إهداء
مقدمة في العلم الزائف
1 - الحنين إلى الخرافة
2 - باري ل. بيريشتاين:1 الفرق بين العلم والعلم الزائف2
3 - توماس جيلوفيتش:1 كيف نكشف الدجل؟
4 - أنتوني براتكانيس:1 كيف تبيع علما زائفا؟2
5 - روري كوكر:1 التمييز بين العلم والعلم الزائف
6 - سكوت ليلينفلد:1 وصايا ليلينفلد العشر
7 - جون كاستي:1 معايير التمييز بين العلم الحقيقي والزائف
8 - إمري لاكاتوش:1 العلم والعلم الزائف2
9 - من أوهام العقل: الباريدوليا1
10 - مغالطة التصديق الشخصي1
11 - نسبية الذاكرة!
12 - مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف
13 - في العلم والخرافة
إهداء
مقدمة في العلم الزائف
1 - الحنين إلى الخرافة
2 - باري ل. بيريشتاين:1 الفرق بين العلم والعلم الزائف2
3 - توماس جيلوفيتش:1 كيف نكشف الدجل؟
4 - أنتوني براتكانيس:1 كيف تبيع علما زائفا؟2
5 - روري كوكر:1 التمييز بين العلم والعلم الزائف
6 - سكوت ليلينفلد:1 وصايا ليلينفلد العشر
7 - جون كاستي:1 معايير التمييز بين العلم الحقيقي والزائف
8 - إمري لاكاتوش:1 العلم والعلم الزائف2
9 - من أوهام العقل: الباريدوليا1
10 - مغالطة التصديق الشخصي1
11 - نسبية الذاكرة!
12 - مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف
13 - في العلم والخرافة
الحنين إلى الخرافة
الحنين إلى الخرافة
فصول في العلم الزائف
تأليف
عادل مصطفى
إهداء
إلى الأخ الكريم اللواء د. هاني مصطفى خضر، نابغة جراحة الأنف والأذن والحنجرة.
أهديت إليه في السابق كتاب «المغالطات المنطقية»، وها أنا ذا أعود وأهدي توءم الكتاب إلى توءم النفس.
ع. م.
مقدمة في العلم الزائف
تجارتان لا تعرفان البوار؛ تجارة الخبز، وتجارة الوهم.
ع. م. (1) دلائل ومخايل
في القلب من العلم يقبع توتر جوهري بين موقفين متناقضين في الظاهر؛ انفتاح على الأفكار الجديدة مهما تكن غريبة أو مضادة للحدس، وأقسى تمحيص ارتيابي لجميع الأفكار، قديمها وجديدها. هذا هو السبيل إلى غربلة الحقائق العميقة من الهراء العميق. إن اجتماع التفكير الإبداعي والتفكير الارتيابي في آن معا هو ما يحفظ العلم في مضماره.
كارل ساجان: عالم تسكنه الشياطين
ليست هناك معايير حاسمة تجزم بأننا بإزاء علم زائف، غير أن هناك أمارات عامة تهيب بنا أن ننتبه ونرتاب، ليس بين هذه الأمارات ما هو «ضروري» ولا ما هو «كاف» للحكم بزيف الممارسة، غير أن اجتماع عدد وافر منها قد يدنو بنا إلى مشارف اليقين، وكأنه ضرب من «تحول الكم إلى كيف».
يسرف العلم الزائف في استخدام الفرضيات الاحتيالية،
1
والفرضية الاحتيالية أشبه برقعة مفصلة على مقاس الثغرة، الغرض منها حماية الدعوى من الدحض. ثمة فرضيات احتيالية أدت إلى كشوف علمية حقيقية: عامل
Rh
في الدم كان فرضية احتيالية، ووجود كوكب نبتون كان فرضية احتيالية،
2
غير أن الفرضية الاحتيالية في العلم الحقيقي هي ذاتها قابلة للاختبار، أما في العلم الزائف فالأغلب أن تكون تمحكا صرفا ولجاجة مجانية لا سبيل إلى اختبارها ولا غرض منها إلا التملص والتخلص، والتحصن من التكذيب والتشفع للخطأ.
ليس من دأب العلم الزائف أن يعترف بخطئه ولا أن يصحح نفسه، بينما العالم الحق ميال بطبعه إلى تكذيب فرضيته. إن كلفة التصويب الذاتي باهظة ثقيلة، ولكن العالم الحقيقي على استعداد دائما لدفعها عن طيب خاطر؛ ذلك أن من الصعب على النفس أن تلقي في اليم بما أنفقت فيه جهدا ومالا، واستثمرت فيه أملا وضيعت عمرا، يقال لهذه الظاهرة النفسية «أثر الكلفة الغاطسة».
3
إن واجبنا في مجال العلم أن نبجل الزميل الذي يعترف بخطئه ويقلع عن باطله، لا أن ندينه ونعاقبه ونسلقه بألسنة حداد. واجبنا أن ندخر الشجب والإدانة لأولئك الذين يصرون على الخطأ ويستميتون في تبريره.
يتهرب العلماء الزائفون من النشر في المجلات العلمية المحكمة، ومن «مراجعة النظراء»؛
4
بزعم أن المجتمع العلمي ومحرري المجلات متحيزون ضدهم ولن يقبلوا إسهاماتهم، ومن دأب العلماء الزائفين أن يطلبوا من منتقديهم أن يبرهنوا على خطأ نظريتهم، بدلا من أن يبرهنوا هم على صوابها (نقل عبء البرهان).
5
يركز العلم الزائف على الأمثلة المؤيدة ويضرب صفحا عن الأمثلة المضادة، بينما العالم الحق ينتحي بغريزته نحو الأمثلة المفندة، وينحني للخلف (على حد تعبير ريتشارد فيمان) عسى أن يبرهن على أنه مخطئ. إنه يأخذ مسافة من عمله، ومن عزته بأي شيء عدا الحقيقة. يتضمن ذلك أن عليه أن يصمم تجارب صارمة تختبر فرضيته اختبار النار، وتثبت كذبها إن أمكن.
يقدم العلماء الزائفون أطروحات مقطوعة الصلة بكل المعارف القائمة، ويزعمون دائما أن أعمالهم قائمة على نماذج إرشادية جديدة تماما؛ وهم من ثم يطلقون مزاعم يقتضينا قبولها الإطاحة بكل ما نعلمه عن العالم، ويدعون أنها اختراقات أو «تحولات في النموذج».
6
إن تحولات النموذج لتحدث في تاريخ العلم، ولكن على فترة وندرة، وتتطلب دليلا قويا وتجارب فاصلة جيدة التصميم قابلة للتكرار، عملا بالقاعدة القائلة بأن «الدعاوى الهائلة يلزمها دليل هائل».
7
يستند العلماء الزائفون في إثبات فرضياتهم إلى «النوادر الفردية وشهادات الآحاد»،
8
وهي أشياء لا تصلح بذاتها كدليل، وإن كانت ملهمة أحيانا في سياق الكشف،
9
وذات فائدة أحيانا في توضيح ما قد ثبت بالدليل؛ ذلك أننا لا تصلنا في العادة إلا الشهادات الإيجابية، أما الشهادات السلبية فسوف تحتجب تلقائيا. هب أن ألف شخص تناولوا علاجا مزعوما، وأن عشرة منهم فقط اعتقدوا أنهم آنسوا فائدة منه فقدموا لنا عشر شهادات فردية مؤيدة لفاعلية العلاج، إن التسعمائة والتسعين الذين لم يشفوا - وهم الأغلبية العظمى - لن تراهم من بعد ولن تسمع لهم ركزا (بيانات محجوبة).
10
من ذلك تتجلى لنا أهمية «المجموعات الضابطة»
11
في التقييم الصحيح لأي دعوى تتعلق بفاعلية علاج جديد.
أما النوادر الفردية - الصارخة البراقة - فينبغي ألا تفتننا في عملنا العلمي؛ فالنصوع المضلل
12
للنادرة يعمق انطباعها ويرسخ ذكراها ويضخم تأثيرها النفسي تضخيما زائفا، ويغري المخيلة بأن تلج في الوهم، ويجعل للنادرة الواحدة فاعلية ألف مثال عادي. هذا ما يجعل العلماء الزائفين يلجئون إلى النوادر ويستدلون بحكايا فردية أشبه بحكايا العجائز. من أمارات العلم الزائف أنه يتحدث إليك بالقصص والروايات، لا لكي يؤنس ويوضح بل لكي يستدل ويبرهن (التفسير بالسيناريو). وما هكذا تورد الإبل في العمل العلمي الذي يرتكز على العينات العشوائية الممثلة والتجارب المنضبطة والدلالة الإحصائية وميكنة تسجيل البيانات.
يولع العلماء الزائفون باستخدام رطانات مبهمة، ويخترعون معجمهم اختراعا على حد تعبير روري كوكر (الطاقة الكونية الحيوية، الطاقة، مستويات، تعاطفات، منظومة خط الزوال، التكبير السيكوتروني ...) لكي يتشبهوا بالعلماء الحقيقيين ويوهموا الناس بأنهم منهم، ويميلون إلى المزاعم العريضة و«نظريات كل شيء»، والادعاء بأن إجراء هزيلا معينا يحل شتى المشكلات، وبأن عقارا لا أصل له يشفي جميع الأدواء، بينما يتسم العلم الأصيل بالتواضع والأناة والاقتصاد في الزعم، ويتوفر في الأغلب على مشكلة واحدة في الوقت الواحد.
وللعلماء الزائفين تعويذة أثيرة هي لفظة «كلي» و«كلية»،
13
ويكثرون من ترديدها كرطانة موهمة من جهة، وتهرب من التفنيد من جهة أخرى، ورغم أن «الكلية» قد تكون قولة حق في بعض السياقات؛ فهي في سياقات العلم الزائف قولة باطل تعمل على «طمس جميع التمييزات المفيدة التي جهد الفكر الإنساني في وضعها طيلة ألفي عام» على حد تعبير روجر لمبرت. (2) المقام في الفجوات
للخرافة غريزة حشرية تنتحي إلى الشقوق وتعشق الثغرات وتقيم في الفجوات. يسود الدجل ويركز لواءه في المناطق التي ما زال العلم فيها مبلسا محيرا لا يملك جوابا حاسما:
في المجال العلاجي يرتع الدجل وتعلو نبرته في نطاق الأمراض المستعصية الغامضة التي لا يزال البحث الطبي يقاربها بأناة وحذر: السرطان، الشقيقة، التهاب المفاصل، الإيدز ... إلخ. يريد الدجل أن يتلقف أناسا مذهولين بالمرض متخبطين في اليأس متنازلين عن المنطق.
وفي صدد نظرية التطور يحلو للفكر الخرافي الإشارة إلى الفجوات غير المفسرة في سجل الحفريات، ويتمنى من أعماق قلبه أن تبقى إلى الأبد غير مفسرة. (3) الحس المشترك
يظن عامة الناس أن الحس المشترك مرشد وثيق لفهم الظواهر وتقييم العالم الطبيعي، ونحن نسلم بوجاهة المخزون البشري من الحكمة الشاملة لجميع الناس والمورثة عبر الأجيال، والتي أعانت الكائنات البشرية على البقاء وعلى الإبحار في عالم معقد.
نحن نسلم بحكمة الحس المشترك وقيمته في نطاق الحياة اليومية، ولكن حين يكون المقام مقام علم دقيق يسعى إلى فهم تشغيلات العالم الخارجي وتشغيلات الدماغ البشري يكون الحس المشترك محكا غير مأمون. لقد تطور الدماغ البشري لكي يمكن صاحبه من البقاء ويضمن لجيناته أن تمر إلى الأجيال التالية، ولم يتطور من أجل أن يفهم عمليات العالم الطبيعي، سواء على المستويات الفلكية أو تحت الذرية أو النيوروبيولوجية، والعلم لا يأتي إلينا طوعا؛ لأنه كثيرا ما يقتضينا المسير ضد الحس المشترك،
14
يقتضينا أن نمحو الكثير مما تعلمناه من قبل أو اكتسبناه فيما سبق.
إن الأرض لتبدو مسطحة للحس المشترك، والشمس تدور حول الأرض فيما يظهر للحس المشترك، والأشياء المتحركة تتباطأ تلقائيا في مرأى الحس المشترك إلى أن تتوقف (بينما هي في الحقيقة تتحرك إلى ما لا نهاية ما لم يحل دون ذلك حائل)، والذاكرة تبدو كشريط تسجيل للحس المشترك، والأضداد تتجاذب فيما يظن الحس المشترك، والعين الرجراجة دليل الكذب لدى الحس المشترك ... إلخ.
تلفتنا الخدع البصرية العديدة إلى أن الإدراك البشري ليس بالدقة التي نظنها، وتنبئنا دراسات الذاكرة وأخطاء تقارير شهود العيان بأن الذاكرة البشرية خادعة مرجفة ولا يعول عليها، وتجبهنا ظاهرة «الباريدوليا» بأن العقل البشري مرتهن للأنماط المخزونة فيه على نحو لا فكاك منه. إن الذهن البشري معطوب بطبيعته، وليست إجراءات البحث العلمي سوى تدابير تعويضية لتدارك هذا العطب الصميم. إنما نشأت الطرائق العلمية لكي تتلافى هذه العيوب وتعوض هذا القصور:
عشوائية العينة.
إجراءات أخذ العينة الممثلة، كما وكيفا وبعد انقضاء زمن.
ميكنة تسجيل البيانات (لتجنب ميل البشر لرؤية ما هم مهيئون لرؤيته).
المجموعة الضابطة ذات العمى المزدوج.
15
الدلالة الإحصائية.
التحديد المسبق لما عساه أن يؤيد الفرضية وما عساه أن يفندها.
مراجعة النظراء.
تكرار التجربة.
والضمانة الكبرى بعد للأداء العلمي القويم هي الصفة المؤسسية للعلم؛ فالعبرة إنما هي بعلمية المؤسسة الكلية لا العالم الفرد، بالعقلانية والموقف النقدي المبيت في المؤسسة ككل؛ ذلك أن العلماء بشر، وعرضة من ثم للتقصير في اتباع الطريقة العلمية، شأنهم شأن المهنيين من كل صنف. ثمة صمامات أمان في قلب المنظومة تتمثل في السياسات الرقابية للوكالات العلمية المانحة ومؤسسات البحث والدوريات تكشف صراع المصالح لدى الباحثين. إن الحاضنة العقلانية هي الكفيلة برد كل انحراف إلى الجادة، ورد كل ميل إلى القصد وكل زيغ إلى سواء الصراط، وهي الكفيلة بمنع ما هيئت له عقولنا من مزالق، وهي الكفيلة بالحفاظ على صفة «التصحيح الذاتي» وضمان الصفة الديمقراطية للعلم. (4) وعثاء التطور
ولقد بقيت به لأنه بقي بها. ***
تبنى الإنسان عبر رحلة التطور استراتيجيات معينة من الاقتصاد الذهني أعانته على التكيف والبقاء في بيئة محفوفة بالمخاطر من كل صنف. تطورت هذه الاستراتيجيات تحت وطأة ظروف قديمة كانت تلح على سرعة اتخاذ القرار حتى لو جاء ذلك على حساب صوابه الاستدلالي ودقته المنطقية. كان القرار «الملوث» السريع أجدى من القرار الحصيف حين يكون قاتل البطء موبق التدقيق. لقد كان الرهان الإدراكي والتفسيري باهظا، وكانت «السلامة» هي القيمة الأولى والملحة في كل تفكير وفي كل تفسير: الأنثروبومورفيزم، النزعة الإحيائية،
16
التعميم المتسرع، البروكروستية، مغالطة المنشأ، نزعة الماهية، الباريدوليا، المختصرات الذهنية ... إلخ، تلك استراتيجيات إدراكية مبيتة في غور دماغنا البشري وفي صميم معمارنا المعرفي، ومن شأنها أن تعين الإنسان على اتخاذ القرار السريع المسعف وإن كان مشوبا غير دقيق وغير محكم.
يبدو - إذن - أن الخرافة هي الأصل! وأن من طبيعة عمل العلم أن يسبح ضد هذا التيار الجبلي ويجتاز هذه العوائق الطبيعية؛ فيصطنع من الإجراءات الاحترازية والضوابط الاحتياطية ما يعوض به أوجه النقص في الإدراك والاستدلال البشريين. إنما العقل أسير للمخططات والأنماط المبيتة فيه، والتي انطبعت فيه بفعل خبرات سابقة لم يكن له يد فيها، واتخذت ما اتخذت من أشكال كنتيجة لعدد كبير من «العوارض»
17
المحضة.
ثم إن هذه «الأنماط» أو «المخططات» أو «النماذج» - أو ما شئت - تجد طريقها إلى اللغة البشرية، حيث تعمر طويلا بعد أن تكون أسبابها الموضوعية قد تبدلت أو زالت، فاللغة ليست مخزونا مباشرا لما هو موجود، بل هي بالأحرى مخزون أثري وتاريخي جزئيا لما تراءى للبشر يوما أنه جدير بالحديث عنه والقول فيه. هذا الطابع التاريخي التذكاري التراكمي للغة هو ما يجعل تنقيتها من التعبيرات المتنافرة مع قناعاتنا الحالية أمرا بالغ الصعوبة.
تنطوي اللغة في ذاتها على «رؤية للعالم»
18
وتصنيف للأشياء، أي على وجهة نظر عامة إلى الأشياء وتصور إجمالي لما يكونه العالم. إن للغة المحكية منطويات تاريخية حفرية تنقلب عبئا ضارا عندما تتغلغل دون وعي منا في صميم إدراكنا الراهن للأشياء، وتفرض قوالبها ونماذجها على رؤيتنا الحالية للعالم، لكأن الخرافة تقيم في عقر اللغة المحكية، وفي كهولة الألفاظ الدارجة، إرثا من الماضي البعيد يقيم في الحاضر ويحكمه، وهو بمأمن من الرقابة وحصانة من الافتضاح. (5) ضرورة دراسة العلم الزائف
لا نعدم بين العلماء وفلاسفة العلم من يرى أن دراسة أمارات العلم الزائف هي تزيد لا داعي له، وترف نظري لا ضرورة فيه، فضلا عن استحالته لعدم وجود معيار ضروري ولا كاف يفصل بين العلم واللاعلم، وقد ذكرنا من هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر: ماكنالي وفيربند وإليزابيث سبري، غير أننا نرى - آخذين بالاعتبار وجاهة كل ما يقولون - أن هذا الاتجاه هو الترف بعينه: إن المجتمعات لتتردى في هاوية التخلف، والناس تموت موتا حقيقيا، من جراء الافتتان بالعلوم الزائفة واتباع أباطيلها. يقول إمري لاكاتوش في حديثه «العلم والعلم الزائف»: «إن حق الحزب الشيوعي في تقرير ما هو علم وينشر وما هو علم زائف ويعاقب ظل حقا قائما، كما أن المؤسسة الليبرالية الجديدة في الغرب لها الحق أيضا في أن ترفض منح حرية الحديث لما تعتبره علما زائفا (مثلما رأينا في حالة الجدل المتعلق بالذكاء والعنصر)، من أجل ذلك فإن مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف ليست مشكلة زائفة تليق بالفلاسفة النظريين في مقاعدهم الوثيرة، إن لها منطويات أخلاقية وسياسية هي من الخطورة بمكان.»
أما البروفيسور سكوت ليلينفلد فيذهب إلى ضرورة تدريس خصائص العلم الزائف من أجل الفهم القويم للعلم، الذي لن يبلغ تمامه إلا بفهم نقيضه: العلم الزائف (وبضدها تتميز الأشياء)، ومن أجل غرس الفكر النقدي في عقول الطلاب الذين يلتحقون بالجامعة وأذهانهم متخمة بالخرافات والأساطير الحديثة.
وقد أشرنا في هذا الصدد إلى دراسات إمبيريقية حديثة تثبت أن دراسة التمييز بين العلم والعلم الزائف تفضي إلى صرف الناس عن تبني الاعتقادات الخرافية، وإلى تحسن القدرة على تقييم أخطاء الاستدلال في المقالات العلمية، والتعرف على الأخطاء المنطقية فيها، وتقديم تفسيرات بديلة لنتائج البحث.
وفي عالمنا الجديد الذي تمطرنا فيه الوسائط الإعلامية بوابل من الخرافات الجديدة، وسيول من الغثاء المنفلت والنظريات الزائفة والدجل الوقاح، لم تعد مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم ترفا بل قضية ملحة، وضرورة تعلو على كل ضرورة.
إن من حق الناس أن تتلقى المعلومات الصحيحة، وأن تؤسس قراراتها واعتقاداتها على بيانات صادقة لا زيف فيها ولا خداع. من حق المرضى أن يتلقوا العلاج الحقيقي، ومن حق المصوتين أن يدلوا بأصواتهم بناء على حقائق. إن الأمية العلمية تقتل الفكر النقدي وتخلف أجيالا تدمن الوهم وتراهن على الباطل وتختار لأمتها المسار المهلك. الاقتراع العام في مثل هذه الأجيال إن هو إلا استقواء بالجهل وتجيير للأمية وتدوير لعوادم الانحطاط. (6) جاذبية الخرافة
للخرافة جاذبية هائلة، ومهما تقدم العلم فسوف تظل الخرافة تحتل أعز الأمكنة من قلوب البشر وأعمق الأغوار من أنفسهم؛ ذلك أنها هي الأصل وهي العلم الأقدم، وهي التي قدمت للإنسان الوعد والسلوى يوم كان ملقى هملا في عالم موحش ملغز خطر. والوعد - حتى لو كان كاذبا - ليس بالشيء الهين، فهو للنفوس المغلوبة على أمرها أنيس الأيام وسمير الليالي.
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
غير أن هذا المنطق إن جاز أن يفعل في أزمنة الضعف والعجز فإنه لا يجوز للإنسان اليوم بعد أن فك طلاسم الطبيعة وأمسك بقرون الظواهر، لم يعد الإنسان في عصر العلم يقنع بهلوسة ساكني اللابرنت
19
أو بخدر آكلي اللوتس،
20
تلك معيشة سلبية كئيبة تقتات بالوهم عوض أن تغير الواقع، وتزين الشوك عوض أن تقتلعه.
يفتتن بعض الناس بالخرافة؛ لأنها مثيرة للدهشة زاخرة بالغرابة، ولهؤلاء نقول: إن العلم يفوقها في هذا المضمار فتنة وإدهاشا ويزيد عليها بأن غرابات العلم حق. إن نظرة في تلسكوب أو مجهر لتلقي بالمرء في عوالم فاتنة بديعة ملونة أنعم من أهداب الحلم وأغرب من نسج الخيال، غير أنها حق: أطراف الكون القصية، تشكيلات الأنجم والمجرات، تلافيف الدماغ ومسالكه ودروبه، العالم تحت الذري، العالم الجيني، قصة التطور تقرؤها منقوشة في أحافير الصخور وأنوية الخلايا، أعاجيب لم يجد بمثلها خاطر ولم تتفتق بمثلها قريحة .
ويفتتن البعض بالخرافة؛ لأنها تدغدغ عواطف وتبعث نشوات ، ولهؤلاء نقول: إن للعلم مقاماته وأحواله وطربه ومواجده. «الطريقة العلمية» ملة حياتية لها أخلاقياتها بل روحانياتها: التطهر بالاختبار، الاعتراف بالخطأ، التبتل للحقيقة، الولاء الخالص ل «الدليل»
evidence ، التنزه عن الغرض، إرجاء الحكم، الانفتاح على الأفكار، الانتشاء بالكشف، الابتهاج بالزمالة. (7) طرائف تاريخية
21 (7-1) مرهم السلاح
22
من العلاجات التي راجت في القرن السابع عشر مرهم خاص معد من تركيبة مسجلة معقدة، من عناصر يصعب الحصول عليها، زعموا أنها لا تؤتي مفعولها إلا إذا اتبعت وصفتها بدقة، وعجيب أمر هذا المرهم أنه لا يدهن به الجرح بل السلاح الذي أحدث الجرح! وقد صدق عليه فرنسيس بيكون نفسه، أبو التجريب العلمي الحديث ومؤسس الفلسفة الاستقرائية! الذي كان متشككا في البداية ولكنه اقتنع بنفس الطريقة التي يقتنع بها كثير من علية المتعلمين في زمننا الحديث بممارسات تبدو مزرية: لقد شاهد النتائج مباشرة، شاهدها بأم عينه، وآمن من ثم بأنها صادقة بالضرورة.
كيف يمكن لشخص في طبقة بيكون التعليمية أن يسقط في مثل هذه الممارسة السخيفة؟! الحق أن مرهم السلاح أقنع المتشككين إذ شاهدوا بأعينهم نتائجه المذهلة، لقد كان علاجا ناجعا حتى إذا كان الشخص الجريح لا يدري أنه يعالج، بل قيل: إنه كان ناجع التأثير حتى على الحيوانات (وهي نقطة وجدها بيكون دامغة إذ بدا أنها تستبعد عامل الإيحاء)، أما حالات الفشل فكانت تفسر - استبعاديا - بوجود خطأ في إعداد التركيبة المعقدة للمرهم.
أما الشيء الذي فات الجميع - ولهم كل العذر في ذلك - فهو الخطوة المبدئية في البروتوكول: أن ينظف الجرح بعناية ويضمد، فقد كان مرهم السلاح سابقا تاريخيا على نظرية الجراثيم، ولم يكن هذا الإجراء متبعا في تلك الأيام، هذا هو التفسير الأرجح للنجاح الباهر للعلاج: غيار الجرح لا دهن السلاح.
23 (7-2) جرارات بيركينز
24
انتشرت في القرن الثامن عشر أدوات تسمى «جرارات بيركينز» وراجت رواجا عظيما، وقد ابتكرها دكتور إليشا بيركينز (1741-1799م)، خريج جامعة ييل، وهو رجل مشهود له بالإخلاص والصدق والإيثار والإحسان، والأداة عبارة عن قضيبين معدنيين قصيرين مصنوعين من عدد من المعادن المختلفة، وكان يعتقد أن لها خواص علاجية معينة، اجترح بيركينز في أداته امتدادا استقرائيا
25
غير مشروع من العلم المشروع في زمنه، والمتعلق بالكشوف الاختراقية العلمية الأصيلة عن الكهربية، مثال ذلك: أن البطاريات البدائية كانت تصنع من طبقات متبادلة من أقراص معدنية متباينة (مثل النحاس والزنك)، وهذا مما أضفى على جراراته المظهر السطحي بأنها قائمة على «العلم»، وكان من شروط الاستخدام السليم لها أن تجر على جسم المريض إلى أسفل حتى تؤتي أثرها، أما الجر إلى أعلى فكان يعتقد أنه يفاقم المرض!
ذاع صيت جرارات بيركينز وانتشرت في أوروبا ونالت شهادات آحاد إيجابية عديدة وسجلت مبيعات هائلة، ولكي يدحض أنصار الجرارات اعتراض الشكاك بأن الشفاء يحدث بسبب الإيحاء الإيجابي فقد زعموا أن حيوانات - كالخيول - قد تم علاجها بنجاح بواسطة تلك الجرارات.
أما الذي قضى على هذه التقليعة في النهاية وأبطل أسطورتها فهو أن عددا من الأطباء المتشككين صنعوا زوجين من الجرارات من الخشب وأسبغوا عليها بالطلاء مظهر المعدن، فإذا بالجرارات المزيفة تؤتي نفس الأثر الشفائي العجيب، ولما كان الأثر العلاجي يعزى إلى المعدن فقد تم بذلك تكذيب الدعاوي العلاجية، وبحلول عام 1810م كانت جرارات بيركينز قد أسدل عليها الستار. (7-3) المزمرية وتدويراتها
في أواخر القرن الثامن عشر راجت «المزمرية»
26 (نسبة إلى فرانز مزمر) رواجا كبيرا، وهي ممارسة تقوم على الاعتقاد بوجود «قوة حيوية» و«سائل كوني» متعلقين ربما بالمغناطيسية، التي إن أعيقت يمكن أن تسبب عددا من شتى العلل، بما فيها مشكلات الصحة النفسية. كان المرضى يجلسون في ماء ممغنط أو يشدون إلى أقطاب ممغنطة بينما يهز المعالج عصا ممغنطة فوق المريض. كان ذلك يجري على مرأى من جموع المشاهدين، وكان مزمر يتغمد المرضى الفقراء أيضا بإحسانه فيربطهم إلى جذوع شجر يعتقد أنه ممغنط.
وكانت النهاية عندما كلف الملك لويس السادس عشر كلا من بنيامين فرنكلين وأنطوان لافوازييه بإجراء استقصاء أكثر منهجية لهذا الأمر، فقام هذان العالمان باستخدام علاجات تبدو في الظاهر مزمرية، غير أنها في الحقيقة لا تشتمل على أي شكل من المغنطة، وذلك كإجراء وهمي ضابط ، وعندما أدت العلاجات الوهمية إلى نفس النتائج تم دحض المزمرية إلى حد كبير، وانتهت خرافة المزمرية بفضل هذا الاستخدام المبكر للتجربة «ذات العمى المزدوج».
27
ذهبت المزمرية وبقيت تناسخاتها، سلالاتها، تدويراتها، تبتكر الواحدة تلو الأخرى إلى يومنا هذا: فض حساسية وإعادة معالجة حركة العين
EMDR - على سبيل المثال - هي سلالة مزمرية جديدة في رأي بروفيسور ريتشارد ماكنالي، أستاذ علم النفس بهارفارد، فكلتاهما تزعم شفاء طيف عريض من الحالات، وكلتاهما ابتكرها وناصرها أشخاص كارزميون، وكلتاهما أسست فصولا تدريبية دراسية مسجلة وكونت رابطات لدعم العلاجات الجديدة. وإذا كانت الدجليات القديمة تقضي نحبها على يد التجريب العلمي، فإن السلالات الراهنة للدجل تلجأ إلى التفسيرات الاستبعادية التي تفصل بعد الواقعة
28
للتملص من الدحض.
من تدويرات المزمرية ما يسمى «الأساور الصحية»،
29
فهي أيضا تدعي الأساس العلمي: مغناطيسية، أيونات، موجات راديو ... إلخ، يدعي أنصار الأساور الصحية أنها تتلقى كهرباء شبيهة بموجة الراديو طوافة في الجو، وهي من أجل ذلك تطلى بالذهب أو الفضة لكي تكون جيدة التوصيل، وهي تحول الموجة الملتقطة من الهواء إلى كهرباء يسري تيارها في الجسم ويؤدي إلى إنعاش الجهاز العصبي!
لماذا يقع الأذكياء في «المزمريات»؟
ينبغي أن نعترف في البداية أن النظر المؤخر
30 (بأثر رجعي) حاد دائما، وأن «الحكمة» تصل دائما «بعد الحفل»،
31
وبومة منرفا لا تحلق إلا ليلا: نحن نضحك من الممارسات الزائفة التي خدعت الأجيال الماضية ونراها مهازل مضحكة، بعد أن أنبئنا بتأويلها وكشف لنا باطلها، في حين نقع نحن في سلالاتها المعدلة ونتبنى صيغنا الخاصة من المزمرية الجديدة:
فض حساسية وإعادة معالجة حركة العين
EMDR .
البرمجة العصبية اللغوية
NLP .
علاج حقل الفكر
thought field therapy .
موالفة الدماغ
brain tuning .
إلخ إلخ. (8) سحر النوادر الفردية وشهادات الآحاد
تسحرنا الأمثلة الشائقة وبخاصة حين تأتي «من المنبع»
32
وتتخذ شكل «سيناريو»، مثلما كانت تسحرنا في الصغر حكايا الجدات، وللشهادة الشخصية المباشرة قوة جذب عاتية يصعب الانفلات منها، بما للسرد الحي من نبض وبما للحضور الشخصي من سطوة، وبوسع واقعة زاهية واحدة أن تستحوذ على الانتباه وترسخ في الذاكرة وتستعصي على النسيان، وتقوم في الذهن مقام ألف مثال. (9) سطوة الواقعية الساذجة
تفيد «الواقعية الساذجة»
33
أننا نجني المعرفة من الملاحظة المباشرة، مما نراه رأي العين، وأن ما نراه بأعيننا «واضح بذاته»،
34
ولنا أن نستمد منه نتائج دون حاجة إلى مزيد من إعمال الفكر أو من التأمل النقدي في تفسيرات بديلة.
ونحن نسلم بأن الملاحظة المباشرة هي نقطة بداية ممتازة، على أن نتفطن إلى أن الملاحظة التي لا يعقبها اختبار صارم ونظر نقدي في تفسيرات بديلة قد تفضي إلى نتائج مغلوطة تضر بالمرضى أو تضيع وقتهم ومالهم على أقل تقدير، في مثال «مرهم السلاح» سالف الذكر شاهد بيكون بعينه نجاعة الإجراءات، ولكن فاته التفات إلى الفائدة الممكنة لعملية تنظيف الجرح وتضميده.
إن كثيرا من الممارسين الإكلينيكيين واقعيون ساذجون بهذا المعنى، فهم يسلمون تسليما بما يشاهدونه في خبرتهم دون أن يفكروا في تفسيرات بديلة: فنحن لكي نعقد استدلالات علية فإن لزاما علينا أن نصمم تجارب جيدة تضع بالاعتبار التفسيرات البديلة وتقيض لها مجموعات ضابطة. (10) انحياز التأييد
35
يغلب علينا في الممارسة الإكلينيكية أن نلتفت إلى النجاحات، وأن نغض الطرف تلقائيا عن ضرباتنا الخائبة، وهذا لون من «انحياز التأييد»: أن نركز على ما يؤيد اعتقاداتنا ونغض الطرف ونضرب صفحا ونطوي كشحا عن الأمثلة المضادة أو نفسرها تفسيرا غرضيا استبعاديا متخلصا. أما العالم الحق فإن الحقيقة أحب إليه من نفسه، والكشف عن الحقيقة أهم عنده من إثبات صواب ملاحظاته المبدئية. العلماء الحقيقيون لديهم ميل غرزي إلى إثبات أنهم على خطأ!
هل يتعلم الإكلينيكيون حقا من الخبرة؟ الخبرة قيمة لا تنكر، غير أن الاعتداد بخبرة سنوات طويلة من الممارسة الإكلينيكية دون إقامتها على الدليل لا يعدو أن يكون اعتدادا بسنوات طويلة من «انحياز التأييد»! (11) الحرج من تغيير الرأي
ينبغي أن نعترف بأننا جميعا نتحرج من تغيير رأينا بعد طول تمسك واعتداد، فنحن نخشى الاتهام بالتقلب والنفاق والخيانة والهشاشة وضعف الشخصية وعدم الالتزام وعدم الثبات على المبدأ. على أن «الالتزام والثبات على المبدأ» قد لا يصلح مبدأ يحدو العالم على طول المدى. العالم الحقيقي لا يلتزم إلا ب «الدليل»
36
ولا ينشد إلا الحقيقة، وهو على استعداد دائما للعدول عن فرضيته إذا لم تثبت للاختبار.
ثمة «أمر إبستمولوجي مطلق»
37
يقيم في وجدان العالم الحق ولا يملك أن يعصيه:
فكر بحيث تكون على استعداد من حيث المبدأ لأن تغير رأيك إذا ما تبين خطؤه.
وعلى طريقة إيمانويل كنت: إن شيئين يملآن عقله بالإعجاب والإجلال المتجددين والمتزايدين على الدوام: السموات المرصعة بالنجوم من فوقه، والقانون الإبستمولوجي المطلق في داخله. (12) فخ التبرير
38
حين ينفق المرء الكثير من الوقت والمال والعمر مستثمرا في مشروع ما فإن من الصعب عليه جدا أن يعترف بزيفه إذا تبين له، وبدلا من الاعتراف فإنه يتمادى في تبرير باطله بالانخراط في انحياز التأييد، وفي التفسير الاستبعادي للأدلة المضادة، وفي غير ذلك من الاستراتيجيات المغالطة.
يتجذر الاستثمار في العلم الزائف، ويترسخ الالتزام به أكثر فأكثر من خلال اللقاءات والمؤتمرات، حيث يعرض الأشخاص خبراتهم الإيجابية مع علمهم المزعوم، ويتقلبون في دفء الأمثلة المؤيدة والنوادر الفردية وشهادات الآحاد. (13) هذا الكتاب
هذا الكتاب - في شطر كبير منه - عبارة عن فصول متفرقة توجز إسهام ثلة من كبار المفكرين والعلماء وفلاسفة العلم في مسألة التمييز بين العلم والعلم الزائف: توماس جيلوفيتش، باري بيريشتاين، كارل بوبر، إمري لاكاتوش، سكوت ليلينفلد، روري كوكر، جون كاستي، ماريو بنج، ريتشارد ماكنالي، أنتوني براتكانيس، فالكتاب - بمعنى ما - مزيج من التأليف والتصنيف شأن بعض أعمالي المبكرة، ومن حيث هو فصول متفرقة في موضوع واحد لم تكن ثمة مندوحة عن شيء من التداخل، أرجو أن يكون تداخل تبيين وزيادة خير.
ويبقى أن أوجه عناية العالم الحقيقي نفسه إلى أن أدهى تمثلات العلم الزائف وأخفاها هو ثقتك الزائدة ببضاعتك، وتقديرك المبالغ فيه لعلمك، ثرائه وسداده وطول ذراعه، فتفتي فيما لا تعلم، وتقدم لمجتمعك أفكارا غير مجدية، وخططا غير رشيدة.
وبعد، فهذا الكتاب هو بمثابة تتمة لكتاب «المغالطات المنطقية»، أسدد به نصف ديني لهذا الشعب الطيب ، الذي لدغته الخرافة على غير انتظار بعد أن قطع نحو الحداثة شوطا يذكر. لكأنه استحب المكوث في «اللابرنت»، واستمرأ أكل «اللوتس»،
39
وبات لزاما على قوى التنوير أن ترشده ب «خيط أريان»، وتشده بذراع أوديسيوس.
عادل مصطفى
20 / 11 / 2017
الفصل الأول
الحنين إلى الخرافة
يظهر العلم منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون.
د. فؤاد زكريا (1) في البدء كانت الخرافة!
الظلام - ببساطة - هو غياب النور
وحيثما فرغ العقل من العلم والفلسفة تلقفته الخرافة كأنها أولى به
في البدء كان الظلام
وأينما توجه العقل الفارغ من العلم وفلسفته
فثم وجه الخرافة.
كانت وظيفة الخرافة - ولا تزال - تفسير الوجود حيث لا تفسير، والتأثير فيه حيث لا تأثير، لقد كان الإنسان الأول ملقى في عالم مبهم غير مكترث، وكان عليه أن يبتكر شيئا يفسر به ما يجري حوله، ويتحكم به في أرتال الأحداث التي تمضي غير عابئة به، فابتكر الأسطورة يتفهم بها هذا الوجود الملغز، ويؤول بها هذا العالم الغريب الذي لا يفصح عن نفسه.
لم يكن لدى الإنسان الأول مراغم كثير لكي ينسحب من البيئة المحيطة فيتأمل ويتروى ويفكر، ويميز بين الداخل والخارج، بين الذات والموضوع؛ فوقر في روعه أن جميع الأشياء - الجامد منها والمتحرك - «أشخاص» مثله لديها أرواح وأغراض
animism ، فجعل يجابه الأشياء كما تجابه الحياة الحياة، ويخاطب كل شيء ب «أنت» ولا يشير إليه ب «هو»، كان لصيغة المخاطب
second person
الغلبة في عالمه الذهني على صيغة الغائب
third person .
في مثل هذا المناخ الوجودي كان التجريد الذهني محالا، وكان على الفكر أن يكتسي صورا لا تنفصل عنه. كان على الفكر أن يكون تصويريا أسطوريا، ومن ثم كانت الأسطورة عنده هي حق اليقين. هي حقيقة اتخذت شكلا، بل هي فكر وفعل في آن معا: إنها ضرب من الاستدلال العقلي يفوق الاستدلال بأنه يبغي إحداث الحقيقة التي يعلن عنها، «ضرب من الفعل أو المسلكة المراسيمية، لا يجد تحقيقه بالفعل نفسه، ولكن عليه أن يعلن ويوسع شكلا شعريا من أشكال الحقيقة.»
1 (2) منطق الفكر الأسطوري
للفكر الأسطوري منطقه الذي ينبغي أن نفهمه و«نواجده»
2
إن شئنا أن نعي موقف الإنسان الأول وندرك محنته الخاصة التي اضطرته إلى أن يفكر كما فكر ويسلك كما سلك.
لم يكن الإنسان الأول يميز بين الذاتي والموضوعي؛ لأنه مغمور بالظواهر وغير قادر على الانسلاخ من الأحداث.
كانت «السببية» عنده مشخصة مغرضة؛ فإذا بحث عن «السبب» فإنه يبحث عن ال «من» لا عن ال «كيف»، إنه يبحث عن إرادة شخصية ذات غرض تأتي فعلا معينا.
لم تكن قوانين الفكر الثلاثة: (الذاتية/عدم التناقض/الثالث المرفوع) تعمل في ذهنه، ومن ثم كان يحتمل التناقضات ولا ينفر منها مثلما ننفر. كانت المتناقضات تتراص في ذهنه في وئام وسلام! كان بوسع الإنسان الأول أن يقدم جنبا إلى جنب أوصافا متباينة لظواهر متماثلة، وإن يستلزم الواحد نفي الآخر
mutually exclusive ، كان يسلم بصواب عدد من المداخل إلى المشكلة في آن واحد. إنه على إدراك تام بوحدة كل ظاهرة طبيعية يراها في أزياء عديدة متباينة، ففي تعدد صور الظواهر إنصاف لما فيها من تعقيد.
3
لم يكن الإنسان الأول يميز بدقة بين الوهم والحقيقة (بين الحلم
non-veridical
والعلم
veridical ) ولا بين الأحياء والأموات! فحتى الموتى موجودون على نحو ما وقادرون على الفعل والتأثير!
لم يكن يفرق بين الرمز والمرموز إليه، فالرمز (الصنم مثلا) والمرموز إليه (الإله) ملتئمان بحيث يغدو الواحد بديلا للآخر.
كان «الجزء» عنده يمثل «الكل» ويقوم مقامه، فيمكن للاسم أو خصلة الشعر أو الظل أن يعد بديلا للإنسان؛ لأن البدائي قد يشعر في أية لحظة أن خصلة الشعر أو الظل مترع بحضرة الإنسان نفسه، وقد يجابهه ب «أنت» يحمل تقاطيع وجه ذلك الإنسان.
4
قد تتجسد الصفات والأفكار المجردة أمام الإنسان البدائي: العدل، الموت، الحياة ... إلخ، من ذلك مثلا أن جلجامش وهب فرصة لكسب الحياة الأبدية بأن يأكل الحياة كمادة، ويرى جلجامش «نبتة الحياة»، غير أن ثعبانا يسلبه إياها، هكذا فإن التناول من مادة مجسمة هي الحد الفاصل بين الموت والخلود.
5
الأنثروبومورفيزم (الأنسنة)
anthropomorphism ، أي إضفاء صبغة بشرية (مشاعر، مقاصد، نوايا، أغراض ...) على جميع الموجودات: الآلهة ، الحيوانات، الجمادات ... لقد كان إسناد فاعلية بشرية للأشياء والظواهر هو استراتيجية إدراكية وتفسيرية عظيمة الفاعلية في ذلك الحين، فالإنسان يعيش في بيئة يشكل البشر جانبها الأهم والأكثر تواترا وأشد تأثيرا، ومن ثم فلا مفر له من أخذ كل ما هو بشري في الاعتبار الأول، ولا مفر له في حالة عدم وضوح الرؤية من الرهان على التفسير الأنثروبومورفي. لقد تحلى الإدراك الأنثروبومورفي بقيمة بقاء جعلت الضغوط التطورية تنتخب أولئك الذين اتبعوا مبدأ السلامة وراهنوا على الرؤية الأنثروبومورفية. وهكذا ورثنا عن أسلافنا هذه النزعة الطبيعية: أن نخطئ - إن أخطأنا - في جانب السلامة، وهكذا صار مبيتا في الدماغ البشري أن يتوسم وجود بشر آخرين أو آثار بشر في الظواهر الطبيعية. لقد أورثنا أسلافنا إرثا ذهنيا مغلوطا حين تصوروا العالم الطبيعي على شاكلة بيئتهم البشرية، ذلك التصور الذي أعانهم على البقاء واجتبته ضغوطهم الانتخابية الخاصة بزمنهم. إن حقيقة أن معظم عمليات الكون وظواهره تنجم عن قوى لا شخصية ذاتية التنظيم لا عن أفعال قصدية، هذه الحقيقة هي شيء لا يقع لنا على نحو طبيعي غرزي. لقد استغرق الأمر قرونا طويلة من التجريب الدقيق والعمل النظري الشاق لكي تسفر الحقيقة عن وجهها. على أننا حين نسلم فروضنا للنظام الصارم للعلم الطبيعي الحديث نحس باغتراب عن عملياتنا الفكرية الطبيعية، وذلك عندما نكتشف كم هي متمركزة على الإنسان نظرتنا إلى العالم، وكم هي أنثروبومورفية هذه النظرة في حقيقة الأمر. (3) انعتاق الفكر العلمي من الخرافة
يظهر العلم منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل لا كما يتمنى أن يكون،
6
ومثل هذا القرار ليس قرارا عقليا صرفا، إنه قرار أخلاقي وجداني بالأساس، أن تتعلم أن تنسى ما تعلمت،
7
أن تستعيض عن (الحلم
non-veridical ) ب (العلم
veridical )، أن تفسر أحداث الطبيعة بما وراءها من علل لا بما أمامها من غايات، بما يدفعها من الخلف
8
لا بما يشدها من الأمام، أن تزمع النظر إلى «ميدوسا» في وجهها ، أن تجرؤ على أن تخرج من كهفك الدافئ، ذاك قرار متقدم غير ميسور للإنسان في مراحل طفولته العقلية.
ولذا لم يأت انعتاق العلم من الخرافة دفعة واحدة، وظل الفكر الخرافي يعايش العلم ردحا من الزمن، ولعله ما يزال يخامره إلى يومنا هذا، وقد عاشت البشرية أمدا طويلا وهي حائرة بين الخرافة والعلم؛ لأن الخط الفاصل بينهما لم يكن واضحا، ويكفي أن نذكر أن كبلر نفسه، الذي اكتشف المدارات البيضاوية للكواكب واهتدى إلى مجموعة من أعظم القوانين الفلكية الرياضية، كان يؤمن بالتنجيم ويمارسه، ولم يكن يعتقد أن ممارسته له تتعارض على أي نحو مع عمله العلمي الدقيق، بل إن السعي إلى جعل التنجيم والتنبؤ بالطالع أدق ربما كان واحدا من أهم الأسباب التي حفزت العلماء على الاشتغال بعلم الفلك!
