وقد صدق العتابي إذ قيل له: «لم لا تقترب بأدبك إلى السلطان؟» فقال : «لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون.»
ويصف لنا المؤرخون لهذا العصر فرقة تسمى المتطوعة تنكر ما فشا من الفسق في بغداد، وتروي لنا «طبقات الصوفية» انتشار الزهد والفقر بين المتصوفين في هذا العصر، وذلك رد فعل لحياة اللهو بين الأغنياء والمترفين، ومن أراد أن يعيش ولم يتصل - من العلماء - بأمير أو وزير عاش فقيرا بائسا؛ كالخليل بن أحمد يقول: «إذا أغلق علي باب حجرتي كفيت هموم الدنيا»، وجاءه يوما رسول الخليفة فأراه الخليل كوزا مملوءا بالماء وكسرة خبز جافة، وقال: «من كان عنده هذان لم يحتج إلى خليفة أو أمير.»
وحكت لنا كتب التراجم أخبارا كثيرة عن علماء زهدوا في الأمراء وعطايا الخلفاء، فكان مصيرهم الفقر المدقع ... كالذي حكوا عن عبد الوهاب المالكي أنه كان يجتمع على بابه المئات من العلماء، ولما أراد الرحيل إلى مصر، ودعه عدد كبير ... فقال: «والله لو وجدت في بغداد من الخبز ما يكفيني ما انصرفت عنكم وعنها» فلما وصل إلى مصر، وتيسرت حاله، حضرته الوفاة فقال: «سبحان الله ... إذا عشنا متنا»، وفي كتاب الفلاكة والمفلوكين أمثلة كثيرة من هذا القبيل.
الإسراف في المديح
وهذا هو السبب في أن الشعر الكثير في الأدب العربي هو شعر المديح، أو بعبارة أخرى هو شعر الاستجداء، وأما غيره من الشعر فقليل بالنسبة إليه، وهذا أيضا هو السبب في أن الظاهرين من الشعراء والأدباء هم شعراء بغداد.
وأما من عداهم فمغمورون؛ ولذلك أيضا كان العالم الديني يكاد يكون أفقر العلماء؛ لأن الدين يمنعه عن الابتذال، ولذلك تقرأ تراجمهم فترى فقرا مدقعا، وبؤسا واضحا، ورضا بالقليل مع الإفراط في الجوع واحتمال الفقر.
وقد سبب الإفراط في الغنى، والإفراط في الفقر، حركة تشبه الاشتراكية اليوم؛ فقد روى المسعودي أن محمد بن سليمان - قريب الرشيد - كان يغل كل يوم مائة ألف درهم، فكان يركب يوما بالبصرة، وسوار القاضي يسايره في جنازة ابنة عم له، فاعترضه رجل وقال له: «يا محمد! أمن العدل أن تكون غلتك في كل يوم مائة ألف درهم، وأنا أطلب نصف درهم فلا أقدر عليه؟»
ثم التفت إلى سوار فقال: «إن كان هذا عدلا فأنا فأكفر به»، فأسرع إليه غلمان محمد وكفوه عنه، وأيا ما كان، فنحن لو نظرنا إلى الرشيد بعين زماننا لمقتناه؛ يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، حاكم مستبد، لا يقيده برلمان، ولا يتقيد بعدل دائم ... يكثر من مصادرة الأموال، ويوزعها بالهيل والهيلمان على من لها بأهل، ومن ليس لها بأهل، وإلا فما بال أموال الرعية الفقراء المساكين ... تصرف منها آلاف من الدنانير على بيت من الشعر قيل في مدحه، أو صوت جميل لحن له، أو على مسألة نحوية تافهة لا تساوي شيئا، أو على جارية جميلة تحسن الغناء.
شارلمان والرشيد
تجاوز الدين وأوامره
अज्ञात पृष्ठ