بل ذهب بعضهم إلى أن شعر أبي العتاهية لا يمت إلى العرب بصلة؛ لأنه ليس مناسبا لحياة الملوك وترفهم ونعيمهم في الحياة، وإنما هو شعر مستمد من الفارسية، وخصوصا من مذهب ماني الزاهد.
كذلك انتشرت الثقافة الهندية بدخول كلمات من الأصل الهندي إلى اللغة العربية، وقد سموا السيف مهندا أخذا من الهند، ومن أسمائهم النسائية: هند، وكليلة ودمنة الذي ترجم إلى العربية من الفارسية من أصل هندي، وكان هناك علماء من أصل هندي تثقفوا بالثقافة العربية، ونشروا الأفكار الهندية كابن الأعرابي؛ فقد رووا أن أباه زيادا كان من أصل هندي، كذلك نقل إلينا أن التجارة بين المسلمين في العهد العباسي والهند كانت واسعة النطاق في التوابل وأنواعها، وقد نقلت إلى العربية مدلولاتها وأسماؤها، وحكى لنا البيروني أنهم كانوا مهرة في الحساب والهندسة، وأن لهم طريقة تخالف طريقة اليونان، هذا إلى أن كثيرا من عقائدهم في الحلول ووحدة الوجود دخلت في التصوف الإسلامي. •••
وهناك ثقافة يونانية دخلت في الدول العربية منها ألفاظ كثيرة، كما دخلها الطب والفلسفة، وكان في بلاد العرب كثير من المثقفين بالثقافة اليونانية كعلماء حران والإسكندرية، وغير ذلك. نعم! إن العرب لم يستسيغوا الأدب اليوناني في القديم؛ لأنه يبعد كثيرا عن الأدب العربي، فلم يأخذوا منها كثيرا، وإن أخذوا منها الطب والمنطق والفلسفة.
والثقافة الرابعة الثقافة الرومانية من مثل ألفاظ التقطوها من الجواري الرومانيات ومن الرومانيين أثناء حروب المسلمين معهم، وأسرهم الأسارى منهم، وكان مما عني به في عهد الرشيد وخلفاء العباسيين عامة: الطب والتنجيم، فاتخذوهما من الوظائف الرسمية، وكان لكل خليفة طبيب خاص، ومنجم خاص. أما حاجة الخلفاء للطب فواضحة؛ إذ كان أكثر الخلفاء مرضى يحتاجون إلى طبيب يداويهم، ورووا أن المنصور كان مريضا بمعدته، ولم يستطع أطباؤه معالجته، فاستدعى طبيبا من جنديسابور هو جرجيس بن بختيشوع، وكانت مدرسة جنديسابور مدرسة عظيمة، وتعد مصدرا للثقافة اليونانية، ومركزا لنشر فلسفتها وعلومها، أسسها كسرى أنو شروان، وبناها على شكل القسطنطينية، واستجلب لها أطباء من الروم، ثم خلفهم من بعدهم من حل محلهم من أهل البلاد، وكان الذي أنشأه فيه بيمارستانات لمعالجة الفقراء، فلما جاء الرشيد استطب جبريل بن بختيشوع، وأمره بإنشاء بيمارستان ببغداد على نمط ما لجنديسابور، وكانت عائلة بختيشوع كلها نصارى نساطرة. •••
وطبيب الرشيد هو جبريل بن بختيشوع، وقد أراد الرشيد أول الأمر أن يمتحنه فأحضر له بولا مجهولا فقال جبريل: ليس هذا بول إنسان؛ لأنه ليس له قوام بول الناس ولا لونه ولا رائحته، وكان جبريل بن بختيشوع هذا مشهورا بالفضل، جيد التصرف في المداواة، علي الهمة، سعيد الجد، حظيا عند الخلفاء، رفيع المنزلة عندهم، تأتيه منهم الأموال العظيمة، ولما مرض جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي - أيام رضاء الرشيد عنهم - استدعى جبريل بن بختيشوع هذا فعالجه، وشاء الله أن يبرئه في مدة ثلاثة أيام، ومرة تمطت حظية من حظايا الرشيد، ورفعت يدها فبقيت منبسطة، ولم ينفعها علاج الأطباء، ولا الأدهان ... فاستدعى جبريل فاستحضرها، وأراد أن يكشف عن ساقها فانزعجت الجارية، وحركت يدها، وبرئت، وكان الرشيد ينتصح بقوله فيما يأكل، ومقدار ما يشرب، وبلغ عنده منزلة عالية حتى قالوا: إنه كان كل من تقلد عملا من الرشيد لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يمر على جبريل، وقد ثار عليه العلوية لقربه من الرشيد حتى أرادوا أن يقتلوه، وعلى العموم كان طبيب القصر، وقد قال فيه أبو نواس:
سألت أخي أبا عيسى
وجبريل له عقل
فقلت: الراح تعجبني
فقال: كثيرها قتل
فقلت له: فقدر لي
अज्ञात पृष्ठ