9
ترتع الخرافة في المناطق التي ما تزال عصية على العلم، ترتع في «الفجوات»
gaps
المعرفية الباقية، وكلما أضاء العلم شبرا من هذه الغياهب انسحبت منه الخرافة وهي تلم أذيالها وتعصب عينيها من خشية الضوء.
غير أن الأمر ليس بهذه البساطة وهذا الاختزال، فالحقيقة أن الفكر الخرافي هو من الرسوخ في أعماق البشر بحيث يصعب اجتثاثه حتى في عصر العلم وحتى لدى أعلى الفئات تعليما! ووفقا للتحليل النفسي فإن الخرافة - بأرواحها وأشباحها وغرائبها - تبدو جزءا من التكوين النفسي للإنسان، يظل كامنا في اللاشعور إلى أن تطرأ ظروف تصعد به إلى السطح الخارجي، ويبدو أن العلم والخرافة، وإن كانا ينتميان إلى عصرين مختلفين، يظلان متعايشين في نفوس البشر أمدا طويلا، وكأنهما طبقتان جيولوجيتان متراصتان الواحدة فوق الأخرى في الجبل الواحد، وكل منهما ترجع إلى زمن مختلف.
10 (4) تشارلس فرانكل، طبيعة اللامعقول ومصادره
تعقيبا على مظاهر الردة الفكرية في المجتمعات الغربية، وعلى الموجة العارمة للنزعة المضادة للعقلانية
irrationalism (اللامعقول) في القرن العشرين، أصدر الفيلسوف الأمريكي تشارلس فرانكل مقاله الشهير «طبيعة اللامعقول ومصادره»، المنشور في مجلة
Science
في يونيو 1973م.
يتساءل تشارلس فرانكل: ما الخطب؟! ما الذي يجذب المثقفين إلى اللامعقول وينفرهم من العقل والعقلانية؟ ما الذي أدى بشريحة من علية الناس ومن خيرة الأكاديميين إلى اليأس من العقل، والموجدة على العلم ومنهجه؟ وكيف يتأتى ذلك من أناس ينتمون إلى جامعات ومؤسسات جعلت التزامها الرسمي والتقليدي ممارسة البحث العقلاني والتبشير به؟ إنهم يتخذون من اللامعقول موقفا مؤصلا ومفصلا يؤكدونه باعتزاز ويذودون عنه ببسالة، ويرون إلى العلم، بل إلى كل التحليل المنطقي والملاحظة المنضبطة ومعايير الحجة السديدة ومثال الموضوعية، يرون إلى كل ذلك على أنه تجهيل منظم يضلنا عن طبيعة العالم الحقيقية وعن متطلباتنا الإنسانية الأصيلة!
وبرغم اللغة الجديدة التي تكتسي بها هذه الحركة، فإن دعائمها الأساسية التي تقوم عليها لا تعدو أن تكون - في حقيقة الأمر - مقولات قديمة يمكن أن تجدها في رسائل التصوف الكلاسيكية وفي أقوال كثير من الفلاسفة والشعراء التقليديين، وإن الأقاويل المتمردة على طرائق تفكير الحضارة الصناعية الغربية، تلك الأقاويل التي تطالعنا كل شهر أو كل أسبوع، إن هي إلا صيغ مستحدثة، ومهذبة في العادة، لآراء تعود إلى العبادات السرية الإغريقية وإلى الفيلسوفين قبل-السقراطيين هيراقليطس وبارمنيدس. (5) الدعاوي الأساسية للامعقول
مهما تنوعت الخبرات التي يصدع بها أنصار اللامعقول فإنها تستند جميعا إلى نفس الحزمة من القضايا الأساسية:
من هذه القضايا فكرة أن العالم الذي يعيش فيه الإنسان ينقسم إلى عالمين: عالم المظهر وعالم الحقيقة أو الواقع؛ الأول: تسمه الصدفة والشك واللايقين والبرود والاغتراب، أما الثاني: فيتبدد فيه الشك، ويفقد الزمن والموت وخزهما، وينغمد المرء في عالم موافق لأعمق رغباته، ويذوب الخلاف والاضطراب في حس شامل بالانسجام والاتساق.
ومنها أن الناس تأخذ المظهر على أنه الواقع؛ لأن تعريفاتهم للواقع تقوم على افتراضات مسبقة متحيزة تفرضها عليهم ثقافتهم وطبقتهم وشئونهم العملية، يقول ر. د. لانج: «ليس ثمة «حالة» من قبيل «الشيزوفرينيا» (الفصام)، وهذا النعت إنما هو واقعة اجتماعية، والواقعة الاجتماعية إنما هي «حدث سياسي».»
11
ويقول تيودور روزاك: «يرسم «الواقع» تخوم ما يمكن أن يسمى الرؤية الجمعية، حدود الخبرة السوية».
12
لكل واحد من أنصار اللامعقول طريقته الفضلى في الانفلات من عبودية التحيز الجمعي، غير أنهم يتفقون في أننا لا نبلغ الحقيقة والواقع إلا عندما نقارب الخبرة بانسلاخ من العقل. يقول روزاك منتقدا فرويد: «إن الشيء الذي لم يرغب فرويد قط في مواجهته وجها لوجه هو حقيقة أن الخط الذي نرسمه بين العالم الخارجي هناك والعالم الداخلي هنا قائم بالضرورة على افتراضات ميتافيزيقية لا يمكن أن تخضع هي ذاتها للبرهان العلمي».
13
ومنها أن الطبيعة البشرية تبدي هذه الثنائية الأنطولوجية بين المظهر والواقع. ثمة معركة تدور رحاها داخل كل شخص بين «الدماغي» و«العاطفي»، بين «الوعي» و«الحدس»، بين «الإمبيريقي» و«الطربي»،
14
وعندما يحاول الجانب العقلاني أن يمد نطاقه خارج حدوده المستحقة فإنه يهين الإنسان ويبخس قيمة الطبيعة.
ومنها أن العلامة المؤكدة على أننا قد ضللنا السبيل هي عندما نصل إلى حالات من الوعي يتمايز فيها الذات والموضوع، وهكذا يجب طرح الثقة بالعلم من حيث المبدأ؛ لأنه يقوم على التمييز بين الذاتي والموضوعي، يقول كورت باك في وصف التأثيرات المشتتة التي تعوق حركة «تدريب الحساسية»
sensitivity training : «علينا أن نرفض الجانب الفكري من الحياة، أو - باللغة الجسدية - نرفض تأثير اللحاء (لحاء المخ)
cortex ... أن نتملص من الإلحاح على الفكر، على قدرات صناعة الأدوات عند الحيوان البشري، عن التصنيف، وباختصار: عن توسط أي خبرة خلال التفكر، وندفع المشاركين في اتجاه الخبرة المباشرة التي لا تقلب في الفكر ولا تحلل».
15
كذلك نعرف أننا ضللنا السبيل أخلاقيا وعاطفيا - وفقا لحركة اللامعقول - عندما نشعر بالانفصال عن إخوتنا من بني الإنسان أو نغترب عن الطبيعة أو ننقسم داخل أنفسنا. ليس ثمة تنافر بين المخلوق البشري وبيئته، وإذا وجد تنافر فالبشر هم المسئولون عنه. عندما لا نقنع بمكاننا في مخطط الأشياء يكون سبب ذلك أننا سمحنا للحالة «العقلانية» للفهم أن تسود على غيرها من حالات الفهم. إن أعظم حقيقة تعلمها الجنس البشري من التصاقه القديم بالطبيعة هي حقيقة الوجود الروحي، وإذا نسينا ذلك فسوف نفقد الكمال النفسي، ومن المتيقن أن ما يسلبنا الكمال النفسي لا يمكن أن يكون حقا.
يترتب على ذلك أن جميع المشكلات الإنسانية: المعرفية والعاطفية والاجتماعية، مردها إلى فقدان الانسجام (الهارمونية): الانسجام بين الإنسان وبيئته، بين رأسه وقلبه، بين أفكاره وغرائزه. هكذا تقدم لنا حركة اللامعقول صورة للحياة الصالحة: إنها حياة خلو من الاضطراب والضيق، حياة منعتقة عن طريق النشوة الانفعالية أو التأمل الجذل، من الندم على الفائت ومن تنغيص القرارات وأخطار اللامعصومية، ومن السهل - سواء اتفق المرء مع اللامعقول أو اختلف - أن يفهم لماذا كان للامعقول جاذبية دائمة. إنها تقدم رؤية لضرب من السلام والقبول والالتزام غير المشروط، انتفت فيه الأخطار والآلام والهموم المعتادة للوجود البشري. (6) تفنيد أسس اللامعقول
إذا فحصنا القضية الأولى - قضية التمييز بين «المظهر» و«الواقع» - لوجدنا أن هذا التمييز هو شيء لا ينفرد به تيار اللامعقول، فالعملية العلمية ما تنفك تفعل الشيء نفسه، وذلك بطريقتين؛ الأولى: أنها تقاوم أو تعيد تأويل البنية الكثيفة لحواسنا (تأمل كوبرنيقوس وجاليليو على سبيل المثال)، والثانية: أنها تخترق ستار الاعتقاد القائم، مستبدلة بالأفكار المدعومة بالرأي التقليدي أو السلطة الرسمية أفكارا أخرى تستند إلى أدلة مستقلة وغير شخصية.
كيف يقال إن البحث العقلاني يقلص أبعاد الخبرة البشرية وينقصها من أطرافها؟! كيف يقال ذلك والبحث العلمي العقلاني هو الذي أماط اللثام عن العوالم السحيقة غير المرئية التي تتبطن العالم المرئي، العالم تحت الذري، العالم الجيني أو الدنا
DNA ، على سبيل المثال، قصة التطور المروية في الحفريات والمنقوشة في أدمغة الصخور وأنوية الخلايا.
العلم أيضا يميز - على طريقته - بين المظهر والواقع، وإنه ليفعل ذلك على نحو أكثر حدة من أي ضرب من ضروب اللامعقول. لقد جرد الطبيعة من صفاتها الأنثروبومورفية
anthropomorphic
والإحيائية
animistic
التي هي مظهر لا واقع وراءه، وقدم لها صورة غير بشرية، وغير خاضعة لقانون أخلاقي، وغير مفصلة على مقاس العواطف والأماني البشرية.
ويدعي أنصار اللامعقول أن مناهج ما يسمى ب «البحث العقلاني» هي أيضا معيبة قاصرة؛ لأنها ترتكز في النهاية على افتراضات مسبقة
presuppositions ، ومن ثم فهي تفصل تصور الواقع على مقاس معايير مسبقة، ويظن أنصار اللامعقول أنهم يؤدون استكشافاتهم للواقع دون أن يسقطوا ضحية لهذه الضرورة البشرية (ضرورة الافتراض المسبق): فهم يطفون على بحر الخبرة، يتشربون كل شيء، ولا يقحمون من عندهم شيئا، وللرد على هذه الدعوى نقول: إن مثل هذا الأداء اللامعقول - عدا أنه مستحيل سيكولوجيا - لا يفضي إلى شيء ولا يثمر شيئا؛ إنه ليكون التقاء باللامحدد واللامعرف واللامتصور واللامتذكر!
كما أنه من المحال - كما بين مفكر مثل هيدجر وجادامر من بعده - أن يقوم أي بحث من أي نوع دون فروض مسبقة، فهل كل فروض مسبقة - لمجرد أنها فروض مسبقة - هي إقحامات لا أساس لها على طبيعة الأشياء؟ الحق أن الفروض المسبقة في العلم وفي غيره من المناهج العقلانية، هي فروض مدعومة بخبرة ناجحة في الماضي، وهي بعد عرضة لضوابط التحقق والتمحيص والتصحيح أو الرفض، وهي لا تستبقى إلا بقدر ما تثبت لاختبارات قاسية متتالية، وبقدر ما تبدي نجاعة تفسيرية وتنبؤية تفوق ما تبديه أية افتراضات بديلة. الفروض المسبقة - إذن - ليست خبط عشواء، وإنما لديها ما يزكيها من قبل، وما يعجمها من بعد ويختبرها اختبار النار، فالمجتمع العلمي ليس ناديا مغلقا منكفئا على رؤية للعالم ضيقة منعزلة تتأبى على أي اختراق أو ثورة، بل إن التاريخ الفكري للعلم هو سلسلة من الثورات، بينما الفكر اللامعقول ما ينفك يدور حول نفسه، يدور ولا يثور. (7) السيكولوجيا الثنائية للامعقول
أما الثنائية السيكولوجية التي تدينها حركة اللامعقول، فإن هذه الحركة في حقيقة الأمر منغمسة فيها ومغمورة بها إلى الأذقان! إنها تتحدث عن «العقل»
reason
كما لو كان قسما من الطبيعة الإنسانية في صراع دائم وحرب ضروس مع «العاطفة»
emotion ، غير أن «العقل» - إذا نظرنا إليه كعملية سيكولوجية - ليس ملكة خاصة منعزلة مسيجة، إنه، ببساطة، عملية إعادة تنظيم العواطف، عملية وضع خطة لإشباع العواطف، وضع جدول للأولويات النسبية وفقا لموارد الظروف المحيطة وضوابطها وقيودها. العقل - كما يقول هيوم - هو خادم
16
الانفعالات، وينبغي بالضرورة أن يكون كذلك.
إن التفكر العقلي عملية لها نبرة عاطفية معينة ووقع نزوعي خاص به، يتضمن التفكر الشعور بتحكم المرء في مشاعره، وإرجاء الحكم النهائي، وإضمار أفكار بديلة بطريقة نشطة، وإخضاع جميع الأفكار، أفكار المرء وأفكار الغير لنفس الاختبارات، وبالتالي فإن قوة العاطفة العقلانية (عاطفة الدرجة الثانية
second-order emotion ) ليست مساوية في المعتاد لعواطف الدرجة الأولى، ولا يتسنى لها أن تكون في شدة عواطف الدرجة الأولى (مثل الحب والكره والرهبة) واستمراريتها وتوهجها إلا في أحوال نادرة وظروف اصطناعية. من هنا تأتي أهمية نظم المجتمع العلمي وأعرافه، ولطف المجتمع اللبرالي وكياسته. تلك أشياء تغذي العاطفة العقلانية وتثيبها، وتوفر إجراءات اجتماعية تعوض جزئيا عن ضعف العقل كمكون أصلي
aboriginal
من مكونات السيكولوجيا البشرية.
من الوجهة العملية فإن تيار اللامعقول يهيب بالمجتمع ألا يتجشم حفظ النظم ومدونات الأخلاق واللياقة التي ثبت أنها ضرورية لدعم عاطفة العقل، قانعا في ذلك بالمعقولية الصميمة للغريزة الإنسانية، والتماثل الأصلي المقدر بين حاجات الطبيعة البشرية وبين طبيعة العالم!
إن العقل في حقيقة الأمر - وبعكس ما تراه حركة اللامعقول - لا يدس نشازا بل يضفي التوافق، أما النشاز فيأتي من عواطف الدرجة الأولى، من الاندفاعات الآلية التي يتنافر بعضها مع بعض. (8) اللامعقول والخطيئة الأصلية
قلنا: إن اللامعقول يذهب إلى أن العالم في انسجام واندماج تام مع الحاجات البشرية، وهذا الاعتقاد يتبطن أيضا فكرة اللامعقول القائلة بأن الواقع إذا تم فهمه حق الفهم فسوف تتبدد كل صور الانفصال والانقسام: داخل النفس وبين الأفراد، وبين «الذاتي» و«الموضوعي»، ولن تبرز مشكلات الاختيار بين رغبات متصارعة، ولن تكون ثمة حاجة لجهود من قبيل التخطيط أو المحافظة على الموارد الشحيحة، مثل هذه الصعوبات التي تسم عالم المظهر سوف تترك لطبقة من «الهلوت»
17
تمارس فنون العقل لكي تحلها، بينما يتمتع الناجون ب «الواقع» في صنفه الأعلى.
صفوة القول أن العالم - عند نصير اللامعقول - خير، وإن الإنسان، الإنسان العقلاني، هو الذي جعله، عن عمد، شرا، إن اللامعقول - من وراء جدلياته الطويلة وبلاغته المستغلقة - هو محاولة لحل المشكلة القديمة: مشكلة «الشر»، ولإعادة طرح الأسطورة القديمة: أسطورة «السقوط». (9) بروميثيوس وآكل اللوتس
في هذا السياق يليق تقييم فكرة اللامعقول عن الحياة الصالحة، فرغم أن المتحدثين بلسان اللامعقول يطنطنون كثيرا بكلمات مثل
ecstasy (الوجد/النشوة/الجذب) و
rhapsody (الطرب /الجذل)، فإن الرؤية التي يقدمونها عن كيف ينبغي للبشر أن يعيشوا هي رؤية سلبية وكئيبة في الصميم، إنها ليست صورة بروميثيوس
18
أو أوديسيوس تلك التي يقدمونها، بل صورة آكل اللوتس
Lotus-Eater ،
19
وإن الحلم هو بمخطط للأشياء لا يواجه فيه البشر مآزق، وتتاح فيه كل الأشياء الخيرة على السواء، تسر إلينا حركة اللامعقول أن المصاعب والقيود لا وجود لها في العالم إذا نحن فهمنا العالم على وجهه، وأن مناهجنا العقلانية التي تظهر لكي تخفف هذه المصاعب والقيود هي التي تخلقها! (10) لم اللامعقول؟
ثمة ملامح خاصة للمشهد الراهن تساعدنا في تفسير الرواج الكبير للامعقول، ونوعية الجمهور واللغة والأسلوب الخاص لهذا اللامعقول، بين هذه الملامح: الحاجات التسويقية وعادات الاقتصاد التنافسي وخصوصيات وضع الشباب وثقافة العقاقير وشغف لاهوتيي التحرير في التوحد مع ما هو جديد أو ما يبدو جديدا.
وهناك عوامل أخرى، منها: الأذى الذي ألحقته التغيرات التكنولوجية المنفلتة، ومنها بعض العلماء الذين زلت أقدامهم إلى مواقف علمية زائفة، ومنها الأذى الذي ألحقه بالعلم بعض العلماء، وبخاصة من علماء الاجتماع، الذين بالغوا في تقدير ما لديهم من علم صحيح وقابل للتطبيق فتقدموا - بثقة - بحلول لمشكلات اجتماعية تبين أنها ليست أكثر من خليط من الأمل الكاذب والأحكام الأخلاقية الضيقة.
حين نتفحص طبيعة حجج اللامعقول ندرك أن النزاع بين مؤيدي المناهج العقلانية ومعارضيها يمثل انقساما قديما في الروح الغربية: في الخلافات بين السوفسطائيين والفيثاغوريين، بين المسيحيين الأرسطيين والمسيحيين الأوغسطينيين، بين الدومينيكان والفرنسيسكان، بين كولريدج والنفعيين، بين هنري برجسون وبرتراند رسل. في هذه الخلافات نجد تكريرا متعاقبا لنفس الدراما، وهي تعلو لدرجة الحمى عندما يتسارع الكشف العلمي وتبدو الكشوف التي يصنعها العلم هادمة أكثر فأكثر للاعتقادات الموروثة أو العقائد الاجتماعية أو عادات الفعل أو القوانين، ومقوضة لصواب الآمال والضغائن القديمة ووجاهتها. في مثل هذه الظروف يقدم اللامعقول وعدا بالانفراج والمناعة، ورغم أن اللامعقول لا يشير إلى شر ما إلا على نحو أخرق، فالحق أن هذا الشر قائم هناك. لقد دأب المنهج العقلاني على التركيز فيما يؤدي إلى تقدم المعرفة والتقنية، وقلما التفت إلى فحص الأغراض التي تسخر لها هذه المعرفة وهذا الذكاء، ومن الطبيعي أن العلم في هذه الحال سيبدو بالضرورة أشبه بفرانكنشتاين عند من يتهددهم العلم.
وفي خاتمة مقاله يضيف تشارلس فرانكل ملاحظة أخيرة، هي أنه كثيرا ما تنجم الخلافات بين المعقول واللامعقول - على الأقل في حالاتها الأخف - عن نوع من سوء التفاهم، فالاختلاف في بعض الأحيان لا يعدو أن يكون اختلاف ذائقة واختلاف أسلوب؛ فيؤخذ ذلك على أنه اختلاف أخلاقي ومعرفي جوهري، وعلى الذين لا يطيقون اختلاف الذوق والأسلوب أن يأخذوا بمبدأ التعايش: عش ودع غيرك يعش. (11) بقاء الخرافة بين الشرق والغرب
تبدو مظاهر التفكير الخرافي في الغرب ضربا من الردة، من الحنين (نوستالجيا)، من «النكوص»
regression
إلى مراحل قديمة من تطور الفكر البشري. أما التفكير الخرافي عندنا فيبدو من قبيل «التثبيت»
fixation ، من الجمود والتوقف عند أوضاع قديمة، والخوف من التخلي عنها وتجاوزها.
حين تنكص المجتمعات الصناعية الكبرى إلى بعض مظاهر التفكير الخرافي (قراءة الطالع، الأرواح والأشباح، الأطباق الطائرة، الذين هبطوا من السماء، الجلاء البصري، الحاسة السادسة ... إلخ) فإنما تفعل ذلك لعجز اجتماعي لا لعجز معرفي أو فكري. يتمثل هذا العجز الاجتماعي في عدم القدرة على التحكم الواعي في مسار المجتمع، وفي القوى التي تسيطر عليه. ويظل الفكر الخرافي هناك ظاهرة هامشية لا ضرر منها ما دام أسلوب الإنتاج السائد لا يسمح بوجود عناصر غير محسوبة أو غير متوقعة، وما دامت الحياة اليومية ذاتها تخضع لنظام محدد لا مجال فيه للاستثناءات أو الانحرافات، والمجرى العام للحياة يخضع للضوابط العقلية والتخطيط المدروس.
يمثل الفكر الخرافي في الغرب رد فعل على العلم المتغلغل في صميم كيان المجتمع، ومحاولة للتخلص من قبضة تلك العقلانية المحكمة التي تمسك بجميع جوانب حياة الناس عن طريق بعث عناصر لا عقلية من مكمنها اللاشعوري. إنه تعبير عن تمرد الشعوب الخاضعة للعقل على هذا العقل نفسه، ورغبتها في الخروج عنه، ولا يتم ذلك إلا بصورة مؤقتة؛ لأنها في النهاية تعود إليه، ولا تستطيع التخلص منه بعد أن أصبحت كل جوانب حياتها تنظم وفقا له،
20
لكأنها قفزة غطاء الوعاء وهو يتميز من الضغط الداخلي، تفرج قليلا عن الضغط الزائد لكي يعود الغطاء سيرته الأولى، ولعل هذه القفزة اللاعقلية ذاتها هي ما يساعد الوعاء على تحمل ضغوط الحياة الصناعية بإيقاعها السريع ونظمها الحتمية الصارمة، وهكذا يكون التفكير الخرافي في هذه الحالة منبثقا من قلب التفكير العلمي والعقلي، ولا يفهم إلا في إطاره.
حين يرتد الغربي عن التفكير العلمي فإنما يفعل ذلك من موقع الاندماج فيه لا من موقع الجهل به أو الخوف منه أو العجز عن تحقيقه. إن البون جد بعيد بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرا عن جمود متأصل وتحجر على أوضاع ظلت سائدة قرونا طويلة دون أن يرغب المجتمع في تغييرها أو يجرؤ عليه، وبين هذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرا - محدود النطاق - عن رغبة في التغيير يشعر بها مجتمع لا يستطيع أن يظل أمدا طويلا على حالة واحدة، حتى لو كانت هذه الحال هي التفكير العقلي الرشيد.
21
الفصل الثاني
باري ل. بيريشتاين:1 الفرق بين العلم والعلم الزائف2
تتمثل المعرفة في فهم الدليل الذي يؤسس الواقعة، وليس في الاعتقاد بأنها واقعة.
شارلس ت. سبرالينج
ليس العلم جرابا من الحقائق الثابتة، بل هو طريقة في توجيه الأسئلة وتقييم شتى الأجوبة الممكنة، ولكي يتلافى تحيزات الباحثين وتوقعاتهم، ويتحاشى التأثيرات العشوائية للبيئة، يتخذ العلم تدابير وقائية صارمة؛ مشاعية المناهج والنتائج، التقييم الارتيابي للحصائل، إعادة التجربة بواسطة باحثين آخرين.
وفي خلال هذا الفحص المنظم للعالم الطبيعي يعمد العلماء إلى تعميم ملاحظاتهم الخاصة في محاولة لصياغة قوانين عامة، وإذ تستوي لهم هذه العلاقات القانونية، وهذا الحشد من المعطيات الوثيقة، يقومون بصياغة نظريات قابلة للاختبار تفسر الوقائع القائمة وتتنبأ - إن أمكن - بظواهر جديدة ما كان يمكن كشفها لولا هذه النظريات.
العلوم النشطة في تدفق دائم، ليس ثمة حقائق نهائية، وكل تسليم هو تسليم «مبدئي»
provisional
قابل للتغيير والتطوير مع تحسن الأدوات أو المناهج، هذا «التصحيح الذاتي»
self-correction
هو ما يفرق بين العلوم الحقيقية وتلك التهاويم الزائفة التي تحفظ في دوجما راكدة محصنة من المراجعة والتصويب في ضوء الكشوف الجديدة.
العلوم الزائفة هي مباحث تحاول أن تنتحل صفة العلوم الحقيقية ومكانتها، وتنسخ ملامحها الخارجية وبروتوكولاتها، ولكنها تقصر كثيرا عن معايير الممارسة والتحقيق المقبولة في الأفرع المشروعة التي تريد أن تضاهيها. العلوم الزائفة لا تقدر النقد ولا تصمد للتمحيص، ونتائجها تناقض القوانين والمبادئ العلمية الراسخة، مثل قانون التربيع العكسي
inverse square law ، وقوانين الديناميكا الحرارية (مثل قانون الإنتروبي)، وقانون بقاء الطاقة، وسهم الزمن (اتجاه العلية من الماضي إلى المستقبل)، وكشوف علم الأعصاب والسيكوفيزيولوجيا ... إلخ. (1) التكنولوجيا الزائفة
بعض العلوم الزائفة هي في الحقيقة تكنولوجيا زائفة يروج لها وكلاء متجولون يضللون المستهلكين للاعتقاد بأن منتجاتهم تطبيقات سليمة لمعرفة علمية،
3
يبيعون الأمل الكاذب، ويروجون للاعتقاد الساذج بأن شخصا ما في مكان ما قد اكتشف كيف تحصل على شيء من لا شيء، ويتعيشون من الادعاء المخدر القائل بأن كل القيود والحدود المادية على الإنجاز البشري هي مجرد مواضعات لا تنطلي إلا على من افتقر إلى الخيال الخصب. تعلو نبرتهم وتحتد كلما تعثر البحث العلمي الحقيقي في الوصول إلى غاية عزيزة مرغوبة بشدة، وينعبون نعيب الغراب. (2) أمثلة من العلم الزائف
سنضرب الآن أمثلة من العلم الزائف المدعوم من الدولة والمدفوع بالأيديولوجية، وأمثلة من سقطات علماء حقيقيين وقعوا سهوا في العلم الزائف، وأمثلة من الباحثين المنطوين غير المؤهلين ذوي الدعاوى المتهورة بأنهم على وشك اكتشافات لهم ستكون ثورة في المجال.
هناك - ولا شك - منطقة رمادية نرى فيها نظريات غير تقليدية، وموغلة في الطابع النظري، غير أنها ليست باطلة بالضرورة، ويجمل التريث تجاهها واعتبارها «غير مبرهنة في الوقت الحالي»، ورغم أن معظم هذه الرؤى الفردية يتكشف زيفها في نهاية المطاف، فإن تاريخ العلم لا يعدم حالات فردية تبين للعلماء - بعد استهزائهم بها وتحفظهم تجاهها - أنها حق وأنها فتح علمي جديد (مثل نظرية انزياح القارات
continental drift ، ونظرية الانفجار العظيم)،
4
إلا أننا يجب أن نذكر أيضا أن مثل هذه الحالات هي:
أولا: استثنائية ونادرة.
ثانيا: كانت تحتكم إلى الدليل
evidence
لا إلى الحدس الشخصي الصرف.
والحق أن تريث المجتمع العلمي وارتيابه وتحفظه تجاه الدعاوي الجديدة هو أمر له وجاهته ومبرراته؛ فالبينة على من ادعى، والشك هو روح المنهج وشرطه، وأصحاب العلم الزائف مغرمون ب «الاستنتاج الخلفي»
non-sequitur
5
القائل بأنه ما دام العلماء التقليديون قد عارضوا في الماضي بضعة من المجددين الذين تبين صوابهم بعد ذلك، فإن هذا يتضمن - على نحو ما - أن أفكارهم الشاذة المتمحلة هي أيضا صحيحة،
6
وفي ذلك يعلق كارل ساجان ساخرا: «نعم، لقد ضحكوا على كوبرنيقوس وضحكوا على أينشتين، ولكنهم ضحكوا أيضا على بوزو المهرج.»
وكثيرا ما يلجأ المفكرون الهامشيون الذين استهزئ بأفكارهم إلى اتهام المؤسسة والقول بأن أفكارهم رفضت لا لشيء إلا لأن «المؤسسة العلمية» تقاوم الأفكار الجديدة على نحو غير معقول، وبخاصة عندما تأتي من «الغرباء»، وقد أخذ باحث نمسوي، هو وليم هونيج، أخذ هذه التهمة يوما مأخذ الجد، ورغم أنه هو نفسه عالم تقليدي مرموق فقد أحس أن هذا الحشد الكبير من التأملات غير التقليدية قد تحتوي على بعض الأفكار النافعة التي يجري إغفالها من جانب علماء التيار الرئيسي؛ لذا أسس هونيج في عام 1978م مجلة فريدة اسمها «تأملات في العلم والتكنولوجيا»، وقصد بها أن تكون منبرا للحجج والنظريات غير التقليدية التي يتعذر أن يمررها محررو المجلات المحكمة القائمة لكونها مفرطة في التأمل، ومفتقرة للبيانات الداعمة الكافية، ومناقضة للنظريات الراهنة المقبولة ... إلخ؛ فلعل بين ركام الغثاء ماسات مغبونة، غير أنه بعد خمس سنوات من الصبر والإصغاء قرر هونيج الإقلاع عن مشروعه؛ فقد فشل في العثور على عبقريات حقيقية، وبدلا من ذلك وجد تيارا لا ينقطع من المهووسين وأشباه البرانويديين والناقمين، ربما تصادف بينهم فردا لديه فكرة قد تكون مثيرة، غير أنه عاجز عن تطويرها أو توصيلها للآخرين. أغلق هونيج مجلته وخلص إلى أن المفكر المجدد حقا سوف يجد في النهاية أذنا صاغية عبر القنوات العلمية العادية.
وقد كان ظهور الإنترنت نعمة كبرى لكل من يرغب في السباحة ضد التيار، ولم يحدث في التاريخ أن وجد الدخلاء مثل هذه الفرصة لبث أفكارهم، غير أن المحبط في هذا الأمر أن الكم نفسه - كم التأمل النظري - جعل اكتشاف اللآلئ بين الروث أصعب مما كان في أي وقت مضى. (2-1) العلم الزائف في البيولوجيا
الليسنكوية
Lysenkoism
في زمن الاتحاد السوفيتي تحت حكم ستالين كانت أفكار تروفيم ليسنكو
Trofim Lysenko
الثابت زيفها هي التي تتبناها الدولة كمبادئ صادقة لعلم الجينات. لقد كان ليسنكو يدعم اللاماركية؛ لأنها تلائم الأيديولوجية الماركسية، وقد أدى هذا المذهب في البيولوجيا إلى خنق البحث الجيني ونقص الإنتاج الزراعي عقودا من الزمن، كما أدى إلى انعدام الكوادر المدربة القادرة على النهوض بالدولة في مطلع عصر التكنولوجيا الحيوية. ومن المؤسف أن كثيرا من أنبغ العلماء السوفيت وألمعهم قد ألقي بهم في معسكرات الاعتقال لتجرئهم على إبداء الشكوك في حماقات ليسنكو.
مذهب الخلق العلمي
scientific creationism
يحاج أنصار مذهب الخلق العلمي بأن التأويل الحرفي لقصة الخلق في سفر التكوين هو بديل معقول لنظرية التطور بالانتخاب الطبيعي، وأنه علم مشروع ينبغي تدريسه في منهج البيولوجيا بمعاهد التعليم. ومن الحق أنه لا يوجد عالم ذو مكانة في البيولوجيا أو الحفريات أو الجيولوجيا يؤيد هذه المحاولة الخرقاء التي تحمل الدين على أن يتنكر كعلم. ومن الحق أيضا أن أغلب الحصفاء المسيحيين يجدون فكرة العالم ذي الستة آلاف سنة عمرا فكرة معيبة، وأن بعض علماء البيولوجيا هم من المسيحيين الخلصاء، ولكنهم لا يرون ضرورة للصراع بين الدين والعلم في هذه الحلبة، ويتقبلون التطور على أنه الآلية التي شاءها الخالق لبسط الحياة على الأرض، وقد أعلن البابا يوحنا بول الثاني أخيرا هذا الموقف بوصفه الموقف الرسمي للكنيسة الكاثوليكية، ورغم أن معظم البيولوجيين قد لا يرون ضرورة لافتراض فاعل شخصي قدرت مشيئته إيجاد قوانين الطبيعة، فليس ثمة تناقض منطقي في هذا الرأي؛ لأن العلم لا يتعامل إلا مع الآليات القريبة
proximal mechanisms ، ولا يمكنه أن يتناول أسئلة العلة النهائية التي هي نطاق الميتافيزيقا والدين.
يقدم لنا مذهب ليسنكو ومذهب الخلق مثالين ساطعين لما يمكن أن يفعله بعض العلماء ذوي المكانة والإنجازات، وكيف يلوون بما تعلموه لكي يخدم قناعاتهم الدينية والسياسية. أما العلم العنصري النازي الزائف فيقدم مثالا مؤلما للويلات والمآسي التي يمكن أن تحدث عندما تتبنى الدولة الهراء البيولوجي وتتصرف على أساسه، وعندما تكون للأيديولوجية اليد العليا فوق الشك المنهجي وفوق الدليل. (2-2) العلم الزائف في الكيمياء
الماء المتعدد
polywater
في ستينيات القرن الماضي صدرت تقارير من مختبرين لعالمين روسيين جليلين - هما فيدياكين وديرياجين - بدا أنها تكشف حالة رابعة للماء (بالإضافة إلى الحالة السائلة والغازية والمتجمدة)، وسرعان ما هلل للاكتشاف عدد من العلماء المرموقين، مندفعين إلى تأكيد الكشف وآملين في الإفادة من هذه الظاهرة الجديدة. لقد سمحوا لآمالهم واعتقاداتهم أن تغشي على موضوعيتهم، فكان مسلكهم أشبه في الحقيقة بأصحاب العلم الزائف. وقد تمكنوا من تأييد وجود هذه المادة الجديدة، وسجلوا لها خواص عديدة، إلا أن نظام «مراجعة النظراء»
peer review
و«تكرار التجربة»
replication
تدارك أخيرا هذه البدايات الكاذبة وأخذها بالتقويم والتصويب؛ إذ اكتشفت التحليلات الأكثر دقة أن هذه المادة الجديدة كانت في حقيقة الأمر ضربا خفيا جدا من التلوث لحق بأجزاء من جهاز المختبر. لقد كان الاكتشاف الاختراقي المبدئي خطأ بريئا وليس دجلا أخرق، وإن جر وراءه برهة من المكابرة من جانب البعض ممن أخذتهم العزة بالإثم.
تقدم لنا قصة «الماء المتعدد» مثالا واضحا لعلم معتل، ومثالا أيضا لكيف تعمل المنظومة العلمية لتصويب أخطائها. وربما لا يسلم جيل من مثل هذه الاندفاعات غير الموفقة، ولعل قصة «الاندماج البارد»
cold fusion
هي اندفاعة الجيل الحالي وإسهامه في سجل هذه الأخطاء.
إضافات غذائية حمقاء وعلاجات لجميع الأمراض
في حين أن فضيحة الماء المتعدد تبين لنا أنه حتى العلماء المرموقون أحيانا ما يسلكون مسلك العلم الكاذب، فإن العلم الكاذب في معظمه يأتي من دخلاء يعتقدون أنهم قد أنجزوا كشوفا يجري تجاهلها - وربما قمعها بلا هوادة - من قبل «المؤسسة» الأنانية الضيقة الأفق، مثال ذلك أنه لا يكاد يمر عام دون أن يعلن عن إضافة جديدة فريدة سوف تضاعف كفاءة الوقود لآلة الاحتراق الداخلي، والقصة تصحبها في العادة ادعاءات بأن شركات البترول تضطهد المكتشف في محاولة مستميتة منها لحماية مكاسبها المتضخمة.
وفي مجتمع مفتون بالنحافة فإن هناك دائما سوقا جاهزة للحبوب الجديدة المذهلة، والمراهم والكريمات التي تذيب الدهون (بغير حاجة طبعا إلى الرياضة والتقشف)، وكذلك الحال بالنسبة لمنتجات التجميل التي تزيل التجاعيد، فما تنفك تأتي وتروح أوتوماتيكيا. ليس ثمة دليل وثيق على فاعلية هذه المنتجات؛ غير أن هذا لم يؤثر على مبيعاتها قط، وما تزال مرائب السلع عبر القارة تطفح بسقط من هذه المنتجات ألقى به مستهلكون محبطون. (2-3) العلم الزائف في الفيزياء
أشعة إن
N-rays
وهي من أقوى الأمثلة على علماء مرموقين يسلكون مسلك أصحاب العلوم الزائفة، ففي منعطف القرن العشرين، وفي أعقاب اكتشاف الألماني رونتجن لأشعة إكس، أعلن عالم فيزيائي فرنسي مرموق صاحب كشوف هامة عديدة في مجاله - هو رينيه بلوندلو - أنه اكتشف صنفا آخر من الأشعة أطلق عليه أشعة إن نسبة لجامعة نانسي التي ينتمي إليها، وقد بين الفيزيائي الأمريكي روبرت وود في النهاية أن «ملاحظات» بلوندلو كانت نتاجا لكل من التفكير الآمل وبعض التحريفات الدقيقة التي تحدث طبيعيا في الإدراك البصري.
كان الدرس المستفاد من قصة أشعة إن هو:
ضرورة إعادة التجربة
replication
على نحو مستقل (والتي تمت في الحقيقة على يد مختبرات أخرى ذات مكانة ولم يعثر فيها على شيء من قبيل أشعة إن).
ضرورة «ميكنة تسجيل البيانات» وذلك لتجنب الميل البشري لرؤية ما نحن مهيئون لرؤيته.
ضرورة التجارب الضابطة.
ضرورة التحليلات الإحصائية المتقنة.
صنوف خيالية من الطاقة
fantastic energies
في مجال يسمي نفسه
paraphysics (ما بعد الفيزياء) ثمة من يسلمون حتى الآن بوجود أصناف من الطاقة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لكي يفسروا مثلا خرافة مثلث برمودا، التي تفترض وجود «دوامات» قادرة على ابتلاع أعداد كبيرة من السفن فلا تبقي لها أثرا.
والحق أنه لا توجد أدلة وثيقة على أن هناك أعدادا من السفن أو الطائرات تختفي في هذه المنطقة أكبر مما هو حادث في أي طريق سفر مطروق بنفس الدرجة ومعرض لنفس الأحوال الخاصة بالطقس والمد.
ثمة ثلاثة صنوف فقط من الطاقة يعرفها العلم: الطاقة الكهرومغنطيسية وطاقة الجاذبية والطاقة النووية (القوية والضعيفة)، فإذا ما سمعت من أي دعي عن صنف رابع من الطاقة فتحسس مسدسك.
التصوف وميكانيكا الكوانتم
لقد أفرخ لنا «العصر الجديد»
New Age
7
صناعة «بير سلم»
8
رائجة أخرى، تلك التي كرست لإثبات أن عديدا من الكتاب القدامى في الفلسفة الشرقية كانوا مدركين حقا للبنية التحتية للعالم، تلك البنية التي لم يكشف عنها اللثام إلا مؤخرا بواسطة الفيزياء الجزيئية الحديثة، وأشهر مثال لهذا الضرب من الصناعة هو كتاب «طاو الفيزياء»
9 (طريق الفيزياء)
Tao of Physics
1975م، يزعم مؤلف الكتاب - فريتجوف كابرا
Fritjof Capra - أنه قد اكتشف تطابقات لافتة بين هذين التراثين، مثل فكرة أن الفراغ شكل، وفكرة أن الواقع هو كل شيء يمكنك أن تفكر فيه، وفكرة أن الوجود هو كل لا يتجزأ.
وفي كتابه
1990م يصف عالم الفيزياء فيكتور ستنجر
Victor Stenger
محاولات كابرا للمزاوجة بين التصوف والعلم الحديث بأنها «تسكع اعتباطي خلال التراث الشرقي بغية العثور على مقتطف خادع هنا أو هناك يبدو شبيها - على نحو غامض - بالفيزياء الجديدة.» وهناك رد ممتاز على أولئك الذين يروقهم مزج التصوف والفيزياء تحت الذرية يمكن أن تجده في كتاب
The God Particle
لمؤلفه ليون لدرمان
Leon Lederman ، الحائز على جائزة نوبل.
مرة أخرى، إذا أباح المرء لنفسه أن يؤول الاستعارات الشعرية كيفما شاء، فلن يعجزه على الإطلاق أن يقسر المعنى الذي عناه المؤلف بشكل واضح في هذه الفقرة المجازية أو تلك على أن يطابق أي إشارة حديثة تقريبا، وقد تجلى هذا مرارا وتكرارا مع تنبؤات نوستراداموس منجم ومتنبئ القرن السادس عشر، إذ يشير مريدوه الجدد إلى تماثلات لافتة بين الأوصاف التي أودعها في صوره المونقة وبين أحداث تقع في زمنهم، ولسوء حظ هؤلاء الباحثين فإن نفس الفقرات التي يرونها قد تنبأت بأحداث في زمنهم الخاص، قد عزاها أناس في عصور أقدم إلى أحداث كبرى في أيامهم هم.
10
ومما يزيد الطين بلة أن كثيرا من تلك الضربات الصائبة المزعومة هي من قبيل سوء الترجمة، أو هي تزييفات صريحة أقحمت في الكتابات الأصلية بعد وقوع الأحداث التي يفترض أنها قد تنبأت بها.
وبالنسبة للحالمين المحدثين الذين يرون خيوطا من ميكانيكا الكوانتم في المجلدات القديمة للتصوف الشرقي فإن التماثلات سطحية بنفس الدرجة، وقابعة في عين الناظر، (انظر فصل «القراءة الباردة».
11
إذا شئت تفسيرا لكيف تقرأ عقولنا خصوصيات شخصية في منطوقات قارئي الطالع وغيرهم حيث لا توجد إلا عموميات غامضة ترتقب التأويل).
الاندماج البارد
Cold Fusion (طاقة مجانية للجميع)
وهو مثال آخر على المنطقة الرمادية بين العلم والعلم الزائف يلحق بمثال «الماء المتعدد»، في عام 1989م طلع عالما كيمياء من جامعتين مرموقتين في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما: بونز ومارتن فليشمان، طلعا على مجتمع الفيزياء بإعلان مذهل إن صح سيكون إعلانا بنهاية أزمة الطاقة إلى الأبد، فقد أعلنا (في الصحافة الشعبية أولا وليس من خلال مجلة محكمة، وإن ظهرت الأبحاث المحكمة لاحقا بالفعل) أنهما قد توصلا إلى الاندماج النووي بجهاز زهيد الثمن في مختبر كيميائي عادي. كان هذا شيئا لافتا للغاية بالنظر إلى أن عقودا من الجهود المتضافرة بمفاعلات باهظة التكلفة لم تحقق غير تقدم محدود باتجاه تحقيق اندماج نووي متصل.
وهنا تتجلى مرة أخرى أهمية «تكرار التجربة»
replication
على نحو مستقل، وتتجلى آلية «التصحيح الذاتي» المبيتة في المنظومة العلمية الكلية: فقد تقاطرت التجارب المكررة من جميع أنحاء العالم تجمع على فشل هذا الاندماج المزعوم، وعلى أن العالمين الجليلين قد أساءا تأويل نتائج ملتبسة معينة في تجاربهما المبدئية. وقد عزا البعض ذلك إلى غياب الموضوعية من جراء الالتزام العاطفي الشديد بفكرة الاندماج البارد وسراب الشهرة الهائلة والثراء العريض المأمول في عقب ذلك.
إن العلماء بشر تحدوهم الآمال وأطياف المجد فيزلون أحيانا في الخطأ البريء وإساءة التأويل، وبخاصة في الجبهات المضطربة للمباحث النشطة، من هنا تأتي أهمية التكرار المستقل للتجربة
replication
بوصفه المعيار الذهبي في أي مبحث علمي مشروع.
12 (2-4) العلم الزائف في الطب
يرتع الدجل ويصول صولته في المناطق التي لايزال الطب فيها عاجزا قليل الحيلة؛ فيتلقف المريض في حضيض اليأس عقب تشخيص مرضه الفتاك، ويغمره بوعود شفاء أوسع كثيرا مما يشي به حاله، بوعود ما كان للمريض أن يبتلعها لو أنه كان بمعنوياته المعتادة.
من شأن عمليات الالتئام التلقائية للجسم ، ومن شأن الأثر البلاسيبي العتيد: أن يجعل أي علاج زائف يبدو ناجعا؛ لهذا السبب ينبغي علينا أن نختبر كل علاج مزعوم اختبارا جيد التصميم ونقارنه بمجموعة ضابطة لا تتناوله أو تتناول علاجا وهميا خاملا، وينبغي أن تكون عينة المرضى كبيرة العدد مشتركة في نفس العرض، وأن تتم مقارنة أي علاج جديد من خلال تقييم «عمى مزدوج»
double-blind evaluation : فلا المريض ولا المعالج يعلم من اختص عشوائيا بتلقي العلاج الناشط أو بتلقي البلاسيبو الخامل. ولا تكون دعوى النجاعة مشروعة ما لم يثبت أن المجموعة التي تلقت العلاج الناشط قد أبدت تحسنا أكبر مما أبدته مجموعة البلاسيبو أو مجموعة اللاعلاج بفارق ذي دلالة. إن أغلب ما يسمى «الطب البديل»
alternative medicine
لم يتم اختباره بهذه الطريقة (أو تم اختباره وثبت فشله).
