وجاءت القهوة فراح القوم يحتسونها بين دعاء للبك، وبين شكوى إليه من وقف الحال بعد أن نفر التجار عن القرية، وبين أمل في المستقبل بعد أن باع الشيخ حسن قطنه إلى تاجر في المديرية، والبك يستمع، يعلق أحيانا أو يرتجه الجهل بفاعل هذه الحوادث فيصمت، ولم يكن البك لبقا في الحديث ولا بذي علم في غيره، وإنما هو غني فاجر جعل في العصابة التي أنشأها غناه عن كل ما عداها؛ فهو بإجرامها قوي، وبأسلحة فتيانها عالم ، ألم يتيحوا له بأسلحتهم أن يتكلم فيصمت الجميع، وأن يشير فتسمع مشورته، وأن يلجأ إليه المتملقون، يسألونه النصح فينصح، نصحه أمر لا محيد عنه، فهو في هذه الناحية عزيز وإن كان ذليلا، وهو فيها عالم وإن كان أقل من جاهل.
ولم يثبت البك أقدامه في أعماق الطين، ولم ترسخ دعائمه في أغوار العفن عن قلة كفاية ولا عن لعب وهزل، وإنما هو قاتل سفاك، ثبتت أقدامه بقتل من يجرؤ على معارضته، ووطد دعائمه بالقضاء على كل من تطاول يوما فقال الله أكبر على الظالم والعاتي، والقتل طبيعة في النفس الشريرة والحياء ستار رقيق، ولا فرق بين الشريف والقاتل إلا ستار الحياء الرقيق هذا، فإن سقط هذا الستار وظهرت الطبيعة العارية، فليس ثمة حد لما تفعله النفس الخبيثة، فالقتل أهون شرورها. لقد كان البك يتخذ من هذا القتل أداة افتخار واعتزاز، بل إن البك لا يخجل أن يصطنع منطقا للقتل، فإن عجز عن اصطناعه اصطنعه المنافقون من حوله، وقبله هو وردده حتى اقتنع به وحاول أن يقنع به الآخرين. ومن هؤلاء الآخرين من يقتنع لأنه لا يملك إلا أن يقتنع، ومنهم من يصمت؛ لأنه لا يملك أن يتكلم، ومنهم من يخشاه البك - فإن لكل سيد سيدا - فلا يقتنع ولا يهتم البك إن اقتنع هذا الذي يعلوه منزلة أو لم يقتنع، فإنه حتى هذا الرجل الذي يخشاه البك مهما يكن مكانه منه لا يستطيع أن يصده عن طريق سار فيه فأمعن. وما دام هذا السيد الذي يخشاه البك قد قبل أن تكون ثمة صلة بينه وبين هذا البك المجرم، فإنه هو أيضا يصبح ولا قيمة لرأيه، وحسب البك منه أن يستعين به إن اقتضاه أمر أن يستعين به، وأن يستعين هو بالبك إن اقتضاه أمر أن يستعين به، ومهما يكن هذا الأمر هينا، ومهما يكن شريفا، إلا أنه - وقد استعان به - فإنه يصبح أمامه أقل من أن يملي عليه رأيا، والبك لا يعدم فضيلة؛ فهو يخلص أشد الإخلاص لأصدقائه على ألا ينالوا منه، وإلا انقلب عليهم.
هكذا كان البك بعيدا كل البعد عن الشرفاء؛ لأنهم هم لا يحبون أن يقتربوا منه، وقريبا كل القرب من أولئك الكبار الذين يوسعون له في مجلسهم ويسمحون له أن يقول على مسمع منهم فيغوص أمامهم في الوحل فيحقروه ولا ينتشلوه، فهم إنما يصطنعونه لأنفسهم، ويكتفون بإلقاء دعابة مازحة تعليقا على حادث قتل قام به ويروي أمره عليهم، فإن أراد أن يسوق إليهم منطقه هذا الذي اصطنعه أو الذي اصطنع له، رفضوا الموافقة عليه بدعابة أخرى، وأقنعوا أنفسهم أنهم قاموا بواجبهم، وما أكثر ما تخادع نفسها النفس.
وقد يجد البك من يرده عن غيه ردا عنيفا ولكنه لا يرتد؛ فقد شاء الله الرءوف بعباده أن يوجد بالناحية المجاورة أنور بك صدقي، وهو رجل يحب الحق فلا يعدوه، وقد ناصب لطيفا العداء وحاول أن يرده باللفظ فلم يرتد، فراح يحاربه بكل سلاح إلا سلاح الجريمة، وكل سلاح بطيء أمام الجريمة، والسلاح المشهور أقل مضاء من السلاح المتستر بالليل الأسود من الضمير المريض، وقد كانت أسلحة لطيف جميعها مستورة، وكانت أسلحة أنور جميعها مشهورة، فيرتكب لطيف الجريمة بالليل ويبلغ أنور النيابة في الصباح.
وهكذا كان يستطيع لطيف دائما أن يأتي جرائمه، ولم يستطع أنور أبدا أن يثبت عليه جريمة، وإن استطاع أن يجعل اسمه في كل مكان شريف سبة وعارا. وقد استطاع أنور أن ينجح في الانتخابات، ولقد نال من قرية السلام نفسها أغلب أصواتها، ولم يستطع لطيف أن يقتل من خرج عليه في الانتخابات؛ لأنهم كانوا أكثر من أن يقتلهم جميعا، ولأنه كان يأمل منهم خيرا في الانتخابات التالية، ولكن هذا لم يمنعه أن يصيب الأعيان الذين ناصبوه العداء في إصرار عنيف، والذين دعوا ضده في غير بلادهم، فهو يسرق بهائمهم ويحرق زراعاتهم ويهددهم بالقتل إن أمعنوا.
ولم يستطع أنور أن يفعل شيئا إزاءه إلا أن يعوض هؤلاء بماله عما أصابهم في سبيله، وكان يبلغ الأمر إلى السلطات وهو واثق أن لا سبيل لهذه السلطات على المجرم الأصيل .
وهكذا لم يستطع أنور إلا أن يحد من إجرام لطيف دون أن يصل إلى وقفه، ولم يستطع لطيف أن يقتل أنور؛ فقد كان يعلم أن عائلته الكبيرة لن تسكت عنه إن هو فعل.
كان منطق لطيف أن الرجل الحقيقي هو الرجل الذي ينفع ويضر، وأنه لا خير في رجل ينفع فقط ولا يضر أبدا كأنور، وبهذه الفلسفة البسيطة سمح البك لنفسه أن يشارك الله في خلقه، ويقتل ويسمي ذلك ضررا، ويجزي ويسمي ذلك نفعا.
والبك وإن يكن شحيحا إلا أنه كريم لصحبه الكبار، يبذل لهم الهدايا، وكريم أيضا لصحبه المجرمين، يوسع لهم أسباب العيش، إلا أنهم إذا طمحوا إلى أكثر مما يعطيهم هيأ لهم مصيرا كذلك الذي هيأه لكبيرهم الفرماوي على يد منصور الدفراوي.
ولا يجهل البك مجرما في الناحية أو صديقا لمجرم أو متعلقا بالإجرام أو هاويا له، فهو ملجؤهم؛ يختار لهم المحامين ويمدهم بالقرض - دون العطاء - ويصطفي منهم لنفسه الأشداء الغلاظ.
अज्ञात पृष्ठ