتم التجني عليه وإخضاعه قسرا وظلما لأفكار ونظم سياسية - كالنازية والفاشية - ربطت اسمه بأكبر كارثة في التاريخ الحديث.
يعود سوء الفهم الذي تعرض له فكر نيتشه إلى أسباب عديدة، ساهم فيها بغير شك الفيلسوف نفسه بتناقضاته ومفارقاته الشهيرة، وتخفي كتاباته وراء أقنعة مجازية تستعصي على الفهم في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع المادة الضخمة لأعماله التي اتسمت بالتشدر واللانسقية والنسيج غير المترابط - حتى داخل العمل الواحد - في شكل أمثال وحكم وجمل متقطعة. وقد تعرضت فلسفة نيتشه لسوء الفهم من قبل المتحمسين والمعارضين لها على السواء؛ تعامل البعض مع فلسفته الأخلاقية بشكل يغلب عليه الانفعال والتبسيط المخل الذي أساء فهم هذه الفلسفة على حقيقتها، كما فسر البعض الآخر فلسفته تفسيرات تدعم الأيديولوجية النازية مما نتج عنه كره الناس لنيتشه أكثر من كرههم للنازيين أنفسهم، أو الذين أساءوا استخدام أفكاره، وربما يكون غنى وثراء وتناقضات أفكار نيتشه وشاعرية أسلوبه الغني بالصور والاستعارات والرموز هي التي أثارت هذه المواقف المتباينة.
لكل الأسباب السابقة تأتي أهمية الدراسات المعاصرة التي تسهم في مراجعة نقدية متطورة لفلسفة نيتشه التي أثبتت قضايا عصرنا الحاضر أنها ما زالت حية بيننا، وأن نيتشه بكل المقاييس معاصر لنا، وأنه من طراز من الفلاسفة الذين لا يمكن أن نتجاهلهم، بل ويتحتم علينا أن نقدرهم حق قدرهم، حتى لو وجدنا أنفسنا في مواجهات خلافية معهم. لم يكن نيتشه مجرد فيلسوف صاغ وجهات نظر فلسفية حول بعض قضايا عصره، ولم يكن يسعى لفهم الفلسفة وتحليلها فحسب، بل تحدى تراثها تحديا نقديا ومارسها وعايشها معايشة باطنية، بل كان أيضا مهموما بماضي الفلسفة وحاضرها ومستقبلها، وهو الذي وضع «مصير الفلسفة ومستقبلها» موضع سؤال وشك، ووضع نبوءة للتاريخ لمائتي عام قادمة محذرا ومنذرا بمستقبل الفلسفة ومستقبل البشرية. وبفضله ما زال السؤال عن مستقبل الفلسفة والبشرية مطروحا حتى اليوم. والآن وبعد مرور مائة عام، هل صدقت نبوءة نيتشه في التاريخ عندما أطلق صيحته: «الآن ستفنى الأخلاق بالتدريج: هذه رؤية كبرى في مائة فصل للقرنين القادمين في أوروبا، وهي الأكثر رعبا، والأكثر شكا، وربما الأكثر أملا من كل الرؤى.»
1
هل ستظل صرخة التحذير التي أطلقها قائمة لمائة عام أخرى؟ وهل كان نيتشه فيلسوفا متعاليا على التاريخ، أم أن رؤيته لم تتجاوز التاريخ؟ وهل صدق استقراؤه لواقع حاضره الثقافي؟ وهل بلورة نيتشه لمشكلة الزمن الحاضر بوضعها في إطار أوسع، وهو مشكلة الحضارة الأوروبية ومصيرها ينم عن وعي وحس تاريخي أم أنه يكشف عن الحس اللاتاريخي - بكل ما تحمله الكلمة من مفارقة - أم أنه جمع بين الوعي التاريخي واللاتاريخي معا؟ وهل هذه الرؤية النكوصية للتاريخ - التي تفسر تاريخ الحضارة الغربية في عصره بأنه ارتداد ونكوص من عصور بطولية إلى عصر تدهور وانحطاط تجوس فيه العدمية - كانت من أجل الهدم فقط، أم من أجل إثارة التفكير في المستقبل في ضوء قلقه على المستقبل الإنساني؟ ثم أخيرا هل الهدف النهائي لنقد نيتشه وهدمه للحضارة الغربية هو تدمير أم إبداع؟ بمعنى آخر، هل هو آلام احتضار أم مخاض ميلاد؟
अज्ञात पृष्ठ