हसद फलसफी
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
शैलियों
هذه التطابقات البنائية تتيح للفعل التواصلي أن يؤدي وظائفه المختلفة، وأن يصبح وسيطا دائما لإعادة الإنتاج الرمزي للعالم المعيش، فإذا حيل بين هذه الوظائف وبين التحقق ظهرت الاضطرابات في عملية إعادة الإنتاج كما نشأت كذلك مظاهر الأزمة مثل فقدان المعنى، واضطراب التوجهات، وغياب المشروعية، وسقوط القيم، والاغتراب، والأمراض النفسية وانهيار التراث.
خاتمة
كان هذا عرضا سريعا للمفاهيم الأساسية لنظرية الفعل التواصلي عند هابرماس بالقدر الذي سمحت به حدود هذا البحث. وإذا كان يصعب الإحاطة - في هذا المقام - بالجوانب التفصيلية الدقيقة لهذا المشروع الذي يحتاج إلى دراسة طويلة مستفيضة، فإن الأمر الأكثر صعوبة هو محاولة تقييمه، خاصة وأن صاحبه ما زال يواصل العطاء، مما يعني أن هذا المشروع يمكن الإضافة إليه، كما أنه يقبل التعديل أو التغيير، أي أنه بمعنى آخر مشروع ما زال في طور التطور والاكتمال، كما أقر هابرماس نفسه في بداية المجلد الأول من مؤلفه أنه لم يقدم نظرية نهائية أو تامة بشكل كامل، مما يعني أنه قدم فقط إطارا نظريا، وتوجهات أساسية للانتقال من فلسفة الوعي إلى فلسفة التواصل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن نقول إن نظرية الفعل التواصلي ليست نظرية بعدية، بل هي نظرية اجتماعية تحاول أن تصحح مقاييسها النقدية. يضاف إلى هذا أن هابرماس من أكثر الفلاسفة المعاصرين الذين تثار حولهم الخلافات، لكل هذه الأسباب يصعب تقييم هذا المشروع تقييما نهائيا، كما يصعب أيضا الحكم عليه بآراء قاطعة، ولكن يمكن إجمال بعض وجهات النظر حول هذا المشروع الضخم.
يرى بعض الباحثين أن هابرماس اهتم بالتعليق النقدي على معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع أكثر من اهتمامه بتقديم الأدوات المنهجية والنظرية الخاصة بنظريته عن الفعل التواصلي،
53
وإذا كان هذا النقد صحيحا في مجمله، إلا أنه أثبت في نفس الوقت قدرة هابرماس الهائلة على عرض وتقديم وتحليل نظريات وأفكار الآخرين. كما أن اهتمامه - أي هابرماس - بالتواصل والنظرية الاجتماعية للحقيقة جعل بعض الباحثين يذهب إلى أن نظريته تحتوي على بعد يوتوبي واضح؛ إذ إنه - أي هابرماس - يحيل في الغالب إلى مشروع أكثر مما يشير إلى واقع بعينه، ويتحدث عن أخلاق يتطلع أن تصاغ في معايير وعلاقات.
54
وربما كان هذا أيضا صحيحا إلى حد كبير؛ فالشروط التي وضعها هابرماس للحوار، والأخلاقيات التي رأى ضرورة الالتزام بها في النشاط التواصلي، والمعايير التي يجب أن تخضع لها أفعال التواصل، كل هذا أضفى على مشروعه بعدا يوتوبيا من ناحية، وبعدا مثاليا من ناحية أخرى، وإن كان هذا البعد اليوتوبي لم يحصر المشروع في دائرة المستحيل، أو عدم قابليته للتحقق، بل إن ملامسته للواقع المعيش تجعله في دائرة الممكن.
وعلى الرغم من اختلاف المفسرين اختلافا كبيرا في آرائهم حول مشروع هابرماس ومدى قدرته على الصمود في وجه الشكوك الكثيرة التي تثار حوله، إلا أن هناك شيئا واحدا على الأقل يتفق عليه المعلقون والشراح، وهو أن هابرماس قد حاول على الدوام أن يجمع بين هذه الاهتمامات الفلسفية المتخصصة وبين التزام حقيقي فعال بتنمية أو تدعيم المناقشة المستنيرة للقضايا الملحة بالنسبة للرأي العام، ولعله أن يكون أحد الفلاسفة القليلين الذين يلتزمون بالتمسك بالتراث النقدي في البحث المبدئي عن الحقيقة، وهو في هذا كله يقدم مثلا رائدا للفكر المستنير.
وربما ترجع أهمية الدور الذي يقوم به هابرماس في الفكر الفلسفي المعاصر إلى أنه ما زال متمسكا بدور الفلسفة، وإعادة توظيفها، وضرورة انخراطها في أي نظرية للمجتمع الحديث. هذا إلى جانب إيمانه بأن مشروع الحداثة لم يكتمل بعد، وتمسكه بإعادة الطاقة النقدية لعقل التنوير في عصر ارتفعت فيه الأصوات مطالبة بتخلي الفلسفة عن عرشها والعقل عن صولجانه، إلى جانب تيارات أخرى مضادة للتنوير والحداثة، ومن ثم وقف هابرماس مدافعا عن التنوير، وتصدى للظواهر المرضية التي ولدتها الحداثة وما بعد الحداثة، وربما لهذا السبب أيضا يحتاج الفكر العربي إلى دراسة هذا المشروع الفلسفي الكبير بشيء من التفصيل، وإلقاء المزيد من الضوء على جوانبه المختلفة من أجل تأسيس مجتمع يقوم على أسس عقلانية، ويسود بين أعضائه حوار حر خال من كل أشكال القمع والسيطرة، وإذا كان هابرماس يرى أن شروط الحوار الديمقراطي الحر لم تتوافر بعد في المجتمعات الغربية بكل ما تكفله هذه المجتمعات لأفرادها من حريات، وبقدر ما تسمح من مراجعات نقدية للتراث العقلي والديني، ولكل جوانب المجتمع والحياة على أوسع نطاق، فما أحوجنا نحن العرب إلى التفكير في هذه الشروط، وإلى صياغة مشروع للحداثة يقوم على أسس عقلانية ونقدية وليست غيبية أو خرافية متسلطة.
अज्ञात पृष्ठ