ربما تكون السلوى التي يقدمها العلم الزائف في الحالات التي يسلم فيها الطب بعجزه، ربما تكون شيئا لا ضير فيه، غير أن استنزاف مال المعوزين فيما لا طائل منه، وصرف الناس عن مظان العلاج الحقيقي إلى متاهات الوهم، تلك أشياء لا ترضي العقل والضمير. يروي باري بيرشتاين قصة فتاة في السادسة عشرة أودى الدجل بحياتها، وقد كانت حالتها مواتية تماما لزراعة كبد منقذة للحياة، ولكن إيمان والديها الراسخ بالطب البديل صرفهما عن ذلك إلى التماس العلاج في عيادة بالمكسيك ترتكز في علاجها على غذاء نباتي غريب مع حقن شرجية متكررة من القهوة!
العلاج المثلي
homeopathy
من الدجالين من استطاع أن يأتي بصيحات جديدة من الهراء، غير أن معظم هذه الصيحات لا تعدو أن تكون تدويرا جديدا للعقاقير القديمة السرية التركيب والشافية من جميع الأمراض (
nostrums ) والتي انفضح أمرها منذ زمان، من ذلك أن نظرية العلاج المثلي (الهوميوباثي) كانت من بين أبرز فلسفات المرض والعلاج في المرحلة قبل العلمية للطب، ورغم أن علاجاته قد أطيح بها عندما كشف البحث العلمي تهافت نظريته الباثولوجية، فقد بقي العلاج المثلي على قيد الحياة على تفاهة أساسه المنطقي.
يوصي العلاج المثلي بأن تعالج الأمراض بواسطة القوى الفاعلة التي من شأنها أن تفاقم الأعراض، غير أنها تعطى في محاليل مخففة تخفيفات قصوى يكاد لا يبقى فيها شيء من المكون النشط، وهو قريب من قولك: إن بصقة في ميناء فانكوفر ب «كندا» كفيلة بأن تلوث خليج طوكيو!
يفترض العلاج المثلي أن الماء النقي يمكن أن «يتذكر» شيئا ما قد احتواه يوما، ويظل بالتالي يؤتي أثر المادة الغائبة! ولكي يقطروا هذه «الذاكرة» ينخرط المعالجون المثليون في طقوس تحضير عجيبة تتطلب عددا ضخما ولكن دقيقا من التخفيفات، وعددا محددا من رجات الزجاجة عند كل تخفيف. هذه الشعائر الكوميدية، مقرونة بتفسيراتهم المتمحلة لفاعلية إكسيرهم المزعوم (مع التسليم بأنه لم يعد ثمة مكونات نشطة باقية) هي العلامة التحذيرية التي ينبغي أن تثير شكوك المستهلك الفطن بأن الأمر ينطوي على علم زائف.
علاجات دجلية للسرطان
يعج الطب البديل بعلاجات مريبة للسرطان والتهاب المفاصل، وتقاليع من المدعمات الغذائية لا يمكن أن تثبت لتمحيص الخبراء، وكل ما عرض للبحث العلمي في هذه المجالات يقدم أمثلة لكيف يفكر العلماء الزائفون وكيف يعملون. «الليتريل»
laetrile
على سبيل المثال، ذلك العلاج البديل - الأسوأ سمعة - للسرطان، قد أثبت فشله في كل الدراسات الإكلينيكية المنضبطة الجيدة التصميم، وهو غير مصرح به في كندا والولايات المتحدة؛ إلا أن ذلك لم يوقف تدفق المرضى المستيئسين الذين يتقاطرون إلى عيادات الليتريل في بلدان أخرى، كذلك استمرت مبيعات الأساور النحاسية والإكسيرات الغريبة المزعومة لالتهاب المفاصل، رغم غياب السند التجريبي، ورغم انكشاف أن كثيرا من الأشربة المضادة لالتهاب المفاصل تحتوي على مكونات سامة، كذلك الحال بالنسبة للدعاوي المبالغة عن الفاعلية العلاجية لفيتامين ج، وفاعلية الميجافيتامين في علاج الذهانات، وخواص فيتامين ج المضادة للسرطان.
الكيروبراكتيك
يقع الكيروبراكتيك في منطقة رمادية، فقد يفيد في حالات معينة ولكن أساسه المنطقي دجل بحت، فتداول المفاصل له تاريخ طويل ويبدو أنه مفيد علاجيا لعدد محدود من الاضطرابات العضلية الهيكلية، ولا شك أن الممارسين الذين يقصرون جهودهم على مثل هذه الحالات يقدمون بعض العون، وإنما يكمن الدجل في أولئك الذين يناصرون الكيروبراكتيك على أنه نظام علاجي متكامل يمكن استخدامه لجميع الأمراض، بما فيها الأمراض المعدية والأورام الخبيثة ومرض السكر وأمراض المناعة ... إلخ. مثل هؤلاء كثيرا ما يتجاوزون نطاق قدرتهم ويصرفون الناس عن العلاجات الطبية المثبتة التي يمكن أن تقدم لهم عونا حقيقيا، كما أن هناك حالات كثيرة تم تسجيلها أوقع فيها هؤلاء المعالجون ضررا خطيرا إذ تعرضوا للفقرات التي تعاني من أمراض أخرى لا يحيط بها تدريبهم المحدود.
ومن دواعي القلق أيضا ولوع كثير منهم بأجهزة تشخيصية مريبة ومكملات غذائية مشكوك في فاعليتها، وقد أدى الموقف اللاعقلاني لمهنة الكيروبراكتيك ضد تحصين الأطفال وضد المضادات الحيوية (باستخدامها السديد)، وهو الموقف الذي يقوم على رفض النظرية الجرثومية في المرض؛ أدى هذا الموقف إلى أضرار حقيقية.
وإذا كانت علاجات الكيروبراكتيك في بعض الأحيان مفيدة بالفعل، فإن فائدتها لا تعود إلى ما تدعيه نظريتها التي تستند إلى دعائم علمية واهية للغاية. لقد وضع المنظومة التفسيرية للكيروبراكتيك في القرن التاسع عشر بقال لم يتلق علما أكاديميا، هو دانييل ديفيد بالمر
Daniel David Palmer ، وبقي هذا التفسير كما هو تقريبا منذ ذلك الحين. يقوم هذا التفسير على مبدأين رئيسيين: (1) أن «جميع» الأمراض تنجم عن انسداد ما يسمى ب «الطاقات الحيوية»
vital enengies
التي يفترض أنها تتدفق خلال الأعصاب التي تخرج من العمود الفقري. (2) أن هذا التدفق الحيوي (والصحة) يمكن استعادته بواسطة إعادة صف الفقرات لإزالة عنق الزجاجة.
ليست هذه النظرية اليوم أكثر معقولية من الفكرة العتيقة القائلة بأن الأمراض تسببها الشياطين. صحيح أن ممارساتهم قد تخفف بعض حالات آلام أسفل الظهر مثلا، ولكنها تحدث ذلك لأسباب لا تمت بصلة للنظرية الدخيلة التي يتخذها هؤلاء لتسويغ علاجهم.
التداوي بالأعشاب
herbalism
كثير من العقاقير الأساسية في علم الصيدلة الحديث مستمد أصلا من علاجات شعبية تقليدية: الأسبرين (من شجر الصفصاف)، الديجيتاليس (من نبتة
foxglove )، المورفين (من الخشخاش)، الكينين (
chinchona bark )، الكيوراري (
Strychnos toxifera )، الإفيدرين (من نبتة يسميها الصينيون
Ma huang ) ... إلخ. ومما لا شك فيه أن ثمة الكثير من الأدوية المفيدة الأخرى تنتظر من يستخلصها من المخزون الدوائي التقليدي الضخم، وأن عددا من شركات الأدوية يدعم حملات لصيادلة إثنيين إلى أماكن مثل غابات الأمازون المطيرة بحثا عن علاجات تقليدية فعالة.
ولكن الحاصل هو أن معظم الأعشاب التقليدية لم يتم اختبارها جيدا من حيث السلامة والفاعلية؛ ليظل التداوي بالأعشاب خليطا غير منفصل من العلاجات بعضها آمن وفعال، وبعضها بلاسيبو خامل، وبعضها مواد خطرة. ومن الصعب في أغلب الأحيان - إن لم يكن من المستحيل - أن تحكم أي من هذه المواد ينتمي إلى أي من هذه الفئات، ومن الأخبار المبشرة أن محاولات قد بدأت - وبخاصة في الصين - لتطبيق المناهج العلمية الحديثة لفصل العقاقير العشبية الفعالة عن البلاسيبو، وعزل المكونات الفاعلية عن غيرها من المكونات. ولا غرو أن يعد أولئك الممارسون التقليديون حول العالم الذين يناوئون هذه المحاولات ويتشبثون بتفسيراتهم السحرية السافرة عن تأثيرات مستحضراتهم، لا غرو أن تعد ممارساتهم عند ذوي النزعة العلمية دجلنة أو علما زائفا على أفضل تقدير.
كذلك يجب أن تعد علما زائفا كل العلاجات التقليدية المجبولة من قرون الخرتيت وقضيب النمر والحوصلة الصفراوية للدب، وغير ذلك من أعضاء الأنواع الحية النفيسة المعرضة بذلك لخطر الانقراض. وكل هذه العلاجات الفاشلة لا تستند إلا إلى مبادئ سحرية مشعوذة، إلى الاعتقاد العتيق القائل بأن الشبيه يحدث الشبيه
like begets like (فإذا كانت هذه أجزاء قوية رمزيا من وحوش قوية فلا بد أن تنقل حيوية الوحوش وعرامتها إلى من يتعاطاها من الناس!)
تأثير الحالة النفسية على المرض الجسمي
وفي المناطق الرمادية أيضا تقع الفكرة المثيرة لكثير من الجدل، القائلة بأن العوامل السيكولوجية تسهم إسهاما كبيرا في ابتداء الأمراض الجسمية وهدأتها، ومن الواضح أن بعض هذه الدعاوى أكثر خلافية من بعض، فاتجاهات الناس يمكن بغير شك أن تدفعهم إلى أن يسلكوا بطرائق مفيدة أو مدمرة للصحة. ومن الثابت أيضا أن الضغوط النفسية بشتى أنواعها قد تعيق وظيفة الجهاز المناعي على سبيل المثال، الأمر الذي يزيد القابلية للعدوى ويخفض التيقظ ضد خلايا سرطانية معينة، ومن شأن الحالات النفسية كذلك - من خلال استدامة النشاط الزائد للجهاز العصبي الأوتونومي - أن تسهم في إحداث مشكلات عديدة ذات صلة بالضغوط، مثل قروح المعدة
13
وبعض أمراض القلب والأوعية الدموية.
غير أن النسبة الإحصائية للمرض الجسمي التي يمكن أن تعزى إلى عوامل سيكولوجية ليست بالحجم الذي يعتقده معالجو «العصر الجديد»
New Age
وأصحاب العلم الزائف، فكثير من الأبحاث في هذا الشأن تعاني من عيوب ميثودولوجية. وتجمع أوثق التقديرات على أن المتغيرات السيكولوجية تتسبب في حدوث 2٪-3٪ على الأكثر من الأمراض الجسمية.
تفضي هذه المحاولات إلى تشجيع الناس على تحسين أسلوب حياتهم وتحمل قدر أكبر من المسئولية عن صحتها الجسمية الخاصة، غير أن الجانب السلبي في ذلك أنها أدت إلى عودة الاعتقاد الخرافي القائل بأن الناس تمرض «لأنها تستحق ذلك»، وبحسب أجندة «العصر الجديد» يمثل هذا شطرا من رغبة شديدة في استعادة بعد أخلاقي في تشغيلات العالم الطبيعي. يشير معالجو «الطب البديل» إلى أن الأمراض يمكن شفاؤها بالضحك أو الصلاة أو معايشة الأفكار السارة أو ممارسة الخيال الذهني، إلا أن العواقب غير المقصودة لهذا الاتجاه هي أنه عندما تفشل هذه الطرائق في وقف مسار العلل الخطيرة يميل المرضى - على الأرجح - إلى تأنيب أنفسهم على نحو غير منصف على الإطلاق، ويفترضون مسايرين في ذلك فكرة «العصر الجديد» عن القوى الأخلاقية الضابطة للعالم الطبيعي؛ يفترضون أن تقصيرهم الأخلاقي كان مسئولا بالتأكيد عن حدوث مرضهم بل عن عدم شفائهم منه أيضا، ذلك حقا لون من إضافة الإهانة إلى الأذى. (2-5) العلم الزائف في السيكولوجيا
التنجيم
astrology
ما زال عدد مذهل من الأفراد المتعلمين تعليما جيدا لا يرون بأسا في استخدام النظريات السحرية في السلوك التي تشكل سيكولوجيا العالم القديم لكي يفسروا السلوك الإنساني هنا والآن. إن التنجيم علم زائف رائج رواجا هائلا، ويدعي دعاوى عريضة، وقد خضع لاختبارات تجريبية عنيفة وثبت فشله وانعدام جدواه، ورغم ذلك فقد بقي التنجيم في أذهان الكثير من المتعلمين طريقة مقبولة لتفسير شخصياتنا ونوازعنا.
علم الخطوط
graphology
علم ذو قرابة وثيقة بالتنجيم، يدعي أن شخصيتنا وقدراتنا ومستوانا الأخلاقي يمكن تبينها من هيئة خط يدنا، وهو أيضا قد خضع للبحث وانفضح زيفه تماما، غير أن هذا لم يزع الكثير من رجال الأعمال والوكلاء الحكوميين الذين لا يزالون يستعينون بمحللي الخطوط في اتخاذ قرارات تتعلق باختيار العاملين. وقد سقطت قلة من المؤسسات الشرطية والمحاكم ضحية لهذه المنظومة الزائفة في قراءة الشخصية. إنهم يزعمون قدرتهم على كشف الخيانة الخبيئة والانحراف الجنسي وإدمان العقاقير والفسق السلوكي ... إلخ، من خلال نظرة إلى أسلوب الشخص في الكتابة بخط اليد. ليس يخفى احتمال إضرار هؤلاء بسمعة الناس وبتقدم المهن والأعمال، وقد بلغ توقح إحدى شركات تحليل الخطوط إلى حد تقديم فصول دراسية للمعالجين تدربهم على كيفية كشف الذكريات المكبوتة عن الإيذاء الجنسي في الطفولة، وذلك من خلال فروق طفيفة في خطوط الضحايا المفترضين. إن التشهير بأناس أبرياء وبقدراتهم ومكانتهم الأخلاقية بالاستناد إلى هذا العلم الزائف (ذلك التشهير الذي ربما لا يدري ضحيته أن خط يده قد عرض على محلل خطوط)، مثل هذا التشهير لا يفترق عن إصدار الأحكام على اجتهاد الشخص وأمانته ولياقته لوظيفة ما بالاستناد إلى لون بشرته أو بنسبة الجينات اليهودية فيه!
شرائط العون الذاتي تحت-الشعورية
يزعم مروجو هذه الشرائط السمعية أنها تحتوي على إيحاءات علاجية شديدة الخفوت بحيث لا تسمع داخل الخلفية الموسيقية أو أصوات الغابة ... إلخ، ورغم أن هذه الشرائط غير مسموعة فإنهم يزعمون أنها تنفذ مباشرة إلى تحت الشعور حيث تؤتي أثرا لا يقاوم. تزعم إعلانات هذه الشرائط أنها تفعل كل شيء بداية من الاسترخاء وتقوية الذاكرة ورفع الكفاءة الاجتماعية إلى هدأة السرطان وأورام الثدي، ورغم أنها خضعت لأبحاث علمية وثبت بطلانها لدى عديد من علماء النفس المرموقين
14
الذين أعلنوا زيفها ولا جدواها، فقد بقيت هذه الصناعة مزدهرة ورائجة!
تقاليع السيكولوجيا الشعبية، خلق ذاكرة كاذبة، الباراسيكولوجيا
من بين هذه التقاليع «البرمجة العصبية اللغوية»
Neurolinguistic Programming (NLP) ،
15
و«إعادة الولادة»
Re-birthing ، و«الصرخة الأولية»
، وتشترك جميعا في أنها لم تقدم أي أساس منطقي أو دليل مقبول علميا يدعم مزاعمها العلاجية.
ولكي تكتسب هذه المجالات مصداقية علمية فهي تلج في ادعاء مشاركتها في قطاعات مشروعة من أبحاث الدماغ. هكذا جعل جمع غفير من «موالفي الدماغ»
brain-tuners
يداهمون السوق مقدمين كل أشكال المنافع من خلال ما يزعمون أنه إعادة تدريب موجات الدماغ. ومرة ثانية تتقاطر الدراسات العلمية المكذبة لهذه الدعاوى الزائفة. أما صناعة الغذاء الصحي ووكلاء العصر الجديد فقد أمطروا السوق ب «كوكتيلات ذكية» يزعمون أنها تحسن أداء المخ بمد الجسم بالأحماض الأمينية التي يستخدمها الدماغ في تصنيع شتى الموصلات العصبية، ولا عجب أن برامج المبيعات قد سبقت الأبحاث العلمية المحققة التي كذبت - كالعادة - كل هذه المزاعم.
و«العلاج بفض حساسية حركة العين»
eye-movement desensitization
تقليعة أخرى هذه الأيام بين الاستشاريين النفسيين السذج، تقليعة تدعي أن الأعراض العقلية الخطيرة يمكن شفاؤها ببساطة بأن يطلب من العملاء تتبع أصابع المعالج وهي تتهادى في طرف مجالهم البصري، وهو أيضا شأنه شأن موالفي الدماغ، يزعم أنه يقطع الأنماط المختلة من النشاط العصبي محققا معجزات شفائية حيث قد فشلت العلاجات التقليدية. يستند رواج هذه التقاليع السيكولوجية الشعبية جميعا إلى الشهادات الفردية
testimonials ، لا إلى أية بيانات صلبة مستمدة من أبحاث علمية ذات مجموعات بلاسيبية ضابطة.
خلق ذاكرة زائفة
وهو مثال من السيكولوجيا الزائفة أشد ضررا من غيره، يرفض تحذيرات البحوث العلمية ويستخدم ما يسمى تقنيات «تعزيز الذاكرة»
memory enhancement ، ففي فورة الحماس لمواجهة مشكلة الإيذاء الجنسي في مرحلة الطفولة، وهي مشكلة حقيقية ومنتشرة، يعمد كثير من المعالجين إلى اتخاذ طرائق خطرة يزعمون أنها توقظ في الراشد ذكريات إيذاء جنسي طال كبتها، غير أن أبحاث الذاكرة قد أظهرت أن مثل هذه التقنيات في سبر الذاكرة يمكنها أن تخلق ذكريات زائفة شديدة الوضوح مثلما يمكنها أن تستعيد ذكريات دقيقة لصدمة حقيقية.
16
مثل هذه الذكريات الموهومة الزائفة قد تفضي إلى عواقب مأساوية: فهي تلحق الضرر والتشهير بأبرياء، وتظلم الحالات الصادقة في نفس الوقت وتغمطها حقها القانوني والعلاجي؛ إذ تلقي بجميع الحالات في غيابات الشك والريبة.
مثل ذلك يحدث أيضا مع الذين يتذكرون أنهم اختطفوا بواسطة كائنات فضائية آذتهم وانتهكتهم قبل أن تطلق سراحهم، ومثل هذه الطرائق الزائفة قد شاركت في ذيوع الأفكار الموهومة عن الأطباق الطائرة والكائنات الفضائية ... إلخ.
الباراسيكولوجيا
يلحق بذلك أيضا كثير من دعاوى ما يسمى بالباراسيكولوجيا، وهو المبحث الموكل بالظواهر الخفية من قبيل «التخاطر» و«التحريك عن بعد» و«الجلاء البصري» ... إلخ، مما يخرق القوانين السيكولوجية والنيوروبيولوجية الراسخة، ورغم التاريخ الطويل لهذا المبحث من الخداع الذاتي والكشوف غير القابلة للتكرار والغش والدجل؛ فمن الإنصاف أن نعترف أن جهودا بحثية صادقة من علماء أكفاء تجري حثيثا لتعقب هذه الظواهر الخارقة للعادة. وما دام هؤلاء العلماء يستخدمون المنهج العلمي القويم والتجارب المنضبطة والإجراءات الإحصائية الصحيحة ويسمحون للنقاد بتمحيص كشوفهم ومختبراتهم؛ فمن الحيف أن نتعجل بوصفهم بالدجل والعلم الزائف. على أن الأغلبية الساحقة من علماء النفس ما زالوا يرون أن الدليل في كشوف الباراسيكولوجيا ضئيل شحيح لا يحيد كثيرا عن حيودات الصدفة، والأرجح أن يعود إلى ظواهر صنعية
artifacts
غير ظاهرة، لا إلى ظواهر حقيقية فائقة للطبيعة.
ظواهر صادقة تفسيرها خرافي
ثمة ظواهر صادقة بحد ذاتها، غير أن تفسيرها الشائع خرافي غير علمي، والعلماء يقبلون الإفادات الأمينة لأصحاب هذه الخبرات الذاتية، ولكنهم يرفضون فكرة وجود أي شيء خارق للطبيعة في مثل هذه الخبرات. يروج بين العامة هذا التفسير الخرافي لسببين:
أولا: أنهم لا يدركون أن هناك تفسيرات علمية قويمة لهذه الظواهر تغنينا عن اللجوء إلى الخرافة.
ثانيا: أنهم لا يريدون أن يبذلوا جهدا ويبحثوا عن هذه التفسيرات العلمية من مصادرها الصحيحة.
تندرج تحت هذه الفئة خبرات الاقتراب من الموت ومعاينته (وربما العودة من البرزخ)، وخبرات مفارقة الجسد، والمشي في النار (وهي ظاهرة يمكن تفسيرها بمبادئ فيزيائية معروفة جيدا).
رؤية العالم التي تجمع كل هؤلاء
ربما يكون القاسم المشترك بين هؤلاء - في المقام الأول - هو موقفهم من دور «الدليل»
evidence - ليس فقط ماذا عساه أن يشكل دليلا معقولا على اعتقادات معينة، بل ما إذا كان الدليل الموضوعي - من الأصل ومن الأساس - أمرا ضروريا لإثبات اعتقادات المرء وتدعيمها.
في مقاله عام 1981م في دورية
Skeptical Inquirer
يحاج بروفيسور ماريو بنج
Mario Bunge
بأن ما يميز المسعى العلمي عن العلم الزائف ليس موضوع البحث بحد ذاته، بل بموقف المبحث من مسألة «الدليل»، وعليه فبدلا من أن نقسم المجالات المعرفية إلى علوم مقابل علوم زائفة يقترح بنج أن نقسمها إلى ما أسماه «حقول الاعتقاد»
belief fields
و«حقول البحث»
research fields : في «حقول الاعتقاد» يدرج الأديان والأيديولوجيات السياسية والعلوم الزائفة والتكنولوجيا الزائفة، وكذلك أي منظومة صوفية ترى أن الاستنارة يمكن تحصيلها من الحقيقة الموحى بها وليس بالعناء البحثي. أما «حقول البحث» فيمكن أن تشمل مباحث لا ينظر إليها عادة كمباحث علمية، ما دام ممارسوها ملتزمين بجمع بيانات موضوعية تؤيد مواقفهم، ووفقا لهذا المعيار فإن الكثير من العمل في الإنسانيات - على سبيل المثال - سيكون له أن يدرج في حقول البحث. وغني عن القول أن العلوم الأساسية والعلوم الصورية (الرياضيات، المنطق، السيمانطيقا ... إلخ) والعلوم الاجتماعية والسلوكية والعلوم التطبيقية، هي ضمن حقول البحث وفقا لهذا التعريف.
الصفة الأساسية لحقول الاعتقاد عند أنصارها هي أن الدليل شأن شخصي وذاتي، أي إنهم يدعون إلى استخدام معايير عاطفية للتمييز بين الحق والباطل. تذهب حقول الاعتقاد إلى أن المشاعر والحدوس الشخصية هي أسس مقبولة لليقين، أو على حد تعبير كتاب «العصر الجديد»: «أنت تخلق واقعك الخاص.» من المألوف بين هؤلاء أن تنكر وجود واقع خارجي مشترك، وأن تستهجن أقل انخراط في البحث الموضوعي الهادئ، وعليه فإن حدوس أي فرد عن الواقع مساوية في صوابها لحدوس أي شخص آخر، وليس للعلم أن يدعي أي مصداقية خاصة. و«الحقيقة» عند هؤلاء النسبويين المتطرفين هي مجرد انعكاس لعلاقات القوى القائمة في المجتمع عند أي لحظة معطاة. مثل هذا المنظور يدفع المرء دفعا إلى أن يتساءل كيف يتسنى لمن يتبنى هذا الموقف أن يثبت أن أيا من أفعال شخص مثل هتلر كان خطأ أخلاقيا!
وعلى خلاف ذلك فإن الدليل في حقول البحث «بينشخصي»
interpersonal ، أي إنه قابل للمقارنة من جانب المختصمين وفقا لمعايير مفتوحة وموضوعية. يقال أحيانا: إن «الموضوعية»
objectivity
لا تعدو أن تكون «البينذاتية»
intersubjectivity ، أي إن الإجماع «الموضوعي» يتحصل بمقارنة إدراكات أفراد عديدين أحدها بالآخر ومضاهاتها بمعايير خارجية متفق عليها. إن الفرضيات في حقول البحث تقبل أو ترفض على أساس الدليل الذي بوسع أي ملاحظ قدير أن يمحصه بأن يعيد نفس الإجراءات المعلنة التي اتبعت لكي تنتجه في المقام الأول، فالظواهر المفترض وجودها يجب أن تكون قابلة للتكرار تحت ظروف منضبطة إذا كان لها أن تصدق. في هذه الساحة فإن أي فرضية يمكن أن تحظى بالقبول ما دامت قابلة للاختبار وما دام ثمة دليل يدعمها، وإن الأفكار التقليدية الراهنة مفتوحة للشك والمراجعة إذا كان ثمة معطيات جديدة وأكثر قبولا تؤيد التحسينات.
يغرم خصوم العلم بذكر بعض الأمثلة المؤسفة لمواقف «الحرس القديم» من العلماء الذين ظلوا متشبثين بنظريات قديمة أمدا أطول مما يجب بالنظر إلى الأدلة الجديدة المتاحة التي تقوض تلك النظريات، وهم بالطبع غير مولعين بنفس الدرجة بذكر الأمثلة الكثيرة الأخرى لفروع علمية كاملة غيرت قناعاتها بسرعة مشهودة عندما ووجهت بنتائج جديدة ثورية، مثل: قبول الفيزيائيين لميكانيكا الكوانتم، أو مثل المراجعة السريعة للتصور الطبي لقروح المعدة بعد اكتشاف باري مارشال أنها بسبب بكتريا هليكوباكتر بايلوري. ونحن هنا نتحدث عن المعايير المثالية للسلوك العلمي، تلك المعايير التي تميز العلم عن باقي مجالات الخطاب البشري.
هذه المعايير المثالية بالطبع ليست مستوفاة في جميع الحالات؛ لأن العلم يمارسه بشر. العلماء بشر، فهم عرضة للتقصير في اتباع معايير السلوك العلمي ومنهجه، شأنهم في ذلك شأن أصحاب كل مهنة أخرى كالأطباء والمحامين والمعلمين والصحفيين ... إلخ، لكن طرائق البحث العلمي ومعايير السلوك العلمي كفيلة بأن ترد كل انحراف إلى الجادة: نظام مراجعة النظراء، المجموعات الضابطة والعمى المزدوج ... إلخ. وضعت هذه النظم لكي تمنع ما هيئت له عقولنا وأنظمتنا من مزالق، وتعوض ما هو مبيت فيها من قصور. تتحلى المنظومة العلمية بخاصة «التصحيح الذاتي»
self-correction ، وهي أقرب الأنشطة الاجتماعية للوضع المثالي للديمقراطية: السوق المفتوحة للأفكار. (3) أمارات العلم الزائف (3-1) أمارات حقول العلم الزائف
للعلم الزائف أمارات عديدة، ولا يلزم أن تلتصق جميعا بحقل ما أو بأحد ممارسيه لكي نسميه علما زائفا، بل يكفي أن يلتصق به عدد معقول منها لكي يوقع الشك بأنه علم زائف. يزداد هذا الشك أو يقل وفقا لمقدار هذه الوصمات، ولكن ليس ثمة حد صارم ينتهي عنده العلم الأصيل ويبدأ العلم الزائف. ومن الحق أيضا أن بعض حقول البحث تبدأ كعلوم زائفة ثم تحسن وضعها بتحسين معاييرها وإجراءاتها، فتحظى تدريجيا بالاعتبار وتتحول إلى علم أصيل؛ من ذلك أن الخيمياء
alchemy
تطورت إلى الكيمياء الحديثة، والأستيوباثيا
osteopathy (المعالجة بتقويم العظام) جددت نفسها شيئا فشيئا حتى اندمجت في الطب العلمي.
وكما قلنا من قبل: قد يزل العالم أحيانا ويحيد عن الجادة العلمية، ومن العدل كشفه وتقويمه، ولكن ما دام الحقل الكلي، المنظومة، المؤسسة، ماضية على الصراط العلمي تصحح الأخطاء وتراجع الدعاوى، فليس من الإنصاف وصمها بالعلم الزائف الذي تكون فيه هذه الانحرافات هي الأصل وهي المعيار. (3-2) الانعزال
من مظاهر القوة في العلم أن أفرعه العديدة مترابطة فيما بينها يدعم أحدها الآخر، وهي إن لم تتساند ويخصب أحدها الآخر فهي على الأقل لا تتناقض فيما بينها. أما العلوم الزائفة فالأمر فيها غير ذلك؛ فهي عادة منعزلة عن التيار الرئيسي للبحث ومنظماته، وعن العاملين في الحقول الأكاديمية ذات الصلة، وبسبب هذا القصور في الحوار تميل العلوم الزائفة إلى اقتناء عدد كبير من المصطلحات والتعريفات الشاذة، وتكثر فيها التعبيرات والتقنيات غير المألوفة، وقلما يشارك أصحاب العلوم الزائفة في الرابطات العلمية المعنية بالموضوعات ذات الاهتمام المشترك. والحق أن كثيرا منهم مناوئ على نحو سافر للتاريخ البحثي السابق في المجالات التي تتصل بمجالهم اتصالا وثيقا. إنهم لا يقفون على أكتاف العمالقة - كما فعل نيوتن فيما يقول - بل يفضلون أن يقفوا في وجههم.
ونتيجة لهذا الانعزال يبدو أصحاب العلم الزائف عندما يجادلون نقادهم جاهلين جهلا عجيبا بالمفاهيم الأساسية لمجالهم، تلك المفاهيم التي ينبغي أن يكونوا ملمين بها، وأن تكون عونا لهم في البحث، وهم قلما يستخدمون المعرفة الراسخة من المباحث العلمية المعترف بها استخداما ملائما، وإذا احتكموا إليها فغالبا ما يكونون انتقائيين أو عتيقي الزي ومنقطعي الصلة بالجديد في هذه المباحث.
ونادرا ما يسلم أصحاب العلم الزائف نتائجهم وعملهم النظري إلى مجلات أكاديمية محكمة، والأرجح أن يظهر عملهم في الصحافة العامة أو في مجلات مملوكة لهم وتابعة لمنظماتهم ذاتها، أو لدى ناشرين مأجورين. ومن أمارات العلم الزائف أيضا أن الكتب الدراسية التي يستخدمها ممارسوه، والكتب الشعبية في الموضوع التي كتبت لعامة الناس، هي غالبا نفس الشيء، وهذه الأمارة تجدها بصفة خاصة في علم الخطوط.
ومن العلوم الزائفة ما يناقض المعلومات الراسخة في مجال ما من العلم التقليدي، فتكون أحكامه غير متسقة مع النظريات والملاحظات الثابتة أو مع المنطق، ومنها ما يتجاوز ذلك ويمضي في طريق معاكس للمبادئ الأساسية التي تتبطن الإطار العلمي الكلي؛ فكثير من العلوم الزائفة تتطلب افتراضات تتحدى الحس المشترك وخبرة الحياة اليومية، أي إنها مضادة لما أسماه الفيلسوف
C. D. Broad «المبادئ الضابطة الأساسية»
Basic Limiting Principles ، مثل:
العلية تتجه من الماضي إلى المستقبل (سهم الزمن)؛ ومن ثم فلا يمكن لحدث ما أن تكون له معلولات سابقة على حدوثه.
لا يمكن لأي حدث تم في تاريخ معين أن يسهم في تسبيب حدث يبدأ في تاريخ لاحق ما لم تكن الفترة بين التاريخين مشغولة بالطريقة التالية: لا بد أن يبدأ الحدث عملية (أو تغيرا بنيويا) يستمر خلال هذه الفترة الفاصلة ويسهم في بدء الحدث اللاحق.
لا يمكن لأي حدث يحدث في مكان وزمان معينين أن يحدث معلولا في مكان بعيد ما لم تكن الفترة الفاصلة بين الحدثين مشغولة بسلسلة علية من الأحداث تحدث متتالية ومستمرة بين الزمنين والمكانين.
لا يمكن لحدث عقلي أن ينتج أي تغيير في العالم المادي على نحو مباشر إلا تغييرات معينة في دماغ الشخص نفسه، أي دون توسط جهد عضلي.
العقل يعتمد على الدماغ، أي إن الدماغ السليم الناشط شرط ضروري لأي حدث ذهني.
لا يمكن لشخص أن يدرك حدثا أو شيئا فيزيقيا إلا بواسطة الإحساسات التي ينتجها الحدث أو الشيء في دماغه؛ فلا بد أن توجد سلسلة علية فيزيقية من الأحداث تصل الحدث/الشيء بأعضاء الحس والمسار الحسي والمنطقة الدماغية المستقبلة.
لا يمكن لشخص أ أن يعرف خبرات شخص آخر ب إلا بسماع أو قراءة إفادات ب أو بتأويل إيماءاته وتعبيراته ... إلخ، أو بالاستدلال من أدلة مادية تركها ب.
لا يمكن لشخص أن يتكهن بما سوف يحدث إلا مصادفة، أو بالامتداد الاستقرائي من اطرادات سابقة.
لا يمكن لشخص أن يعرف الأحداث التي مضت، ما لم يكن قد خبرها في ذلك الوقت وفي جسمه الحالي وتركت أثرا فيزيقيا باقيا (ذكرى) في دماغه، أو أخبر عنها ممن خبرها، أو استدل عليها استدلالا. (3-3) عدم القابلية للتكذيب
non-falsifiability
مثلما بين كارل بوبر، كل تفسير لا يشير إلى مجموعة من البيانات التي يمكن أن تفنده هو ليس تفسيرا على الإطلاق، ومهما تراكمت الأمثلة التي تؤيد تفسيرا نظريا ما فإنها لا تعدو أن تقوي توقعنا الذاتي بأن النظرية صحيحة، في حين يكفي مثال مفند واحد لأن يقوض المشروع كله، ويسقطه بالضربة القاضية، ويقضي عليه قضاء مبرما.
كثير من نظريات العلم الزائف هي غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ؛ لأنها لم تصغ بطريقة تجعلها قابلة للاختبار، أو لأنها مصوغة بطريقة بلغت من الغموض مبلغا يجعلها قابلة دائما للسمكرة الاحتيالية
ad hoc tinkering
كلما بزغ دليل مكذب لها، مثال ذلك - فيما ذكره بوبر - أن السيكولوجيا الفرويدية تقول بأن كل الذكور يعانون من «عقدة أوديب»، وعندما لا يكون ثمة دليل على وجود هذا الإثم تجاه والد المرء فإن النظرية تفسر ذلك بأنه قد تم كبت هذا الدافع؛ لأنه غير مقبول على مستوى الوعي.
كيف نعرف أن هناك كبتا يفعل فعله؟
نعرف ذلك لأنه لا يوجد دليل على وجود عقدة أوديب!
هكذا يعد غياب الدليل داعما للنظرية!
هذا التمنع على التفنيد، هذه الحصانة ضد التكذيب، هذا اللون من العجز عن إثبات خطأ النظرية (من حيث المبدأ، من حيث الصياغة) هو سبب كاف لإعلانها نظرية غير علمية.
وعلاوة على عدم القابلية للتكذيب فإن معظم العلوم الزائفة تزعم أنها نظريات شاملة تضم كل الأشياء، وإن شيئا يدعي أنه يفسر كل شيء لهو - عادة - شيء لا يفسر أي شيء. (3-4) إساءة استخدام المعطيات
كثيرا ما يحرف أصحاب العلم الزائف المعطيات العلمية القويمة أو يسيئون استخدامها، من ذلك أن علماء الفراسة
phrenology - وهو علم زائف - قد نزحوا بفكرة المواضع الوظيفية الدماغية، وهي فكرة وجيهة تماما، إلى أقاص باطلة. وبتعبير آخر يمكننا القول بأنهم يقيمون صرحا هائلا من الأباطيل على أساس حقيقة ضئيلة، أو يحملون ظهرها الضامر ما لا يحتمله من العبث والهراء. (3-5) العلوم الحقيقية تراكمية ومصححة لذاتها بعكس العلوم الزائفة
تتسم العلوم الزائفة بأنها راكدة ولا يبدو أنها تتقدم، ولا يبدو أن مفاهيمها المحورية ومناهجها وتفسيراتها تتغير استجابة لظهور نتائج تجريبية جديدة أو تطورات تكنولوجية أو نظرية جديدة. ولا تبدي العلوم الزائفة بعامة تلك الإثارة الفكرية أو الخلاف الفكري الذي يميز حقول البحث المشروعة. وعوضا عن فتح أصقاع جديدة تميل العلوم الزائفة إلى الاتكاء على تفسير «النصوص المقدسة» التي سرعان ما يتعلم معتنقوها ألا يسألوا أو يعدلوا. كذلك القدم يوقر لذاته، بافتراض أنه ما دام المبحث قد عمر كل هذا الزمن فلا بد أنه صحيح: من ذلك أن المنجمين يفتخرون بأن التنجيم كان قائما لآلاف السنين، وهم قلما يتريثون ليدركوا أن العنصرية والتحيز الجنسي - بله الاعتقاد بسطحية الأرض وبالأرض كمركز للكون - كانا أقدم حتى من ذلك. (3-6) العلوم الزائفة تدغدغ الاعتقادات المريحة
دأب العلوم الزائفة - بلا استثناء - أن تلقم الاعتقادات المريحة المحلقة التي نود - بغير شك - لو كانت صحيحة، مثال ذلك:
أن الشفاء يمكن إحداثه دون ألم ودون انتظار ودون جهد (مثال ذلك: المعالجون بالإيمان، اللمسة العلاجية، علاجات السرطان الدجلية، العلاج المثلي ... إلخ).
الموهبة والمعرفة والحكمة ... يمكن اكتسابها للتو واللحظة بطرائق سرية لا تتطلب تضحية أو مجهودا (مثال ذلك: موالفو الدماغ، العقاقير الذكية، الشرائط تحت الشعورية، وأغلب منتديات العون الذاتي).
الحنين إلى المطلق: الحقائق المريحة القديمة للماضي يمكن تدعيمها علميا، فلا تعود مقبولة كمجرد موضوعات للإيمان بل يصبح لها سند من العلم.
بوسعنا أن نحصل على تنبؤ تام بالمستقبل يتيح لنا أن نؤمن سلامتنا ورفاهنا المادي نحن ومن نحب (الإيقاعات الحيوية الشعبية، علم الخطوط، علم النجوم ...)
هناك طرق لا تخطئ للتكهن بحقيقة الأشخاص والتنبؤ بما سوف يفعلون (علم الخطوط، علم النجوم، قراءة الشخصية في السيكولوجيا الشعبية ...)
ليس ثمة حدود للقدرة البشرية والإنجاز الإنساني (منتديات تحسين الذات في السيكولوجيا الشعبية، شرائط العون الذاتي تحت الشعوري).
أزمة الطاقة يمكن التخلص منها إلى الأبد (البارافيزياء، آلات الحركة الدائمة، قوة الشكل الهرمي، الاندماج البارد ...)
رغم أننا أفسدنا كوكبنا وأوغلنا في الحروب فإن هناك عوالم أخرى أو أبعادا أخرى قد حلت هذه المشكلات وترغب في أن تأخذنا تحت جناحها (علماء الأطباق الطائرة، وسطاء الاتصال بالموتى
channelers ...)
الموت لا يلدغ، فإن شخصياتنا سوف تستمر في الحياة (دراسات ما قبيل الموت، الاتصال بالموتى عبر وسيط
channeling ، الروحانيات
spiritualism ...)
ما أكثر وعود العلوم الزائفة وأحلاها: الثروة، الصحة، السعادة للجميع، وبأقل جهد وأقل تضحية، وبإزاء ذلك يجب أن نذكرك بأن على المشتري أن يتحمل المسؤولية (العيب عيبك)، إرادة الاعتقاد هذه هي ما كان يعنيه الفيلسوف ديموسثينيس
Demosthenes
منذ أكثر من ألفي عام عندما قال: «لا شيء أيسر من خداع النفس؛ فما يرغب فيه كل إنسان فهو أيضا يعتقد أنه حق.» (4) أمارات ممارس العلم الزائف
هناك سمات تميز ممارسي العلم الزائف لعل بعضها قد أفصح عن نفسه فيما سبق من حديث عن نتاجهم، وكما أن أمارات العلم الزائف لا يتعين أن تجتمع كلها في مبحث واحد، كذلك الحال بالنسبة لأمارات ممارس العلم الزائف؛ فالحق أن بعض هذه العلامات قد توجد بدرجة محتملة في بعض ممارسي العلم الحقيقي، فلا يحق لنا أن نلصق بشخص صفة الدجلنة ما لم يجتمع منها عدد كبير وبدرجة زائدة. (4-1) التحجر (اللااختراقية/اللانفاذية)
impenetrability
من أعم الأمارات على ممارس العلم الزائف أن لديه التزاما لا يتزعزع بفرضية معينة مشكوك فيها وغير مبرهن عليها، يقال لهذا أحيانا: «متلازمة المؤمن الحقيقي»
true believer syndrome .
إن درجة معينة من العزم الموطد والانغلاق على النقد ربما تكون ضرورية من أجل مضي معظم الباحثين فيما يتطلبه أغلب العمل العلمي من الكدح ساعات طويلة مضجرة، وقد وجد أن كثيرا من العلماء الناجحين يتميزون بسماكة الجلد والاعتداد بالنفس وقدر غير قليل من الرغبة في الترقي. وإنما تبدأ المشاكل عندما يؤدي الشطط في هذه الميول إلى أن يناصر الباحث قضايا شائنة أو أن يغض الطرف عن دلائل ناصعة على بطلان ما يمضي فيه. وكلما كان هذا الذي يمضي فيه امتدادا مباشرا لأيديولوجيته أو منظومته الاعتقادية المحورية؛ زاد احتمال أن تحول تحيزاته دون موضوعيته. كثيرا ما تكون العلوم الزائفة نتاجا للاعتقادات الجوهرية للممارس، وفي هذه الحالات فلا جدوى لأي دليل أو حجة في تغيير فكر المؤمن الحقيقي. (4-2) التفكير السحري
magical thinking
يتسم أصحاب العلم الزائف في جملتهم بأنهم أيضا منجذبون للتفكير السحري: أي توقع أن التخيل وقوة الإرادة - بذاتهما - سوف يأتيان بالرغائب ويجلبان المطلوب، و«الكونيات» (الكوزمولوجيا) لديهم تنزع إلى أن تكون «إحيائية»
animistic ، مرتكزة على الإنسان، وتتخللها علل ومؤثرات لا مادية، وهم مغرمون أيضا بالتفسيرات التي تتضمن «ذبذبات» أثيرية و«مستويات» و«حقول» و«تعاطفات» ... إلخ من التصورات التي لا يمكن ربطها بمشار إليه (مرجع) تجريبي (أي قابل للقياس). الحقيقة في مثل هذا الطرح يحددها ما «يشعر» به المرء في المسألة، وليس «الدليل»
evidence
الذي يمكن تقديمه في تأييدها.
وكثيرا ما يكون هذا موازيا لرغبة في إعادة دس بعد أخلاقي في النظرة الآلية السائدة عن العالم الطبيعي (والتي يرونها أبرد وأضيق مما يودون). إنهم يريدون عالما قواه الكونية (أيا ما تكون) تميز القيمة الأخلاقية للأفراد وتثيبها الثواب العدل. يريدون أن يكون بنو الإنسان كائنات خاصة لا مجرد بيادق عالم طبيعي غير شخصي، وبدلا من التسليم بأننا نتاج قوى طبيعية وخاضعون لنفس القوانين الكونية شأننا شأن الأشياء غير الحية؛ فإنهم يفضلون الاعتقاد بأن بوسع الناس أن يقهروا هذا الطغيان بالأفعال الخيرة والأفكار الحسنة، وهم في هذا على خلاف مع النظرة العلمية القائلة بأن الكائنات البشرية تطورت من نفس المكونات والعمليات التي تشمل بقية الكون، والتي - للأسف - لا تقيض لهم وضعا فريدا أو حماية.
هذه المنظومة الاعتقادية أفاض في وصفها الفيلسوف الأمريكي تشارلس فرانكل في مقاله الشهير «طبيعة اللامعقول ومصادره»
17
الذي صدر في مجلة
Science
عام 1973م، يقول فرانكل: «مهما تنوعت الخبرات التي يصدع بها أنصار اللامعقول فإنها تستند جميعا إلى نفس الحزمة من القضايا الأساسية. من هذه القضايا فكرة أن العالم الذي يعيش فيه الإنسان ينقسم إلى عالمين: عالم المظهر وعالم الحقيقة أو الواقع؛ الأول تسمه الصدفة والشك واللايقين والبرود والاغتراب، أما الثاني فيتبدد فيه الشك، ويفقد الزمن والموت وخزهما. وينغمد المرء في عالم موافق لأعمق رغباته، ويذوب الخلاف والاضطراب في حس شامل بالانسجام والاتساق».
