وينقذ المأمور الموقف في كياسة مرنة وفي دربة واعية: والله فراخ عظيمة فعلا يا حضرة العمدة.
وكأنما كان العمدة في غمرة من بحر متلاطم، ثم وجد نفسه فجأة على الشاطئ الأمين، فهو يسارع قائلا لصالح: ضع هذه الفراخ في سيارة البك المأمور يا صالح.
ولكن المأمور يستر الموقف في غضبة واضحة الاصطناع، يتقنها منذ تعود أن يقبل هذه الهدايا: لا، لا يا حضرة العمدة، والله لا يمكن. - زوجتي طالق إن لم تقبل هذه الهدية. - يا رجل اتق الله، حرام يا رجل، الأمر لله، الأمر لله.
وبين هذه الأيمان المتبادلة كانت الفراخ قد أخذت مكانها المستقر في السيارة، وكان الفطور قد أعد، وكانت نفس العمدة قد هدأت بعد اضطراب، فقد رضى الله عنه، وأرسل إليه مأمورا طيبا مثل كل مأمور عرفه قبل اليوم، والحمد لله من قبل ومن بعد.
دخل العمدة وراء المأمور إلى المنزل، ونبت من مكان خفي ذلك الشيء كثير الدعاء كثير الحقد «كمال»، بعد أن رأى المسرحية منذ بدئها حتى أنزل عليها الستار في حجرة الطعام ... وسار كمال في طريقه وهو يردد: يا رب أهو كثير ما أطلب؟ مجرد مسدس يا رب، أو ثمنه من أي مكان، مسدس يا رب!
2
للكتاب في القرية أثر بعيد، فمن بين جدرانه المتهالكة ومن تحت فلقة الشيخ العنيفة، يخرج إلى الحياة صبيان تعلموا الجهل فأحسنوا تعلمه، فكل ما يعرفون من الثقافة قراءة عاجزة، وكتابة أكثر عجزا، وهم وإن كانوا قد أخذوا على الشيخ القرآن فحفظوه، إلا أنهم أبدا لم يفهموه، وما كان لهم أن يفقهوا منه شيئا، والشيخ نفسه أكثر جهلا به منهم. ويخرج هؤلاء الصبيان إلى الحياة وينظرون حواليهم فيجدون أنفسهم أكثر ذويهم علما وأكثرهم معرفة، فيدخل إلى نفوسهم الغرور، ولا يزال بهذه النفوس حتى يملأها لا يترك فيها مكانا لتواضع، أو منفذا لبعض حياء. وللغرور في هذه النفوس أشكال وأوضاع، فمن كان منهم ذا يسار ونعمة يرتكن إلى أب ذي مكان بعض ملحوظ، فغرره إذن متفجر واضح لا يبقي ولا يذر؛ فهو هو الأستاذ الغني والعالم القدير.
ومن كان منهم غير ذي يسار، ولكنه ذو أصل دارس وغنى تشتت فأصبح فقرا فبيته دوار وإن كان خاليا، وأبوه محترم وإن كان فقيرا، وأمه لا تخرج بالجرة وإنما ترسل أخته. إن كان الفتى كذلك فغروره إذن صمت، واستعلاؤه بعد عن سائر الفتيان.
وأما من تخرج في الكتاب فلم يجد وراءه أصلا، ولم يجد أمامه مالا، فكبره إذن خبيث، يؤديه اللفظ اللين الناعم يغلف به السم الناقع المتراكم في نفسه، وكبره أيضا حقد مستعر وكره للعالم كله متمثلا في قريته، يخص منها ذوي اليسار وذوي الأصل، وذوي المكان وذوي الثقافة.
ولا ينكسر الغرور في واحد من هؤلاء إلا إذا تقدمت به السن أو أتاحت له الحياة أن يكمل تعليمه، فإنه حينئذ يدرك مقدار ما كان يجهل، ويرى من حوله القوم متساوين معه إن لم يكونوا أحسن منه حالا، فيصاب غروره برعدة، ثم لا يلبث أن ينقشع عنه.
अज्ञात पृष्ठ