174

واعلم أن الأمة مجمعة على أن الشيطان يضل الإنسان؛ وقد نطق بذلك القرآن. واختلفوا في كيفية إضلاله. فقالت الحشوية: بالممازجة، وقد قدمنا الكلام والاحتجاج عليهم. وعندنا أن إضلاله بمعنى المداناة للإنسان والمقاربة؛ ولأنه يعرف في وجه الإنسان ما يدل على ما في قلبه، فيدنو منه إذا علم منه المعصية وهو من جنس النفس؛ لأن النفس تدعو إلى الشهوات، وهو والنفس ضدان للعقل، فإذا اجتمع ضدان على ضد لهما واحد كادا يغلبانه إلا أن يكون قويا. ألا ترى أن إنسانا لو كان في بعض جسده جرح، ويكون ذلك الجرح مما حدث من الحرارة ثم يدنوا من النار ولا يماسها أنه يجد حر النار في الجرح، ولا يجده في سائر جسده، وذلك لاجتماع حرارة الجرح وحرارة النار، فكذلك إذا دنا الشيطان من الإنسان توافق هو والنفس، وذلك فليس بأمر من الله ولا جبر. وقد جعل الله للمكلف عقلا يغلب به النفس والشيطان إذا استعمله، فإذا أهمل عقله، وأرخى نفسه، وتبع هواه، كان الشيطان في حكم الغالب عليه، قال الله تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}[المجادلة:19]، وقال الله تعالى: {يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}[الأعراف:27]، وقال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم }[الأنعام:121]، وقال تعالى: {ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين}[يس:60]، وقال تعالى: {ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون}[يس:62]، وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}[القصص:15]، وقال الله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}[الأنعام:68]، وقال تعالى حاكيا عن صاحب موسى: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره }[الكهف:63]، وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ، وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}[الحج:52-54]، ومعنى {تمنى} قرأ. وتأويل {ألقى الشيطان في أمنيته} المراد به في قراءته، وليس المراد به أنه يلقي في قلب الرسول ولا على لسان الرسول، ولكن المراد (به أنه) يلقي في قراءة بعض من يقرأ ما يأتي به الرسول، وذلك الإلقاء مثل الغلط والنسيان، والزيادة والنقصان. وقد سئل القاسم بن إبراهيم عليه السلام عن تأويل هذه الآية فقال: تأويل {تمنى } هو قرأ، وتأويل {ألقى الشيطان في أمنيته} تأويله ألقى الشيطان في قراءته. وقراءته ( عليه السلام) هو ما ألقى من القرآن إلى أمته، وإلقاء الشيطان فيما يقرؤون من آياته هو إلقاء من الشيطان في أمنيته وقراءته. والإلقاء في القراءة من الشيطان ليس إلقاء في قلب الرسول، ولا فيما جعله الله له من اللسان، ولكنه إلقاء في القراءة من الشيطان، بزيادة منه في القراءة أو نقصان. وقد رأينا نحن في دهرنا هذا بين من يقرأ آيات القرآن اختلافا كثيرا في الزيادة والنقصان، فما كان من ذلك صدقا وحقا فمن القرآن، وما كان منه كذبا وباطلا فهو من الشيطان. وفي أيدي الروافض والغلاة من ذلك ما قد سمعت وسمعناه. وقد أمر الله نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة من الشياطين وهمزاتهم فقال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون}[المؤمنون:97،98]، وقال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}[فصلت:36]، وقال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }[النحل:98]، وقال تعالى: {قل أعوذ برب الناس } إلى آخر السورة.

وقد جاء عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ما يوافق الكتاب، من الأمر بالتعوذ من الشيطان الرجيم. وروي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذه الحشوش محتضرة فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليست له بمحرم ، فإن ثالثهما الشيطان)). وعن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يزال إبليس هائبا مذعورا من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيعهن تجرأ عليه فألقاه في العظائم)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الشيطان ليأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه فلا ينصرف حتى يجد ريحا أو يسمع صوتا)). وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان إذا دخل المخرج قال: ((بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس، الخبيث المخبث، الشيطان الرجيم)).

पृष्ठ 241