هذه الرؤية للعالم تقوم على الاعتقاد بأن الاستبصار والحدس والإلهام الذاتي المباشر، هي مصادر المعرفة اليقينية، وإذا تضارب الحدس مع العقل فإن الحدس هو المرشد الأوثق إلى الحقيقة. الاستنارة (الحكمة) عند دعاة هذا الرأي أمر مفاجئ ومكتمل، والسبيل إليها أخلاقي لا فكري، وبالتالي فإن الجهد الفكري ليس يجدي في مقاربة الحكمة بل قد يعيقها، وهذا بالطبع مناقض للنظرة العلمية التجريبية التي تتخذ الملاحظة والاستدلال المتدرج والتحليل والحجة والاختبار كمصادر أوثق للمعرفة (أي إن التعلم شيء بطيء مجهد ويتطلب الانتباه، وبعبارة أخرى: التعلم تراكمي ويتم بواسطة المحاولة والخطأ). ويسلم التجريبيون بأن البدايات الزائفة والأخطاء سوف تقع وهذه ينبغي تصويبها بمزيد من العمل الجاد. (4-3) الدوافع الخفية
كثيرا ما يكون لأنصار العلم الزائف رهان مالي في الدعاوى التي يؤيدونها، ومن شأن هذا أن يجرح موضوعيتهم. صحيح أن العلماء التقليديين لديهم أيضا مصالح مالية في عملهم في هذه الأيام، ومن ثم يتعين أن تخضع دعاويهم للتمحيص بنفس الدرجة لكشف أي تحيزات من جانبهم عن قصد أو عن غير قصد، إلا أنه يجب أن نلاحظ أيضا أنه في المجالات العلمية المشروعة هناك بعض صمامات أمان ضد ذلك مبيتة في صميم المنظومة: السياسات الرقابية للوكالات العلمية المانحة ومؤسسات البحث والمجلات تجعل كشف صراع المصالح لدى الباحثين أكثر رجحانا، أما أصحاب العلم الزائف فإنهم - في الغالب - يمارسون عملهم خارج هذه المنظومة، وهم من ثم غير مضطرين إلى كشف أي تورطات من هذا النوع. (4-4) انعدام التدريب الرسمي
أغلب ممارسي العلم الزائف هم من أصحاب التعليم الذاتي، وكثيرا ما تكون مؤهلاتهم لا علاقة لها بالمجالات التي يقدمون فيها دعاويهم المشكوك فيها، فالمؤهلات الممتازة في مجال ما ليست ضامنة بالضرورة للكفاءة المماثلة في المجالات غير ذات الصلة، مثال ذلك أن وليم شوكلي، الحائز على نوبل لمشاركته في اختراع الترانزستور، قد مضى بعد ذلك يتحدث حديثا أسقفيا عن الأساس الجيني للفروق العنصرية في الذكاء!
وكثيرا ما يقابل ملاحظو الدجلنة أشخاصا دخلاء على المجال يتباهون بانعدام تعليمهم الرسمي، زاعمين أن ذلك يتيح لهم أن يضفوا على عملهم نظرة جديدة غير متحيزة، وأن الجهل بالإنجازات السابقة في المجال يتيح لهم أن يروا الحقائق التي خفيت عن أولئك الذين انغسلت أدمغتهم بطرائق التدريب القياسية.
صحيح أن هناك اختراقات علمية تحققت على أيدي هواة حملوا معهم مقاربات جديدة، إلا أن أغلب مجالات العلم في هذه الأيام هي من التعقيد - مفاهيميا وتقنيا - بحيث يستبعد جدا أن يقدم فيها إسهاما ثوريا من لم يتلق تدريبا وتمهنا رسميا. إن بصائر العلم غير مطواعة لغير العاكفين على العلم، وقد صدق باستير في ملاحظته: «الطبيعة تفضل العقل المؤهل»
Nature favors the prepared mind . (4-5) عقلية المتخندق
bunker mentality
بالإضافة إلى افتخار أصحاب العلوم الزائفة بعزلتهم، التي يعدونها علامة على الاستقلال الصارم، فإنهم قمينون أيضا أن يروا عدم الاعتراف بهم على أنه ناتج عن اضطهادهم أو قمعهم من جانب «مؤسسة» عدائية، ومن ثم فإن من علامات صاحب العلم الزائف تلك الرغبة في الانغماس في نظريات مؤامرة غاشمة، وإلا فكيف يفسر عدم تقبل شخص يعتبر نفسه جاليليو جديدا أو أينشتين أو باستير؟ ليس هؤلاء مولعين فحسب بدعاوى العظمة، بل كثيرا ما يبدون أيضا كراهة زائدة للاعتراف بالجهل. (5) أمارات محتوى العلوم الزائفة (5-1) عدم القابلية للتكرار
تعج العلوم الزائفة بادعاءات عن ظواهر تضاد القوانين الطبيعية، وتضاد البيانات القابلة للتكرار بسهولة في الحقول العلمية المشروعة، تتسم هذه الظواهر المزعومة بأنها لا يمكن إنتاجها عند الطلب، ولا يمكن التنبؤ بها بدقة. هي إذن أشياء غير قابلة للتكرار، وهو ما يعد عيبا وقصورا، غير أن أصحاب العلوم الزائفة قد يمجدون ذلك ويعلون من شأن هذه الظواهر إلى مرتبة «كشف في ذاته»، ويمنحونها نعتا مجيدا مثل «أثر الحياء»
shyness effect ! الباراسيكولوجيون بصفة خاصة عرضة للاعتقاد بأن ظواهرهم الأثيرة ستختفي إذا ما تفحصها متشككون تحت ظروف منضبطة، وكثيرا ما يدعي أصحاب العلوم الزائفة - عندما يعجز الآخرون عن تكرار نتائجهم - أن المجرب يجب أن يتمتع بمواهب خاصة حتى يحقق الأثر الذي يزعمونه، غير أنهم عندما تلاحظ طرائقهم في جمع البيانات يوجد أنهم في العادة قد اكتفوا بتقديرات ذاتية من جانب المجرب، ولم يكلفوا أنفسهم بقياسات موضوعية مميكنة بدقة. من شأن ذلك أن يأتي - في أحيان كثيرة - بنتائج زائفة، مثلما رأينا في حالة أشعة إن. (5-2) حجم الظواهر المزعومة يرتبط عكسيا مع صرامة الضوابط التجريبية
من شأن نظام المجموعات الضابطة
control groups
المتقنة، وإجراءات العمى المزدوج
double-blind procedures ، وتقنيات ميكنة جمع البيانات
automated data gathering ... إلخ، أن تقصي الظواهر التي يدعيها أصحاب العلوم الزائفة أو تخفضها إلى حد كبير. هذا ما وجده والاس سمبسون في تقييمه لتراث الإبر الصينية، وهذا ما وجده غيره
18
في تمحيصهم لمجال الباراسيكولوجيا. (5-3) معلولات كبيرة لعلل صغيرة
كثيرا ما يكون حجم المعلولات التي يدعيها أصحاب العلوم الزائفة غير ذات صلة بحجم العلة المزعومة. مثال ذلك أن أولئك الذين يعتقدون في «التخاطر»
telepathy
يشيع بينهم اعتقاد بأن كمية الطاقة المتناهية الصغر المتضمنة في العمليات العصبية التي تشكل الأحداث الذهنية يمكن أن تسمع في جميع أنحاء العالم! إن عدم التناسب هذا بين حجم العلة وحجم المعلول هو ما كان يؤرق ألبرت أينشتين بالدرجة الأساس عندما كان يعبر للباراسيكولوجي ج. ب. راين عن شكوكه في واقعية الظواهر الباراسيكولوجية. (5-4) ادعاء الدقة في القياس
عادة ما يدعي أصحاب العلم الزائف أنهم يتوخون الدقة الشديدة في كشف الظواهر وقياسها، في الوقت الذي تكون فيه المعلولات المعلنة من الضآلة بحيث تقترب من مستوى الضوضاء في النظام المستخدم في التجربة. إن هذا - على أقل تقدير - يثير الشكوك في أن تكون الآثار المرصودة ناجمة عن ضرب من ال
artifact (ظواهر صنعية: آثار خلفتها يد الإنسان المجرب لا يد الطبيعة). (6) معايير السلوك في العلوم الزائفة
قضى مراقبو العلوم الهامشية وقتا طويلا في ملاحظة أصحاب العلوم الزائفة وهم يقومون بعملهم، واجتمعت من ملاحظاتهم بعض التعميمات حول مناهج الأداء التي دأبوا عليها. من هؤلاء المراقبين ماريو بنج
Mario Bunge
الذي يؤكد أن أصحاب العلوم الزائفة، بخلاف العلماء الحقيقيين، قلما يعنيهم اكتشاف قوانين الطبيعة. إن ملاحظاتهم أميل إلى أن تكون خليطا مضطربا غير مترابط، بل متناقضا في كثير من الأحيان، وإن عملهم ليس تركيبيا ولا منهجيا، بل يقفز من عرض منفصل إلى آخر، وهم - كقاعدة عامة - لا يستخدمون التحليلات الرياضية ولا النماذج الرياضية ولا يقدرونها. كذلك شأنهم مع المنطق فهم لا يدركون أهميته في استقاء الفرضيات ودمج المعطيات بالنظرية وروز النتائج، وهم يكثرون من الاحتكام إلى سلطة الكتب القديمة التي حددت المجال. وهم لا يرحبون بالنزعة الارتيابية؛ لذا فإنهم لا ينفقون جهدا يذكر في البحث عن أمثلة مضادة أو تفسيرات بديلة أو بيانات قد تقوض فرضياتهم الأثيرة، ولدى مواجهة بيانات مفندة فالأرجح أن يفسروها تفسيرا متخلصا بطريقة احتيالية
ad hoc . أما نقادهم فكثيرا ما يتناولونهم بالهجوم الشخصي
ad hominem
بدلا من تناول اعتراضاتهم ذاتها. (7) أخطاء الاستدلال البشري وتحيزاته
كثير من الأخطاء الفاضحة التي يرتكبها العلماء الزائفون ينجم من حقيقة أنهم - كجماعة - على غير دراية كافية بالحاجة إلى الضوابط التجريبية الصارمة، لكي تعيننا في خفض ضروب الخطأ في جمع البيانات واتخاذ القرار التي تقع مرارا عندما نعتمد على الملاحظات العابرة والاستدلال المرتجل. وقد قام كثير من علماء النفس المعرفيون بدراسة شتى ألوان الخطأ في الاستدلال البشري؛ من أبرزهم: جيلوفيتش في كتابه «كيف نكشف الدجل: لا معصومية العقل البشري في الحياة اليومية».
19
أكد هؤلاء الباحثون على حاجتنا نحن البشر إلى تقنيات معينة لتعويض عيوب متأصلة في الاستدلال لا يد لنا بها؛ ذلك أن قدراتنا المعرفية قد تطورت تحت ظروف ألحت على سرعة اتخاذ القرار وإن جاءت على حساب دقته الاستدلالية وانضباطه المنطقي، وما طرائق المنهج العلمي وضوابطه إلا إجراءات احترازية لتعويض أوجه القصور العديدة والمتأصلة في الإدراك والاستدلال البشريين. (7-1) مشاعية التمحيص
public scrutiny
من المتطلبات الرئيسية في العلم أن تكون مناهجه وبياناته متاحة مبذولة مشاعا. كثيرا ما يراوغ أصحاب العلم الزائف حين يطلب نقاد مسئولون أن يفحصوا أجهزتهم أو بياناتهم الخام، وهناك قصص مأثورة لمثل هذا الروغان من التمحيص. (7-2) السرية والتوجس
كثيرا ما يطلع علينا أصحاب العلم الزائف بأدوات وعدة ينسبون لها دعاوى وخوارق خيالية، وبينما هم يقدمون أحيانا عروضا إيضاحية فإنهم يجرون ذلك بطرائق من شأنها أن تمنع المتشككين من أن يبصروا الآليات التي تتبطن هذه الأدوات، وكثيرا ما يتكتمون هذه المبادئ التشغيلية ويرفضون إفشاءها خشية أن تسرق فكرتها الثمينة. من ذلك قصة دكتور ألبرت أبرامز، وهو من أشهر الدجالين الذين شهدتهم أمريكا في تاريخها كله: لقد جمع أبرامز الملايين - في بدايات القرن العشرين - من بيع جهاز أسماه
an oscilloclast ، وكان يشترط على المشتري أن يوقع على قسم مكتوب بأنه لن ينظر أبدا في داخل الصندوق المختوم لجهازه، وحدث بعد موته أن انفلق أحد أجهزته ووجد أنه يحتوي على خليط مضطرب من أسلاك ومكونات خاملة لا وظيفة لها، ورغم ذلك فقد بقي لأبرامز أنصار على قناعة تامة بأن جهازه كان له فاعلية شفائية مشهودة. (8) الحاجة إلى الارتيابية
يؤثر عن عالم الفيزياء فيكتور ستنجر قوله: ليس لنا أن نقبل ظاهرة ما على أنها حقيقة علمية إلا بعد أن تصبح ملاحظتها شيئا شبه اعتيادي. هذه «الارتيابية الممأسسة»
institutionalized skepticism
هي من نقاط القوة الرئيسية للعلم، ليس لنا أن نتقبل شيئا كحقيقة حتى تتجمع لدينا «أدلة»
evidence
كافية، ومما يؤسف له أن لفظة «ارتيابية»
skepticism
قد اكتسبت ظلالا ازدرائية في لهجة حركة «العصر الجديد»
New Age
حيث تمكن مرشدو التفكير الإيجابي من إقناع الكثيرين بأن مطلب «الدليل» شيء مقيد بغير ضرورة؛ فأي شيء - على كل حال - ممكن إذا أنت اعتقدت فيه بقوة كافية، غير أن كلمة «ارتيابية» - رغم ما لحق بها من سوء فهم واسع النطاق - إنما تشير إلى منهج بحث لا أكثر، فالارتيابي ما هو إلا شخص يتطلب دليلا معقولا وتبريرا منطقيا قبل أن يتقبل دعاوى الصدق المبدئية ، والارتيابي هو أيضا ذلك الشخص الذي سوف يعدل اعتقاداته إذا ما ووجه بدليل أكثر حسما. (8-1) فضيلة الشك
الشك نوع من الفكر النقدي كمقابل للفكر الدوجماطيقي الإيقاني، وما نشأ الفكر الحق إلا ليدمغ الدوجماطيقية، وما الفلسفة الأصيلة إلا تمرد على نزعة الموقنين الذين يبدءون تفكيرهم من نقطة معينة يسيرون بعدها سيرا حثيثا سلسا دون أن يقلق خاطرهم تحليل هذه النقطة أو نقدها. هي تمرد على الدوجماطيقية الساذجة عند رجل الشارع المتعصب لآرائه الواثق في ذكائه ثقة مفرطة، وهي تمرد على الدوجماطيقية المادية عند الرجل العملي الشديد الارتباط بالعالم الواقعي الشديد الإنكار لغيره، وتمرد على الدوجماطيقية الدينية عند رجل الدين المتزمت وعند أشباه الفلاسفة من المتكلمين الذين يتخذون نقطة بدئهم من تصور ديني معين يسلمون به تسليما ثم يقيمون عليه بناء استنباطيا شاهقا زاخرا بالتفسيرات الهينة والحلول السهلة لكل مشاكل الفلسفة التي تعترضهم.
يرتبط منهج الشك بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكات، بل إن الشك المنهجي الذي دعا إليه ديكارت يوسم في الأغلب باسم «الشك الديكارتي»، يقول ديكارت: إن أول شيء يجب أن نبدأ به عندما نشرع في التفكير فلسفيا - أي عندما نتفلسف - هو أن نشك في كل شيء لا يرقى إلى اليقين المطلق، عندئذ سوف نجد أن معظم الاعتقادات لا ترقى إلى مرتبة اليقين المطلق. ويواصل ديكارت استدلاله قائلا إن هذا ليس بالأمر المستغرب ما دمنا قد اكتسبنا كثيرا من هذه الاعتقادات قبل أن نصبح قادرين على أن نخضعها للتمحيص العقلي، وعندما نكبر نجد أنفسنا مثقلين بخليط من الاعتقادات الصادقة والكاذبة. إن بإمكاننا عن طريق ممارسة الشك الممنهج أن ننأى بأنفسنا عن هذا الخليط كله لكي نبدأ بداية فكرية جديدة مؤسسة عقليا على أرضية أكثر صلابة، وتتكون هذه القاعدة الصلبة من الاعتقادات التي لا يمكن أن نشك فيها، أي التي «لا تقبل الشك»
indubitable . (8-2) صنفان من الشك
ثمة إذن نوعان من الشك يجب التمييز بينهما تمييزا حاسما:
الشك المذهبي (الفلسفي) عند أمثال فرون وأنيزيديموس وأجريبا وسكتس أمبريكوس، وهم ينكرون إمكان المعرفة ويرون أن البشر يفتقرون إليها وأن كل دعوى تفيد معرفة شيء ما هي دعوى باطلة بلا استثناء. هو إذن شك حاسم ونهائي، حقيقي وأصيل، غاية ومذهب.
والشك المنهجي (الديكارتي) وهو وسيلة ومنهج، وشيء عابر مؤقت ريثما يجد المرء مبدأ وطيدا ينكسر الشك دونه.
وقد ذهب برترند رسل إلى أن من الضروري أن نمارس الشك المنهجي - كما فعل ديكارت - لكي نتحرر من قبضة العادات الذهنية، ومن الضروري أن ننمي الخيال المنطقي لكي يكون لدينا عدد من الفروض ولا نكون عبيدا لفرض واحد، ذلك الذي يجعله الحس المشترك سهلا على التحليل. (8-3) جوهر الموقف الارتيابي في العلم (1)
الدعوى الهائلة يلزمها دليل هائل
Extraordinary claim requires extraordinary evidence .
كلما شطت الدعوى عن المألوف وناقضت الحدس وأسرفت في الابتعاد عن المعرفة القائمة القابلة للإثبات بسهولة ويسر؛ كان المرء بحاجة إلى دليل أنصع وأقوى يبرهن عليها ويثبت أنها ليست من قبيل الخطأ أو الغش من جانب صاحب الدعوى. إن علينا أن ننظر فيما يتعين علينا أن نرفضه إذا قبلنا الدعوى الغريبة قدر ما ننظر في الدليل المقدم في حقها. (2)
عبء البرهان يقع على صاحب الدعوى وليس على متلقيها.
البينة على من ادعى
The burden of proof (onus probandi) lies on the claimant .
إنما تقوم الدعوى أو تسقط بناء على نوعية الدليل المقدم في صفها. ليست مهمة الارتيابي أن يبرهن للمدعي على أن دعواه غير صحيحة، إنما يقع عبء الدليل على المدعي. (3)
يجب أن تكون الدعوى قابلة للاختبار (من حيث المبدأ على الأقل)
وفوق كل شيء يجب أن تكون قابلة للتكذيب
falsifiable ، كما أنها يجب أن تصاغ بوضوح وبطريقة متينة منطقيا، وأن يصرح بما عساه أن يعد دليلا لها، وما عساه أن يعد دليلا ضدها. (4)
يجب أن يكون الدليل مشاعا ومتاحا لجميع النقاد الأكفاء
فالعلم نشاط عام مشاع، قائم على الثقة، وباستثناءات نادرة جدا، فإن كل من يأبى أن يسمح لمنافسين خطرين أن يلاحظوا طرائقه البحثية أو أجهزته، أو يطلعوا على بياناته الخام؛ فإن دعواه لا تلزم أحدا، وموقفه قرينة ضد علمية دعواه. ثمة احتمال الغش بطبيعة الحال، وثمة الاحتمال الأكبر وهو أن تكون النتائج الخاطئة بسبب متغيرات دقيقة غير منضبطة خفيت على المجرب وندت عن ملاحظته. (9) ما الضير؟!
يلهو الأطفال برمي الضفادع بالحجارة بينا الضفادع تموت جدا لا لهوا. (مثل صيني)
ربما ينظر بعض العلية من العلماء إلى العلم الزائف باستخفاف وخلو بال، بل قد يولونه غير قليل من الرثاء والشفقة، ولسان حالهم يقول: «هون عليك؛ ما الضير؟ هذا عبث أطفال لن يضر العلم شيئا.»
نعم، الدجل لن يضر العلم شيئا، ولكنه يلحق أفدح الضرر بالمجتمع.
قد يكون الضرر في الحالات الفردية هينا محتملا، ولكن ضرر الانتشار الواسع للعلم الزائف هو ضرر فادح، وعواقب تفشي الدجل في أوصال المجتمع هي عواقب وخيمة. الدجل الطبي يخلف موتا مجانيا ومعاناة كان منها بد، والعلاج النفسي الزائف قد يزرع ذكريات كاذبة بانتهاكات موهومة، وتحليل الخطوط قد يلوث سمعة أبرياء ... إلخ. إن تفشي الأمية العلمية في المجتمع يضعضعه ويهبط به.
بعض مآثم الأمية العلمية
خداع العامة: من حق الناس أن تتلقى معلومات صحيحة تبني عليها اعتقاداتها وقراراتها. لن يرتقي البشر بنشر المعلومات الكاذبة سواء حسنت النية أم ساءت.
خسارة وقت ومال: العلوم الزائفة مضيعة للوقت وخسران لمال كان يمكن أن ينفق في المضمار الصحيح. حين يمتنع المرضى عن التماس العلاج الطبي الموثق ويترعون جيوب الدجالين بأموالهم بينما تتفاقم حالاتهم المرضية ولا تعود تستجيب للعلاج الطبي الصحيح ... حين نستعين بمستنبئ الآبار لتحديد مواقع الحفر ... حين نستعين بمحلل الخطوط لانتقاء العاملين ... إلخ.
قد يفضي تفشي الأمية العلمية في الحكومات إلى استراتيجيات موبقة تعود بالضرر على الأمة قبل كل شيء (اذكر مآثم النظريات العلمية الزائفة في ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية)، الشوك لا يثمر عنبا، يقول سارفيبالي ر. كريشنان: «عندما نعتنق الأباطيل فسوف نرتكب الفظائع.»
العلوم الزائفة تزرع الأمل الكاذب والرجاء غير المستجاب، وعند خيبة الوعود ينقلب المرء على نفسه بالتأنيب والتقريع واللوم؛ فيضيف الإهانة إلى الأذى.
من شأن الأمية العلمية أن تسلب المواطن قدرته على الاختيار في القضايا السياسية الملحة والاقتراع المصيري الطارئ. إن غياب الفكر النقدي يجعل المواطن ريشة في مهب الدجل يقذف بها حيث شاء. المواطن الأمي علميا يصوت للقرار الخطأ والشخص الخطأ. المجتمع الأمي علميا مؤهل دائما للتصويت المدمر، يمضي به إلى الهلاك الآجل مثلما يتهادى قطيع السوائم بثقة وخلو بال ... إلى المذبح.
الفصل الثالث
توماس جيلوفيتش:1 كيف نكشف الدجل؟
لا معصومية العقل البشري في الحياة اليومية
2 (1) شيء من لا شيء
Something Out of Nothing
الإدراك الخاطئ للبيانات العشوائية وإساءة تأويلها
من طبيعة الفهم البشري الخاصة أن يفترض في العالم نظاما واطرادا أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياء كثيرة في الطبيعة فريدة في نوعها وعديمة النظير، فإن الذهن البشري يخترع لها أشباها ونظائر وصلات لا وجود لها.
فرنسيس بيكون
الأورجانون الجديد 1:45
في عام 1677م كتب باروخ سبينوزا عبارته الشهيرة: «الطبيعة تبغض الفراغ.» لكي يصف مجموعة من الظواهر الفيزيائية، وبعد 300 عام من ذلك يبدو لنا أن عبارته تنطبق أيضا على الطبيعة البشرية فهي أيضا تبغض الفراغ. إن لدينا استعدادا لأن نرى نظاما ونمطا ومعنى في العالم، ونحن نضيق ذرعا ونتبرم إذا وجدنا عشوائية وشواشا ولا معنى. الطبيعة البشرية تمقت انعدام التنبؤ وغياب المعنى، ومن ثم فنحن نميل إلى أن «نرى» نظاما حيث لا نظام، وأن نتبين أنماطا ذات معنى حيث لا يوجد غير الصدفة وتقلباتها.
يرنو الناس إلى شتات الأجرام السماوية فيرون وجها على سطح القمر، وسلسلة قنوات على المريخ، ويصغي الآباء إلى موسيقى أبنائهم المراهقين المعكوسة ويزعمون أنهم يسمعون رسائل شيطانية في موجات الضوضاء المشوشة المنبعثة. وهذا رجل يصلي من أجل ولده المريض مرضا حرجا، فيقع بصره على تعرق خشبي في باب غرفة المستشفى فيزعم أنه يرى وجه المسيح، ويظل مئات الزوار بعد ذلك يتوافدون على العيادة كل عام ويؤكدون التشابه الإعجازي.
3
ويدعي المقامرون أنهم يخبرون تتابعات حارة وباردة في رميات النرد العشوائية ويبدلون رهاناتهم وفقا لذلك.
هذا النزوع إلى إضفاء النظام على المثيرات الملتبسة هو شيء مبيت في الآلية المعرفية التي نستخدمها لفهم العالم، ولعله قد تخلف فينا خلال التطور بسبب صفته التكيفية العامة. إن بوسعنا أن نفيد من الظواهر المنتظمة بطرائق تتعذر علينا في حالة الظواهر المشتتة، وإن استعدادنا لكشف أنماط وعقد صلات هو ما يؤدي بنا إلى الاكتشاف والتقدم، لكن المشكلة هي أن هذا الميل فينا هو من القوة والتلقائية بحيث يجعلنا أحيانا نتبين اتساقا حيث لا يوجد اتساق.
الحق أن كثيرا من الآليات التي تشوه أحكامنا تنجم من عمليات معرفية أساسية جد معينة لنا عادة في إدراك العالم وفهمه بدقة، ومن بين هذه العمليات تركيب المثيرات وتنظيمها. من ذلك أن إجنز سيميلويس
Ignaz Semmelweis
اكتشف نمطا في حدوث حمى النفاس بين النساء اللائي قام بتوليدهن أطباء فرغوا لتوهم من عملية تشريح. ومن ذلك أن تشارلس داروين عاين نظاما في توزع الأنواع المختلفة من العصافير في الجلاباجو، وهذا الاستبصار هو ما دفع تفكيره عن التطور والانتخاب الطبيعي.
نعم، يفيدنا الميل إلى التماس نظام وتبين أنماط، يفيدنا بالغ الفائدة، وبخاصة إذا أخضعنا حدوسنا التي تتولد عن ذلك لاختبار أكثر صرامة (مثلما فعل سيميلويس وداروين مثلا)، غير أننا في كثير من الأحيان نعامل نتاج هذا الميل لا كفرضيات بل كحقائق ثابتة. إن استعدادنا لإضفاء النظام قد يكون من الفورية والجموح بحيث ينتهي بنا في أحيان كثيرة إلى الاعتقاد في وجود ظواهر لا وجود لها البتة. (1-1) تثبيت إدراكاتنا الخاطئة بنظريات علية
إن عجزنا عن تمييز ترتيبات عشوائية للأحداث قد يحملنا على الاعتقاد بأشياء غير حقيقية، فنرى أن شيئا ما هو شيء مرتب ومنظم وواقعي بينما هو في الحقيقة عشوائي ومختلط ووهمي، وبذلك يكون أداؤنا في واحدة من المهام الأساسية في إدراك العالم وفهمه، ونعني مهمة تحديد ما إذا كان ثمة ظاهرة هناك تستدعي الانتباه والتفسير، يكون أداؤنا في ذلك قاصرا غير محكم.
كما أننا ما إن يخامرنا شعور بوجود ظاهرة ما حتى يواتينا تفسيرها ومعناها دون عناء يذكر؛ فنفسر لماذا توجد هذه الظاهرة وماذا تعني ولا نجد في ذلك أي صعوبة. لقد برع بنو البشر براعة منقطعة النظير في عملية «التفسير الاحتيالي»
ad hoc explanation
أو الغرضي، وقد أثبت البحث أن الناس إذا دفعت إلى الاعتقاد الخاطئ بأن أداءهم أعلى أو أقل من المتوسط في مهمة معينة فإن بمقدورهم تفسير أدائهم المرتفع أو المتدني دون صعوبة . وإذا طلب منهم تعليل كيف تؤدي خبرة طفولية من قبيل الهروب من البيت إلى مآلات متفاوتة كالانتحار أو العمل في فيلق السلام؛ فإن بوسعهم أن يقدموا التعليل على نحو فوري ومقنع للغاية. أن تعيش - فيما يبدو - يعني أن تفسر وتبرر وتجد اتساقا بين شتى الحصائل ومختلف الخصائص ومتباين العلل. لقد تعلمنا بالممارسة أن نؤدي هذه المهام بسرعة وكفاءة.
ثمة دراسة بحثية في مرضى الدماغ المنقسم
split-brain patients
4
تقدم لنا عرضا مثيرا لبراعتنا في «التفسير الاحتيالي»
ad hoc explanation . في جميع هؤلاء المرضى تقريبا تكمن القدرة اللغوية في نصف الكرة المخي الأيسر (مثلما هو في معظم الناس)، الفرق الوحيد بين مرضى الدماغ المنقسم وغيرهم من الناس هو أن الاتصال بين نصفي الكرة مقطوع في مريض الدماغ المنقسم بسبب قطع «الجسم المندمل»،
5
تخيل إذن أن صورتين مختلفتين تعرضان على نصفي الكرة لدى مريض دماغ منقسم: إحداهما صورة مرج ممتلئ بالثلج معروضة للنصف الأيمن غير اللغوي (بوضعها في المجال البصري الأيسر)، والأخرى صورة مخلب طائر معروضة في نفس الوقت للنصف الأيسر اللغوي (بوضعها في المجال البصري الأيمن)، وبعد ذلك يطلب من المريض أن ينتقي من صف من الصور تلك الصورة التي تتمشى مع المنبهات التي رآها لتوه.
ماذا يحدث؟ الاستجابة المعتادة هي أن المريض ينتقي صورتين. في هذه الحالة قد تنتقي اليد اليسرى للشخص (التي يتحكم فيها نصف الكرة الأيمن) صورة جاروف لكي يتمشى مع مشهد الثلج المعروض أصلا للنصف الأيمن، وفي نفس الوقت قد تنتقي اليد اليمنى (المحكومة بالنصف الأيسر) صورة دجاجة لكي تتمشى مع المخلب المعروض أصلا للنصف الأيسر. كلتا الاستجابتين تناسب المنبه ذا الصلة؛ لأن صيغة الاستجابة (الإشارة) يمكن التحكم فيها من جانب كل نصف كروي مخي، أما الاستجابة الأشد إثارة فتحدث عندما يطلب من المريض أن «يفسر» الاختيارات التي أتاها. لعلنا هنا نتوقع شيئا من الصعوبة؛ لأن صيغة الاستجابة اللفظية لا يحكمها إلا النصف الأيسر ، ورغم ذلك فقد كان الشخص يقدم تفسيرا دون تردد: «آه، هذا سهل، مخلب الدجاجة يتمشى مع الدجاجة وأنت يلزمك جاروف لكي تنظف طريح
6
الدجاجة». لاحظ أن السبب الحقيقي الذي جعل المشارك يشير إلى الجاروف لم يقدم؛ لأن مشهد الثلج الذي حفز الاستجابة مقطوع عن النصف الأيسر الذي يجب أن يشكل التفسير اللفظي. إن هذا لم يمنع الشخص من إعطاء استجابة «معقولة»: إنه يفحص المخرج ذا الصلة ويخترع قصة تعلل له.
لكأنما يحتوي النصف الكروي الأيسر للمخ على «وحدة للتفسير»
explanation module
ملحقة بمركز اللغة، وحدة تفسير يمكنها بسرعة وسهولة أن تضفي المعنى حتى على أغرب أنماط المعلومات.
وما إن يتعرف شخص على نمط عشوائي على أنه ظاهرة واقعية حتى لا يعود نمطا ملغزا وواقعة معزولة عن العالم، بل يتناوله سريعا بالتفسير ويدمجه في نظرياته وقناعاته القائمة من قبل. عندئذ تعمل هذه النظريات على الحيود بتقييم الشخص للمعلومات الجديدة بحيث يصبح الاعتقاد الأول راسخا بصلابة. هكذا يتشبث الناس باعتقاداتهم في وجه أعتى الأدلة المفندة. (1-2) تحصين النظريات
7
من دأب بعض أصحاب النظريات التي يتبين كذبها بالاختبار أن يظلوا متمسكين بها ولا يتخلوا عنها، وأن يقوموا بعملية أشبه بالترقيع النظري لإنقاذ النظرية من الدحض، ومن الوسائل المعهودة في ذلك إدخال «فرض مساعد»
auxiliary hypothesis ، أو «فرض عيني تحايلي غرضي»
ad hoc hypothesis
على مقاس الشواهد المضادة بغرض استيعابها داخل النطاق التفسيري للنظرية. مثل هذا الإجراء ممكن دائما وميسور لأية فرضية مهما بلغت عبثيتها وهشاشتها، غير أنه ينقذ النظرية من الدحض بقدر ما ينال من مكانتها العلمية ومحتواها المعلوماتي.
وثمة تحايل آخر لتفادي الدحض، وهو ببساطة أن تخرج المثال المضاد
counterexample
من التعريف نفسه، فإذا كنا مثلا بصدد العبارة الكلية «كل الغربان سود»، وجابهنا شاهد مضاد لغراب أبيض لأمكننا القول: «إن غرابا أبيض هو ليس غرابا على الإطلاق.»
مثل هذه الفروض التحايلية المقحمة والمناورات التعريفية هي نوع من الغش والمماحكة، وهي إجراءات رخيصة ومبتذلة، وعلى العالم الحق أن يتجنبها قدر المستطاع، ورغم أن الفروض العينية تستخدم بالفعل في بعض الأحيان وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، فقد بذل كارل بوبر جهده لتحديد القواعد المنهجية لاستخدام مثل هذه الطرق بحيث تكون مشروعة علميا وغير معطلة لتقدم المعرفة العلمية أو مطيلة لعمر نظريات بائدة لا تريد أن تتنحى وتفسح الطريق لفرضيات جديدة أكثر قوة تفسيرية وأكثر اقترابا من الحقيقة.
تعد هذه الطرق (الفروض العينية التحايلية، المناورة الاصطلاحية ... إلخ) وسائل أو خدعا ل «تحصين» النظرية من الدحض
immunization stratagem . ويميز بوبر بين التحصين الصادق والتحصين الزائف، فالتحصين الصادق يدافع عن النظرية بواسطة توقعات هي ذاتها قابلة للتكذيب، ومن أمثلة التحصين الصادق ما زعمه علماء الفيزياء النيوتونية من أنه لا بد أن يكون هناك كوكب آخر بعد أورانوس، وذلك عندما أعجزهم تفسير انحراف المسار - وفقا للحسابات - بأي طريقة أخرى، بذلك حصنوا فرضيتهم، غير أن هذا التحصين هو في الحقيقة قابل للتكذيب من حيث المبدأ، وعندما تحسنت طرق الملاحظة فيما بعد تبين أنهم كانوا على حق، لقد أسهم تحصينهم في البحث عن الكوكب «نبتون» واكتشافه في النهاية. هذا مثال للتحصين الصادق، أما التحصين الزائف فمن شأنه أن يجعل تكذيب الفرضية أمرا محالا من حيث المبدأ، يقول بوبر: «حين تذهب لمحلل نفسي فإنه يعالجك، فإذا شعرت بتحسن بعد ذلك فهو يقول لك: ها أنت ترى الآن فعالية التحليل النفسي فأنت تشعر بتحسن. أما إذا لم تتحسن حالتك بعد ذلك أو حتى إذا ساءت بحيث أبديت رغبتك في ألا تكمل العلاج فسوف يقول لك: الآن تجد نفسك في طور «المقاومة»
resistance
وهو طور متوقع ويثبت أن كل شيء يمضي كما يجب.» (1-3) انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)
confirmation bias
8
ولايزالون يتشبثون بعناد بفكرة أن الإجابة الجيدة الوحيدة هي الإجابة بنعم، فإذا سألوني «هل العدد هو بين 5000 و10000؟» فقلت: «نعم»، فإنهم يفرحون، وإذا قلت: «لا» يمتعضون، رغم أنهم يحصلون على نفس القدر بالضبط من المعلومات في كلتا الحالتين.
جون هولت، لماذا يرسب الأطفال؟
في تجربة شهيرة
9
عرض على المشاركين أربع بطاقات، كل بطاقة منها تحمل عددا على أحد وجهيها وحرفا أبجديا على وجهها الآخر، مثل هذا:
ثمة فرضية في هذه البطاقات تقول بأنه: «إذا كان في البطاقة حرف متحرك على أحد وجهيها فإن على وجهها الآخر عددا زوجيا بالضرورة.» والمطلوب من المشارك أن يقدم أسرع طريقة لاختبار هذه الفرضية (أو يطلب منه - بصيغة أخرى - تحديد بطاقتين اثنتين فقط عليه أن يقلبهما لكي يختبر صدق هذه الفرضية).
في هذه التجربة وقع جميع المشاركين تقريبا في الاختيار الخطأ (وهو:
E ، 4) ولم يهتدوا إلى الجواب الصحيح (وهو:
E ، 7)، ذلك أن عليك أن تقلب بطاقة
E
لتكشف إن كان هناك عدد زوجي على ظهرها؛ فإذا لم يكن فالفرضية كاذبة. يتعين عليك أيضا أن تقلب البطاقة 7 لكي تتيقن من أنها لا تحمل في ظهرها حرفا متحركا؛ فإذا وجدته فالفرضية كاذبة. وما دامت البطاقة
E
بها عدد زوجي والبطاقة 7 ليس بها حرف متحرك فإن الفرضية صادقة، ولا يهم ما يكون على ظهر البطاقة 4 والبطاقة
K
ولا يغير من الأمر شيئا.
والآن ما هو مصدر الضلال هنا؟
لماذا نميل فعلا إلى اختيار البطاقة 4 بدلا من 7؟
يبدو أن لدينا ميلا صميما إلى أن «نؤيد»
confirm
مثل هذه الفرضيات بدلا من أن «نفندها»
disconfirm ، إننا نقلب البطاقة 4؛ لأننا نبحث فقط عن أمثلة موجبة للفرضية وليس أمثلة سالبة. إننا أميل إلى البحث عن دليل «مؤيد» حتى إذا كان الدليل «المفند» أكثر دلالة بكثير.
يفكر الواحد منا بمثل هذه الطريقة: «إذا قلبت بطاقة العدد الزوجي ووجدت حرفا متحركا أكون قد أيدت العبارة.» غير أن العثور على مثال يؤيد القاعدة لا يثبت أن القاعدة صادقة، بينما العثور على مثال واحد يكذب القاعدة هو أمر يكفي لأن يثبت كذبها على نحو نهائي حاسم ويقضي عليها قضاء مبرما.
انظر أيضا إلى المثال التالي: فهذا سياسي يرى أن إلغاء الضرائب المحلية سوف يؤدي إلى انخفاض معدلات الجريمة، ومن ثم فقد طلب من الباحثين لديه أن يجمعوا أمثلة لحالات ألغيت فيها الضرائب المحلية ثم انخفضت معدلات الجرائم. وجد الباحثون أن هناك مائة من هذه الأمثلة، إذاك خلص السياسي إلى أنه محق في افتراض أنه بخفض الضرائب المحلية يمكنه أن يقلص الجريمة.
لقد أراد السياسي أن «يؤيد» فرضيته فحسب لا أن «يفندها»، وربما يكون بذلك قد ضل السبيل، ولعل باحثيه لو جدوا في الطلب لأتوا له بمائتي حالة ارتفعت فيها الجريمة بعد إلغاء الضرائب المحلية!
في مجال الاستدلال الإحصائي يعد انحياز «التأييد»
confirmation (أو «التحقيق»
verification ) ضربا من الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة، ومن أجل معادلة هذا الميل البشري الملاحظ يتم تشييد المنهج العلمي بطريقة تلزمنا بأن نحاول تفنيد
disconfirmation (أو تكذيب
falsification ) فرضياتنا.
وفي مجال السيكولوجيا يعرف انحياز التأييد بأنه ظاهرة تتميز بميل صانعي القرار إلى ملاحظة الأدلة المؤيدة لدعاواهم والاحتفاء بها والتماسها بهمة، بينما يميلون إلى تجاهل الأدلة التي قد تنال من الدعاوى، وإلى التقاعس عن طلبها والبحث عنها. وهي بهذا المعنى تعد صورة من صور «الانحياز الانتقائي»
selection bias
في جمع الأدلة.
يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المخلدة لذاتها» و«المحققة لذاتها»، وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن البشري بحكم تكوينه يجد صعوبة في «معالجة»
processing
الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة، انظر - مثلا - كم هو أسهل أن تستوعب عبارة «جميع اليونانيين فانون» من أن تستوعب «جميع غير الفانين غير يونانيين». للمرء إذن أن يتوقع أن تكون المعلومات المؤيدة مؤثرة بصفة خاصة كلما كانت المفندات مصوغة صياغات سالبة. وكما لاحظ فرنسيس بيكون منذ زمن طويل فإن «من الأخطاء التي تسم الفكر الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومولع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة، حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أي قانون صادق يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهة وفاعلية.»
10
وقد قام عدد من الباحثين بدراسة ميل الناس لالتماس المعلومات المؤيدة في استراتيجياتهم في اختبار فرضياتهم في حياتهم اليومية. من ذلك أن يقوم الباحث بتقديم قائمة من الأسئلة للشخص المفحوص لكي ينتقي منها مجموعة يوجهها للشخص الذي يريد أن يكشف عن وجود (أو عدم وجود) سمة شخصية معينة فيه (سمة الانبساط مثلا)، وكانت النتيجة أن المفحوص يميل أحيانا إلى انتقاء الأسئلة التي يكون ردها الموجب مؤيدا للفرضية (فرضية وجود السمة الانبساطية مثلا)، وقد يكون السؤال مضيقا بحيث يرجح ألا يرد عليه إلا بالإيجاب؛ ومن ثم تكون الحصائل تأييدا زائفا للفرضية الأولى حتى لو كانت هذه الفرضية غير صحيحة.
11
وتشير الدراسات الحديثة رغم ذلك إلى أنه بينما تسود مغالطة التأييد كحالة مبدئية، فإن تكرار ورود البيانات المفندة يحدث تحولات في التفكير النظري، فالمسلك العام لدى الباحثين هو استبعاد البيانات المفندة في البداية باعتبارها نتاج زلل أو سهو أو عوامل دخيلة، غير أن تكرار البيانات المفندة وتراكمها وإلحاحها في الظهور يحدث تغيرا في استراتيجيات الاستدلال السببي. (2) نرى ما نتوقع أن نراه
التقييم المتحيز للبيانات الملتبسة وغير المتسقة
سوف أراه عندما أعتقد به.
زلة لسان لعالم النفس: ثان بيتمان
إنما تنجح المقالة في المر
ء إذا صادفت هوى في الفؤاد
المتنبي
الحياة سلسلة من المقايضات، فلكل فائدة تحصل ثمة دائما كلفة ما، إذا زدنا من سرعتنا - مثلا - في معظم مهامنا، فنحن نخسر الدقة في الأغلب، وإذا زدنا الدقة فلا بد من أن نبطئ، وإذا توسع عمل تجاري ناجح فثمة احتمال بأن يعاني انحدارا في تلقائية وسهولة الدخول على رئيسه، وهما أمران قد يكونان سببا كبيرا لنجاحه الأول، وقد أنعم على بني الإنسان بذكاء غير مسبوق، غير أن البيولوجيين ينبئوننا أن ولوج الأدمغة الكبيرة المسئولة عن هذا الذكاء عبر قناة الولادة الضيقة يستلزم أن نولد على نحو مبتسر وأن نعاني بالتالي فترة أطول من المعتاد
12
من الرضاعة وقلة الحيلة.
وتظهر المقايضات أيضا في أحكام الحياة اليومية واستدلالاتها؛ فنحن حين نتخذ أحكامنا وقراراتنا نستخدم لذلك قواعد واستراتيجيات غير صورية تبسط لنا المشكلات الصعبة تبسيطا جوهريا وتتيح لنا حلها دون جهد وعناء زائدين. هذه الاستراتيجيات ناجعة في الأغلب الأعم، إلا أن فائدة التبسيط تأتي على حساب الدقة وتورثنا أحيانا أخطاء منهجية.
من ذلك أن لدينا قاعدة تبسيطية تقول لنا: إن العلل تماثل معلولاتها؛ فالمعلولات الكبيرة لا بد أن تكون لها علل كبيرة، وللمعلولات المعقدة علل معقدة، وهكذا ينطوي هذا الافتراض على بعض الحق ويسهل علينا الاستدلال العلي بأن يحصر لنا عدد العلل التي علينا أن نضعها بالاعتبار، ولكن ليست جميع العلل تماثل معلولاتها؛ فالفيروسات الدقيقة قد تسبب أوبئة هائلة. ومن شأن التعويل الزائد على هذا الافتراض أن يدفع الناس إلى إغفال علاقات علية هامة وأن يرتئوا علاقات لا وجود لها. هكذا نرى أن نفس المبدأ الذي يتيح لنا اتخاذ أحكام بسهولة واضحة ونجاح كبير هو أيضا مسئول عن بعض أخطائنا المنهجية.
هذه المقايضة بين المزايا والنقائص تتجلى في أوضح صورة في التأثير الكبير الذي تحدثه توقعاتنا وتصوراتنا واعتقاداتنا المسبقة على تأويلنا للمعلومات الجديدة، فحين يكون الناس بصدد فحص الأدلة المتصلة باعتقاد ما فإنهم يجنحون إلى رؤية ما يتوقعون رؤيته، واستنتاج ما يتوقعون استنتاجه. إن المعلومات التي تتسق مع اعتقاداتنا المسبقة تنال منا القبول بادي الرأي، أما الأدلة المضادة لها فنحن نتناولها بالتمحيص النقدي ونسقطها من حسابنا، وهكذا لا تؤتي المعلومات الجديدة أثرها فينا ولا تفعل فعلها كما ينبغي لها، ولا تؤثر متضمناتها على اعتقادنا كما يجب. (2-1) التحيز الملائم والتحيز غير الملائم
مثل هذا التعامل المتفاوت مع المعلومات الجديدة يصدم أغلب الناس للوهلة الأولى بوصفه غير مبرر وضارا أحيانا، ويستدعي في الذهن صور الأشخاص المتزمتين - على سبيل المثال - الذين لا يعبئون بالخصائص الفردية المميزة لشخص ما بالقياس إلى تنميط معين إثني أو جنوسي أو مهني غير صائب، ويستدعي في الذهن أمثلة من أشخاص أو جماعات تتمسك تمسكا أعمى بدوجما عتيقة الزي. إن الميل إلى تقييم الأدلة بطريقة متحيزة قد تكون له عواقب وخيمة، وهو يقدم السند لكثير جدا من الاعتقادات الخاطئة وغير الدقيقة، على أن مسألة الحياد الذي يجب أن نتحلى به في تقييم المعلومات التي تؤيد أو تفند تصوراتنا المسبقة هي مسألة أدق وأعقد مما يظن معظم الناس.
