وهؤلاء الطائفة تسمى «الفتيان»، وهي كالتي نسميها اليوم بالبوهيميين، وذلك قبل أن تتطور كلمة «الفتيان» إلى المعنى التركي، فتأخذ شكلا دينيا، وشكل اتحاد عمال معا، وقبل أن يتخذها الصوفية في لغتهم فيطلقونها على جماعة الصوفية المتدينين ذوي المروءة.
واشتهر إبراهيم بينهم بحسن الصوت فأعجبوا به، وكان في إحدى مراحله بالموصل فسمي «إبراهيم الموصلي»، ثم ذاع ذكره وحسن تلحينه وغنائه، فاستدعاه الخليفة المهدي، ولكن كان به آفة، وهي أنه كان لا يكاد يفيق كزملائه الفتيان، والمهدي لم يكن يشرب، ولا يحب الشاربين، إلا ما كان أجازه لجبريل بن بختيشوع إذ كان لا بد أن يشرب، والمهدي لا يستطيع الاستغناء عنه فأباح له أن يشرب هو، فطلب المهدي من إبراهيم الموصلي ألا يشرب فلم يستطع، ووجدت عقدة في بيت المهدي، وهي أن في البيت ابنين، وهما الهادي والرشيد، ويخاف عليهما الانغماس في الشراب، ويخاف عليهما من مخالطة الموصلي، ويخاف أن يجتمع عليهما حسن شعر الموصلي وحسن تلحينه وحسن غنائه، منضما ذلك كله إلى شباب الهادي والرشيد وغناهما وترفهما، فإذا هما سكيران لا يصلحان للخلافة.
ورعب من تلك النتيجة التي تخيلها بحق، فأخذ الأيمان الموثقة على إبراهيم الموصلي ألا يشرب بحضرة الهادي والرشيد، وكيف ينفع التحذير، وكل العوامل ممهدة لهذه النتيجة ... جاذبية الموصلي، وقابلية الهادي والرشيد لهذه الجاذبية ...
فأتت الجواسيس المهدي يوما تقول: إنه غناهما وفتنهما فشربا معا، فجن جنون المهدي من هذه الفعلة؛ خصوصا بعد أن استوثق منه، فضربه ضربا مبرحا، ثم نهاه، ثم عاد فأقصاه عن القصر، ووضعه في السجن، وأمر بتعذيبه فيه تعذيبا شديدا، ولكن كان من حسن حظه أن مات المهدي، وجاء الهادي الذي حبس الموصلي من أجله، فاستنجد به فأنجده، ومنحه الهادي مالا كثيرا حتى أصبح ثريا، واتخذه نديما له حتى مات.
مدرسة الموصلي
وبلغ الموصلي ذروته في عهد الرشيد ... فقد كان الرشيد أحب للموصلي، وأحب لغنائه فقربه إليه، وجعله زينة مجلسه، وصار يتكسب من الرشيد، ومن مدرسة أخرى اهتدى إليها، وهو أنه كان يأتي بالفتيات الجميلات فيعلمهن التلحين، ويعلمهن الغناء، وأقبل الناس على تلميذات مدرسته إقبالا شديدا؛ إذ كان قد اجتمع لهن جمال الشكل، وجمال التلحين، وجمال الصوت.
وكان الناس قبله يعلمون الفتيات غير الجميلات؛ حرصا على الفتيات الجميلات، وتنحية لهن من هذا المأزق، فجاء الموصلي بحسن ذوقه، فأدرك أن تجارته لن تروج إلا إذا علم الفتيات الجميلات، فدر ذلك عليه مبلغا من المال طائلا، وقد نجحت مدرسته نجاحا باهرا ... فانتشرت تلميذاته في بيوت الأغنياء من أمراء وتجار، فكنت إذا مشيت في شوارع بغداد أو في شوارع المدن سمعت أصواتهن تتجاوب في كل مكان. •••
وشيء آخر عظيم الفائدة، كان أيضا من برنامج مدرسته يعلمه في جد واتقان، وهو فن الظرف، وهذا فن واسع ربما يمثله خير تمثيل «كتاب الوشاء»، وإن كان قد ألفه بعد ذلك العهد بقليل.
فكان يعلمهن درسا في ألوان الملابس، ومناسباتها للحفلات، ومناسبة بعضها لبعض، ومناسبتها للنعال.
ودرسا ثانيا فيما يصلح أن ينقش على الخواتيم والفصوص، ودرسا ثالثا في التعطر والتطيب، ودرسا رابعا في تصفيف الموائد والأطعمة، وكيفية الأكل من وجوب تصغير اللقم والتحرز من الشره، وعدم تلطيخ الأصابع، وعدم تجاوز ما بين أيديهن، وعدم إفساد رائحتهن بأكل الثوم والبصل، ونحو ذلك، وعدم التخلل على المائدة قبل أن تفرغ، ونحو ذلك.
अज्ञात पृष्ठ