लेबनानी सच्चाई: विचार और बातचीत
الحقيقة اللبنانية: خواطر وأحاديث
शैलियों
لكل امرئ هوى، بل هوس يملك عليه لبه وشعوره، يقيمه ويقعده، يلازمه في جميع حالاته ومواقفه، حتى ليحسب عارفوه أنه، وهو الكائن المركب، قد قطعة واحدة ليست تتحرك بسوى حركة تشنجية لا تبديل لها. فأنا - ولا بأس بأن أتعرض لتهمة البساطة التي لا برء منها - هواي أو هوسي فيما يدعونه الوحدة الوطنية، لكن يعزيني عن هذه البساطة المملة أمران: أولهما أن ما أسميه هوسا ليس في غير موضعه، ليس من الأمور التي لا موضوع لها؛ فالوحدة الوطنية لم تتحقق بعد، وإن يكن الشعب اللبناني قد خطا نحوها خطى واسعة. وثانيهما أن هوسي هذا ليس منحصرا بي، مقصورا علي، وإنما يشاركني فيه وفي الإذعان له وفي معاناة لجاجه، أكثر اللبنانيين، كلما رجع واحدهم إلى ذاته، يتدبر شئون بلده العامة، في ماضيه وحاضره ومستقبله على السواء.
وهناك حقيقة لست أجد بدا من الجهر بها، وإن يكن من شأنها أن تفجع نفرا كبيرا من خاصة اللبنانيين، من النخبة الصالحة أو قادة الرأي - كما يسمونهم - تفجعهم في ما هو أعز شيء لديهم، أعني ما يرسلونه نثرا أو ينظمونه شعرا؛ تلك الحقيقة هي أن الوحدة الوطنية التي نرجو أن تتحقق في الشعب اللبناني، والتي تنعدم أو على الأقل تنسجم فيها الفوارق الجنسية والطائفية بين العناصر المؤلفة لهذا الشعب؛ أن الوحدة الوطنية لن تكون من صنع هذه النخبة الصالحة: الشعراء والكتاب والخطباء ... لسوء الحظ! إذ لو كان هكذا لكان الأمر أيسر وأقصر سبيلا؛ فالشعراء والكتاب الذين تكفيهم الدعوة إلى الوحدة، يقين أنها تتحقق بمجرد الدعوة إليها، إنما هم خادعون، أو مخدوعون وهو الأرجح، إنهم يؤخذون بسحر كلامهم. «كم وعظ الواعظون منا!» كما قال المعري منذ ألف سنة.
إن الوحدة الوطنية لا تتحقق إلا بشرائع تسن وتنفذ، ومنشآت تقام ويعنى بها. إن الوحدة الوطنية يعوزها مصنع؛ المصنع الذي ينتجها كما تنتج الأمتعة المادية، كما تصنع عمليا. وإني أدل الآن على مصنعين اثنين (لا على مصنع واحد) يصح أن يتعاونا على صنع الوحدة الوطنية، هما حقيقان بصنعها، كما يصب الفولاذ: الثكنة والمدرسة.
الثكنة والمدرسة، لكن بشرط أن لا تقوما على هذا الأساس «المزمن» الذي تقوم عليه حياتنا العامة والخاصة، وهو ما يسمونه «الطائفية البغيضة». بالطبع، وإلا فذاك من قبيل تحصيل الحاصل، أي لا شيء.
لقد أصبحنا ولنا طليعة جيش. عسى أن يكون لنا أيضا في القريب العاجل طابور كامل العدد والعدة من المعلمين.
دعيت في أواخر الصيف الماضي، إلى سماع محاضرة من أحد قادة الرأي عندنا، وكان العنوان مغريا يثير في النفس شعورا هو أعلى من الفضول مرتبة، وأطيب عنصرا، فجئت استمع. كان الحضور لا يزيدون على المائتين عدا، لكنه من النخبة التي لا يعدمها احتفال، مهما يكن نوعه، في قرية من قرى الاصطياف، يتوافدون عليه رجالا ونساء، من المحلة ذاتها ومن المحلات القريبة، ثم ينصرفون بعد ساعة من الزمن، راضين مطمئنين إلى أنهم لم يضيعوا ثلاثة أشهر بكاملها، بل اهتموا أيضا لما يحسن الاهتمام له من الشئون التي تتجاوز دائرة الحياة اليومية، أو تسمو عنها. ويقبل الجنس اللطيف على أمثال هذه الحفلات بنسبة «محترمة»، كأن النساء أعظم حاجة إلى ذلك اللون من راحة الضمير.
كان في الحضور وجوه عرفتها جيدا في العاصمة، استرعى انتباهي أن نفرا منهم يعاملون المحاضر كأركان حرب القائد. وقد نصب المنبر وصفت المقاعد في الخلاء، وسط ملعب يملأ الفراغ المنبسط من الكنيسة القديمة إلى النادي الجديد، وهذا الملعب بين الكنيسة والنادي، أو بين كنيسة ومدرسة، «مشهد» تكاد لا تخلو منه قرية تحترم نفسها من قرى المتن. ثم تصوروا المشهد بتمامه، ونحن منه، في إطار فخم من مفاتن الجبال والأودية!
كان موضوع المحاضرة: لبنان والشعب اللبناني، وبالطبع: في الماضي والحاضر والمستبقل؛ ذلك أن هذه الثلاثة تمشي في بلادنا، وفي خطب خطبائنا، كأسنان المشط، وقد يدوس بعضها على أقدام بعض في الزحمة.
لا شك في أن ما قاله الخطيب يومذاك، كل ما قاله، هو الحقيقة، ولكنه ليس كل الحقيقة؛ فهو لم يتحدث في الواقع إلا عن جزء من لبنان جغرافيا وتاريخيا، وإلا عن فريق من الشعب اللبناني اجتماعيا وسياسيا. وكان حنينه إلى الماضي أشد منه إلى المستقبل، لا يفتأ يتلفت نحوه، موليا إيانا ظهره. كنت وأنا أستمع إليه، إخال أن الوطن اللبناني ليس في فكره (الظاهر والباطن، ولا سيما الباطن) سوى ذلك الجزء من أراضي الجمهورية اللبنانية، برغم «الحدود الحاضرة»، كما أن الشعب اللبناني ليس سوى أهل ذلك الجزء دون غيرهم، برغم «تذاكر الهوية».
ولست أدري كيف ملت بنظري يسرة، فإذا على سطح بيت قروي تفصله عنا الطريق، على مسافة عشرين ذراعا، شخص ماثل كالصنم، لا يتحرك فيه عضو، أسند يده إلى سطح البيت المجاور، وكأنه يصغى بكليته إلى الخطيب. وكانت الشمس تدلف إلى مغربها، مطرزة بالذهب الأكمة البعيدة؛ فشغلت وقتا بالتساؤل عن ذلك التمثال، كيف ولماذا نصب على سطح بيت؟ ثم رأيته يتحرك للتصفيق، فينقلب قرويا بثيابه «العربية» وقف يشهد الحفلة، ويسمع الحديث. ولا عجب، فلقد كان الخطيب آنذاك يختم باللازمة الحماسية التي لا يستغني عنها قائل وسامع على السواء، وانفض المجلس.
अज्ञात पृष्ठ