هي مسألة معقدة لأن من غير الملائم وغير الرشيد أن يمضي المرء في الحياة يروز جميع الوقائع على السواء ويعيد النظر في اعتقاداته من جديد كلما واجهته واقعة مضادة، فالحق أنه إذا كان اعتقاد ما قد لقي تدعيما طوال حياة المرء فمن الوجيه تماما أن يشك في أي ملاحظة أو تقرير يشكك في هذا الاعتقاد، وأن يقبل من فوره أي دليل يؤيد صدقه. لقد كان تشكك العلماء في تقارير الاندماج النووي البارد تشككا وجيها تماما؛ لأنه كان شكا قائما على أساس نظري صلب يحدد ما هو ممكن من الأحداث وما هو غير ممكن. وكل منا له كل الحق في أن ينظر شزرا إلى دعاوى الأطباق الطائرة والطفو في الهواء والعلاجات المعجزية للسرطان. إن الأحداث التي تتحدى المعارف التي تأسست على نطاق عريض ومرت باختبار الزمن ينبغي التعامل معها بحذر، أما الأحداث التي تنسجم مع المعرفة القائمة فيمكن تقبلها بصدر أرحب.
غير أننا يجب أن نفرق بين الارتيابية المشروعة والانغلاق الذهني المقيت، بين تشكك العلماء في الاندماج البارد وتشكك رجال الدين في دعوى جاليليو بدوران الأرض ومركزية الشمس؛ ذلك أن رافضي الاندماج البارد حاولوا تكرار الظاهرة في مختبراتهم الخاصة، أما نقاد جاليليو فرفضوا النظر في البيانات ذات الصلة. كما أن الأساس الذي تقوم عليه اعتقاداتنا المسبقة يضطلع بدور كبير في تبرير الشك في المعارف الجديدة المخالفة؛ فالظواهر التي حظيت بتعزيز كبير ومتواتر وطويل الأمد - مثل تأثير الجاذبية - ينبغي ألا نتخلى عنها ببساطة أو نعدلها لدى أول حفنة من الوقائع المضادة، أما أشكال التنميط العرقي والجنوسي والمهني فهي على النقيض التام من ذلك؛ لأنها ترتكز في الغالب على أدلة هزيلة أو لا وجود لها على الإطلاق، ولنا من ثم أن نسارع بتعديلها أو التخلي عنها.
يبدو أن الإنصاف في تقييم الأدلة مسألة معقدة، وأن التحيز ليس شيئا سيئا على طول المدى؛ فالحق أن قدرا معينا من التحيز هو شيء ضروري للغاية! انظر مثلا هذا العنوان الصحفي:
Mondal’s offensive looks hard to beat ، ليس في الألفاظ نفسها ما يسمح لنا أن نحدد هل تشير العبارة إلى خطة حملة موندال أم إلى مظهره الجسماني.
وانظر أيضا إلى هذا العنوان: «إدارة إنبي تهدد بالانسحاب من الدورة»: ليس في الألفاظ ذاتها ما يتيح لنا أن نحدد هل تتحدث العبارة عن شركة «إنبي» أم عن فريق «إنبي» الرياضي، إلا أن معرفتنا المسبقة بما هو معقول وما هو غير معقول تتيح لنا للتو ودون عناء أن نستنتج الاستنتاج الصحيح.
إن السياق والمعرفة المسبقة والتوقعات والتحيزات هي عدتنا للفهم، وقد ثبت أن من أصعب الأمور أن نبرمج حتى أكثر الحواسيب تطورا على أن تعقد مثل هذه الاستدلالات البسيطة، فبدون هذه القدرة على استخدام السياق والتوقعات التي تتخطى المعلومات المعطاة لكنا أغبياء بنفس الطريقة التي يتصف بها الحاسوب ذو القدرة الحوسبية العالية بأنه «غبي». إن نظرياتنا وتصوراتنا المسبقة و«تحيزاتنا» - على عجزها في بعض الأحيان - هي ما يجعلنا أذكياء فطنين.
إن المرء لا يمكنه أن يعرف العالم إلا من خلال الفهم المسبق! وفي معرض تفسيره لهيدجر يتناول هانز جادامر في كتابه «الحقيقة والمنهج»
Truth and Method
مسألة المعرفة المسبقة في مواجهتنا مع النصوص، فيقول بأننا لا يمكن أن نقرأ النص إلا بتوقعات معينة، أي بإسقاط مسبق. غير أن علينا أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة باستمرار في ضوء ما يمثل هناك أمامنا، وبإمكان كل مراجعة لإسقاط مسبق أن تضع أمامها إسقاطا جديدا من المعنى. ومن الممكن أن تبزغ الإسقاطات المتنافسة جنبا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحا، ويتبين كيف يمكن أن تترابط الرموز والعالم.
13
هذه العملية الدائمة المستمرة من الإسقاط الجديد هي حركة الفهم والتأويل، وعلى المؤول لكي يبلغ أقصى فهم ممكن ألا ينخرط فحسب في هذا الحوار مع النص، بل أن يفحص على نحو صريح منشأ المعنى المسبق الذي بداخله ومدى صحة هذا المعنى، يقول جادامر: «وإدراك أن كل فهم لا بد له من أن يشتمل على بعض «التحيز»
prejudice (أي «المعنى المسبق»
fore-meaning ) هو ما يمنح مشكلة التأويل زخمها الحقيقي.» وجدير بالذكر أن جادامر يعتبر سعي «التنوير» إلى التخلص من كل التحيزات هو نفسه تحيز! (تحيز ضد التحيز!) إنه تحيز يحجب عنا تاريخيتنا الجوهرية وتناهينا الصميم.
14 •••
حين نواجه معطيات تحتمل معنيين فنحن ندركها - ببساطة - على النحو الذي يلائم تصوراتنا المسبقة، أما حين نواجه معطيات غير ملتبسة ولا تحتمل إلا معنى واحدا فإننا نتقبلها دون نقد إن كانت متسقة مع توقعاتنا وبنائنا الأيديولوجي، أما إذا كانت مضادة لذلك فنحن نعرضها للتمحيص النقدي ونمنحها المزيد من جهدنا الذهني حتى نردها متسقة مع توقعاتنا وتصوراتنا الأصلية. (2-2) تجارب بحثية: لماذا يتشبث الناس باعتقاداتهم السابقة رغم الأدلة الجديدة؟
في تجربة بحثية تعرض أنصار ومعارضو عقوبة الإعدام لأدلة تتعلق بالفاعلية الرادعة لهذه العقوبة،
15
فقد قرأ كل من المجموعتين ملخصين لدراستين في ذلك: إجراءاتهما ونتائجهما ونقدهما. إحدى الدراستين تقدم دليلا يؤيد الفاعلية الرادعة لعقوبة الإعدام، والأخرى تقدم دليلا ضد هذه الفاعلية. لدى نصف المشاركين كانت الدراسة المؤيدة لعقوبة الإعدام تقارن معدلات القتل في نفس الولاية قبل وبعد عقوبة الإعدام، والدراسة المفندة للفاعلية الرادعة تقارن معدلات القتل في ولايات مختلفة بعضها يطبق العقوبة وبعضها لا يطبقها، ولدى النصف الآخر من المشاركين كانت نوعية الدراسات المؤيدة والمفندة معكوسة، يعني ذلك أنه لدى كل من الأنصار والمعارضين للعقوبة كان النصف يجد توقعاته مؤيدة بنوع من الدراسات ومفندة بالنوع الآخر، بينما كان النصف الآخر يتعرض للنمط العكسي من المعطيات.
كانت نتائج هذه التجربة مثيرة: فقد كان المشاركون يعتبرون الدراسة التي قدمت دليلا متسقا مع اعتقادهم السابق (بغض النظر عن نوع هذه الدراسة) كقطعة بحثية جيدة الإجراء تقدم دليلا هاما يتعلق بمدى فاعلية عقوبة الإعدام، وكانوا - في المقابل - ينقبون عن عيوب عديدة في البحث الذي كان يناقض اعتقاداتهم الأولى. كان التأثير النهائي لهاتين النتيجتين أن مواقف المشاركين صارت مستقطبة، فالتعرض لحشد مختلط من الأدلة جعل كلا الطرفين أكثر اقتناعا بصواب اعتقاداته الأصلية.
وقد أجريت دراسة أخرى على المقامرين وميلهم إلى تقييم النتائج بطريقة منحازة. كانت الدراسة تسعى إلى الإجابة عن السؤال المحير: لماذا يصر المقامرون على الاستمرار في هذا المشروع المحبط؟ لماذا يعتقدون - برغم كل خسائرهم السابقة - بأن المكسب وشيك يكاد يدق الأبواب، وقد خلصت هذه الدراسة إلى نفس النتيجة: إنهم يقبلون الأدلة الموجبة دون نقد، ويؤولون الأدلة السلبية لكي يردوها متسقة مع توقعاتهم الأصلية.
16
نخلص من ذلك إلى ما يلي: حين يواجه المرء بخليط من الأدلة: سلبية وإيجابية، فإنه يقبل الإيجابية فورا على علاتها، أما السلبية - أي المضادة لمنظومته الاعتقادية - فيعمل فيها التأويل حتى يردها إيجابية، من هنا يخلص كل طرف من الخصوم في المناظرات الفكرية وهو أكثر اقتناعا بمذهبه! ومن هنا يبرر الرأي ذاته ويخلد الاعتقاد نفسه.
حتى العلماء ليسوا محصنين من الوقوع في نفس الأخطاء عندما يقيمون الأدلة المتصلة بمجالاتهم، فقد وجد أن الانتقادات المنهجية وتوصيات النشر الصادرة عن المراجعين النظراء
peer reviewers
تتأثر بشدة بالتوجه النظري للمراجع: يحتد النقد إذا كان البحث مخالفا لقناعات المراجع ويلين إذا كان موافقا؛ فتجده يجري تجربة إضافية إذا كانت نتائج البحث الذي يراجعه تدحض فرضية أثيرة لديه، بينما يغض الطرف ويضرب صفحا إذا كانت النتائج تدعم هذه الفرضية.
وتتجلى هذه الظاهرة في أوضح صورة في تاريخ المحاولات العلمية لربط حجم الدماغ والجسم بالذكاء والشخصية (ومن ثم بالقيمة الاجتماعية). هنالك نجد أمثلة لميل الباحثين إلى تحدي النتائج الصادمة وإعادة تأويلها بينما هم يغضون الطرف عن عيوب والتباسات مماثلة إذا كانت مريحة لهم ومسايرة لاعتقاداتهم.
من ذلك أن العالم الفرنسي باول بروكا
- المتخصص في علم الجماجم - لم يسعه أن يقبل أن الأدمغة الألمانية التي يدرسها كانت أثقل من الأدمغة الفرنسية في عينته بمقدار مئة جرام في المتوسط، ومن ثم جعل يكيف أوزان الأدمغة في العينتين بحيث يضع في الاعتبار عوامل خارجية متصلة بوزن الدماغ من قبيل الحجم الكلي للجسم، ورغم ذلك فإن بروكا لم يقم قط بتكييف مماثل في شروحه الكثيرة للفرق بين حجم دماغ الرجل ودماغ المرأة.
17
أما عالم أنثروبولوجيا الإجرام سيزار لومبروزو
C. Lombroso
فقد دعم أطروحته عن الطبيعة البدائية والحيوانية للمجرمين ول «الأعراق الدنيا» بذكر أمثلة عديدة لانعدام حساسيتهم للألم، وهي أمثلة يفسرها باعتبارها شجاعة وجسارة عندما تصدر عن واحد من العنصر الأوروبي الممتاز.
18
غير أن العلم يتغلب على مثل هذه التحيزات بحرصه الشديد على تكرار التجربة
replication
وعلى مشاعية النتائج وعلانيتها، بحيث لا تدوم في سوق الأفكار أية نتائج قائمة على أساس مهتز. وإذا كنا في الحياة اليومية نتخلص - بعض الشيء - من الأفكار الفادحة الخطأ بفضل التأثير المصحح لزملائنا ولعموم المجتمع؛ فإن العلماء يتسلحون في منهجهم بإجراءات خاصة للتغلب على العيوب الغائرة في الاستدلال البشري، وهي إجراءات قلما يلتفت إليها الشخص العادي ويتبناها في الحياة اليومية، من هذه الإجراءات: استخدام المجموعات الضابطة
control groups ، وأخذ العينات العشوائية
random sampling
لتجنب عقد استدلالات من معطيات ناقصة وغير ممثلة، ومنها استخدام «الملاحظ الأعمى»
blind observer
للتخلص من تأثير عمليات التقييم المتحيز، والملاحظ الأعمى هو شخص على غير دراية لا بالفرضية محل البحث ولا بالحالة المحددة للتجربة المجراة في وقت معين (مجموعة العلاج مثلا أو المجموعة الضابطة)، ومن ثم فإن توقعاته عما «ينبغي» أن يحدث في التجربة لا يمكن أن تحيز سلوكه.
ولكن ربما يكون صمام الأمان الأساسي والأهم في المشروع العلمي هو اشتراطه تحديد معنى شتى النتائج والمآلات على نحو موضوعي ومسبق إن أمكن، وبعبارة أخرى: أن نحدد مقدما وعلى نحو دقيق ماذا يمثل نجاحا وماذا يمثل فشلا، ماذا يعد تحقيقا للفرضية وماذا يعد تكذيبا لها، لا أن نتلقى النتائج ثم نؤول معناها تأويلا يسلكها بعنت في توقعاتنا المبدئية ويقسرها على الانسجام مع فرضيتنا الأولى.
قد يبدو ذلك ضربا من التصلب والصرامة الزائدة، نعم، نحن في العلم نضحي بشيء من المرونة من أجل الموضوعية، غير أننا يجب أن نميز في العلم بين عملية توليد الأفكار وعملية اختبارها، أو بين «سياق الكشف»
context of discovery
و«سياق التبرير»
context of justification . في سياق الكشف كل شيء يجوز في العلم مثلما هو الحال في الحياة اليومية. إنما في سياق التبرير تتجلى صرامة العلماء ويزداد تحفظهم، يقول سير بيتر ميداوار
: يعمل العلم «في تبادل سريع بين التخمين والتحقيق، بين الاقتراح والاطراح،
19
بين الحدس الافتراضي والدحض.»
20
في العلم يجب أن يكون لديك الكثير من الأفكار ثم عليك أن ترمي عنك الزائف منها، وهي إجراءات ينصح أن يتبناها المرء في حياته اليومية. ويبدو أننا نحن البشر بارعون جدا في توليد الأفكار والنظريات والتفسيرات التي لها نبرة من القبول والمعقولية ، ولكننا قد لا نكون بارعين بنفس الدرجة في تقييم أفكارنا واختبارها ما إن تتكون، ولعل من أكبر العوائق التي تحول بيننا وبين ذلك هو عدم إدراكنا لهذا المبدأ المذكور: أننا إذا لم نحدد بدقة صنف الأدلة التي سوف تعد مؤيدة لموقفنا فإننا عرضة لأن ينتهي بنا الأمر إلى أن نستبين جمهرة كبيرة جدا من الأدلة المؤيدة لتصوراتنا المسبقة.
وبعبارة أخرى: فإن توقعاتنا عرضة في كثير من الأحيان لأن تلقى تأييدا من أي حصيلة كانت من بين مجموعة متباينة من الحصائل بعد الواقعة، بعضها لم نكن لنقبله قبلها كمعيار للنجاح. هب أن متنبئا تنبأ بوفاة سياسي شهير هذا العام. إن من الأهمية بمكان أن نحدد إذاك نطاق الأحداث التي سوف تمثل نجاحا للنبوءة، وإلا فسوف ننبهر انبهارا زائدا بأي صلة واهية بين النبوءة وبين أي حدث لاحق: قد يموت اقتصادي كبير فنقول صدقت النبوءة، وقد يموت رجل أعمال كبير كان يعمل في شبابه بضع سنوات في سفارة مصر بالصين فنقول: صدقت النبوءة، وقد تجري محاولة اغتيال فاشلة لسياسي شهير فنقول: صدقت النبوءة ... إلخ. من البين أننا إذا لم نحدد مقدما جميع المآلات المحتملة التي تعد نجاحا للنبوءة فلن يعود الاختبار موضوعيا وسوف تلقى النبوءة تأييدا ظاهريا سهلا من أيما حدث يحدث.
تتفاقم مشكلة المآلات المتعددة وتبلغ غاية الشدة إذا كان موضوع البحث غائما بطبيعته وعسيرا على التحديد: افترض مثلا أن ثمة دعوى تقول بأن الرعاية النهارية أثناء مرحلة الرضاع تعوق «التوافق الشخصي»
personal adjustment
في مقبل العمر، حسن، ترى ماذا يكون «التوافق الشخصي» وكيف لنا أن نقيسه؟ أنقيسه بعدد الأصدقاء في فترة المراهقة؟ أبالنجاح المدرسي؟ بالسعادة بالمجال المهني المختار؟ في مثل هذه الحالات التي تكون فيها الظاهرة قيد البحث غير واضحة يكون لتصوراتنا المسبقة أشد التأثير؛ ذلك أن أي مقياس للتوافق مؤيد لاعتقاداتنا المبدئية سيكون حريا أن نتشبث به على أنه الاختبار الصحيح . أما إذا كانت الدعوى تقول بأن الرعاية النهارية في الرضاع تعوق «الإنجاز المدرسي» فإن الأمور تزداد تحددا وصلابة بعض الشيء ؛ ومن ثم تقل فرصة تصوراتنا المسبقة في أن تؤتي أثرا.
هكذا نتبين أن غموض الدعوى وعدم تحددها يجعل من العسير تكذيبها ومن اليسير العثور على ما يؤيد جوانب منها بشكل أو بآخر، وهذا مما يقصر على العرافين وقراء الطالع طريقهم وييسر مهمتهم؛ فهم يقولون للناس كلاما عاما غير محدد، ويتكفل الناس بالبحث في ذاكرتهم وأفهامهم والعثور على مؤيدات لهذا القول العام.
يطلق على هذه الظاهرة «أثر بارنم»
Barnum effect ، نسبة إلى المخرج الاستعراضي ومقاول السرك في القرن التاسع عشر ب. ت. بارنم
، كان بارنم يعزو نجاحه إلى أنه يقدم مقاسا واحدا يناسب الجميع! أو - على حد قوله - «لدينا شيء ما لكل شخص.» وهو القائل أيضا: «هناك مغفل «جديد» يولد كل لحظة.» يشير بارنم بهذا القول الساخر إلى ميل الناس على الدوام إلى تصديق توصيفات شخصية زائفة على أنها تصف شخصيتهم الخاصة على نحو فريد.
ويطلق على هذه الظاهرة أيضا «أثر فورر»
Forer effect ، نسبة إلى عالم السيكولوجيا برترام فورر
Bertram R. Forer (1914-2000م)، الذي اكتشف أن الناس تميل إلى قبول توصيفات شخصية عامة على أنها تنطبق عليهم هم بصفة خاصة غير مدركين أن نفس الوصف يمكن أن ينطبق على أي شخص كان.
21
ولهذه العملية صولات أخرى كثيرة، منها: اعتقاد الناس بالطبيعة النبوئية للأحلام، وبوجود معنى ومغزى للأحداث التصادفية، وقد لعبت دورا في بعض الأمور الخلافية العلمية، مثل الدعوى القائلة بأن الضغوط النفسية تسبب السرطان، فكثيرا ما تدعم هذه الدعوى بالملاحظات المسجلة بوجود صدمات نفسية معينة حدثت قبيل بداية حالة سرطان فردية، ولكن ما دمنا جميعا نبتلى بصدمات متنوعة من وقت لآخر فإن من الممكن دائما ربط السرطان بحدث صادم معين. (3) الاعتقاد فيما يقال لنا
التأثيرات التحيزية للمعلومات المنقولة بالوساطة (التحريفات الناجمة عن رواية العنعنة)
الشيء المزعج في أمر «الحقيقة» هو أنها في الغالب غير مريحة، وكثيرا ما تكون فاترة مملة، إنما يريد العقل الإنساني شيئا أكثر إيناسا وأكثر تلطفا.
H. L. Minchen
حين يعتزم المرء أن يروي لرفاقه واقعة يكون قد وضع نفسه في موضع حرج، فالواقع فاتر ممل، وبه جوانب غامضة، وجوانب لا معنى لها، وجوانب ناقصة أو معتمة غير مضاءة، من هنا يجد الراوي نفسه مضطرا - ربما دون أن يعي ذلك - إلى أن يعمل خياله فيقوم بلي الوقائع وتعديلها وتفصيلها حتى تستوي له قصة متماسكة وممتعة وآسرة للانتباه.
من الروايات الشهيرة في تاريخ السيكولوجيا رواية «ألبرت الصغير»
Little Albert
22
ذي الأشهر التسعة، الذي أجرى عليه عالم النفس السلوكي واطسون
Watson
تجربة تبين منشأ الرهاب وتعميمه عن طريق «التشريط»
conditioning
23
وفقا للنظرية السلوكية، كان واطسون
24
يعرض ألبرت الصغير لصوت مخيف من ورائه (بضرب قضيب معدني بالمطرقة) كلما اقترب من فأر أبيض، وبتكرار ذلك نشأ لدى ألبرت خوف من الفأر حتى عندما لم يعد مقترنا بالصوت، وقد بقي هذا الخوف يلازمه ولم يتناقص بمرور الوقت، وقد أبدى ألبرت خوفا أيضا من عدد من الأشياء التي تشبه الفأر من أوجه كثيرة: أرنب، قفاز أبيض، كرات قطنية. هذه القصة كثيرا ما تقدم كدليل على كيفية اكتساب الناس للمخاوف المرضية من أشياء تبدو غير مؤذية، وكيفية تعميم هذه المخاوف لتشمل الأشياء المشابهة.
رغم أن هذه القصة تفيد في تبيان بعض الأفكار الهامة عن اكتساب السلوك العاطفي البشري وتعديله بطريقة سائغة مريحة، فإنها تعاني من عيب جد خطير: هو أن كثيرا من الأحداث التي توصف في كثير من الروايات التي تروي عن هذه القصة (روايات العنعنة/روايات النقل والوساطة/روايات اليد الثانية) لم تحدث قط!
25
في الواقعة الحقيقية نشأ لدى ألبرت بالفعل خوف من الفأر بعد تكرار الصوت العالي سبع مرات في بداية التجربة، وهو خوف استمر قويا خمسة أيام أخرى أثناء اختبار متابعة، في هذا الوقت أبدى ألبرت أيضا خوفا قويا من أرنب وكلب ومعطف من جلد الفقمة، و«استجابة سلبية» أقل حدة لقناع بابا نويل، وأبدى استجابة ودية جدا لقوالب خشبية ولشعر مساعدي واطسون.
غير أنه بعد خمسة أيام أخرى كانت استجابة ألبرت للفأر طفيفة بحيث قرر المختبرون أن «ينعشوا الاستجابة» بأن يقرنوا الفأر بالصوت العالي مرة أخرى، وهو ما فعلوه أيضا لأول مرة مع الأرنب والكلب (وبذلك لم يعد الأرنب والكلب منبهين صالحين في أي اختبارات تعميم تالية)، وفي اختبار أخير بعد 31 يوما أبدى ألبرت خوفا لدى ملامسة الفأر والأرنب والكلب والمعطف وقناع بابا نويل، إلا أنه شرع أيضا في التواصل مع نفس الأرنب ونفس المعطف، وبعد هذه المجموعة الأخيرة من الاختبارات على ألبرت الصغير أخرجته أمه من المستشفى الذي كانت تجرى فيه الدراسة، ولم يعد متاحا لأية تقييمات لاحقة.
هذه هي الوقائع الحقيقية التي حدثت بالفعل في دراسة واطسون ورينور: لم يكن خوف ألبرت من الفأر شديدا جدا، ولا هو تعمم للتو إلى كيانات أخرى كما يزعم كثيرا في وصف الكتب الدراسية لهذا البحث المفصلي في تاريخ علم النفس، فقد ادعى أيزنك
Eysenck
مثلا أن «ألبرت أصابه رهاب من الفئران البيض، ومن كل الحيوانات ذات الفراء في الحقيقة.»
26
غير أن التوكيد بأن ألبرت أصيب بفوبيا فأر يصعب توفيقه مع استجابته البسيطة للفأر أثناء فترة الاختبار الثاني، وهي استجابة يصفها المختبرون كما يلي: «تقلب على جنبه الأيسر، ثم نهض على أطرافه الأربعة جميعا وبدأ يزحف بعيدا، وهنا لم يكن يصيح، بل للعجب: بدأ في ابتعاده يقرقر ويسجع بتودد حتى وهو يميل بعيدا إلى جنبه الأيسر ليتجنب الفأر.» كما أن تقرير أيزنك عن خوف ألبرت من «جميع الحيوانات ذات الفراء» فيه مبالغة، بالنظر إلى أن استجابته لمثل هذه الحيوانات كان مقدرا فحسب بالنسبة للأرنب والكلب (وحتى هذان - لو تذكر - كانا قد قرنا بالصوت العالي أثناء جلسة الاختبار الثاني). والحق أن مجال الأشياء التي تعمم إليها خوف ألبرت كانت أكثر النقاط تعرضا للتحريف في التقارير اللاحقة عن نتائج الدراسة، فهناك كتب كثيرة جعلت ألبرت يخاف من: قط، قفاز أبيض، فراء ياقة المعطف الفرائي لوالدة ألبرت، وحتى دب لعبة، وربما يكون أغرب تحريف هو أن عددا من الكتب أعادت صياغة نهاية القصة زاعمة أن خوف ألبرت قد تمت إزالته بواسطة عملية «إعادة تشريط»
re-conditioning
أجريت في نهاية التجربة.
لماذا تعرضت قصة ألبرت الصغير لهذه التحريفات مرارا؟ لا شك أن كثيرا من التحريفات قد أدخلت لكي تجعل من قصة ألبرت الصغير «قصة جيدة». ثمة جوانب عديدة لما يشكل قصة جيدة، نجد كثيرا منها في وصف خبرات ألبرت كما دبجها واطسون ورينور: وصف يقدم قصة مترابطة بسيطة لكيف يمكن اكتساب الرهابات، قصة ذات نهاية متسقة (بل سعيدة).
والآن نعرض لهذه العناصر وغيرها مما يشكل قصة جيدة، ويعنينا بدرجة أكبر أن نبين كيف يمكن لرغبتنا في سرد قصة جيدة أن تنال من دقة المعلومات التي نتلقاها عن غيرنا (بالوساطة/بالنقل/بالعنعنة/باليد الثانية). إن كثيرا مما نعرفه في عالم اليوم لا يأتينا من خبرة مباشرة، بل يأتينا مما قرأناه ومما أخبرنا غيرنا. وإن أغلب اعتقاداتنا يتأسس على أدلة لم نجمعها بأنفسنا؛ ومن ثم فإن إلقاء الضوء على الطرائق التي يمكن أن تضلنا بها معلومات العنعنة من شأنه أن يتيح لنا فهما أفضل لمصدر شائع للاعتقادات المغلوطة وغير الدقيقة. (3-1) آليات تكوين قصة جيدة
لكأنه يعمل إزميله في حجر الواقعة، يبرز، ويطمس، حتى يستوي له تمثال ذهنه كيانا ماثلا بالتمام والرونق.
ع. م.
لكي نفهم ما الذي يشكل قصة جيدة فإن علينا أن نتبين حاجات المتحدث وحاجات المستمع، والأهداف التي يحاولان تحقيقها في تفاعلهما. ولما كان التواصل أو المحادثة عملية تبادلية فليس من المستغرب أن يكون كثير من حاجات وغايات المتحدث والمستمع متكاملة. إن المتحدث يريد أن تكون رسالته شيئا يستحق انتباه المستمع، والمستمع - من جانبه - يريد أن يكون الحديث شيئا جديرا بالإصغاء، ولكي يتحقق ذلك فإن ثمة شروطا معينة يتعين الإيفاء بها، أهمها:
أن تكون الرسالة مفهومة لا تتطلب تضلعا معرفيا من جانب المستمع.
ألا تكون - رغم ذلك - مثقلة بتفاصيل كثيرة وكأنها تفترض في المستمع جهلا شديدا. (3-2) الإبراز
Sharpening
والطمس
Leveling
في روايات العنعنة
لكي نفهم عملية تكوين الاعتقادات الخاطئة فمن المهم أن نلاحظ أن الإيفاء حتى بهذين الشرطين الأساسيين للغاية كفيل بإدخال تحريف فيما يجري توصيله، ثمة دراسات جهيرة قام بها علماء النفس بارتلت
27
وأولبورت وبوستمان
28
تثبت أن الناس عندما تعطى رسالة لنقلها إلى شخص آخر فإنهم قلما يوصلون الرسالة حرفيا. إن محدوديات الذاكرة البشرية والحاجة الضمنية بألا يثقل المستمع بتفاصيل كثيرة جدا، من شأنها أن تفرض ضوابط على كمية المعلومات المنقولة ونوعها، ومن ثم فإن ما يراه المتحدث زبدة الرسالة (وفقا لفهمه) فهو يؤكده و«يبرزه»
sharpen ، أما التفصيلات التي يراها غير جوهرية فهو يهون من شأنها أو «يطمسها»
level ، إن تقارير العنعنة كثيرا ما تصبح روايات أبسط و«أنظف» وغير مثقلة بتناقضات صغرى أو تفصيلات ملتبسة.
ولنا في حالة «ألبرت الصغير» مثال جيد: صحيح أن ألبرت أصابه شيء من الخوف من الفأر، وأن خوفه تعمم بعض الشيء إلى كيانات أخرى، غير أن مدى هذا الخوف ومدى تعميمه لا نجد عليهما إلا دليلا غير متسق وغير مفهوم. ولأن هذه التناقضات تعترض القصة الرئيسية حول القلق الشرطي الكلاسيكي فقد جرؤ كثير من الكتاب على إزاحتها جانبا. إن تقرير واطسون الأصلي يذكر أن خوف ألبرت كان بحاجة إلى «إنعاشه» بعد بضعة أيام، وأن الصوت العالي أيضا قد قرن مباشرة بالأرنب والكلب أيضا، ورغم ذلك فإن التقارير اللاحقة لواطسون نفسه - ولغيره من المؤلفين - لم تتطرق لذلك، لقد طمست هذه التفاصيل من الرواية.
من التجليات الشائقة لعمليتي الإبراز والطمس انطباعاتنا عن الأشخاص الذين سمعنا بهم ولم نعرفهم معرفة مباشرة، عندما تتاح لنا مقابلتهم شخصيا. إننا كثيرا ما نصاب بخيبة أمل إذ نجدهم أقل بكثير مما وصفوا به، إيجابا وسلبا؛ ذلك أن الراوي إذ يحكي لنا عن شخص آخر وعن أفعاله فإن وصفه يميل إلى أن يتركز على الشخص لا على السياق الذي حدثت فيه الأفعال، وهو بذلك «يبرز» الشخص وأفعاله بينما «يطمس» السياق المحيط وشتى الظروف المخففة؛ ذلك أننا نميل إلى أن نعزو التصرفات للشخص (إبراز) وليس لمتطلبات السياق وإملاءات الظروف (طمس).
هناك سلسلة من الدراسات الحديثة تقدم تدعيما لهذه الأفكار.
29
في مجموعة من التجارب شاهد مجموعة من المشاركين يمثلون «الجيل الأول» شريط فيديو لشخص «هدف» يصف حدثين من ماضيه، ثم قام هؤلاء المشاركون بتقييم الشخص الهدف على تنويعة من الأبعاد الخاصة بسمات الشخصية، وقدموا شريطا مسجلا لوصفهم لما رأوه (وصف عنعنة/يد ثانية). وبعد ذلك قامت مجموعة أخرى من المشاركين يمثلون «الجيل الثاني» بالاستماع لهذه الأوصاف (أوصاف العنعنة)، ثم قاموا بنفس تقييمات السمات، وكما هو متوقع: كانت تقييمات الجيل الثاني للهدف أكثر تطرفا من تقييمات الجيل الأول، كما أشار تحليل الأوصاف التي قدمها الجيل الأول إلى أنهم حقا هونوا من قدر المحددات الظرفية لأفعال الشخص الهدف، فالحدث الذي أتاه الشخص الهدف وندم عليه - مثلا - كانوا يصفونه كحدث سيئ لا كنتاج محتمل لظروف صعبة، هكذا تم «إبراز» نزعات الشخص الهدف بينما «طمست» ملامح السياق المحيط.
ثمة دليل آخر على التطرف النسبي لانطباع العنعنة قدمته تجربة مختلفة جدا: كان يطلب فيها من أزواج من الأصدقاء تقييم صديق ثالث (هدف)، بحيث إن أحد الصديقين يعرفه جيدا والآخر لم يقابله قط، بل سمع عنه فقط من الصديق الأول، ثم طلب من الصديقين - كل على حدة - تقييم الشخص الهدف على مجموعة من مقاييس سمات الشخصية، وكما هو متوقع: جاء تقييم الشخص الذي سمع (فقط) عن الشخص الهدف، جاء أكثر تطرفا من تقييم الشخص الذي كان يعرفه جيدا.
30
هذه الظاهرة كثيرا ما تحدث في الحياة الواقعية عندما يقابل زملاء الجامعة آباء رفقاء الغرفة أو إخوتهم أو أصدقاء طفولتهم، هنالك يصدم من هيأ نفسه على أنه سيقابل غولا رهيبا أو سيلقى الفتنة المتجسدة أو الظرف أو الذكاء الخارق، ويفاجأ أنه بإزاء شخص أبسط كثيرا مما يحتسب وأقرب إلى سائر البشر. (3-3) تحريفات في خدمة «الإبلاغية» والتسلية
من أجل جودة القصة ينبغي ألا تبهظ المستمع بتفصيلات صغيرة كثيرة؛ لذا فإن كثيرا من التفصيلات الخاصة عن الأشياء التي تعمم إليها خوف ألبرت الصغير قد «طمست» في كثير من التقارير اللاحقة عن النتائج التجريبية، غير أن هناك معايير أخرى يجب استيفاؤها حتى يكون التواصل ذا قيمة، أهم هذه المعايير: جعل التواصل مبلغا (مفيدا) ومسليا، فإذا خرج المستمع من التواصل مستفيدا «معلومات» أو مستمتعا فقد كان التواصل مستحقا لوقته وانتباهه، وقد حقق المتحدث واحدا من أهم المطلوب منه.
ومن الطرائق التي يمكن أن تجعل الرسالة أكثر إمتاعا وإبلاغا أن تزيد مباشريتها، فما حدث لغيري يمكن أن يحكى على أنه حدث لي شخصيا، وما حدث لشخص ما في مكتب عمي يمكن أن يحكى على أنه حدث لعمي نفسه. من شأن هذه التبديلات أن تعلي من حضرة المتحدث وتضعه في مركز الضوء، وقد تكون الغاية منها أكثر براءة: أن تجعل الحكاية أكثر إمتاعا وأقوى بلاغا إذ تجعلها أكثر نصوعا وعيانية.
الحق أن أغلب ما يحكى على أنه من المنبع
first hand
هو منقول «عن» الغير (يد ثانية)، وما يروى على أنه يد ثانية هو يد ثالثة أو رابعة أو خامسة، وبالعودة إلى قصة «ألبرت الصغير» نجد أن عددا من مؤلفي الكتب الدراسية لم يقرءوا تقارير البحث الأصلي، بل قرءوا تقارير عن التقارير، وهذه مشكلة شائعة في العالم الأكاديمي يصعب تفاديها: إننا في الغالب لا نقرأ النصوص الأصلية بل نقرأ نصوصا عن النصوص.
فلتشك - إذن - في الرواية بقدر طول سلسلة العنعنة؛ لزيادة احتمال وقوع تحريف في موضع ما من هذه السلسلة الطويلة، وليس يكفي أن تسمع الرواية من مصدر ثقة عندك؛ فربما يكون قد سمعها من مصدر آخر أقل مصداقية.
وكثيرا ما تتردد حكاية مقبولة عقلا، ينسبها كل راو ل «صديق له» أو «صديق أخيه» أو «زميل في العمل»، وتتعدد المصادر بدرجة تفوق احتمال وقوعها لكل هذا العدد وبنفس الحبكة الواحدة، من أشهر هذا الصنف من الحكايا: حكاية المرأة التي ينصب شاب شباكه ليوقعها، وبعد أن يقضي منها وطره تختفي من عنده تاركة له في الصباح رسالة (على الفراش أو على مرآة الحمام) تقول: «مرحبا بك في عالم الإيدز.»
مثل هذه الحكاية المعقولة من شأنها أن تراود الخواطر الروائية المبدعة وتتوارد فيها، وأقرب إلى الاحتمال في معظم الحالات أنها اخترعت من أجل العظة أو المغزى الأخلاقي الذي تحمله.
والحقيقة أن الرغبة في الإمتاع أو الإبلاغ قد تغري المتحدث بإضافة شيء غير الذي يعلم أنه حدث، فقليل من الكذب من توابل الرواية، وأحيانا ما يكون التتبيل بالحذف لا بالإضافة! ونعني حذف المشروطيات والمقيدات، وبخاصة في الإعلان عن الإنجازات العلمية التي تأتي تقاريرها المسئولة مثقلة بالشروط والتحديدات والاستثناءات ... إلخ. إن حذف هذه الضوابط والمشروطيات يعطي المعلومة وقعا معرفيا أكبر ويجعلها أكثر إمتاعا وأشد حفزا على الفعل، من ذلك أن التقارير الصحفية التي تؤكد أن الغذاء الأقل دهنا يخفض الكلستيرول في الدم دائما ما يغفل أن ذلك مشروط - بصفة عامة - بتناول عقار مثبط للكلستيرول.
31 (3-4) تواطؤ ضمني على الكذب!
لا شك أن الرغبة في التسلية قد تجعل المتحدث يضحي بالدقة، وبشيء من الحقيقة؛ من أجل الإمتاع، وكأن هناك تعاقدا ضمنيا بين المتحدث والمستمع على أن من حق الراوي أن يمط الحقيقة ويتبسط فيها ابتغاء الترويح والإيناس. يتبدى ذلك في أوضح صورة في حكايا الصحف الصغيرة الرخيصة التي تخلط درهما من الحقيقة بقنطار من الكذب. لقد تعاقد الناشر والقارئ عقدا غير مكتوب على أن الروايات لا يلزم بالضرورة أن تكون صادقة مادامت مسلية.
ويعلم كل من عمل في وسائل الإعلام الجماهيرية أن هناك ضغطا هائلا على العاملين لتوفير مادة للتو واللحظة: لتوفيق نهاية الوقت، أو لملء ساعة، أو لخلق فراغ إعلاني ... إلخ، وكثيرا ما تكون الحاجة إلى مادة مناسبة أكبر كثيرا من الوقائع الصادقة المتاحة. إن إلحاح النشر قد يضطر الإعلام إلى التخفف من الموضوعية والرصانة في أحيان كثيرة. (3-5) أنا أكذب «له» لا أكذب «عليه»!
أحيانا ما يعدل المتحدث من المعلومات بعض الشيء (بالمط أو المبالغة أو الكذب الصريح) من أجل إيصال حقيقة أكبر. يفكر المتحدث هكذا (على مستويات متفاوتة من الوعي والدراية): «لا بأس بأن أتناول المعلومة بشيء من التحريف من أجل غاية شريفة، ولا بأس بأن أضحي بحقيقة صغرى من أجل حقيقة كبرى.» من ذلك أن يبالغ المتحدث في سرد الأضرار المدمرة لعقار إدماني ما بأبعد كثيرا من أضراره الحقيقية، ويشتط في ذلك كثيرا من أجل تنفير الناس من تعاطيه، وقد تأخذ المبالغة الطريق العكسي، فيبالغ المتحدث في سرد فوائد طعام (أو عقار) ما مفيد بحد ذاته، ولكنه يشتط في ذلك فيجعل منه شفاء من كل داء على الإطلاق (
panacea ). وكلنا يعلم فكرة «أنا أكذب له لا أكذب عليه» التي كثيرا ما ألحقت الضرر بتراثنا الشفاهي المنقول، ودست فيه الدخيل على الأصيل.
وحين نلتفت إلى حالة «ألبرت الصغير» سنجد كيف يمكن أن تدس تحريفات من أجل ما يمكن أن نسميه «المصلحة النظرية»: فالمؤلفون المهتمون بدعم التفسير السلوكي المحض للتعلم البشري يميلون إلى بث تحريفات تشير إلى أن خوف ألبرت قد تعمم إلى أشياء أخرى تشبه الفأر في نواح عديدة. هكذا ألصق بألبرت أن خوفه امتد إلى أشياء بيضاء كالقفاز الأبيض، وأشياء فرائية مثل معطف الأم، وفيما بعد حين راح دعاة نظرية «الاستعدادية»
preparedness
يحاجون بأن الكائنات لديها استعداد أو تعرض لأن تتعلم ارتباطات معينة دون غيرها، فقد بدأ يقال: إن خوف ألبرت قد تعمم وفق بعدي الفرائية والحيوانية اللذين أملتهما اعتبارات تطورية.
32
ويبدو أن هذا الوصف التنقيحي يحصر ما حدث أثناء تجربة واطسون ورينور على نحو أدق، غير أن هذا الوصف أيضا قد تشكل بواسطة عمليتي الإبراز والطمس؛ فألبرت - وفقا لهذا الوصف - قد أبدى استجابة رهابية تجاه: «الفئران والأرانب وأشياء فرائية أخرى»، وهي استجابة «لم تنطفئ سريعا».
33
وهذا حديث لا يتفق مع حقيقة أن ألبرت لم يختبر إلا بفأر واحد وأرنب واحد، وأن الدليل على أن مخاوفه كانت طويلة الأمد هو دليل مشكوك فيه إلى أقصى حد كما قد رأينا. (3-6) كيف ينبغي تقييم دعاوي العنعنة في وسائل الإعلام؟
انظر في المصدر: تمعن في مصدر الرواية، وانظر إن كان مصدرا خبيرا حقا مضطلعا بالشأن الذي يتحدث عنه، فإذا كان الحديث - مثلا - عن مدى انتشار الإيدز، فالأمثل أن يكون المتحدث متخصصا في الوبائيات
epidemiology ، وليس في العلاج الجنسي أو في الغناء أو التمثيل، واعلم أن وسائل الإعلام بارعة في الإيهام بوجود مصدر خبير حيث لا خبرة، أو حيث الخبرة هي في مجال آخر، أو - في أفضل الأحوال - في مجال قريب ولكن مغاير (مجال العلاج الجنسي مثلا غير مجال وبائيات الأمراض الجنسية).
ثق بالوقائع ولا تثق بالإسقاطات: حتى إذا كنت تصغي إلى متخصص حقيقي، فمن الحصافة أن تثق فيما يرويه من وقائع وأن تتحفظ - بعض الشيء - فيما يتعلق بتنبؤاته بما سيحدث في المستقبل، فكم أخطأ خبراء الأرصاد في تنبؤاتهم بطقس الغد! وكم أخطأ خبراء الاقتصاد في قراءة مآلات الأمور الاقتصادية وفقا للمؤشرات المتاحة، وبصفة عامة: كن حذرا تجاه أولئك الذين يحدثونك عن المستقبل.
34
كن بالمرصاد لأي إبراز أو طمس، حتى فيما ينقل عن الإحصاءات العلمية المتخصصة؛ فقد تعاني هذه الإحصاءات إبرازا وطمسا حين يتناولها من ينقل «عنها»! من ذلك أن يصدر عن مركز وبائيات متخصص تقرير يقول: إن هناك عددا يقع بين 500000 و1500000 من المصابين بالإيدز في الولايات المتحدة، إن العدد الأكبر هنا هو الأكثر إثارة، ومن ثم فإن الصحف - في الأغلب - سوف تسقط من حسابها هذا النطاق الرقمي العريض وتذكر العدد الأكبر فقط، وتكتب أن مركز الوبائيات قد أصدر تقريرا بأن هناك مليونا ونصف مليون حالة إيدز في الولايات المتحدة. وبصفة عامة: علينا توخي الحذر تجاه أي عبارة تقول: «عدد يبلغ كذا» أو «يصل إلى كذا» مبرزة الحد الأقصى لكي يسترعي انتباهنا، وطامسة كل ما عدا ذلك.
احترس من شهادة الآحاد
testimonial
حين تكون ناصعة براقة تجذب الانتباه، وبخاصة في عملية تقدير «انتشار»
prevalence
شيء ما، فمن شأن وسائل الإعلام أن تحاول إحداث انطباع قوي لدينا بخطورة مشكلة ما عن طريق نشر شهادة ناصعة لفرد معين عانى من هذه المشكلة. إن لنا أن نتأثر بعمق بهذه الشهادة ونتعاطف بشدة مع هذا الفرد، ولكن ليس يعني ذلك أن نترك هذا التأثر أو هذا التعاطف يحرف تصورنا ل «مدى انتشار» هذه المشكلة.
35 (4) الاعتقاد في ممارسات صحية «بديلة» غير فعالة
لقد تعلمت في السنوات الحديثة أن أبغض أكثر ما أبغض - بعد مبدأ اللاتعين - لفظة «كلي»
holistic ، ذلك الدال الذي لا معنى له، والذي يعمل على طمس كل التمييزات المفيدة التي جهد الفكر الإنساني في وضعها طيلة ألفي عام.
روجر لمبرت (4-1) عقول راجحة تتبنى اعتقادات غير راجحة
لم يبتل مجال من المجالات باعتقادات مريبة وخاطئة وضارة في أحيان كثيرة مثلما ابتلي مجال الطب والصحة، ففي تاريخ حديث كالقرن التاسع عشر كان بنيامين رش - الطبيب المبجل والموقع على إعلان الاستقلال - يعالج ضحايا الحمى الصفراء - وهو منهم - بالفصد الشديد، وفي يومنا هذا يتقاطر المصابون بالسرطان في أعداد غفيرة إلى عيادات الليتريل
laetrile
36
العبثية في المكسيك، وعلى «الجراحين» الروحيين المحتالين في الفلبين، وعلى المعالجين بالإيمان الاستغلاليين في الولايات المتحدة. ويلتمس مرضى الإيدز اليائسون العون في كل ضروب الطقوس العبثية والجرعات الباهظة الثمن، بما فيها ضرب صدورهم لتنبيه الغدة الصعترية، وتعريض أعضائهم التناسلية لضوء الشمس، وحقن غاز الأوزون شرجيا، وحقن أنفسهم ببيروكسيد الهيدروجين.
37
ليس الأميون وحدهم أو الحمقى هم المعرضون لهذه الاعتقادات، لقد كان فرنسيس بيكون يعتقد أن الثآليل الجلدية يمكن أن تعالج بدعكها بقش الخنزير، وكان جورج واشنطن يعتقد أن شتى الأمراض الجسمية يمكن أن تعالج بتمرير قضيبين معدنيين طولهما ثلاث بوصات فوق المنطقة المصابة، وكان السياسي البريطاني وليم جلادستون يعتقد أننا جميعا يمكن أن نكون في صحة أفضل إذا ما اعتدنا مضغ كل قطعة من الطعام 32 مرة بالضبط، وإلا - فيما يحاج - فلماذا وهبتنا الطبيعة 32 سنا بالضبط؟
38
قد يتراءى لك أن مثل هذه الاعتقادات هي عبث بريء لا خسران منه ولا ضير فيه على كل حال، إلا أن هذا الانطباع السمح غير صائب، فثمة خسران وضير في أغلب الأحيان: ثمة ثمن باهظ يدفع من الجيب ومن الصحة الجسمية، وثمة صدمات نفسية وخسائر في الأرواح. يقدر ما ينفق على الدجل العلاجي في الولايات المتحدة بعشرة مليارات من الدولارات سنويا: منها ثلاثة مليارات على العلاجات الزائفة للسرطان ومليار دولار على علاجات عبثية للإيدز، وإن الدجل ليقتل من البشر أكثر ممن يموتون من جميع جرائم العنف مجتمعة.
39
لماذا يروج هذا الدجل؟ لماذا يعرض الكثيرون أنفسهم لمثل هذه العلاجات الباهظة الثمن، والمؤذية في كثير من الحالات؟ لا بد أن هناك شيئا ما في هذه العلاجات يجعلها تبدو فعالة، أو تبدو ممكنة الفاعلية، حتى وإن لم تكن كذلك، ما هو هذا الشيء؟ ماذا في هذه العلاجات، وفي طبيعة المرض، وفي طريقة تفكير الناس، مما يجعل الكثيرين يعتقدون في الجدوى العلاجية لممارسات صحية من الثابت أنها عديمة الفاعلية؟
قد يقول قائل: إن سبب رواج هذا الدجل هو أن ما يقدمه شديد الإغراء: إنه لا يعرض للمرء وهو في كامل رشده وذروة معنوياته، بل يعرض له وهو منهك يائس لا يلام على التجريب، ولا يعاتب على أي محاولة حتى إن بعد احتمال نجاحها، فلحظات اليأس تهيب بإجراءات مستيئسة، والغريق يتعلق بقشة، يعتقد في القشة! إن الممارسات الطبية البديلة تقدم أملا حيثما وقف الطب التقليدي عاجزا: في حالات التهاب المفاصل مثلا وحالات السرطان والشيخوخة.
كل هذا حسن وجميل، غير أن سؤالنا الحقيقي غير ذلك: لماذا تبدو هذه العلاجات الزائفة فعالة؟! (4-2) بعد ذلك إذن بسبب ذلك
لا يدرك كثير من الناس الكم الهائل من الشفاء الذي يتم لا بواسطة الأطباء ولا العمليات الجراحية، بل بواسطة أجسامنا ذاتها! إن 50٪ من الأمراض يشفى تلقائيا بواسطة عمليات الاندمال الطبيعي للجسم ودون عون من الطب.
40
إن الجسم هو حقا آلة مدهشة ذات قوى غير عادية على تصحيح ذاتها، بحيث يمكننا القول بأن كثيرا ممن يلتمسون العون الطبي سوف يجدون مآلا جيدا حتى إذا لم يفعل الطبيب أي شيء مفيد. من هنا يمكن حتى للعلاج العبثي أن يبدو فعالا، فحيثما كان تدخل علاجي ما متبوعا بتحسن فإن المرء لا يملك إلا أن يعزو التحسن للعلاج، ولا تملك أي قوة استدلالية يحيط بها علم الطب أن تقنعه بأنه ربما لم يكن العلاج هو ما رد إليه صحته.
41
إنه في قبضة الاستدلال المسيطر المغلوط «بعد هذا إذن بسبب هذا»
post hoc ergo propter hoc ، فحين يجرب الشخص علاجا فإنه في الحقيقة لا يملك أن يعرف ماذا كان سيحدث لو أنه جرب علاجا آخر، أو ماذا كان سيحدث لو أنه لم يجرب علاجا على الإطلاق.
ثمة مصدر آخر للانخداع الواثق بالعلاجات الزائفة، هو المسار الدقيق للعلل التي لا تشفى تلقائيا، فحتى عندما يكون الجسم عاجزا عن شفاء نفسه من إصابات معينة فإن العلل لا تفضي - بصفة عامة - إلى تدهور متجانس ثابت الخطى، إنما تتكشف المشكلات في نوبات وفجاءات، مع فترات من التدهور (اشتداد مرضي) المختلط بفترات من التحسن (هدأة أو فترة مرضية). مسارات الأمراض إذن متأرجحة بين الاشتداد والهدأة، وإن هذه الفترات المؤقتة من الانفراج النسبي هي ما يؤدي إلى الإدراك الخاطئ لنجاعة العلاج. ولما كان تناول العلاج يكون في الأرجح في فترات الاشتداد، وفترات الاشتداد في الأرجح متبوعة بفترات من التحسن حتى بغير علاج؛ فإن من لا يدرك ظاهرة التراجع الإحصائي
42
وظاهرة التأرجح في مسار أغلب الأمراض سيكون عرضة بقوة لأن يعزو أي تحسن مؤقت إلى تناول العلاج (بعد هذا إذن بسبب هذا).
الحق أن أي «علاج» يدخل أثناء توهج الأعراض يمكن أن يبدو ناجعا ما دام التوهج يتبعه الهدوء النسبي على كل حال، وحتى عندما يفشل العلاج ويتبعه تدهور أو موت يمكن تأويل الفشل بطريقة لا تمس الإيمان بنجاعة العلاج بحد ذاته! (4-3) تبرير الفشل (انتزاع النجاح من بين أنياب الفشل)
حتى عندما يفشل العلاج فشلا صريحا ولا يكون متبوعا بتحسن، تبقى هناك تبريرات كثيرة لذلك يحفظها الدجالون وتسعفهم في هذه الحالات:
فقد يقال: إن المريض شرع في تناول العلاج متأخرا جدا بعد أن تمكن منه المرض.
وقد يقال: إن إيمان المريض غير خالص، يقول المعالج الروحي ج. روجرز: «إذا لم أقدر على شفائهم فهناك إذن خلل ما في أرواحهم.»
43
وتقول كاترين كولمان: «أنا لا أشفي أحدا ... الروح القدس يشفي من خلالي.»
44
من هنا كان من بين أهم مبادئ حركة العلاج الكلي
holistic
مبدأ يقول: «أن تعرف أي نوع من المرضى لديه المرض أهم بكثير من أن تعرف أي نوع من المرض لدى المريض.» فلعلهم لم يستغرقوا في «التأمل» بما يكفي، أو لم يبلغوا التكامل الصحيح بين العقل والجسم والروح، أو لم يستخلصوا «المعنى» الصحيح من مرضهم. إن العلاج صحيح ولكن المريض غير قادر على تطبيقه كما يجب، أو العلاج صحيح ولكن الممارس العلاجي لا يفهمه ولا يطبقه بكفاءة.
أليس هذا صيغة أخرى من قولنا: «العلاج صحيح ولكن المريض لا يجيد أن يتعالج!» أو «العملية نجحت ولكن المريض مات!» هكذا يلام أي شيء عدا «النظرية» القابعة وراء الدجل.
حتى المريض قد يتهم نفسه حين يفشل العلاج، ويصلى تقريعا ذاتيا كان منه بد: «يبدو أني لم أكن تقيا كما يجب.» «أبلغوا المعالج أن العلاج كان فاعلا وإنما الخطأ خطئي ... إلخ.» ولا نهاية لحيل التأويل التي تفسر فشل العلاج تفسيرا يبرئ العلاج نفسه. وكلما كان معيار النجاح غامضا كان من السهل أن تستبين دلائل عليه، وأن تؤول كل شيء مضاد تأويلا يستبعد الفشل؛ لهذا السبب بالتحديد لا تقدم أغلب الممارسات الصحية البديلة علاجات محددة لاضطرابات محددة، بل تعد بإحداث شيء من «حسن الحال» أو «الأداء الأعلى» أو «التكامل الأفضل» ... إلخ من الفوائد الغامضة. إن الفوائد الغامضة صعبة الدحض؛ لذلك لا يورط الدجالون أنفسهم في تنبؤات محددة قابلة للتحقق منها، ومن هنا لا ينبري المعالجون الروحيون إلا للأمراض الملتبسة غير المرئية حيث التحسن أيضا غامض غير مرئي: علل من قبيل الشقيقة، السرطان، التهاب المفاصل، التهاب الجراب، ضعف السمع ... إلخ؛ من أجل ذلك يشترط علينا المنهج العلمي القويم أن نحدد بشكل دقيق ومسبق ماذا عساه أن يعد - أو لا يعد - نجاحا أو فشلا، وبغير هذا التحديد المسبق فإن أمانينا يمكن أن تضرب على أبصارنا غشاوة، وتوقعاتنا يمكن أن تحملنا على توهم نجاح ما في أي إجراء علاجي كان. (4-4) هالة المقبولية
نحن نعتقد في أشياء معينة لأنها ينبغي أن تكون صحيحة: نعتقد مثلا أن تحليل خط اليد (أو مختلف الاختبارات الإسقاطية) يقدم استبصارات عميقة في شخصية المرء، ذلك أن منطقها الذي تقوم عليه يبدو معقولا؛ فالأشخاص «ينبغي» أن يتركوا آثارا من أنفسهم في استجاباتهم الظاهرة. بالمثل يعتقد معظم الناس أن أكل لحم الثور يسهم في مرض القلب؛ لأن الدهن على جوانب شريحة اللحم (أو في قعر المقلاة) يبدو قمينا جدا أن يسد الشرايين التاجية ، فالشيء الدبق والمتجلط خارج الجسم ينبغي أن يكون دبقا ومتجلطا داخله أيضا، هكذا يمضي التفكير. إن الأشياء التي ينبغي أن تكون صحيحة كثيرا ما تكون صحيحة، ولكن في أحيان كثيرة أيضا يغشي حسنا بما ينبغي أن يكون صحيحا على إبصارنا لواقع الحال، وبخاصة عندما تكون النظريات التي تولد حس المعقولية نظريات سطحية نوعا ما.
هذا الميل إلى الاتكاء بشدة على ما يبدو مقبولا قد أسهم في عدد من الاعتقادات الخاطئة عن الصحة. ثمة نظريات عامة غير رشيدة عن الطبيعة أو عن طريقة عمل الجسم جعلت أفكارا معينة تبدو معقولة، مما أدى بدوره إلى تبني ممارسات خرقاء عديدة، من هذه النظريات العامة نظرية تقول: إن المعلولات يجب أن تشبه عللها: أعراض المرض، إذن يجب أن تشبه سببها أو تومئ إليه على نحو ما، وبالمثل أعراض المرض ينبغي أن تشبه علاجها أو تومئ إليه على نحو ما.
تتكشف هذه الاعتقادات في أوضح صورة في ممارسات طبية بدائية معينة تذهب إلى أن المواد التي تسبب حالة معينة أو تشفيها تميل إلى أن تشارك الحالة نفسها في ملامح خارجية عديدة، من ذلك في الطب الصيني القديم أن الأشخاص الذين يعانون من مشكلات بصرية كانوا يطعمون الخفاش ظنا بأن الخفافيش لديها بصر حاد وأن بعض هذه القدرة سينتقل إلى آكله، ومنه أن بعض القبائل البدائية ترغم المجرمين على أكل الكبد اعتقادا منهم أن الكبد هي محل الرحمة، ومنه أن قدامى الأطباء الغربيين كانوا يصفون لحم الثعلب (المعروف بقوة التحمل) لمرضى الربو، وحتى في أيامنا هذه ثمة عدد من ممارسي الطب البديل يوصون بتناول خلاصة المخ النيئ لمن لديهم مشكلات نفسية.
45
هذا الاعتقاد بأن الشبيه يلائم الشبيه يجد أفضل تعبير وأحكمه في مجال «العلاج المثلي»
homeopathy
الذي أسسه صمويل هانمان في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يزال يجد اليوم أنصارا له كثيرين من ممارسي «الطب الكلي»
holistic medicine . ذهب هانمان إلى أن من الممكن شفاء كل مرض بإعطاء المريض أيما مادة تسبب أعراضا مثيلة في الشخص السليم: الشبيه يلائم الشبيه، ينسجم معه
like goes with like ، وهو يسمي هذا «قانون الأشباه»
law of similia ، وقد أفاض هانمان في تبيان أدلة ممنهجة على ذلك، حيث كان يعطي أفرادا أسوياء أعشابا متنوعة ومعادن ومواد أخرى ويدون أي أعراض تنشأ لديهم، وقد ضمن نتائجه كتبا مرجعية له هي ال
materiel medico
التي ما زال المعالجون المثليون يعتمدون عليها اليوم، ورغم أن ربطه البسيط بين السبب والعلاج يضفي على الطب المثلي جاذبية حدسية معينة فقد أثبتت الدراسات البحثية أن الطب المثلي غير ذي فاعلية.
ثمة مبدأ مؤسس آخر للطب المثلي ربما يكون أكثر كشفا لعبثيته، وهو «قانون اللامتناهيات في الصغر»
law of infinitesimals
الذي يتبع أيضا نوعا بدائيا من المنطق. لقد لاحظ هانمان أنه كلما قلت المادة المعطاة للشخص السوي قلت شدة الأعراض الناتجة، فاستنتج أنه كلما قل تركيز العلاجات المعطاة للمريض زادت قدرتها على تخفيف أعراضه؛ وعليه فإن كتب الطب المثلي تسهب في وصف طريقة خلق تخفيفات قصوى لشتى الأدوية، وتصل التخفيفات الموصى بها في بعض الحالات إلى جزء من المكون الفعال لكل ديسيليون جزء من الماء. إن من المستبعد عند هذه التركيزات أن يحتوي ما يعطى للشخص - حقا - على أي قدر من المكون الفعال المفترض، غير أن المعالجين المثليين يصرون على أن تدخلاتهم العلاجية فعالة، وأنها تكون أكثر فاعلية كلما انخفضت تركيزاتها. مرة أخرى يثبت البحث العلمي غير ذلك.
46
وينسحب هذا المبدأ نفسه (الشبيه يلائم الشبيه) على اعتقادات حدسية للناس في التغذية، فأيما صفة بسيطة توجد في أطعمة معينة سوف تنتقل مباشرة إلى الشخص الذي يأكلها. الشبيه يدعم الشبيه: «أنت هو ما تأكله.» هذا الاعتقاد بالطبع صحيح في بعض الأحيان: فنحن نسمن إذا أكثرنا من أكل الدهون، وجلدنا يكتسب مسحة برتقالية إذا أكثرنا من أكل الكاروتين (مركب موجود في الجزر والطماطم). غير أن هذا الاعتقاد يعاني مبالغات خرافية في كثير من الأحيان: يذكر عالم النفس باول روزن أنه طلب من مجموعتين من طلبة الكلية أن يدلوا بتنظيراتهم حول أعضاء ثقافتين بدائيتين افتراضيتين من حيث الشخصية والصفات الجسدية: ووصف إحدى القبيلتين بأنها تأكل الخنزير البري وتصطاد السلحفاة البحرية من أجل درقتها، ووصف القبيلة الأخرى بأنها تأكل سلحفاة البحر وتصطاد الخنازير البرية من أجل أنيابها، فجاءت استجابات الطلبة تشير إلى أن سمات أعضاء القبيلة - الجسمية والشخصية - تضاهي خصائص الطعام الذي يأكلونه؛ فقد اعتبروا آكلي السلاحف أكثر كرما وأمهر في السباحة، واعتقدوا أن آكلي الخنازير البرية أكثر عدوانية ورجحوا أن لديهم لحى، ذلك أن ما نأكله يحدد - على نحو تفصيلي - ما هو نحن.
47
وبالمثل تقوم «علاجات» غذائية عديدة لالتهاب المفاصل على افتراض أن الخواص الخارجية للطعام ستبقى بعد الهضم، وأن هذه الخواص سيكون لها داخل الجسم نفس التأثير الذي تؤتيه خارجه. يحاج د. دان دال ألكسندر - مؤلف كتاب «التهاب المفاصل والحس المشترك» - بأن بوسعك أن تحارب التهاب المفاصل بأن تقوم بتزييت مفاصلك بمعنى الكلمة، وهو يوصي بأن يتناول مرضى المفاصل كميات جزيلة من الزيت وألا يشربوا ماء أثناء الوجبات التي تحتوي على الزيت؛ (لأنهما لا يمتزجان ومن ثم فإن الماء قد يدمر الخواص التزليقية للزيت). وبنفس المنطق يوصي د. ديفورست جارفيس مؤلف كتاب «الطب الشعبي»
Folk Medicine
بتفتيت رواسب الكلسيوم في المفاصل بنفس الطريقة التي يستخدمها السباكون لإزالة رواسب الكلس بمركب حمضي؛ وهو لذلك يصف الخل (وهو حمض خفيف) لمرضى تصلب المفاصل.
48
هذه العلاجات تتغافل حقيقة أن الجسم يحول معظم المواد التي يتناولها، ومن ثم فإن أية خواص تكون لها خارج الجسم يمكن أن تتغير جذريا أو تختفي تماما داخله، فالخل مثلا يتحول بعد عملية تكسير أيضية من حمض خفيف إلى بقايا قلوية، وفي غياب هذا الفهم فإن الناس يستمرون للأسف في تجريب علاجات عبثية؛ لأنها تبدو ذات معنى حدسي ما.
وقد أسهم التنظير السطحي أيضا في الاعتقاد الشائع بأن علينا دوريا أن «ننظف» دواخل أجسامنا، فمثلما ننظف محرك سيارتنا وجهاز تسجيلنا كل فترة، فإن قناتنا الهضمية يمكن أيضا أن تستفيد من عملية تنظيف منزلي عابرة ، في سبيل ذلك يتناول البعض كميات كبيرة من الماء، ويتلقى البعض حقنا شرجية أو يأكلون الزبادي. ثمة معنى حدسي ما في كثير من هذه التقنيات، غير أن جاذبيتها استعارية أكثر منها منطقية. يقول الناس إنهم «يكسحون» السموم بحقنة شرجية موسمية، ورغم أن استعارة الشطف هذه تبدو مقنعة فإن أجسامنا ليست بالضرورة بهذه البساطة في تشغيلاتها، فمع أن تراكم السموم في الجسم هو شيء يجب اجتنابه بالتأكيد، فقد تطور الجسم لكي يقوم بهذه الوظيفة بكفاءة عالية للغاية، ومن ثم فإن عملية السمكرة التبسيطية من جانبنا يمكن أن تعيق هذه العملية بقدر ما تساعدها.
نخلص من كل ذلك إلى أن علينا أن نتبين ما إذا كانت اعتقاداتنا (عن الصحة أو غيرها) ناجمة أساسا عن حس بمعقولية سطحية. علينا أن نحاذر من مبدأ «الشبيه يلائم الشبيه»، إن هذا المبدأ كان من أسباب مقاومة الناس في البداية للنظرية الجرثومية في المرض. لقد بدا للناس حقا أن من غير المعقول أن معلولا «كبيرا» مثل الموت والعجز يمكن أن يكون ناشئا من علة «صغيرة» كالكائنات الميكروسكوبية. إن العلل كثيرا - بالطبع - ما تماثل معلولاتها، ولكن هناك استثناءات تكفي وأكثر لأن تستدعي بعض الحذر وبعض الارتيابية الصحية. (4-5) الطب «الكلي» في «العصر الجديد»
في العقود الأخيرة صارت أعداد متزايدة من الناس تلتمس بدائل أو مكملات للخدمة الطبية التقليدية، بدائل كثيرا ما يطلق عليها لفظة «الكلي»
holistic
أو «العصر الجديد»
New Age .
الطب الكلي هو توجه إلى الصحة والطب يرفض - أو يقلل من شأن - ما يعتبر تحيزا ماديا أو رديا من جانب الطب «الغربي» التقليدي. يعمل الطب التقليدي على البحث عن السبب العضوي لمرض ما أو اختلال وظيفي، ويحاول أن يخففه بواسطة تدخل فيزيقي ما، مثل المضادات الحيوية أو الجراحة. يلح الطب التقليدي على سبب موضعي محدد للمرض وكيفية إصلاحه. أما دعاة الطب الكلي فهم أميل إلى النظر إلى العوامل النفسية - وحتى الروحية - على أنها سبب الحالة المرضية أو السبيل إلى علاجها، إنما يعنيهم «الشخص الكلي»
the whole person
لا السبب الموضعي للاضطراب، ويرون أن كثيرا من المشكلات تنجم من غياب «التوازن» بين العقل والجسم والروح، فمجلة الطب الكلي مثلا تقرر أن مهمتها التركيز على «الجهود الشخصية لتحقيق التوازن».
حسن، كيف إذن يحقق المرء التوازن الجسمي والنفسي والروحي؟ يتكون الطب الكلي في أبسط صوره من مجموعة من الممارسات الصحية الوقائية لا يختلف عليها اثنان، مثل النظام الغذائي الصحيح والتمرين الرياضي الكافي، وهو يحمل الفرد على أن يتولى مسئولية صحته الخاصة، من حيث تبني أسلوب حياة مصمم لكي يرقى بجودة الحياة، ومن حيث اتخاذ خيارات مستنيرة حول علاج أي مرض. وألصق اتصالا بهدف تحقيق التوازن دعوة كثير من دعاة الطب الكلي إلى ممارسة التأمل
meditation
واليوجا والتغذية الحيوية الراجعة
biofeedback
والخيال الذهني الإيجابي، فبالإضافة إلى ما يزعمون من قدرة هذه الممارسات على جلب الانسجام بين العقل والجسم والروح، فهم يعتقدون أنها أيضا تخفض التوتر؛ ومن ثم تخفض تعرض المرء للأمراض التي تعتبر ذات منشأ نفسي أو اجتماعي أو بيئي، غير أن فاعلية هذه التقنيات في تحقيق أي من هذين الهدفين لم تزل محل خلاف كبير. أما الجوانب الأكثر إثارة للشك في مجال الطب الكلي فهي مجموعة من الممارسات العجيبة، القديمة منها والجديدة في «العصر الجديد»، التي لا يربط بينها إلا رفضها للطب التقليدي ورفض الطب التقليدي لها. من هذه الممارسات: التشخيص النفسي والشفاء النفسي وقراءة الكف وغسل القولون والعلاج بالإيمان وعلم القزحية (تشخيص المرض حيثما يكون في الجسم بواسطة فحص مواضع على قزحية العين). هذه الممارسات إما تستند إلى مبادئ تخالف العلم الراسخ، وإما أثبت البحث التجريبي بطلانها المطلق، وإما الاثنان معا. (4-6) الجانب الوجيه في الطب الكلي
إذا ضربنا صفحا عن هذه الممارسات الأخيرة الزائفة، فإن ثمة بالتأكيد مزايا معينة في الطب الكلي؛ فلسفته التي يقوم عليها، وكثير من ممارساته الخاصة:
أول هذه المزايا توكيد الطب الكلي على أن يأخذ المرء دورا إيجابيا مسئولا في تحديد مسار علاجه، فمهما بلغ اهتمام الطبيب وعطفه فهو لن يفوق اهتمام المريض بنفسه؛ ومن ثم فإن مصلحة المريض تقتضي أن يعلم جيدا عن طبيعة مرضه ويحفز لاتخاذ دور إيجابي في تحديد مسار العلاج. إن الأطباء بشر، وعرضة لارتكاب أخطاء وأخطاء فادحة أحيانا، وينبغي النظر إليهم لا كمعصومين ومجترحي معجزات، بل كمستشارين ذوي علم يساعدون المريض في معركته مع مرض معين.
والمزية الثانية للطب الكلي توكيده على الوقاية، إن الوقاية أقل كلفة وأقل كراهة، ويمكن أن تكون أكثر فاعلية، ربما يندهش الكثيرون حين يعلمون أن التقدم الصحي الذي حدث في القرنين الأخيرين مصحوبا بإطالة معدل الأعمار لا يعزى إلى تقدم العلاج الدوائي والجراحي بقدر ما يعزى إلى الإجراءات الوقائية المتنوعة: الصرف الصحي، تنقية المياه، بسترة اللبن، تحسن الأطعمة ... إلخ. الحق أن زيادة معدل الأعمار يعود بالدرجة الأولى إلى انخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال بفضل هذه الإجراءات الوقائية وبفضل إدخال الفاكسينات التي تقي أيضا من الأمراض المعدية في سن الشباب.
والمزية الثالثة أنه يساعد المريض على التماسك أمام المرض والعجز والألم. إن الطب التقليدي على تقدمه الملحوظ ما زال يقف عاجزا تجاه الكثير من الأمراض الجسمية ولا يقدم إلا شيئا من إبطاء التدهور يتكبد فيه المريض نظاما مرهقا من الأدوية المزعجة والتشوه الجراحي، وعلى الناس أن تمشي بدائها فترة أطول. هنا يتقدم الطب الكلي بخدمة كبيرة؛ إذ يجعل قدرة الناس على مسايرة المرض، من خلال التأمل والاسترخاء العضلي والخيال الإيجابي، أمرا أكثر يسرا وإرضاء. (4-7) الطب الكلي والمناعة النفسية
يؤمن الممارسون الكليون بأن العقل يمكن أن يؤثر على الجسم على نحو لا يمكن تقييمه بدقة في وقتنا الحالي. ثمة أطروحة علمية رصينة تقول بأن مزاج المرء وشخصيته يمكن أن يؤثرا في الأداء الوظيفي لجهاز المناعة، وثمة صيحات شعبية متحمسة تقول بأن الانسجام الروحي والتكامل الأخلاقي لهما تأثيرات مماثلة. والكليون من كلا الطرفين يحاجون بأن الخيال الذهني قد يمنع المرض العضوي أو يوقفه.
هذه الدعاوي تمس منطقة من أكثر مناطق البحث إثارة في العلم كله، وهي حقل علم المناعة السيكولوجي
psychoimmunology ، ويعنى الباحثون في هذه المنطقة برسم خريطة المسارات البيوكيميائية التي تصل الدماغ بالجهاز المناعي، وبالتالي بكيف يمكن أن تؤثر الحالات النفسية بصحة الشخص. والحق أنه رغم تحقيق بعض الكشوف المثيرة في هذا المجال فإنه لم يتقدم بعد بما يسمح بتقديم نقد حاسم لشتى الدعاوي المذكورة آنفا، ومن الحصافة ألا يبالغ المرء في التنبؤات المنتظرة في هذا الحقل، وأن يراهن على الدعاوى الأكثر قصدا وتواضعا.
الحالة النفسية لها تأثير على جهاز المناعة، هذه حقيقة معروفة منذ سنين (التوتر العصبي يمكن أن يؤدي إلى المرض)، ولكن ثمة مبالغات يشيعها المتحمسون في هذا الصدد (دخول امتحان/كتم الغضب/التسلط على الغير/العزلة الاجتماعية ... من شأنها تثبيط المناعة، بينما الاسترخاء/الخيال الذهني/مشاهدة فيلم كوميدي ... من شأنها حفز المناعة)، هذه المبالغات وأمثالها تتركنا مع وجود غير وجودنا الذي نعرفه، وعالم غير عالمنا، عالم لا يمرض فيه - غالبا - إلا التعيس وغير الاجتماعي والمكبوت، عالم يمكن فيه لأفكارنا المحضة تخفيف ضراوة المرض. هذه المبالغات تأخذنا بعيدا عن واقع عالمنا الذي يضرب فيه المرض عشوائيا ويتفاقم بلا رحمة، ويعتل فيه المرء رغم سلامة حالته النفسية وارتفاع معنوياته وحرصه على دوام صحته.
الحقيقة أن من علماء المناعة من يشك في أن تغيرات في الوظيفة المناعية كالتي ذكرناها يمكن أن تعرض الشخص للمرض؛ إذ ليس هناك مقياس صادق فريد للكفاءة المناعية، فالذي هنالك هو جمع من المؤشرات التي ترتبط بطرق معقدة بالقدرة الكلية للشخص على مقاومة المرض، وبالتالي فإن القصور المؤقت في وظائف مناعية معينة قد لا يكون هائل الدلالة؛ لأنه متبوع في الغالب الأعم بتعاف سريع ويمكن أن يعوض عنه بتغيرات في مناطق بديلة من الجهاز المناعي.
49
وهناك باحثون آخرون يحاجون بأنه بينما يمكن للحالات النفسية أن تؤتي بعض التأثير على بداية المرض فإن من المرجح أنها لا قدرة لها على التأثير على المرض العضوي المتقدم.
50
فإلى أن تصلنا نتائج مزيدة في حقل المناعة السيكولوجية ينبغي أن نضع باعتبارنا فكرتين؛ الأولى: أن معظم الدعاوى المتطرفة عن مدى تحكم العقل في الوظيفة المناعية (وهي دعاوى تروق دعاة الطب الكلي الذين ليسوا متخصصين في هذا المجال) هي دعاوى لا أساس لها على الأرجح، والثانية: أن العالم الذي تتضمنه هذه الدعاوي هو عالم غير مرغوب فيه، عالم ينقلب فيه حال المرء العضوي لدى تقدمه لامتحان عسير أو إلقاء كلمة أمام منتقدين أو علمه بوفاة كلبه، أو لدى تعرضه لعسر أو قلق أو غضب ... إلى آخر ذلك من الانفعالات الواردة بكثرة في مسيرة الإنسان والملازمة لعملية الحياة؛ إذ يبدو أن لمصلحة التطور ألا يرتبط جهاز المناعة كل الارتباط بالحالة النفسية وتقلباتها وأن يكون له بعض الاستقلال على أقل تقدير. (4-8) الجانب الآثم من الطب الكلي
يلح الطب الكلي على أن الفرد هو - في حقيقة الأمر - طبيب نفسه، وأن عليه من ثم أن يتبنى أسلوب حياة صحيا وأن يلم بأبعاد مرضه وبتفاصيل الخدمة الصحية المقدمة له. ويؤكد الطب الكلي على أن السواء الذهني والروحي شرط ضروري لتحقيق السواء البدني والكفاءة الجسمية، وأن الأفكار والمشاعر الملائمة من شأنها أن تدعم الصحة.
رغم أن هذا الحديث يبدو جميلا ومقبولا، فإن المبالغة فيه ترتكب إثما غائرا غير مرئي؛ فهي تحمل المرضى - ربما بنية طيبة - على أن يلوموا أنفسهم على مرضهم، وتسوغ أن يلومهم الآخرون. المريض إذن هو الذي جلب على نفسه المرض، والعاجز إذن جلب على نفسه العجز ... لا شيء يحيق بالمرء إلا والمرء هو من استدعاه.
إن الطب الكلي - شاء أم أبى - يبث في المريض اعتقادا بأنه السبب في مرضه، وأن عيوبه النفسية والروحية هي التي انهارت به في هاوية المرض وأوردته المهالك، وهو بذلك يضيف التقريع الذاتي إلى محنة المرض.
وما دامت علاقة الحالات النفسية بالمرض غامضة ما تزال، فليكن خطؤنا في جانب الحذر ولنكف عن اعتبار المرضى مساهمين - نفسيا وروحيا - في إحداث مرضهم. إن حملهم لثقيل بما يكفي، ولا وجه بعد لإضافة الإهانة إلى الأذى. (5) دور العلوم الإنسانية في مواجهة الاعتقادات المريبة
الغرض الحقيقي للمنهج العلمي هو أن يبرهن لك على أن الطبيعة لم تخدعك لتجعلك تظن أنك تعرف شيئا ما أنت في الحقيقة لا تعرفه.
R. Pirsig
كثير من الاستراتيجيات العلاجية والجهود التدريبية مصممة لكي تستأصل مصدر المشكلة القائمة، فإذا كان شخص ما لديه عدوى - على سبيل المثال - فمن الممكن علاج سبب العدوى بإعطائه مضادات حيوية، غير أنه في حالات أخرى يتعذر علينا إزالة مصدر المشكلة، عندئذ يكون علينا تعويض القصور الناجم عن المشكلة: فإذا تعذر علينا إزالة قصر النظر فنحن نعالجه بوصف عدسات مصححة، وإذا تعذر علينا إزالة الرغبة في الأكل لدى المصابين بالبدانة فإننا نصف لهم الحمية والتدريب الرياضي لتحقيق توازن بين مدخل السعرات ومخرجها.
51
ولما كان استئصال «الأنوية» تماما من أطفالنا أمرا متعذرا فنحن في تربيتهم نضاد ذلك بأن نبث فيهم مبادئ تعويضية مثل: «عامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به» أو «كما تدين تدان» أو «ماذا لو أن كل إنسان أباح لنفسه أن يفعل كما فعلت».
حين نلتفت الآن إلى السؤال عما يجب أن نفعله لكي نحسن استدلالات الحياة اليومية ونتخلص من الاعتقادات الواهية والمغلوطة، فمن الواضح بالضرورة أن استراتيجية التعويض هي الحل؛ ذلك أن محو أسباب الاستدلال الخاطئ والاعتقادات المغلوطة أمر متعذر وغاية لا تدرك:
ستظل الناس دائما تفضل الأبيض والأسود على ظلال الرمادي.
وستبقى الناس تضفي بنية وترابطا على الأنماط العشوائية المحضة، فذاك شيء مبيت في تكويننا ومتأصل في آليتنا المعرفية، ولا يرجى له أن يزول تماما على الإطلاق.
وستبقى الناس تتأثر بما حدث أكثر من تأثرها بما لم يحدث، وستبقى مغرمة باستقاء نتائج مما وقع تحت ظروف راهنة دون أن تقارنها بما كان عساه أن يقع تحت ظروف بديلة، فيبدو أن هذه ميول غائرة من الصعب اقتلاعها.
هذه الأسباب التحتية للاعتقادات المغلوطة لن تزول ببساطة، ويتعين - من ثم - كبحها بعادات ذهنية تعويضية تعزز استخداما أصوب للعقل؛ لكي نتجنب الاعتقادات الخاطئة، بعبارة أخرى: فلا بد لنا من اكتساب عادات ذهنية معينة يمكنها أن ترم شتى أوجه القصور في قدراتنا الاستدلالية اليومية.
ما هي العادات الذهنية الضرورية؟ وكيف نكتسبها؟
الحق أن فهم الآليات التي تفضي إلى اعتقادات خاطئة ينطوي على فهم ضمني لسبل منعها، وأي تحليل لنوع معين من الاستدلال المغلوط ينطوي في ذاته على استراتيجية للتحسن: أخذ الحذر تجاه تقارير العنعنة، التحرز من البيانات غير المنظورة
invisible data (كيف كان يمكن أن يكون مآل الأمور لو لم تتناول هذا العلاج ... كيف كان يمكن أن يكون أداء المتقدمين المرفوضين لو أنهم قبلوا ... إلخ).
من العادات الذهنية الهامة التي نحتاج أيضا إلى تنميتها تلك التي تساعدنا في التغلب على جرائر مهارتنا الفائقة في تفسير نطاق عريض من الحصائل في حدود نظرياتنا واعتقاداتنا المسبقة. نحن من البراعة في «التفسير الاحتيالي الغرضي الترقيعي»
ad hoc explanation
بحيث يسعنا أن نرى الحصائل الصادمة وغير المنتظرة على الإطلاق، نراها متسقة مع قناعاتنا الأصلية. فما تنفك اعتقاداتنا تتلقى دعما هائلا من الأدلة الملتبسة، وقلما تجد لها أدلة مضادة حقا تكذبها وتضعف الثقة بها. ولكي نعوض هذا القصور فإن علينا أن ننمي عادة استخدام إحدى الاستراتيجيات العديدة لمبدأ «انظر العكس»: يمكننا أن نتعلم أن نسأل أنفسنا مثلا: «افترض أن العكس تماما هو الذي حدث فهل لي أن أعتبر هذا المآل مؤيدا هو أيضا لاعتقادي؟» أو يمكننا أن نسأل: «ترى كيف لشخص آخر لا يعتقد على طريقتي أن يفسر هذه النتيجة؟» أو بشكل أعم: «أية نظرية بديلة يمكن أن تفسر هذا؟» وبواسطة هذه الأسئلة يتسنى لنا أن نعي أن الصلة بين الدليل والاعتقاد ليست وثيقة كما قد تبدو في البداية. من شأن هذه الاستراتيجيات أن تعصمنا من التسرع في قبول القضايا المشكوك فيها، وأن تشجعنا على أن نستبين (ونحاول أن نحصل على) الأدلة اللازمة لاختبار صواب اعتقاد ما اختبارا حقيقيا.
وقد سبق أن تحدثنا عن كيفية التعامل الحصيف مع معلومات العنعنة والتحريفات المرافقة لها، وقلنا: إن ثمة احتمالا كبيرا بأن تكون المعلومات التي تأتينا من الغير أبعد مما تبدو عليه في البداية، فاليد الثانية
second hand
غالبا ما تكون يدا ثالثة، والثالثة في الغالب أبعد من ذلك وهكذا، وقلنا: إن الأحداث التي تصلنا من مصدر ثقة قد تكون - رغم ذلك - نابعة من شخص ما أقل مصداقية، وعلينا من ثم أن نتذرع بالشك تجاه الأدلة الآتية بالعنعنة. علينا أن نعتاد على أن نسأل أنفسنا: من أين نبعت المعلومة؟ وكم من التحريفات - المقصودة أو غير المقصودة - يحتمل أنها اعتورتها خلال المسار؟
وسبق أن نبهنا إلى الميل البشري لإضفاء نظام على أي مجموعة من المثيرات، وإسباغ معنى على أية ضوضاء لا معنى لها، وإلى أهمية اعتبار فرضية «الصدفة المحضة»، وعدم الاندفاع في الحكم والسلوك. (5-1) أهمية تعليم العلم
كثير من هذه العادات الذهنية الضرورية - وبخاصة تلك العادات الأعم للتعامل مع الأدلة غير الكافية وغير الممثلة - نشأت في الأصل كجزء من المشروع العلمي، من ذلك أن الفكرة القائلة بأن ما يلاحظه المرء تحت مجموعة من الظروف لا يمكن أن يقيم إلا بالإشارة إلى ما كان عساه أن يحدث تحت ظروف مختلفة بعض الشيء؛ هذه الفكرة تتجسد في استخدام العالم ل «المجموعة الضابطة»
control group ، ومن ذلك أن إجراءات التفرقة بين الظواهر العشوائية والظواهر المنظمة قد نشأت - منذ وقت غير بعيد - في علم الإحصاء
statistics .
من المنطقي إذن أن زيادة الإلف بالمشروع العلمي لا بد أن يدعم العادات الذهنية الضرورية للتفكير بوضوح حول «الدليل»
evidence
والسير في الحياة دون اعتقادات هشة. إن الانخراط في عملية العلم ومفاهيمه لا تعلم فحسب هذه العادات الذهنية بشكل مباشر، بل تقدم أيضا خبرة بالمشكلات والظواهر والاستراتيجيات التي يمكن أحيانا أن تجعل المرء يحدس بها أو على الأقل يفهمها فهما أعمق، كما أن الذي يشارك في المشروع العلمي يكون قد تعرض تعرضا عظيم الفائدة للشك واللايقين. ولما كان العلم محاولة لمد حدود ما نعلمه فإن العالم ينغمد على الدوام بحاجز من الجهل؛ فكلما أمعن المرء في تعلم العلم زاد وعيه بما هو غير معلوم، ووعيه بأن كثيرا من علمنا هو ذو طبيعة مبدئية فحسب. من شأن كل ذلك أن يفضي إلى ارتيابية صحية تجاه الدعاوى حول كيف تكون الأشياء أو كيف يجب أن تكون. هذه النظرة الفكرية العامة، وهذه الدراية بمدى صعوبة أن تعرف شيئا على نحو يقيني، هي أثر جانبي هام للانخراط في العمل العلمي .
ومن مخاطر الأمية العلمية وانعدام الفكر النقدي: خلق أجيال لا يؤمن اقتراعها في الأمور المعقدة التي تزداد تعقيدا في عالمنا التكنولوجي الجديد ، مثل هذه الأجيال جديرة بأن تختار للأمة مسارات موبقة أو معطلة على أحسن تقدير. وهذا وحده مدعاة قوية لبث الفكر العلمي والنقدي في أي مجتمع يريد أن ينهض وأن يبقى ناهضا.
ولكن هل جميع العلوم تنمي الفكر النقدي على حد سواء؟
ثمة دراسات حديثة تومئ إلى أن التمرس بالعلوم «الاحتمالية»
probabilistic
قد تكون أفضل من التمرس بالعلوم «الحتمية»
deterministic
في تعليم الناس كيف يقيمون، بكفاءة، تلك الظواهر الاحتمالية غير المنتظمة التي كثيرا ما تصادفنا في الحياة اليومية. والعلوم الاحتمالية هي تلك العلوم - كعلم النفس وعلم الاقتصاد - التي تتعامل بالأساس مع ظواهر غير قابلة للتنبؤ التام، ومع علل (أسباب) ليست ضرورية
necessary
ولا كافية
sufficient . إن وفاة زوج - مثلا - مرتبطة بتدني صحة الثاكل، ولكن ليس كل ثاكل أو ثكلى تعاني من تدني الصحة، كما أن الصحة كثيرا ما تتدهور لأسباب أخرى، هكذا فإن الثكل ليس سببا ضروريا ولا كافيا لاعتلال الصحة، وبالمثل فإن الأشخاص ذوي الحسن يلقون - بصفة عامة - استجابة مواتية لا يلقاها غيرهم، ولكن ليس كل مليح محببا لدى الناس، وليست الملاحة شرطا لكسب احترام الناس أو تعاطفهم.
أما العلوم الحتمية - كالكيمياء وكثير من أفرع الفيزياء - فهي تلك العلوم التي تتعامل في العادة مع ظواهر أكثر انتظاما وذات علل ضرورية وكافية في أغلب الأحيان: لكي نزيد الشد الجاذبي بين شيئين ذوي كتلة معينة فإن من الضروري والكافي أن نقربهما أحدهما من الآخر. إنما في مجال الظواهر غير اليقينية التي تدرسها العلوم الاحتمالية تتجلى أفكار من قبيل النكوص الإحصائي
statistical regression
والعينة المتحيزة
biased sample
والمجموعة الضابطة
control group ... إلخ، ومن شأن التمرس بهذه الأفرع - إذن - أن يطلق العادات الذهنية الضرورية لتقييم الأدلة في الحياة اليومية على نحو قويم.
وقد أجرت مجموعة من السيكولوجيين تجربة لاختبار هذه الفرضية،
52
فقدموا اختبارا في الاستدلال الإحصائي والميثودولوجي لطلاب يتلقون تعليما جامعيا في علم النفس والكيمياء والطب والقانون، وقد صيغت الأسئلة بحيث تقيم مدى رهافة الفكر الإحصائي والمنهجي في السياق العلمي وسياق الحياة اليومية، ودرجة الوعي بمبادئ من قبيل النكوص الإحصائي وأهمية المجموعة الضابطة ... إلخ . وقد أجري الاختبار على طلاب السنة الأولى والسنة الثالثة في كل تخصص؛ للمقارنة بينهما وتبين تأثير الدراسة العلمية في ذلك، كما أعيد تقييم طلاب السنة الأولى بعد عامين من الدراسة لمقارنة أدائهم الأول مع أدائهم بعد عامين من الدراسة في مجالهم العلمي، وقد جاءت النتائج تشير إلى تفوق العلوم الاجتماعية في تعليم الاستدلال الإحصائي والميثودولوجي. لم تكن ثمة فروق في الدرجات على الاختبارات بين التخصصات الأربعة، غير أنه بعد عامين من التعليم في علم النفس زادت الدرجات بنسبة 70٪، بينما لم تؤثر هذه الفترة من التعليم في درجات طلاب الكيمياء والقانون، ولم يحرزوا تحسنا على الإطلاق.
وقد خلص الباحثون إلى أنه: «يبدو أن العلوم الاحتمالية كالسيكولوجيا والطب تعلم الطلاب أن يستخدموا القواعد الإحصائية والميثودولوجية في المشكلات العلمية ومشكلات الحياة اليومية، في حين أن العلوم الحتمية كالكيمياء والمباحث غير العلمية كالقانون لا تؤتي أثرا في طلابها في هذه النواحي (ص438) ... إن رفاهية عدم التعرض للمشكلات المضطربة التي تنطوي على قدر كبير من اللايقين وشبكة معقدة من العلل؛ تعني أن الكيمياء لا تعلم شيئا من القواعد ذات الصلة بالحياة اليومية» (ص441).
يبدو إذن أن علماء الاجتماع لديهم فرصة خاصة لتقديم بعض الحكمة في كيفية تقييم الدليل
evidence
في الحياة اليومية على نحو قويم، وأن ثمة خصائص صورية معينة للعلوم الاجتماعية (مثل عدم الانتظام، عدم اليقين، الغياب النسبي للعلاقات العلية الضرورية والكافية) تجعلها فعالة بشكل خاص في تعليم بعض المبادئ الهامة للاستدلال السليم. إن تعقد الظواهر وصعوبة تفكيك المتغيرات المرتبطة، والندرة النسبية للتجارب الحاسمة تضطر الطلاب إلى أن يسبروا سبرا أعمق ويفكروا تفكيرا أنفذ. إن العلوم الإنسانية بحكم طبيعتها ذاتها تتيح ممارسة تعين على التفكير بوضوح وقوة في ظواهر الحياة اليومية. (5-2) واجب العلماء الاجتماعيين
يعاني علماء الاجتماع من «حسد الفيزياء»، لقد استشعروا منذ البداية بعدم القدرة على مجاراة العلماء الطبيعيين في الإنجازات التراكمية والقوة التفسيرية ودقة التنبؤ. والحق أن هناك الكثير مما ينتزع الإعجاب في التقدم الذي تحرزه العلوم «الصلبة»، ذلك التقدم الذي لن تضاهيه العلوم الاجتماعية أبدا، ورغم ذلك فإن علينا أن نعترف بأن هناك فائدة خاصة من دراسة الظواهر المعقدة المضطربة التي تشكل موضوع العلوم الاجتماعية. إن علماء الاجتماع - بصفة عامة - أكثر إلفا من أصحاب الأفرع الأخرى بالطرائق التي تضللنا بها أدلة الخبرة اليومية بسهولة ويسر، وأكثر وعيا بضرورة الضوابط المنهجية قبل أن يحق للمرء أن يستمد استنتاجات متماسكة من مجموعة من البيانات، وربما يكون هذا هو السبب في أن علماء النفس الذين يعتقدون في الإدراك وراء الحسي
ESP
أقل من زملائهم في العلوم الطبيعية والإنسانيات.
53
وعليه فقد يكون أفضل ما يقدمه علماء الاجتماع لطلابهم ولعامة الناس هو: تطورهم الميثودولوجي، طريقتهم في النظر إلى العالم، العادات الذهنية التي ينمونها، العملية أكثر من المحتوى. إن الكثير مما نعرفه حاليا عما هو حق وما هو باطل سوف يتغير بالتأكيد في السنوات المقبلة. الأمر الأهم إذن ليس اطراح اعتقادات خاطئة معينة (وإن لم يخل ذلك بالتأكيد من بعض الفائدة) بل خلق فهم لكيفية تكويننا للاعتقادات الخاطئة، ولكي ندرك تعقيدات العالم وتعقيدات الخبرة البشرية يتعين علينا أن نفهم كيف يمكن أن تضللنا الأدلة الظاهرية لخبرة الحياة اليومية. وهذا بدوره يتطلب أن نفكر تفكيرا واضحا حول خبرتنا، ونضع افتراضاتنا موضع تساؤل، ونضع على محك النقد كل ما نظن أننا نعرفه.
الفصل الرابع
أنتوني براتكانيس:1 كيف تبيع علما زائفا؟2
كلما قرأت تقارير عن علوم زائفة جديدة في دورية
Skeptic Inquirer
أو شاهدت آخر عرض تليفزيوني لبرنامج
In Search of
لم تسعني سوى استجابة فكرية واحدة: «يا الله، كيف يمكن لأي أحد أن يصدق هذا؟!» لماذا ينفق الناس 3,95 من الدولارات في الدقيقة لكي يتحدثوا هاتفيا مع «روحاني» لم يتنبأ بالمستقبل قط؟!
لماذا يعتقد الناس أن طعاما نباتيا صرفا لم يمسسه طبخ هو شيء طبيعي وبالتالي مغذ؟
لماذا ينفق الناس ملايين الدولارات كل عام على شرائط تحت-شعورية
subliminal tapes
لا تجدي نفعا؟
هناك بالطبع أجوبة مختلفة عن هذه الأسئلة، بوسع سحرة السيرك أن يكرروا الأعمال العلمية الزائفة، ويبينوا لنا من ثم كيف يمكن لخفة اليد وتشتيت الانتباه أن تضلل. وبوسع علماء الاجتماع أن يطلعونا على الظروف الاجتماعية التي تزيد انتشار الاعتقادات العلمية الزائفة، ويمكن للعلماء الطبيعيين أن يصفوا خواص الأشياء ليبينوا لنا أن ما قد يبدو خارقا للطبيعة هو في حقيقة الأمر طبيعي. وقد حدد لنا علماء النفس المعرفيون تحيزات ذهنية شائعة كثيرا ما تحملنا على أن نسيء تأويل الواقع الاجتماعي ونخلص إلى استنتاجات في صالح الظواهر الخارقة للطبيعة. تتناول كل طائفة من هؤلاء سؤال العلم الزائف من زاويتها، وتسهم بكشف جزء من اللغز في سبيل كشف السر وفك الغموض وحل الأحجية.
من جانبي سوف أصف إجابات عالم نفس اجتماعي على سؤال العلم الزائف، وعلم النفس الاجتماعي هو دراسة الأثر الاجتماعي: كيف تؤثر الكائنات الإنسانية ومؤسساتها بعضها في بعض. لقد اضطلع علماء الاجتماع النفسي في العقود السبعة الأخيرة بتطوير نظريات عن التأثير الاجتماعي، وباختبار فاعلية شتى تكتيكات الإقناع، وأطروحتي هي أن كثيرا من تكتيكات الإقناع التي اكتشفها علماء النفس الاجتماعيون تستعمل كل يوم، ربما عن غير وعي تام من جانب مروجي العلم الزائف.
ولكي نرى كيف يمكن استخدام هذه التكتيكات لبيع الهراء، دعنا نتظاهر لحظة بأننا نود أن يكون لدينا علمنا الزائف الخاص، وفيما يلي تسعة تكتيكات دعائية تفضي بالضرورة إلى النجاح: (1) اخلق وهما/سرابا
أول شيء علينا أن نعمله هو أن نخلق وهما؛ هدفا غير متاح يبدو حقيقيا وممكنا، ويبدو كأنه يمكن الحصول عليه بمجرد الجهد الصحيح أو الاعتقاد الصحيح أو المبلغ الصحيح من المال، غير أنه في الحقيقة مستحيل المنال. معظم العلوم الزائفة تقوم على الاعتقاد في هدف بعيد أو شبحي، من أمثلة أوهام العلم الزائف: الاتصال بقريب متوفى في جلسة استحضار الأرواح، أخذ حكمة العالم من درفيل متصل به روحيا
channeled ، تحسين أداء المرء في لعبة البولنج، التغلب على صدمة الاغتصاب بواسطة شريط تحت-شعوري
subliminal .
يمكن لهذه الأشباح أن تستخدم كأدوات دعاية فعالة، فإذا كنت لا أمتلك شبحا مرغوبا فأنا أشعر بالحرمان وبشيء من النقص والدونية، وبوسع العالم الزائف أن ينتهز هذه الفرصة فيزعم أنه يقدم سبيلا لنيل هذا الهدف. وفي اندفاعتنا لتدعيم اعتبار الذات فنحن نعلق الحكم الأصوب ونقبل للتو ما يقدمه العلم الزائف.
والخدعة بالطبع هي أن تحمل الزبون الجديد على الاعتقاد بأن الهدف الشبحي ممكن، والأغلب أن مجرد ذكر مباهج شبح ما سيكون كافيا لإبهار العضو الجديد في العلم الزائف، فمن ذا الذي لا يريد حياة جنسية أفضل وصحة أتم وسلاما نفسيا؛ كل ذلك من شريط تحت-شعوري
subliminal
ب 14,95 دولارا؟ كما أن الخوف من فقدان الهدف الشبحي يمكن أن يحملنا على قبوله كشيء حقيقي. إن فكرة أنني لن أتحدث مرة ثانية أبدا إلى شخص عزيز ولكن متوفى، أو أنني قد أموت الشهر القادم بالسرطان، قد تكون من الإيلام بحيث تجعلني أعلق الحكم الأصوب وأتشبث بالأمل في أن بوسع الوسيط أن يتصل بالموتى، أو بأن الليتريل يعمل (يعالج السرطان)، غير أنه في بعض الأحيان يكون البيع متعسرا، وهذا يستدعي مجموعتنا الآتية من تكتيكات الإقناع. (2) انصب فخ تبرير
يستند فخ التبرير
rationalization trap
إلى المقدمة: اجعل الشخص ملتزما بالقضية بأسرع ما يمكن، وما إن يقع الالتزام حتى تتغير طبيعة التفكير؛ فالقلب الملتزم ليس مشغوفا بالتقييم الدقيق لمزايا مسار ما من الفعل بل بإثبات أنه على حق.
ولكي نرى كيف يتأسس الالتزام بعلم زائف فلننظر إلى حالة عجيبة: انتحار جماعي بتوجيه من قائد الطائفة جيم جونس. هذا هو السؤال الجوهري في الدجلنة: «لماذا تقتل نفسك وتقتل أولادك بأمر من غيرك؟» من خارج الجماعة يبدو الأمر غريبا، ولكن من داخلها يبدو طبيعيا، لقد كان جونس في البداية يحث أتباعه على عمل التزامات سهلة (عطية للكنيسة، حضور خدمة الأربعاء الليلية ...) ثم رفع مستوى الالتزام: أعشار أكثر، وقت أكثر في الخدمة، قسم ولاء، اعتراف علني بالذنوب، عقاب علني، الترحال إلى جويانا، ثم الانتحار. كانت كل خطوة حقا صغيرة. الناس خارج الجماعة رأت النتاج النهائي العجيب، أما الأعضاء بالداخل فقد خبروا لولبا متزايدا دوما من الالتزام المتصاعد.
هذا مثال درامي، ولكن ليس كل اعتقاد في العلم الزائف هو بهذا التطرف، فهناك - مثلا - أولئك الذين يستشيرون روحانيا أو يستمعون إلى شريط تحت-شعوري
subliminal ، في هذه الحالات يمكن ضمان الالتزام بواسطة ما يسميه السيكولوجيون تكنيك
the-foot-in-the-door (هات رجله)، ويعمل بهذه الطريقة: ابدأ بطلب صغير مثل قبول فحص مجاني كيروبراكتي للعمود الفقري، أو أخذ عينة من الفيتامينات، أو إكمال استبيان شخصية مجاني، ثم يتبع ذلك طلب أكبر: إعادة انضمام كيروبراكتيك بألف دولار أو نظام فيتامينات أو سلسلة حلقات دراسية مكلفة. إن الطلب الصغير الأول يمهد الالتزام: لماذا أخذت هذا الفحص العظمي أو تلك الفيتامينات أو أكملت هذا الاختبار ما دمت غير شغوف ولا تظن أن ثمة أي جدوى قد تأتي منها؟ والجواب الأعم الأغلب: «حسن، أوه، أظن أني شغوف.» هكذا ينغلق فخ التبرير.
والآن وقد ضمنا التزام المستهدف بالهدف السرابي فإننا بحاجة إلى بعض الدعم الاجتماعي للاعتقادات العلمية الزائفة المستجدة، والتكتيكات التالية مصممة لدعم هذه الاعتقادات. (3) تصنيع مصداقية المصدر ونزاهته
تكتيكنا الثالث هو أن نصنع مصداقية المصدر ونزاهته، وبعبارة أخرى: اخلق جورو
guro
3
أو قائدا أو صوفيا أو لوردا أو أي سلطة أخرى محبوبة وقوية، شخصا من الحماقة ألا يصدقه الناس. من ذلك أن ممارسي الطب البديل كثيرا ما يمتلكون «درجات علمية» في الكيروبراكتيك أو في الهميوباثي، ويدعي بائعو الشرائط تحت- الشعورية معرفة وتدريبا متخصصين في فنون من مثل التنويم المغناطيسي، وكثيرا ما يصبح أنصار الأطباق الطائرة مديرين ل «مراكز بحث»! ويدعي المتنبؤون نجاحات سابقة، فمعظمنا مثلا «يعرف» أن جين ديكسون تنبأت باغتيال الرئيس كندي، ولكن ربما لا يعرف أنها تنبأت أيضا بفوز نيكسون بالرئاسة في 1960م، وكما بين لنا مبحث العلاقات العامة الحديث فإن صناعة المصداقية أسهل مما نظن ونحتسب.
ومصداقية المصدر أداة دعائية فعالة، وذلك لسببين على الأقل:
الأول:
أننا كثيرا ما نعالج الرسائل الإقناعية في شبه غياب ذهني: إما لأننا ليس لدينا دافع للتفكير، أو ليس لدينا وقت، أو ليس لدينا القدرات اللازمة لفهم المسائل. في مثل هذه الحالات فإن وجود مصدر مصدق يمكن أن يحمل المرء على الاستدلال السريع بأن الرسالة جديرة بالتصديق ويجب تقبلها.
والثاني :
أن مصداقية المصدر يمكن أن تسكت الشكوك، فمن ذا الذي يعطيك الحق - بعد كل شيء - بأن تشك في جورو أو متنبئ أو في صورة الأم مريم أو في باحث مخلص في القدرات الخفية للحياة؟ وسأوضح هذه النقطة بمثال: افترض أنني قلت لك: إن العبارة التالية هي تنبؤ بظهور القنبلة الذرية والطائرة المقاتلة:
وسوف يظنون أنهم قد شاهدوا الشمس بالليل،
عندما سيرون الخنزير نصف-الإنسان.
ضوضاء، أغنية، معركة دائرة ترى في السماء،
وسيسمع المرء البهائم العجماء تتكلم.
ربما يكون جوابك: «ما هذا؟ أنا لا أرى كيف تستنبط القنبلة الذرية من هذا؟ فهذا يمكن أيضا أن يكون تنبؤا بعرض فرار لفيلم دكتور دوليتل، أو بمجيء البسبول الليلي في حقل رينجلي.» ولكن انسب العبارة إلى نوستراداموس ولسوف تتغير الديناميات. كان نوستراداموس رجلا يقولون: إنه عالج ضحايا الطاعون، وتنبأ بمن سيكون البابا، وتنبأ بمستقبل الملوك والملكات، بل عثر على كلب مسكين ضاع من خادم الملك، مثل هذا الرائي والمتنبئ العظيم لا يمكن أن يكون على خطأ. والرسالة المتضمنة: المشكلة فيك أنت؛ فبدلا من التشكك لماذا لا تعلق ذهنك الخطي
linear
الخاطئ حتى يأتيك الاستبصار المطلوب؟
أي أسس رابطة من الناس فخورة بنفسها ولا معنى لها، ومن أروع اكتشافات علم النفس الاجتماعي تلك السهولة التي يمكن أن تخلق بها الجرنفالونات. مثال ذلك أن عالم النفس الاجتماعي هنري تاجفل
Henri Tajfel
لم يفعل أكثر من أن أتى بمشاركين إلى مختبره وقسمهم بالقرعة العشواء (برمي قطعة عملة) إلى
Xs
و
Ws ، وفي نهاية الدراسة كان الأشخاص الغرباء (بعضهم عن بعض) تماما يتصرفون كما لو أن أولئك الذين في رابطتهم هم عشيرتهم الأقربون وأولئك الذين في الجماعة الأخرى هم أعداؤهم الألداء!
والجرنفالونات من الأدوات الدعائية القوية؛ لأنها سهلة التكوين، وما إن تتأسس حتى تخلق واقعا اجتماعيا وتشكل كيانات اجتماعية، وسرعان ما تخلق جماعات خارجية «شريرة» توجه إليها الانتقادات وتقمع وتدان. هكذا يكون العضو الجديد في العلم الزائف أو «العصر الجديد» قد انسلك في جرنفالون، ولكي يحتفظ بكيان اجتماعي مرغوب فيه فإن عليه أن يطيع إملاءات الجماعة وقائدها، والمعلومة الآن تعتمد على الجماعة: (ففي جلسة تحضير الأرواح مثلا - وهي بمثابة جرنفالون مرتجل - يصبح المرء معتمدا على الجماعة - التي يقودها وسيط - في تأويل أي منبه: فإذا سمع خبطة مفاجئة في ظلام الجلسة، والتي يمكن أن تكون خبطة ركبة بالطاولة، وتعتقد الجماعة أنها لفلان الميت الذي تستحضر روحه، فإن عليه أن يعتقد ما تراه الجماعة، وليس من اللائق للوافد الجديد أن يهز القارب.)
ومن الجوهري لنجاح تكتيك الجرنفالون خلق كيان اجتماعي مشترك، وقد يتطلب خلق هذا الكيان بعض الأشياء:
طقوس ورموز: مثل عصا مستنبئ الآبار، رموز سرية، طرائق خاصة في إعداد الطعام ...إلخ، مثل هذه الأشياء لا تخلق كيانا فحسب بل تقدم بنودا للبيع والربح.
رطانة واعتقادات لا يفهمها ويقبلها إلا أعضاء الجماعة: مثل «الإنجرام يمنع الثيتان»، «أنت على قرن مع صعود المشتري»، هذه الرطانة وسيلة فعالة للتحكم الاجتماعي إذ يمكن استخدامها لإضفاء إطار لتأويل الأحداث.
أهداف مشتركة: (مثل: إنهاء كل الحروب، بيع الإيمان ومتعلقاته من المنتجات، تحقيق إمكانات المرء الإنسانية)، مثل هذه الأهداف تعرف الجماعة، وتدفع الفعل أيضا إذ يصبو المؤمنون للوصول إليها.
مشاعر مشتركة: (مثل الإثارة التي تحدثها نبوءة قد يبدو أنها حق، أو التبرير الجمعي لاعتقادات غريبة وتسويغها للآخرين)، تساعد المشاعر المشتركة في خلق الإحساس ب «النحن».
المعلومات المتخصصة: (مثل: أن حكومة الولايات المتحدة تتآمر لإخفاء ظاهرة الأطباق الطائرة)، وهي تساعد المرء على الإحساس بالتميز، وبأنه عليم ببواطن الأمور.
الأعداء: (مثل: الطب البديل يعادي الجمعية الطبية الأمريكية
AMA
وإدارة الأغذية والعقاقير
FDA ، وشركات الشرائط تحت الشعورية تزدري علماء السيكولوجيا الأكاديميين، والروحانيون يشجبون راندي والمحققين الآخرين.) إن الأعداء على أعلى درجة من الأهمية؛ لأنك كعالم زائف سوف تحتاج إلى كباش فداء تحملها مشكلاتك وإخفاقاتك.
من ذلك أن
Kurt Lewin
أثناء الحرب العالمية الثانية استطاع أن يجعل الأمريكيين يأكلون الأعضاء الحشوية للحيوان، وذلك بأن جعلهم يشكلون جماعات لشرح كيف يمكن أن تقنع الآخرين بأكل الأعضاء الحشوية.
وقد اكتشف باعة التجزئة لما يسمى «المنتجات الغذائية» هذه الطريقة، أي تحويل المستهلكين إلى باعة، فهم يجندون المستهلك لبيع المنتج، وذلك كاختبار لإيمانه بالمنتج من جهة، ولكسب كثير من المال من جهة أخرى، وحين يحاول هذا البائع الجديد أن يبيع المنتج فإنه يصبح أكثر اقتناعا بقيمته، يقول القائد للباعة الجدد: «أجب على جميع الاعتراضات بشهادات فردية (شهادات آحاد)
testimonials ، هذا هو سر إغراء الناس بالشراء.» وهو أيضا سر إقناع نفسك. (6) شيد إغراءات زاهية
يؤثر عن جوزيف ستالين أنه قال:
موت روسي واحد مأساة ...
موت مليون روسي واقعة إحصائية.
وبعبارة أخرى: فإن المثال الواحد أو الحالة الواحدة التي تعرض على نحو ناصع يمكن أن تخلق انطباعا باقيا.
4
مثال ذلك أن العلوم الزائفة تعج بحكايات نابضة بالحياة عن سفن وطائرات وقعت في شرك مثلث برمودا، وعن كائنات فضائية تفحصت الأجزاء الجنسية لبعض الناس، وجراحين روحيين يزيلون أوراما سرطانية.
إن واقعة ناصعة واحدة كفيلة بأن تتسلط على الذاكرة، بحيث يصعب نسيانها ويصعب رفضها، ومهما حشدت من حجج منطقية تدحض الدعوى العلمية الزائفة فإن بوسع واقعة لافتة واحدة أن تقفز إلى الذهن وتجبهك بالرد الفوري: «نعم، ولكن ماذا عن ذلك المنزل المسكون في نيويورك؟»
وبالمناسبة، فإن من أنجع الطرق لدحض هذا النصوع المضلل أن تذكر مثالا مضادا ناصعا بنفس الدرجة: فلكي يدحض راندي قصص الجراحين الروحيين بالفلبين، فإنه يروي حكاية مثيرة على حد سواء لجراح روحي كان يخفي براحة اليد أحشاء دجاجة ثم يتظاهر بأنه يزيلها من مريض ابتلاه المرض (والفقر أيضا، بعد دفع الأجر الباهظ للعملية). (7) استخدم الإقناع المسبق
pre-persuation
هو تحديد الموقف أو تجهيز المسرح بحيث تفوز، وأحيانا دون طرح حجة صائبة تذكر، كيف يكون ذلك؟ ثمة ثلاث خطوات مهمة على الأقل:
أولا:
تأسيس طبيعة الموضوع: فدعاة الطب البديل - مثلا - لكي يتجنبوا غضب إدارة الأغذية والعقاقير
FDA
يحددون المسألة على أنها «حرية صحية» (يجب أن يكون لك الحق في البديل الصحي الذي تختاره ) كمفهوم مضاد لمفهوم «حماية المستهلك» أو جودة الخدمة، فإذا ما عرف داعية الطب البديل المسألة على أنها حرية فسوف يفوز، «فمن ذا الذي يعارض الحرية ؟» ومثال آخر لهذه التقنية هو أن تخلق مشكلة أو مرضا، مثل انخفاض السكر التفاعلي أو حساسية الخميرة، والذي تصادف عندئذ أنه «قابل للشفاء» بواسطة أيما دجل عليك أن تبيعه.
ثمة طريقة أخرى لتحديد الموضوع، وذلك من خلال التمييز أو التفرقة، فشركات الأشرطة تحت الشعورية تستخدم تمييز المنتج لكي ترد على أي دراسات سلبية حول الأشرطة تحت الشعورية: «إن لشرائطنا تقنية خاصة تجعلها فائقة على الشرائط الأخرى التي قد استخدمت في الدراسات والتي فشلت في إثبات القيمة العلاجية للشرائط تحت الشعورية.» وهكذا تستخدم النتائج الصفرية لكي تجعل شريطا تحت شعوري معينا يبدو فائقا، وقد اتخذت الشبكة الروحانية مقاربة مماثلة: «والله لقد سئمنا من أولئك الروحانيين الزائفين، إن روحانيينا معتمدون.» هكذا يقول الإعلان.
ثانيا:
ضع توقعات، إن التوقعات يمكن أن تجعلنا نؤول المعلومات الملتبسة بطريقة تدعم فرضية أصلية، مثال ذلك أن الاعتقاد في مثلث برمودا قد يحملنا على أن نؤول تحطم طائرة على ساحل نيويورك سيتي كدليل على التأثيرات المشئومة للمثلث. وقد أجرينا حديثا دراسة بينت كيف يمكن لتوقع ما أن يجعل الناس تظن أن الشرائط تحت الشعورية تعمل بينما هي في الحقيقة لا تعمل: لقد أسسنا التوقعات في دراستنا بأن أسأنا عنونة نصف الشرائط، وكانت النتيجة أن حوالي نصف المشاركين اعتقدوا أنهم تحسنوا (رغم أنهم لم يتحسنوا) بناء على كيف عنون الشريط (وليس على محتواه الفعلي)، لقد أدى بهم العنوان إلى أن يؤولوا سلوكهم بما يدعم التوقعات، أو إلى ما أسميناه الأثر «البلاسيبي الوهمي».
والطريقة الثالثة للإقناع المسبق:
هي أن تحدد معايير القرار، مثال ذلك أن مناصري الروحانيات وضعوا تعليمات بما يجب أن يعد دليلا مقبولا على القدرات الخارقة، مثل استخدام الخبرات الشخصية كمعطيات (بيانات)، وإلقاء عبء البرهان على الناقد وليس على المدعي، وفوق كل شيء أن يبقى جيمس راندي وأمثاله خارج غرفة الاختبار. اقبل هذه المعايير ولسوف تخلص إلى أن الروحانيات حقيقة. (8) أكثر من استخدام المختصرات الذهنية والأفكار الشائعة
توصيتي التالية للراغب في أن يكون عالما زائفا هي أن يستخدم «المختصرات الذهنية»
heuristics
5
والأفكار الشائعة
commonplaces ، والمختصرات الذهنية هي قواعد أو معايير (إذا-إذن) بسيطة ومقبولة على نطاق عريض، مثال ذلك: إذا كان أغلى ثمنا إذن هو أكثر قيمة. والأفكار الشائعة هي اعتقادات مقبولة على نطاق واسع ويمكن أن تعمل كأساس لدعوة ما، مثال ذلك أن الإصلاح الصحي الحكومي يجب أن يرفض؛ لأن الساسة فاسدون (افتراض الفساد السياسي هو اعتقاد مقبول على نطاق واسع). للمختصرات والرائجات سطوتها؛ لأنها مقبولة من الجميع، ومن ثم لا تثير التفكير فيما إذا كانت القاعدة أو الحجة ملائمة.
لكي تبيع علما زائفا انثر على دعوتك الجزيل من المختصرات والروائج، وهاك بعض الأمثلة الشائعة: (أ)
مختصرة الندرة
scarcity heuristic
أو إذا كان نادرا إذن فهو قيم. تكلفك شبكة الأصدقاء الروحانيين 3,95 دولارات في الدقيقة فلا بد إذن أن تكون قيمة، في حين أن أستاذ جامعة كاليفورنيا معدله 27 سنتا في الدقيقة، فهو بذلك أقل قيمة. (ب)
مختصرة الإجماع أو «الزفة»
consensus or bandwagon heuristic
أو: إذا كان كل شخص موافقا على ذلك إذن فهو حق. تعرض الشرائط تحت الشعورية والإعلانات التليفونية الروحانية والطب الدجلي شهادات شخصية
testimonials
لأشخاص قد وجدوا ما كانوا يبحثون عنه. (ج)
مختصرة طول الرسالة، أو: إذا كانت الرسالة طويلة فهي إذن قوية، كثيرا ما تدرج كراسات الشرائط تحت الشعورية قوائم بمئات الأبحاث تحت الشعورية دعما لدعاويها، إلا أن أغلب هذه الدراسات لا تتناول فعالية الشرائط تحت الشعورية، وهي من ثم غير ذات صلة، والملاحظ غير المحنك سيكون جديرا بأن ينبهر بثقل الأدلة. (د)
مختصرة التمثيل
representative heuristic ، أو: إذا كان شيء ما يشبه شيئا آخر (في جانب بارز ما) فهما إذن متماثلان في الفعل، مثال ذلك أنه في ضروب الطب الشعبي كثيرا ما يكون العلاج مشابها للسبب الظاهر للمرض؛ فالهميوباثي مثلا قائم على فكرة أن كميات صغيرة من المواد التي يمكن أن تسبب أعراض مرض ما سوف تشفي هذا المرض ، ويزعم مذهب التوقيعات الصيني
Chinese Doctrine of Signatures
أن التشابه في الشكل والهيئة يحدد القيمة العلاجية؛ لذا فإن قرون الخرتيت وقرون الوعل وجذور الجنسنج تبدو قضيبية ويفترض أنها تحسن الحيوية. (ه)
مختصرة الطبيعي
the natural heuristic ، أو: ما هو طبيعي فهو حسن، وما هو من صنع البشر فهو سيئ، إن ما يدعم الطب البديل هو لفظة «طبيعي»
natural ، والقدرات الروحية تصور على أنها قدرات طبيعية ولكن فقدت، الطعام العضوي طبيعي، إن نبات الهدار (الطفيلي)
mistletoe
طبيعي أيضا ولكني لا أوصي بأن يعتاد أحد أكل هذا الصنف. (و)
رائجة الألوهة بداخلنا
the goddess-within commonplace
أو: البشر لديهم جانب روحي يهمله العلم المادي الحديث. هذه الفكرة الشائعة تنجم من الفكرة القروسطية عن الروح، التي قام بتحديثها مزمر
Mesmer
كمغناطيسية حيوية، ثم تحولت على يد التحليل النفسي إلى فكرة اللاشعور الخفي المتسلط. يلعب العلم الزائف على هذا الوتر فيقدم وسائل لطرق اللاشعور، مثل الشرائط تحت الشعورية، أو لإثبات وجود هذه القوة الخفية من خلال «الحاسة السادسة» والظواهر الباراسيكولوجية، أو لمخاطبة بقايا هذه الروحية الخفية من خلال الاتصال بالموتى عبر الوسيط وتحضير الأرواح. (ز)
رائجة «العلم»: للعلوم الزائفة فكرتان شائعتان متضادتان عن العلم تستخدم كلا منهما حسب السياق ومقتضى الحاجة: فالعلماء الزائفون تارة يقولون «العلم شيء جيد ونحن علميون»، وطورا يقولون إذا أعيتهم الحيل: «العلم محدود والعلماء لا يعرفون كل شيء»! (9) هاجم الخصوم (التعريض الشخصي واغتيال الشخصية)
وأخيرا أنت تود أن تحصن علمك الزائف من الأذى والهجوم الخارجي، ولما كان الهجوم خير وسيلة للدفاع فأنا أقدم لك نصيحة شيشرون: «إذا لم تكن لديك حجة جيدة فهاجم المدعي.»
لماذا يعد التعريض الشخصي أداة دعائية قوية؟ يدلنا علماء النفس الاجتماعيون على ثلاث فئات من الأجوبة عن هذا السؤال:
أولا:
التعريض الشخصي يغير أجندة المناقشة، ففي اصطدامي مع دعاة الشرائط تحت الشعورية لم يعد النقاش حول ما إذا كانت هذه الشرائط تستحق نقودك أم لا، وإنما تحول النقاش إلى ما إذا كنت أنا على خلق أم لا، وهل أنا باحث كفء، بل هل أنا أجريت بحثا حقا.
ثانيا:
حين تغمز قناة شخص ما فإن هذا الغمز يثير الشك في المغموز؛ فإذا كان المستمع لا يعرف شيئا عن هذا المغموز فسوف يتضخم الشك فيه ويترك أثرا عظيما.
ثالثا:
يمكن أن يكون للغمز تأثير مفتر لهمة المغموز. يبرد حرارة نقده أو يصرفه عن المعركة كليا؛ ذلك أن المغموز سوف يفكر: «هل أضحي بسمعتي ومكانتي وأنغمس أكثر من ذلك في هذه المعركة القذرة؟ هل هذه المعركة تستحق الخوض؟!» وإن الدعوى القضائية العابثة لطريقة فعالة جدا لتضخيم هذا التأثير المفتر.
الفصل الخامس
روري كوكر:1 التمييز بين العلم والعلم الزائف
تعني كلمة
pseudo
الزيف/الكذب، وأوثق طريقة لضبط زيف ما هو أن تعرف - جهد ما تستطيع - عن الشيء الحقيقي الأصيل، أي - في مقامنا هذا - عن العلم نفسه. إن معرفة العلم ليست مجرد معرفة الحقائق العلمية (مثل المسافة بين الأرض والشمس، عمر الأرض، التمييز بين الثدييات والزواحف ... إلخ.) بل فهم طبيعة العلم: محكات الدليل
evidence ، تصميم التجارب ذات المعنى، مقارنة الاحتمالات، اختبار الفرضيات، تأسيس النظريات، الجوانب العديدة للمناهج العلمية التي تجعل بالإمكان استخلاص استنتاجات عن العالم الفيزيائي يعول عليها.
ولأن وسائل الإعلام تمطرنا بالغثاء، فمن المفيد أن ننظر في أمارات العلم الزائف. إن مجرد وجود واحدة من هذه الأمارات يجب أن يثير شكا كبيرا، ومن جهة أخرى فإن المادة التي تخلو من هذه العيوب قد تظل مع ذلك علما زائفا؛ إذ إن أنصار العلم الزائف يخترعون طرائق جديدة كل يوم ليخدعوا أنفسهم. (1) العلم الزائف يبدي عدم اكتراث بالحقائق
العلم الزائف لا يرهق نفسه باستشارة الأعمال المرجعية، أو بالبحث العلمي مباشرة؛ فأنصار العلم الزائف يتبجحون ببساطة ب «حقائق» زائفة حيثما اقتضت الحاجة، وكثيرا ما تشكل هذه الأوهام محور حجة العالم الزائف واستنتاجاته، وفضلا عن ذلك فإن العلماء الزائفين قلما يراجعون أعمالهم؛ فالطبعة الأولى للكتاب العلمي الزائف هي دائما الطبعة الأخيرة، حتى لو أعيدت طباعته لعقود من الزمن أو حتى قرون، وحتى الكتب التي تحتوي على أخطاء أو زلات طباعية واضحة في كل صفحة قد تعاد طباعتها كما هي مرارا وتكرارا. قارن هذا بالكتب العلمية الدراسية التي تخرج طبعة جديدة كل بضعة أعوام بسبب التراكم السريع للوقائع والاستبصارات الجديدة. (2) «البحث» العلمي الزائف غير متقن دائما وأبدا
يجمع العلماء الزائفون قصاصات صحفية وأراجيف شائعة، ويحيلون إلى كتب دجلية أخرى، ويتمعنون في أعمال ميثولوجية قديمة، وقلما يقومون هم ببحث مستقل لتمحيص مصادرهم. (3) انحياز التأييد
يبدأ العلماء الزائفون من فرضية معينة (جذابة عاطفيا دائما وغير معقولة على الإطلاق) ثم يفتشون عن أي شيء يبدو أنه يؤيدها، ويتغافلون الأدلة المناقضة لها؛ ذلك أن هدف العلم الزائف هو تبرير الاعتقادات الراسخة وليس تقصي الاحتمالات البديلة، ودأبه أن يقفز إلى النتائج المريحة، ويهيب بالأفكار المسبقة والأغاليط الشائعة. (4) عدم الاكتراث بمعايير الدليل الصحيح
لا يبالي العلم الزائف بمعايير الدليل الصحيح، ولا يعتمد على التجارب العلمية المنضبطة القابلة للتكرار، بل على شهادات آحاد غير قابلة للتحقق، وحكايا وأقاويل وإشاعات ونوادر فردية مشكوك فيها.
بالنسبة للعلم الزائف فهذا يعني أن اللبخة تشفي الصداع، أما بالنسبة للعلم فهذا لا يعني شيئا حيث إنه لم تجر أي تجربة. ثمة أشياء كثيرة كانت تجري عندما ذهب الصداع عن رأس سالم: كان القمر بدرا، كانت النافذة مفتوحة، كان سالم يرتدي قميصه الأزرق ... إلخ، وكان صداعه سيذهب في النهاية في كل الأحوال وأيا كانت الأحوال. إن التجربة المنضبطة ستضع عددا كبيرا من الأشخاص الذين يعانون من الصداع في ظروف متطابقة في كل شيء عدا وجود (أو عدم وجود) العلاج الذي تريد أن تختبره، ثم تقارن النتائج التي سيكون لها عندئذ احتمال بأن تعني شيئا. يظن كثير من الناس أن علم التنجيم لا بد أن يكون على شيء؛ لأن طالع البروج في جريدة ما يصفهم بدقة، غير أن الفحص الدقيق يكشف أن الوصف هو من العمومية بحيث يشمل كل شخص تقريبا. هذه الظاهرة - وتسمى «التصديق الذاتي»
subjective validation - هي من دعائم الرواج الشعبي للعلم الزائف. (6) الاستناد إلى العرف البشري لا إلى اطرادات الطبيعة
يستند العلم الزائف إلى الأعراف الاعتسافية للثقافة الإنسانية لا إلى الاطرادات الثابتة للطبيعة، من ذلك أن تأولات التنجيم تعتمد على أسماء الأشياء، التي هي اتفاقية وتختلف من ثقافة إلى أخرى؛ فإذا كان القدماء قد أعطوا الاسم «المريخ» للكوكب الذي نسميه «المشتري» والعكس، فإن علم الفلك لن يبالي البتة بذلك، أما التنجيم فسوف يختلف كليا؛ لأنه يعتمد فقط على الاسم ولا شأن له بالخصائص الفيزيائية للكوكب نفسه. (7) يفضي العلم الزائف إلى قياس الخلف
يفضي العلم الزائف إلى «قياس الخلف»
reduction to absurdity
2
إذا تتبعته بما يكفي. قد يكون مستنبئو الآبار
dowsers
قادرين بطريقة ما على الإحساس بوجود ماء أو معادن تحت حقل ما، غير أنهم جميعا يزعمون أن بوسعهم الاستنباء بنفس الكفاءة من خلال خريطة! وقد يكون
Uri Geller «روحانيا»، ولكن هل قواه حقا موجهة له على وصلة راديو بواسطة طبق طائر من كوكب هوفا كما قد زعم؟ وقد تكون النباتات «روحانية» ولكن لماذا يستجيب إصيص الطمي بنفس الطريقة تماما في نفس «التجربة»؟ (8) تجنب الاختبار وتكرار التجربة
يتجنب العلم الزائف دائما وضع دعاويه على محك اختبار ذي معنى، ولا يجري العلماء الزائفون أنفسهم أية تجارب منهجية دقيقة البتة، وهم أيضا - بصفة عامة - يغفلون نتائج التجارب التي يجريها العلماء، والعلماء الزائفون لا يعرفون المتابعة على الإطلاق، فإذا ادعى أحدهم أنه قام بتجربة (مثل دراسات الإيقاع الحيوي «المفقود» لهيرمان سوبودا
Herman Swoboda
التي يزعم أنها أساس علم «الإيقاع الحيوي» الزائف الحديث) فلن يحاول أي عالم زائف آخر تكرارها أو التحقق من الأمر، حتى إذا كانت النتائج الأصلية مفقودة أو مشكوكا فيها! وفضلا عن ذلك، فحيثما ادعى عالم زائف أنه قد أجرى تجربة ذات نتائج مثيرة فإنه - هو نفسه - لن يعيد التجربة أبدا لكي يتحقق من نتائجه وإجراءاته، وهذا يقف على النقيض التام مع العلم، حيث التجارب الفاصلة يكررها العلماء في جميع أرجاء العالم محرزين مزيدا من الدقة على الدوام. (9) العلم الزائف كثيرا ما يتناقض مع نفسه
كثيرا ما يتناقض العلم الزائف مع نفسه حتى بلغته الخاصة، ومثل هذا التناقض المنطقي يتم تغافله ببساطة أو تبريره، وعليه يجب ألا نتعجب إذا وجدنا الفصل الأول من كتاب في استنباء الآبار
dowsing
يقول: إن المستنبئين يستخدمون أغصانا مقطوعة حديثا؛ إذ إن الخشب «الحي» فقط هو ما يمكنه أن ينقل ويركز «إشعاع الأرض» الذي يجعل الاستنباء ممكنا، بينما نجد في الفصل الخامس أن جميع المستنبئين تقريبا يستخدمون قضيبا معدنيا أو بلاستيكيا. (10) اختلاق سر وافتعال غموض
يتعمد العلم الزائف اختلاق لغز حيث لا لغز، وافتعال غموض حيث لا غموض؛ وذلك بإغفال معلومات حاسمة أو تفاصيل هامة، وما من شيء إلا ويمكن جعله سريا إذا أغفلنا ما هو معروف عنه أو عرضنا تفاصيل خيالية تماما، ولنا في كتب «مثلث برمودا» أمثلة كلاسيكية لهذا التكتيك. (11) العلم الزائف لا يتقدم
قد يتنقل العلم الزائف من تقليعة إلى أخرى (من الأشباح إلى أبحاث الإدراك وراء الحسي
ESP ، ومن الأطباق الطائرة إلى الدراسات الروحية ... إلخ.) ولكنه لا يحقق أي تقدم في أي موضوع منها. العلم الزائف لا يكتشف جديدا ولا يقترح نظرية، ولا يعدل أو يلغي مفاهيم قديمة في ضوء كشوف جديدة؛ إذ ليس ثمة كشوف جديدة، وكلما كانت النظرية قديمة حظيت باحترام أكبر، ولم يحدث قط أن اكتشف العلم الزائف ظواهر أو عمليات طبيعية غير معروفة للعلماء من قبل. والحق أن العلماء الزائفين يتعاملون بصفة شبه دائمة مع ظواهر معلومة جيدا للعلماء ولكن مجهولة تقريبا من جانب العامة، بحيث إنهم سوف يبتلعون أي شيء يريد العلماء الزائفون أن يدعوه، من أمثلة ذلك السير في النار ووتصوير «كيرليان» (التصوير الكهربي)
Kirlian photography . (12) الإقناع بالخطابة لا بالدليل
العلم الزائف يحاول الإقناع بالخطابة والدعاية وإساءة التأويل وليس بالدليل الصحيح (الذي لا وجود له)، وتطفح كتب العلم الزائف بالمغالطات المنطقية المعروفة للدارسين، وقد ابتكرت مغالطات جديدة خاصة بها، ومن المغالطات المفضلة لها ما يعرف ب «الاستنتاج الخلفي»
non sequitur ،
3
ويحب العلماء الزائفون أيضا «حجة جاليليو»، وهي تتضمن أن يقارن العالم الزائف نفسه بجاليليو قائلا: إنهم يخطئونه مثلما كان معاصرو جاليليو يخطئونه. إذن العالم الزائف على صواب أيضا مثلما كان جاليليو بالضبط، ومن الواضح أن النتيجة هنا لا تلزم عن المقدمات! كما أن أفكار جاليليو تم اختبارها والتحقق منها وقبولها فورا من جانب زملائه العلماء. أما الرفض فكان آتيا من جانب المؤسسة الدينية التي كانت تفضل العلم الزائف الذي دحضته كشوف جاليليو. (13) الاحتكام إلى الجهل
يعتمد العلم الزائف على مغالطة بدائية هي «الاحتكام إلى الجهل»
ad ignoratiam : فكثير من العلماء الزائفين يؤسسون دعاويهم على عدم اكتمال معلوماتنا عن الطبيعة، وليس على ما نعرفه في الوقت الحالي، ولكن من غير الممكن أن يكون غياب المعلومات داعما لأي دعوى؛ فواقعة أن الناس لا يميزون ما يرونه في السماء لا تعني إلا أنهم لا يميزون ما رأوه. هذه الواقعة ليست دليلا على أن الأطباق الطائرة هي من الفضاء الخارجي، وتشيع في أدبيات العلم الزائف عبارة «العلم لا يستطيع أن يفسر ...» ذلك أن العلم في حالات كثيرة لا يكون لديه شغف بالظواهر المفترضة بسبب عدم وجود أدلة على وجودها، وفي حالات أخرى يكون التفسير العلمي معروفا ومرسخا جيدا ولكن العلماء الزائفين لا يعرفون ذلك، أو يتغافلون عنه لكي يخلقوا لغزا. (14) الولع بالظواهر الشاذة لا بالاطرادات المألوفة
العلم الزائف مولع بالظواهر الشاذة أو الغريبة أو النادرة، وليس بالاطرادات الراسخة للطبيعة: تنبئنا خبرة العلماء عبر القرون الأربعة الماضية أن الدعاوى والتقارير التي تصف أشياء مفهومة جيدا تسلك بطرائق عجيبة وغير مفهومة تميل إلى أن تتكشف - عبر البحث والاستقصاء - عن خداعات متعمدة وأخطاء بريئة وتوصيفات مشوشة وإساءة تأويل وتلفيقات تامة وأخطاء غبية فاضحة، وليس من الحكمة قبول مثل هذه التقارير على ظاهرها دون تمحيصها. أما العلماء الزائفون فإنهم دائما يأخذون هذه التقارير على أنها صادقة حرفيا دون تحقيق مستقل. (15) الاحتكام إلى سلطة زائفة أو إلى العواطف
من دأب العلم الزائف الاحتكام إلى سلطة زائفة أو إلى العواطف، وعدم الثقة في الحقيقة الراسخة، فليس ما يمنع أن يقبل راسب ثانوية عامة كخبير في الآثار، رغم أنه لم يجر في حياته أي دراسة لهذا العلم، وليس ما يمنع أن يقبل محلل نفسي كخبير في التاريخ الإنساني كله، ناهيك بالفيزياء والفلك والميثولوجيا، رغم أن دعاويه غير متسقة مع كل ما هو معروف في هذه الحقول الأربعة. يقسم النجم السينمائي فلان أن كذا حق فلا بد إذن أنه حق، يقول فيزيائي: إن «الروحاني » فلانا لا يمكن أن يكون قد خدعه بحيل السحر البسيطة، رغم أن الفيزيائي لا يعلم شيئا عن السحر وخفة اليد.
والاحتكام إلى العواطف شائع في العلم الزائف: («إذا جعلك هذا تشعر بالراحة فلا بد أن يكون هذا حقا.» «أنت تعرف في قلبك أنه صحيح»).
والعلماء الزائفون مغرمون بالمؤامرات الخيالية: («هناك أدلة وفيرة على الأطباق الطائرة ولكن الحكومة تتكتم الأمر.») ويكثرون من الاحتكام بأشياء غير ذات صلة بالموضوع؛ فعندما يواجهون بوقائع غير مريحة لهم فإنهم يجيبون ببساطة: «العلماء لا يعرفون كل شيء.» (16) يقولون أشياء بعيدة تناقض كل معلوم
العلماء الزائفون يقولون أشياء بعيدة ويقدمون نظريات خيالية تناقض ما هو معلوم عن الطبيعة، وهم لا يقدمون دليلا على دعاويهم، ليس هذا فحسب، بل يتغافلون أيضا عن الكشوف التي تتناقض مع استنتاجاتهم: («الأطباق الطائرة لا بد أنها آتية من مكان ما، إذن الأرض مجوفة والأطباق آتية من داخلها.» «هذه الشرارة الكهربية التي أقدمها بهذا الجهاز الكهربي ليست في الحقيقة شرارة على الإطلاق بل هي مظهر فوق طبيعي للطاقة الروحية-النفسية.» «كل إنسان محاط بهالة غير ملموسة من الطاقة الكهرومغنطيسية، الهالة البيضية للرائي الهندي القديم التي تعكس كل مزاج وحالة للإنسان»). (17) يخترعون معجمهم اختراعا
العلماء الزائفون يخترعون معجمهم الخاص حيث مفردات كثيرة ليس لها تعريفات دقيقة غير ملتبسة، وكثيرا ما يكون المستمعون مضطرين إلى تأويل العبارات وفقا لتصوراتهم المسبقة، ما هي - مثلا - «الطاقة الكونية الحيوية» أو «التكبير السيكوتروني»؟
وكثيرا ما يحاول العلماء الزائفون تقليد رطانة الأفرع العلمية والتقنية، بأن يتحدثوا بلهجة خطابية وبربرة تبدو علمية وتقنية. إن المعالجين الدجالين لا يستغنون عن لفظة «طاقة»، غير أن استخدامهم لهذا المصطلح لا يتصل من قريب أو بعيد بمفهوم الطاقة عند علماء الفيزياء. (18) ظواهرهم «غيورة»!
يدعي العلم الزائف أن الظواهر التي يدرسها «غيورة»
jealous
لا تظهر في وجود المتشككين! فالظواهر عندهم لا تظهر إلا تحت شروط معينة غير محددة بوضوح ولكنها حيوية لحضور الظاهرة (مثلا: عدم حضور المتشككين والمرتابين، وعدم حضور خبراء، وعندما لا يكون هناك أحد يراقب ، وعندما تكون ال
vibes
صحيحة، أو أن الظاهرة تحضر مرة واحدة في التاريخ البشري)، يذهب العلم إلى أن الظواهر الأصيلة يجب أن تكون قابلة للدراسة من جانب أي أحد ذي استعداد قويم، وأن جميع الدراسات الصحيحة الإجراء يجب أن تعطي نتائج متسقة. ليس ثمة ظاهرة «غيورة» بهذه الطريقة. ليس ثمة معنى لأن تشيد جهاز تليفزيون أو راديو لن يعمل إلا في غياب المتشككين! وإن رجلا يزعم أنه عازف كمان رفيع المستوى ولكن لا يبدو أنه امتلك كمانا في حياته، ويرفض أن يعزف في وجود أي شخص يمكن أن يسمعه، هذا الرجل في الأرجح كاذب في ادعاء قدرته على عزف الكمان. (19) التفسير بالسيناريو
تميل التفسيرات العلمية الزائفة إلى أن تكون بالسيناريو: أي إنها تقدم لنا حكاية لا أكثر، ولا نخرج بأي وصف لأية عملية فيزيائية ممكنة، من ذلك أن إمانويل فيليكوفسكي (1895-1979م) ادعى أن كوكبا آخر مر بقرب الأرض تسبب في انقلاب محور دوران الأرض رأسا على عقب، هذا كل ما قاله، فهو لم يقدم آليات، ولكن الآلية مهمة للغاية؛ لأن قوانين الفيزياء تستبعد هذه العملية باعتبارها مستحيلة: أي إن اقتراب كوكب آخر لا يمكن أن يقلب محور دوران كوكب ما، فإذا كان فيليكوفسكي قد اكتشف طريقة ما يمكن بها لكوكب أن يقلب محور دوران كوكب آخر لكان من المفترض أن يصف هذه الآلية. إن العبارة الجريئة نفسها بدون آلية تحتية لا توصل أية معلومات على الإطلاق. لقد قدم فيليكوفسكي كلمات، ترتبط إحداها بالأخرى داخل الجملة، ولكن العلاقات مغتربة عن العالم الذي نعيش فيه بالفعل، ولا تقدم تفسيرا لكيف يمكن أن يحدث ذلك. لقد قدم قصصا لا نظريات حقيقية. (20) التفكير السحري
كثيرا ما يهيب العلماء الزائفون بالعادة البشرية القديمة في التفكير السحري. يقوم السحر على الأنالوجي الزائف
false analogy
وروابط العلة/المعلول الزائفة، أي افتراض تأثيرات وروابط (غير قابلة للتفسير) بين الأشياء منذ البداية لا توجد بالبحث: (إذا دست على «شرخ» بالرصيف دون أن تتمتم بكلمة سحرية فإن أمك «ستنشرخ» بجسمها عظمة/أكل أوراق قلبية الشكل مفيد لأمراض القلب/تسليط ضوء أحمر على الجسم يزيد إنتاج الدم/الكباش عدوانية. إذن من ولد في برج الحمل عدواني/السمك مفيد للدماغ؛ لأن لحم السمك يشبه نسيج المخ.) (21) التفكير المفارق لزمنه
anachronistic thinking
كلما كانت الفكرة أقدم كانت أكثر جاذبية للعلم الزائف (إنها حكمة القدماء!) خاصة إذا كانت الفكرة واضحة البطلان وأبطلها العلم منذ زمن طويل. يجد كثير من الصحفيين صعوبة في فهم هذه النقطة: فالمراسل المعهود الذي يكتب عن التنجيم قد يظن أن الدقة تقتضيه أن يلتقي بستة منجمين وفلكي واحد، يقول الفلكي: إن التنجيم كله هراء. ويقول المنجمون الستة: إنه مادة عظيمة وصائب حقا وسوف يطيب لهم قراءة طالع أي شخص مقابل خمسين دولارا (لا شك!) بالنسبة لكثير من المراسلين، وبالطبع لكثير من المحررين وقرائهم، فإن هذا سيكون تأييدا للتنجيم بنسبة 6 إلى واحد! •••
والجدول التالي يقارن بين بعض خصائص العلم وخصائص العلم الزائف:
العلم
العلم الزائف
يعبر عن كشوفه بالأساس من خلال المجلات العلمية التي يراجعها النظراء، وتلتزم بمعايير صارمة للدقة والأمانة.
يتوجه بأدبياته إلى عامة الجمهور، لا مراجعة، لا معايير، لا تحقق قبل النشر ولا تتطلب الدقة والضبط.
يتطلب نتائج قابلة لإعادة الإنتاج، التجارب يجب أن توصف بدقة بحيث يمكن تكرارها بالضبط أو إجراء تحسينات عليها.
نتائجه لا يمكن إعادة إنتاجها أو التحقق منها، الدراسات - إن وجدت - موصوفة دائما وصفا غامضا بحيث لا يمكن للمرء تبين ما تم إجراؤه أو كيف تم.
الإخفاقات يفتش عنها وتدرس بدقة؛ ذلك أن النظريات الخاطئة كثيرا ما تعطي تنبؤات صحيحة بطريق الصدفة، أما النظرية الصحيحة فلن تعطي تنبؤات خاطئة أبدا.
الإخفاقات يتم إغفالها أو التغاضي عنها أو إخفاؤها أو الكذب حولها أو إسقاطها من الحساب أو تفسير سببها أو تبريرها أو نسيانها أو تجنبها بأي ثمن.
بمرور الزمن تتكشف العمليات الفيزيائية الخاضعة للبحث أكثر فأكثر .
لا تكشف ولا تدرس أية ظواهر أو عمليات فيزيائية، لا يحرز أي تقدم، ولا تحصل أية معرفة صلبة.
يحتكم في الإقناع إلى «الدليل»
evidence ، والحجج القائمة على المنطق والاستدلال الرياضي، وتقديم أفضل دفع تسمح به البيانات، وإذا ما ظهر دليل جديد يدحض الأفكار القديمة يتم التخلي عنها.
يهيب في الإقناع بالإيمان والاعتقاد. العلم الزائف ينطوي على عنصر شبه ديني قوي: إنه يحاول أن يكرز لا أن يقنع، وعليك أن تصدق بالرغم من الوقائع لا بسببها، لا يتم التخلي عن الفكرة القديمة أبدا أيا ما كانت الأدلة.
لا يناصر أو يسوق ممارسات أو منتجات غير مبرهن عليها.
يرتزق - بصفة عامة - ببيع منتجات مشكوك فيها (مثل: كتب وفصول دراسية ومكملات غذائية) أو خدمات علمية زائفة: (كشف الطالع وقراءة الشخصية ورسائل روحية وتنبؤات.)
هذه القائمة يمكن أن تمتد امتدادا كبيرا؛ لأن العلم والعلم الزائف هما بالضبط طريقان متضادان في رؤية الطبيعة. يعتمد العلم - وبإصرار - على التشكك في النفس وعلى الاختبار وعلى التفكير التحليلي الذي يجعل صعبا عليك أن تخدع نفسك أو أن تتجنب مواجهة الوقائع. أما العلم الزائف فهو يبقي على طرائق التفكير القديمة الطبيعية غير العقلانية وغير الموضوعية، والسابقة على ظهور العلم بمئات الآلاف من السنين؛ تلك العمليات الفكرية التي أفضت إلى الخرافات والأفكار الأخرى المغلوطة والخيالية عن الإنسان والطبيعة: من الفودو
voodoo
إلى العنصرية، من الأرض المسطحة إلى الكون-المنزلي الشكل، حيث الرب في العلية والشيطان في القبو والإنسان في الأرضية. من عمل رقصات المطر إلى تعذيب المرضى العقليين لطرد الشياطين التي تتلبسهم. العلم الزائف يشجع الناس على أن تعتقد أي شيء تريده، ويقدم لك حججا وهمية لكي تحملك على أن تخدع نفسك وتظن أن أي اعتقاد وكل اعتقاد هو صحيح على السواء، وأما العلم فيبدأ بقوله: دعنا نضرب صفحا عما نعتقد أنه كذلك، ونحاول أن نبحث ونتقصى لكي نكتشف ما هو كذلك على الحقيقة. هذان طريقان لا يلتقيان، بل يمضيان في اتجاهين متعاكسين تماما.
ثمة شيء من الخلط في هذه النقطة يسببه ما قد نسميه
crossover (تحويلة). «العلم» ليس شارة أنت تتخذها، بل هو نشاط أنت تؤديه، وحالما توقفت عن هذا النشاط فقد توقفت عن أن تكون عالما. إن قدرا مقلقا من العلم الزائف يتولد من جانب علماء متمرسين جيدا في حقل معين ولكنهم أقحموا أنفسهم في حقل آخر ليس لهم به علم. إن عالم الفيزياء الذي يزعم أنه قد اكتشف مبدأ جديدا في البيولوجيا، أو عالم البيولوجيا الذي يزعم أنه اكتشف مبدأ جديدا في الفيزياء؛ هو في جميع الأحوال تقريبا يمارس العلم الزائف. وكذلك الحال بالنسبة لأولئك الذين يزورون المعطيات أو يتكتمون البيانات التي تصطدم مع تصوراتهم المسبقة، أو يرفضون أن يتركوا الغير يرى بياناتهم من أجل تقييمها تقييما مستقلا. إن العلم أشبه بقمة عالية للتكامل الفكري والنزاهة والعقلانية. هذه القمة ناعمة وزلقة وتتطلب جهدا هائلا للبقاء بمقربة منها، وأي تراخ في ذلك يجرف المرء بعيدا ويوقعه في العلم الزائف.
وقد يتساءل المرء: ألا توجد أمثلة ل «تحويلات» في الاتجاه الآخر: أي أمثلة لأناس ظنهم العلماء يقدمون علما زائفا ثم تبين في النهاية أنهم يمارسون علما حقيقيا، ومن ثم تقبل العلماء أفكارهم في نهاية المطاف؟ في ضوء ما بيناه سابقا لا يتوقع المرء أن يحدث ذلك إلا نادرا جدا. لم يحدث ذلك على حد علمي (وعلم أي زميل عالم سألته في ذلك) خلال مئات الأعوام التي عرف فيها العلماء المنهج العلمي الكامل واستخدموه. على أن هناك حالات كثيرة لعالم خطأه زملاؤه ثم تبين لاحقا - بظهور معلومات جديدة - أنه على صواب، والعلماء - شأنهم شأن أي إنسان آخر - قد تأتيهم حدوس بأن شيئا ما قد يكون حقا دون أن يمتلكوا أدلة كافية لإقناع مشاركيهم أنهم على صواب. مثل هؤلاء الأشخاص لا ينبغي اعتبارهم علماء زائفين إلا إذا استمروا يعتقدون بصواب أفكارهم بعد أن تتراكم ضدها الأدلة المضادة. لا مناص للمرء من أن يخطئ أو يزل؛ فنحن جميعا بشر، ونحن جميعا نرتكب أخطاء وحماقات، إلا أن العلماء الحقيقيين أيقاظ لاحتمال خطئهم ومسارعون في تصحيحها، أما العلماء الزائفون فلا. الحق أننا يمكن أن نعرف العلم الزائف تعريفا قصيرا بأنه: «طريقة للتشفع للأخطاء والدفاع عنها والإبقاء عليها.» (22) مخاطر العلم الزائف
كثيرا ما ينظر الأشخاص العقلانيون المتعلمون إلى العلم الزائف على أنه من العبثية والبطلان بحيث لا يشكل خطرا يذكر، بل قد يكون مصدرا للترفيه والتسلية، غير أن هذا الموقف - للأسف - ليس موقفا سديدا؛ فالعلم الزائف قد يكون خطرا غاية في الخطورة:
فحين ينفذ إلى المنظومات السياسية فإنه يسوغ الفظائع باسم النقاء العرقي.
وحين ينفذ إلى النظام التعليمي فإنه قد يطرد العلم والعقلانية.
وفي مجال الصحة قد يودي بالآلاف إلى موت مجاني أو معاناة بلا ضرورة.
وحين ينفذ إلى الدين يولد التعصب وعدم التسامح والحرب المقدسة.
وحين ينفذ إلى وسائل الإعلام فقد يحول دون حصول المصوتين على المعلومات الوقائعية في مسائل عامة مهمة.
الفصل السادس
سكوت ليلينفلد:1 وصايا ليلينفلد العشر
كثير من معلمي مداخل السيكولوجيا لا يلقون بالا بموضوعات العلوم الزائفة، باعتبار أن مثل هذه الموضوعات غير ذات صلة بعلم السيكولوجيا، أو ذات صلة هامشية على أعلى تقدير، وكثير من الكتب الدراسية في علم النفس تكاد تخلو من هذه الموضوعات، باعتبار أن لديها ما يكفي من الموضوعات العلمية الأصيلة، كما أن بعض المعلمين قد يخشون أن الالتفات إلى الدعاوى المشكوك فيها سوف ينتهي إلى بث الرسالة غير المقصودة إلى الطلبة بأن هذه الدعاوى قابلة للتصديق علميا.
غير أن البروفسور ليلينفلد لا يرى هذا الرأي، ويذهب إلى ضرورة تنبيه طلاب علم النفس إلى خصائص العلم الزائف؛ وذلك لأكثر من سبب: فالفهم القويم لبناء ما، كما نوه بحق جورج كيلي،
2
يقتضي فهم قطبيه معا، فنحن مثلا لا نعي مفهوم «البرد» ما لم نكن قد خبرنا الحر، ومن ثم قد لا يستوعب الطلاب مفهوم التفكير العلمي استيعابا كاملا ما لم يتكون لديهم فهم للاعتقادات العلمية الزائفة، أي التي تبدو علمية للوهلة الأولى بينما هي غير ذلك.
كما أن تناول هذه الموضوعات يتيح فرصة لغرس مهارات الفكر النقدي، من مثل التمييز بين «الارتباط»
correlation
و«العلية»
causation ، وإدراك الحاجة إلى «المجموعات الضابطة»
control groups
من خلال تقويم المفاهيم الخاطئة للطلاب في مجال السيكولوجيا الشعبية.
الحق أن علم النفس عند الكثير من طلاب السيكولوجيا المبتدئين يكاد يكون مرادفا للسيكولوجيا الشعبية، والسيكولوجيا الشعبية تعج بالخرافات والأساطير الحديثة مثل: أن معظم الناس لا تستخدم إلا عشرة بالمئة من أدمغتهم، وأن التعبير عن الغضب أفضل في العادة من كظمه، وأن الأضداد تتجاذب في العلاقات البين-شخصية، وأن الاعتبار العالي للذات ضروري للصحة النفسية، وأن مرضى الفصام لديهم أكثر من شخصية ... إلخ.
وفي دراسة لمورير وكيبورتس (1994م) تبين أن تدريس فصل «العلم والعلم الزائف» لطلاب المرحلة الجامعية أدى إلى انخفاض دال إحصائيا في تبني الاعتقادات الخرافية مقارنة بغيرهم من الطلاب الذين لم يدرسوا هذا الفصل،
3
وفي دراسة أخرى لوسب ومونتجمري (1998م) تبين أن دراسة فصل عن الفحص النقدي للدعاوى الخارقة قد أدت إلى تحسن دال إحصائيا في تقييم أخطاء الاستدلال في المقالات العلمية، والتعرف على الأخطاء المنطقية فيها وتقديم تفسيرات بديلة لنتائج البحث.
4
وفيما يلي عشرة إلماعات تعليمية - في صيغة وصايا - خلص إليها بروفسور ليلينفلد من خلال خبرته في تدريس فصل التمييز بين العلم والعلم الزائف لطلاب علم النفس الجامعيين.
5 (1) الوصية الأولى: حدد الملامح التي تميز العلم من العلم الزائف
يجب أن يدرك الطلاب أن الفروق بين العلم والعلم الزائف، رغم أنها ليست مطلقة ولا قاطعة، ليست عشوائية ولا ذاتية، فقد حدد فلاسفة العلم - مثل ماريو بنج
Mario Bunge (1984م) - مجموعة من الملامح أو «العلامات التحذيرية» التي تميز معظم المباحث العلمية الزائفة، منها ما يلي:
الميل إلى استدعاء الفرضيات الغرضية الاحتيالية
ad hoc hypotheses
التي هي أشبه بثغرات هروب مقصود بها أن تكون وسيلة لتحصين الدعاوى من التكذيب.
غياب التصحيح الذاتي وحضور الركود الفكري.
التوكيد على التأييد لا التفنيد.
الميل إلى إلقاء عبء البرهان على عاتق المتشككين في الدعوى لا على المدعي.
الاعتماد الزائد على النوادر الفردية
anecdotes
والشهادة الشخصية
testimonial
لإثبات الدعاوى.
الروغان من التمحيص الذي تقدمه مراجعة النظراء
peer review .
غياب الترابطية، أي عدم القدرة على البناء على المعرفة العلمية القائمة.
استخدام رطانة طنانة لكي تضفي واجهة خارجية خادعة من الجلال العلمي.
الدعوى.
ومن الجدير بالذكر أن لا واحدة من هذه العلامات كافية بذاتها لكي تسم مبحثا ما بأنه علم زائف، إلا أن وجود المزيد من هذه العلامات التحذيرية يجب أن يثير المزيد من الشك.
6 (2) الوصية الثانية: فرق بين الارتيابية والكلبية
من مخاطر تدريس الطلاب التمييز بين العلم والعلم الزائف أننا يمكن أن نصنع منهم، دون قصد، طلابا يرفضون تلقائيا أية دعوى تبدو غير مقبولة، تتضمن الارتيابية
skepticism - وهي التوجه الذهني القويم للعالم - موقفين يبدوان متناقضين: الانفتاح على الدعاوى، مقرونا برغبة في تعريض هذه الدعاوي للتمحيص الحاد، يقول جيمس أوبرج
James Oberg
مهندس الفضاء: إن علينا أن نبقي عقولنا مفتوحة ولكن ليس لدرجة تجعل أدمغتنا تسقط منها.
7
وفي المقابل فإن الكلبية
Cynicism
تتضمن انغلاقا ذهنيا. أذكر أن أحد الشكاك البارزين كان يؤنبني على تشجيعي للباحثين على أن يبقوا منفتحي العقل تجاه فعالية صنف جديد من العلاج النفسي كان أساسه المنطقي يبدو له بعيد الاحتمال، غير أننا إذا أغلقنا احتمالية أن تكون اعتقاداتنا المسبقة خاطئة فإننا إذاك نسلك سلوكا غير علمي. تستلزم الارتيابية استعدادا لتقبل دعاوى جديدة، أما الكلبية فلا. (3) الوصية الثالثة: فرق بين الشك المنهجي والشك الفلسفي (المذهبي)
عندما نشجع الطلاب على التفكير النقدي فلا بد أن نفرق بين شكلين من الارتيابية: (1)
مقاربة تعرض جميع دعاوى المعرفة على التمحيص بغية فرز الدعاوى الصادقة عن الكاذبة؛ أي الشك المنهجي (العلمي). (2)
ومقاربة تنكر إمكان المعرفة، أي الشك الفلسفي (المذهبي).
عندما نشرح للطلاب أن المعرفة العلمية اختبارية
tentative
في صميمها ومفتوحة للمراجعة، فإن بعضهم قد يستنتج - خطأ - أن المعرفة الحقيقية غير ممكنة. هذه الوجهة من الرأي - التي راجت في أوساط بعد-حداثية معينة - تغفل التمييز بين دعاوى المعرفة الأكثر يقينا من تلك الأقل يقينا، فرغم أن اليقين المطلق ربما يكون غاية لا تدرك في العلم فإن بعض الدعاوى العلمية - مثل نظرية دارون في الانتخاب الطبيعي - قد تم تعزيزها بدرجة قصوى، في حين أن نظريات أخرى - مثل نظرية خرائط البروج التنجيمية - قد تم دحضها على نحو مقنع، وتبقى نظريات أخرى - مثل نظرية التنافر المعرفي
cognitive dissonance - خلافية من الوجهة العلمية؛ ومن ثم فإن هناك متصلا من الثقة في الدعاوى العلمية، فبعضها قد اكتسب وضعا وقائعيا تقريبا، في حين نالت الأخرى تكذيبا مدويا. إن الشك المنهجي - الذي لا يقدم أجوبة تامة اليقين على الأسئلة العلمية ويعد هذه الأجوبة قابلة للإطاحة بها في ظل أدلة جديدة - لا يتضمن أن المعرفة غير ممكنة، بل يتضمن فحسب أن المعرفة مبدئية
provisional
غير نهائية، ولا هي تتضمن أن لا فرق بين الإجابات المستخلصة من الفحص العلمي المنضبط والإجابات الأخرى كتلك المستمدة من الحدس.
8 (4) الوصية الرابعة: فرق بين دعاوى العلم الزائف والدعاوى التي هي زائفة فحسب
جميع العلماء - حتى أنبغهم - يرتكبون أخطاء، كان إسحق نيوتن - على سبيل المثال - يعبث بفرضيات خيميائية غريبة خلال شطر كبير من سيرته العلمية المتميزة فيما خلا ذلك، وعلى الطلاب أن يدركوا أن الفرق المفتاحي بين العلم والعلم الزائف لا يكمن في محتواهما (ما إذا كانت دعاويهما صحيحة وقائعيا أم خاطئة) بل في مقاربتهما للدليل
evidence . العلم الحق يبحث عن المعلومات المناقضة، وبافتراض أن هذا الدليل قابل للتكرار وعالي القيمة فإنه في النهاية يدمج هذه المعلومات في مدونته المعرفية. أما العلم الزائف فيميل إلى تجنب المعلومات المضادة (أو يعيد تأويلها بحيث تتسق مع دعاويه إن استطاع)، وهو بذلك لا يقدر على تبني التصحيح الذاتي الضروري للتقدم العلمي، مثال ذلك أن التنجيم لم يتغير كثيرا عما كان عليه منذ 2500 سنة برغم الأدلة السلبية الهائلة التي جابهته. (5) الوصية الخامسة: فرق بين العلم والعلماء
إن العلماء بشر وعرضة للوقوع في التحيز والتصلب الدوجماطيقي في اعتقاداتهم، شأنهم شأن غيرهم من الناس، غير أن العالم الحق لا يدخر وسعا لكي يدرك تحيزاته ويضادها بواسطة الاحتياطات المنهجية ضد الزلل (مثل: المجموعات الضابطة ذات العمى المزدوج) التي يفرضها عليه المنهج العلمي. على الطلاب أن يفهموا أن المنهج العلمي هو عدة المهارات التي نماها العلماء لكي يمنعوا أنفسهم من تأييد تحيزاتهم الخاصة. العالم بشر خطاء، ولكن المنظومة العلمية تبصره بتحيزاته وتتخذ تدابير تحصن العمل العلمي ضد الزلل. (6) الوصية السادسة: فسر الأسس المعرفية للاعتقادات العلمية الزائفة
يجب أن يعي الطلاب أننا جميعا عرضة للأوهام المعرفية، وأن هذه الأوهام قد تكون قاهرة لا تقاوم. كلنا أو معظمنا - على سبيل المثال - قد يقع ضحية الذكريات الزائفة. إن العمليات السيكولوجية التي تفضي إلى الاعتقادات الخاطئة شاملة مستشرية، بل إن بعضها في الأصل تكيفي ومسعف. «المختصرات الذهنية»
heuristics
9
مثلا - التي قد تنتج اعتقادات زائفة - هي بالأساس معينة لنا على إضفاء معنى على عالمنا المعقد والمربك؛ وعليه فإن معظم الاعتقادات العلمية الزائفة مقدودة من نفس القماشة التي قدت منها الاعتقادات الدقيقة. من شأن هذا الفهم أن يهدئ من روع الطالب الذي يعتنق اعتقادات علمية زائفة حين يواجه بأدلة تدحض اعتقاداته. (7) الوصية السابعة: تذكر أن الاعتقادات العلمية الزائفة تؤدي وظائف دافعية مهمة
كثير من الدعاوى الخارقة - مثل تلك المتعلقة بالإدراك وراء الحسي (الحاسة السادسة)
ESP
وخبرات الخروج من الجسم والتنجيم - تخاطب حاجة المعتقدين إلى الأمل والدهشة، وحاجتهم أيضا إلى الإحساس بالإمساك بزمام وقائع الحياة والموت التي لا زمام لها في الأغلب. معظم المؤمنين بالخوارق يبحثون عن أجوبة على أسئلة وجودية عميقة من مثل: «هل ثمة روح؟» و«هل هناك حياة بعد الموت؟» لذا توقع من الطلاب حين تواجههم بأدلة علمية تتحدى اعتقاداتهم الخارقة أن يتخذوا موقفا دفاعيا، والدفاعية بدورها قد تولد نفورا من النظر في الأدلة المضادة.
من أجل هذا يتعين على المعلم أن يكون رفيقا بطلابه حين يتناول اعتقاداتهم بالتفنيد؛ فالسخرية من هذه الاعتقادات قد تؤدي إلى رد فعل يدعم أفكارهم النمطية عن مدرسي العلم كأشخاص منغلقي الذهن غير سمحاء. ومن التقنيات المفيدة للمعلم في هذا الصدد أن ينمي صلة وئام وألفة بينه وبين طلابه ثم يتحدى اعتقاداتهم بروح المرح الطيب القلب (مثلا: «أود أن أسأل كل من يعتقد في التحريك النفسي
psychokinesis
أن يتفضل ويرفع يدي.») على ألا يدرك هذا المرح من جانبهم على أنه ازدراء أو استعلاء. (8) الوصية الثامنة: أخبر راغب الدهشة أن العلم مدهش
قل له إذا كنت أيها الطالب تبحث عن الدهشة والغرابة فإن العلم الصحيح طافح بهما! إذا كنت شغوفا بدعاوى العلوم الزائفة لأنها تهزك وتثير دهشتك فاعلم أن كثيرا من كشوف العلم الحقيقي لا تقل فتنة وسحرا عن دعاوى العلوم الزائفة؛ فهي مدهشة لافتة ولكن حقيقية في الوقت نفسه: الأحلام الشديدة الوضوح، الخيال الصوري
eidetic imagery ، الإدراك تحت العتبي
subliminal perception (كمقابل للإقناع تحت العتبي)، الأعمال الخارقة للذاكرة البشرية، الاستخدامات الإكلينيكية القويمة للتنويم (كمقابل للاستخدام الدجلي للتنويم في استعادة الذكريات). وقد نوه بعض العلماء بأن كشف الزيف يؤكد حقيقة ما بالضرورة؛ وعليه فمن الأهمية بمكان ألا نكتفي بتبيان المعلومات الزائفة للطلاب، بل أن نوجههم أيضا إلى المعلومات الصحيحة، مثال ذلك: إن علينا حين نفسر للطلاب لماذا تعد «الإيقاعات الحيوية»
biorhythms
دجلا لا أساس له أن نقدم معها دعاوى تتعلق بالإيقاعات اليومية
circadian rhythms
التي - رغم الخلط الكثير بينها وبين الإيقاعات الحيوية - يدعمها بحث علمي دقيق. (9) الوصية التاسعة: كن متسقا في معاييرك الفكرية
تجنب ازدواج المعايير والكيل بمكيالين: أحدهما حين تقيم الدعاوى التي تبدو مقبولة لديك، والآخر حين تقيم ما يبدو لك غير مقبول. أعرف معلما هو مناصر صريح لحركة تأسيس قوائم بالعلاجات المدعومة إمبيريقيا (أي التي ثبتت فاعليتها في دراسات منضبطة)، في هذا المجال هو حريص في الاعتماد على التراث البحثي لدعم أطروحاته الخاصة بأي العلاجات النفسية هو الفعال وأيها غير ذلك، ولكنه برغم ذلك رافض للأدلة البحثية على فاعلية العلاج الكهربي
ECT
للاكتئاب، حتى إذا كانت هذه الأدلة مستقاة من دراسات منضبطة لا تقل دقة وصرامة عن العلاجات النفسية التي يؤيدها، وحين واجهته بذلك وبينت له عدم اتساقه أنكر بشدة أنه متمسك بمعايير مزدوجة، وقد اتضح لي في النهاية أنه كان يستبعد الدليل على فاعلية العلاج الكهربي؛ لمجرد أن هذا العلاج كان يبدو له غير معقول على الإطلاق. ربما كان يتساءل: كيف بالله يمكن لإحداث نوبة شبه صرعية - بتسديد الكهرباء إلى الدماغ - أن يزيل الاكتئاب؟! غير أن المعقولية الظاهرية مقياس غير معصوم من الخطأ على الإطلاق، ومن ثم فإن علينا أن نظل منفتحين على الدليل الذي يتحدى تصوراتنا المسبقة الحدسية، وأن نشجع الطلاب أيضا أن يفعلوا ذلك. (10) الوصية العاشرة: فرق بين العلم الزائف والميتافيزيقا
فرق بين الدعاوى العلمية الزائفة وبين الدعاوى الدينية الميتافيزيقية الخالصة، فالدعاوى الميتافيزيقية بخلاف الدعاوى العلمية الزائفة، لا يمكن أن تختبر إمبيريقيا، ومن ثم فهي تقع خارج حدود العلم، وهي في مجال الدين تشمل قضايا تتصل بوجود الله ووجود الروح والحياة الأخرى، وهي قضايا لا يمكن دحضها بأي مدونة من الأدلة العلمية التي يمكن تصورها.
على أن بعض الدعاوى شبه الدينية (من مثل «كفن تورين»
Shroud of Turin ، والتماثيل الباكية للأم العذراء ... إلخ) هي حقا دعاوى قابلة للاختبار وخاضعة للتحليل النقدي، شأنها شأن غيرها من المعتقدات الطبيعية المشكوك فيها.
وحين يدمج المعلمون الاعتقادات العلمية الزائفة مع الاعتقادات الدينية التي هي ميتافيزيقية في الصميم فهم يخسرون مرتين: (1)
ينفرون نسبة كبيرة من طلابهم بغير داع قد يكونون متدينين بعمق. (2)
يزدرون مهارات التفكير النقدي لطلابهم، ذلك التفكير الذي يتطلب فهما واضحا للفرق بين الدعاوى القابلة للاختبار والدعاوى غير القابلة. (11) مجمل
الالتزام بالوصايا العشر قد يتيح لمعلمي السيكولوجيا أن يساعدوا طلابهم في تحقيق الهدف الحاسم/التفرقة بين العلم والعلم الزائف. إن إدخال فصل العلم الزائف في فصول علم النفس يمكن أن يكون ذا عائد سخي لكل من المعلمين والطلاب، على أن يقاربوا ذلك بحذر وحساسية وفهم واضح للفروق بين الارتيابية والكلبية، بين الشك المنهجي والشك الفلسفي (المذهبي)، بين المنهج العلمي والعلماء الذين يستخدمونه، بين العلم الزائف والميتافيزيقا.
وفي عالم تضخ فيه الوسائط الإعلامية (وصناعة العون الذاتي، والإنترنت) علما سيكولوجيا زائفا بمعدلات متسارعة دوما، فإن مهارات التفكير النقدي المطلوبة لتمييز العلم من العلم الزائف يجب أن نعدها إجبارية على جميع طلاب علم النفس.
الفصل السابع
جون كاستي:1 معايير التمييز بين العلم الحقيقي والزائف
عن كتابه
2 (1) التفكير المفارق لزمنه (الأناكرونستي)
3
إذا كانت الحجة مستندة إلى حكمة القدماء (الذين هم - لو تذكر - أقل علما عن العالم بكثير مما يجب أن يكون عليه أي طالب ثانوية صغير) أو تستخدم مصطلحات علمية عفى عليها الزمن، فثم ما يدعو إلى الشك فيها. (2) طلب الغوامض
إذا كان هدف العلم هو حل الألغاز فإن العلم الزائف يميل إلى التوكيد على وجود الألغاز، ويفترض عدم قابليتها للحل، وهذا موقف عقيم؛ لأنه إذا كان لغز ما - بحكم التعريف - غير قابل للحل فلماذا يضيع المرء وقته في التفكير فيه؟! (3) الاحتكام إلى الأساطير
ومفاده أن الأساطير القديمة لا بد أنها تستند إلى صنف معين من الوقائع الحقيقية التي تم تحريفها عبر الانتقال من جيل إلى جيل، ورغم أن هذا يمكن أن يحدث بغير شك فإن مجرد تشابه الأساطير لدى بعض الثقافات (تشابها سطحيا في العادة) لا يعني أن الوقائع المتبطنة لهذه الأساطير واحدة، أو حتى أنها وقعت أصلا؛ فمن الجائز تفسير ذلك بأن العقول الإنسانية تميل إلى أن تعمل على نحو متشابه، وتقدم من ثم تفسيرات متشابهة للأشياء التي لا تفهمها. (4) عدم الاكتراث بالدليل «الدليل»
evidence
هو حجر الزاوية الذي يفصل العلم عن أي جهد فكري آخر للإنسان، بما في ذلك الفلسفة (إلى حد كبير)، ولكي يكون الدليل علميا يجب أن يكون صلبا ووثيقا، فإذا استشهدنا ب «حقيقة» ما فينبغي أن نكون على درجة معقولة من الثقة بأنها تتطابق مع دليل ما يمكن التحقق منه، أما الشائعات والعنعنات فلا مجال لها في العلم. (5) فرضيات لا تقبل الدحض
لا يتسنى للعلم أن يتقدم ما لم تكن الفرضية العلمية قابلة للدحض من حيث المبدأ على أقل تقدير، فإذا ما كانت فرضيتك غير قابلة للدحض (أي غير قابلة للتكذيب
unfalsifiable ) أيا ما كانت الأدلة، فهي إذن غير ذات جدوى (هي قد تكون صادقة بطبيعة الحال ولكن لا حيلة لنا في التحقق منها). (6) التشابهات الزائفة
من الفخاخ الشديدة الخفاء التي يمكن للتفكير البشري أن يقع فيها عقد توازيات بين تصورات أو ظواهر تبدو مقبولة، غير أنها تقتضي تحليلا في العمق للتحقق منها أو إلقائها، من ذلك مثلا أن بوسع المرء أن يستنبط دلالة سرية من واقعة أن رقم لوحة سيارته هو نفس رقمه المدني، غير أن لحظة من التفكر كفيلة بأن تجعلك تستنتج أن هذا - ببساطة - هو محض صدفة، إلا أن التماثل في حالات أخرى قد يكون قاهرا أكثر، وقد تفضي التماثلات - بصفة عامة - إلى استبصارات أصيلة في الموضوع محل البحث، إلا أنها تتطلب معيارا للتحقق أعلى مما يقدمه الحدس الأول. (7) التفسير بواسطة السيناريو
ما أسهل - إذا كان لدى المرء أقل القليل من الخيال - أن يفسر شيئا ما بأن يروي قصة، أي بأن يتخيل سيناريو معقولا. أحيانا ما يقع العلماء في هذه الممارسة الخاطئة (وبخاصة - مثلا - علماء السيكولوجيا التطورية)، والحق أن السيناريوهات يمكن أن تكون مفيدة؛ لأنها قد توجه البحث في الاتجاه الصحيح، إلا أن السيناريوهات عندما تظل مجرد حكايات غير مدعومة ببيانات، لن تكون أدوات مفيدة؛ إذ إن بالإمكان دائما اقتراح العديد من السيناريوهات لتفسير نفس المعطيات، ولكن واحدا منها فقط من المفترض أن يكون صحيحا بالفعل. (8) البحث بواسطة التأويل الأدبي
يحدث هذا عندما يدعي نصير موقف علمي زائف معين أن العبارات التي يقولها العلماء مفتوحة لتفسيرات بديلة صحيحة على حد سواء. مثل هذه المقاربة تعامل التراث العلمي مثلما يتعامل المرء مع رواية أو لوحة: ليس ثمة تأويل (حتى لو كان تأويل المؤلف نفسه) أفضل بالضرورة من غيره، وهذا في مجال العلم بعيد كل البعد عن واقع الأشياء، فالعبارات العلمية تكون أكثر فائدة كلما كانت أكثر دقة وأقل التباسا، والأمثل للفرضية أو النظرية العلمية أن يكون لها تأويل واحد ممكن، وهذا التأويل إما صحيح وإما غير ذلك. (9) رفض المراجعة
من أمارات العلم الزائف أن يرفض المرء مراجعة موقفه في ضوء الأدلة الجديدة، فمهما أجريت من دراسات تجمع على عدم فاعلية التنجيم فسوف يظل المنجمون يكررون نفس الحجج في تدعيم مهنتهم. أما العلم فهو عملية ذات طبيعة مختلفة تماما، مقومها الأساسي هو المراجعة والتصحيح المستمران من أجل استيعاب الأدلة الجديدة.
أولا:
وقبل كل شيء ليس ثمة من العلماء ومن التمويل ما يكفي لتحقيق أو دحض كل دعوى كانت، غير أن هذا ليس دليلا إيجابيا على صحة الدعوى، بل هو دليل على جهلنا (أو لا مبالاتنا) بالمسألة لا أكثر.
ثانيا:
عندما يقترح شخص نظرية بديلة لنظرية قائمة شديدة الرسوخ، فإن عبء البرهان يقع تماما - من الوجهة المنطقية - على هذا الوافد الجديد. عندما اقترح كوبرنيقوس أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس فإن الناس لم تصدقه لمجرد أنه لم يدحضه أحد ويثبت أنه على خطأ (بل إن معظم الناس - على العكس - لم تنظر مجرد نظرة إلى حججه)، لقد طالب الفلكيون بأدلة، وقد استغرق الأمر قرنا من الزمن لكي يتم قبول النظرية. (11) النظرية مشروعة لمجرد أنها جديدة أو مختلفة أو جريئة
يقال لهذا «أثر جاليليو»: يولع أنصار النظريات الجديدة باستحضار الأمثلة الكثيرة لعلماء تعرضوا للسخرية أو الإهمال أو حتى الاضطهاد بسبب نظرياتهم الجذرية، التي ثبت بعد ذلك صحتها، هذا الخط من الاستدلال فاته - بالطبع - حقيقة أنه في مقابل كل جاليليو (الذي نجح في النهاية) هناك ألوف من المعتوهين الذين لم ينجحوا، في مقابل كل مثال واحد لنظرية علمية جديدة جريئة تم قبولها في النهاية هناك الكثير الكثير من الأمثلة لنظريات خاطئة مرفوضة أبدا وملازمة لمزبلة التاريخ العلمي الزائف. الجدة
novelty - بما هي كذلك - ليست دليلا على الإطلاق.
الفصل الثامن
إمري لاكاتوش:1 العلم والعلم الزائف2
الالتزام الأعمى بنظرية ما ليس فضيلة فكرية بل هو جريمة فكرية.
إ. لاكاتوش
يعد احترام المعرفة من أخص خصائص الإنسان، والمعرفة في اللاتينية هي
scientia ، ومنها أتت كلمة
science (علم) لتكون اسما لأجل صنف من المعرفة، ولكن ما الذي يفرق المعرفة عن الخرافة أو الأيديولوجية أو العلم الزائف؟ لقد حرمت الكنيسة الكاثوليكية كل مؤيد لنظرية كوبرنيقوس، واضطهد الحزب الشيوعي أنصار نظرية الوراثة المندلية، باعتبار أن مذاهبهم علمية زائفة. إن التمييز بين العلم والعلم الزائف ليس مشكلة نظرية تليق بالمقاعد الوثيرة: إنها ذات صلة اجتماعية وسياسية خطيرة.
حاول كثير من الفلاسفة أن يحل مشكلة التمييز
problem of demarcation
كما يلي: تعد عبارة ما علما إذا كانت كثرة كافية من الناس تعتقد بها بشدة كافية، (ولكن تاريخ الفكر ينبئنا أن كثيرا من الناس كانوا على التزام تام باعتقادات باطلة)، وإذا كانت قوة الاعتقادات محكا للمعرفة لتوجب علينا أن نضع بعض الحكايا عن العفاريت والملائكة والشياطين والفردوس والجحيم، نضعها في مرتبة المعرفة.
إن العلماء - بخلاف ذلك - شديدو الارتياب حتى بأفضل نظرياتهم: فنظرية نيوتن هي أقوى نظرية أنتجها العلم حتى الآن، ولكن نيوتن نفسه لم يعتقد قط أن الأجسام تتجاذب عن بعد، ليست هناك إذن درجة من الالتزام بالاعتقادات تجعل منها معرفة. الحق أن السمة المميزة للسلوك العلمي هي ارتيابية معينة حتى تجاه أعز النظريات لدى المرء. ليس الالتزام الأعمى بنظرية ما فضيلة فكرية، بل هو جريمة فكرية.
بذلك قد تكون عبارة ما زائفة علميا حتى لو كانت «مقبولة»
plausible
للغاية ويعتقد بها الجميع، وقد تكون ذات قيمة علمية حتى لو كانت غير معقولة ولا يعتقد بها أحد، بل قد تكون نظرية ما على أعلى قيمة علمية حتى لو لم يكن ثمة من أحد يفهمها، بله أن يعتقد بها.
إن القيمة المعرفية للنظرية لا شأن لها بتأثيرها النفسي على عقول الناس، فالاعتقاد. والالتزام والفهم حالات للعقل الإنساني، أما القيمة العلمية الموضوعية للنظرية فشيء مستقل عن العقل الإنساني الذي يبتكرها أو يفهمها، إنما تعتمد قيمتها العلمية على الدعم الموضوعي الذي تمتلكه في دنيا الوقائع
facts ، لا على أي شيء سواه، وكما يقول هيوم:
إذا أمسكنا في يدنا أي كتاب: في الإلهيات مثلا أو في الميتافيزيقا المدرسية، فلنسال أنفسنا: هل يحتوي على أي استدلال مجرد يتعلق بالكم أو العدد؟ لا، هل يحتوي على أي استدلال تجريبي يتعلق بالواقع والوجود؟ لا، إذن ألق به في النيران؛ لأنه لا يحتوي شيئا غير السفسطة والوهم.
ولكن ما هو التفكير (الاستدلال) التجريبي؟ إذا نظرنا إلى التراث العريض للقرن السابع عشر في السحر فسنجده مليئا بملاحظات دقيقة وأدلة مسترسلة بل وتجارب، وقد كان جلانفيل - فيلسوف الرابطة الملكية المبكرة - يعتبر السحر هو نموذج التفكير التجريبي. إن علينا أن نعرف التفكير التجريبي قبل أن نبدأ في حرق الكتب على طريقة هيوم.
في التفكير العلمي تواجه النظريات بالوقائع، ومن الشروط الأساسية للتفكير العلمي أن النظريات يجب أن تدعمها الوقائع، والآن كيف بالضبط يمكن للوقائع أن تدعم النظرية؟
لقد اقترحت أجوبة مختلفة عديدة على هذا السؤال، كان نيوتن نفسه يعتقد أنه أثبت قوانينه من الوقائع، وقد كان فخورا بأنه لا يتفوه بمجرد فرضيات، وكان يزعم أيضا أنه استنبط قوانينه من «الظواهر»
phenomena
التي قدمها كبلر، غير أن فخره كان هراء؛ لأن الكواكب وفقا لكبلر تتحرك في مسارات بيضاوية (إهليلجية)، بينما هي وفقا لنظرية نيوتن لا تتحرك في مسارات بيضاوية إلا إذا لم يربك بعضها بعضا في حركته، ولكنه يربك، وهذا ما جعل نيوتن يضع نظرية اضطراب
perturbation theory
يترتب عليها أنه ليس ثمة كوكب يتحرك في مسار بيضاوي.
بوسع المرء اليوم أن يبرهن بسهولة على أنه لا يمكن استقاء قانون طبيعي صحيح من أي عدد متناه من الوقائع، إلا أننا ما نزال نقرأ عن نظريات علمية يبرهن عليها من الوقائع، فلماذا هذه المقاومة العنيدة للمنطق الابتدائي؟
ثمة تفسير معقول جدا، وهو أن العلماء يريدون أن يجعلوا نظرياتهم جديرة بالاحترام ومستحقة للقب «علم»، أي لقب المعرفة الأصيلة، ولكن أهم معرفة في القرن السابع عشر، أوان ولد العلم، هي المتعلقة بالرب والشيطان والفردوس والجحيم. وهذه معرفة عواقب الخطأ فيها وخيمة، فإذا أخطأ المرء في حدوسه الافتراضية عن الإلهيات فإن عاقبة خطئه هي الدينونة الأبدية، غير أن «التنوير»
Enlightenment
ذهب إلى أننا جهلاء وغير معصومين في الأمور الثيولوجية، ومن ثم فليس ثمة ثيولوجيا علمية، ليس ثمة معرفة ثيولوجية؛ فالمعرفة لا يمكن أن تكون إلا عن «الطبيعة»، ولكن هذا النوع الجديد من المعرفة يجب أن يخضع للمعايير التي استقوها من الثيولوجيا على نحو مباشر: يجب أن تثبت إثباتا لا يقبل الشك، يجب أن يحقق العلم نفس اليقينية التي أفلتت من الثيولوجيا. لم يكن يسمح للعالم الجدير بهذا الاسم أن يخمن، بل عليه أن يبرهن من الوقائع على كل عبارة يفوه بها، كذا كان معيار الأمانة العلمية. النظريات غير المثبتة بالوقائع كانت تعد دجلا آثما، هرطقة في المجتمع العلمي.
ليس غير سقوط النظرية النيوتنية ما نبه العلماء في هذا القرن (العشرين) إلى أن معايير الأمانة عندهم كانت يوتوبية، فقبل أينشتين كان معظم العلماء يعتقدون أن نيوتن قد فك شفرة القوانين النهائية للرب عن طريق البرهنة عليها من الوقائع. في بدايات القرن التاسع عشر أحس أمبير أن عليه أن يسمي كتابه عن تأملاته في الكهربية المغناطيسية: النظرية الرياضية في الظواهر الكهربية الديناميكية المستنبطة تماما من التجربة، ولكنه في نهاية الكتاب يعترف عرضا بأن بعض التجارب لم تجر على الإطلاق، وأنه حتى الأدوات الضرورية لم تشيد!
فإذا كانت جميع النظريات غير قابلة للإثبات على حد سواء، فما الذي يفرق المعرفة العلمية عن الجهل، ويميز العلم عن العلم الزائف؟
أحد الأجوبة عن هذا السؤال قدمه في القرن العشرين «المناطقة الاستقرائيون»
inductive logicians . شرع المنطق الاستقرائي في تحديد احتمالية شتى النظريات وفقا للدليل الكلي المتاح، فإذا كان الاحتمال الرياضي لنظرية ما عاليا فإنها تتصف بأنها علمية، وإذا كان الاحتمال منخفضا أو صفرا فهي غير علمية؛ وعليه فإن السمة المميزة للأمانة العلمية هي ألا تقول أي شيء ليس عالي الاحتمال على أقل تقدير، ولمذهب الاحتمالية
probabilism
ملمح جذاب؛ فبدلا من إضفاء تمييز أبيض/أسود بين العلم والعلم الزائف يقدم مذهب الاحتمالية متصلا يمتد من النظريات الرديئة ذات الاحتمالية الضئيلة إلى النظريات الجيدة ذات الاحتمالية العالية، غير أنه في عام 1934م أعلن كارل بوبر - أحد أعظم الفلاسفة نفوذا في زمننا - أن الاحتمالية الرياضية لجميع النظريات - العلمية والعلمية الزائفة - بالنظر إلى أي قدر من الأدلة هو صفر، فإذا صح قول بوبر تكون النظريات العلمية ليست فقط غير قابلة للإثبات على السواء، بل أيضا غير محتملة على السواء. الأمر بحاجة إلى معيار جديد للتمييز. واقترح بوبر معيارا مذهلا نوعا ما: فقد تكون نظرية ما علمية وإن لم تكن ثمة ذرة من الدليل في صالحها، وقد تكون زائفة وإن كانت جميع الأدلة المتاحة في صفها. يعني ذلك أن الصفة العلمية أو غير العلمية للنظرية يمكن أن تتحدد بمعزل عن الوقائع، وفقا لبوبر فإن النظرية تكون «علمية» إذا كان المرء مستعدا لأن يحدد مقدما تجربة (أو ملاحظة) فاصلة بوسعها أن تكذب النظرية، وتكون «علمية زائفة» إذا كان رافضا تحديد مثل هذا «المكذب بالقوة»
potential falsifier ، ولكن إذا كان الأمر كذلك فنحن إذاك لا نميز النظريات العلمية عن العلمية الزائفة، أو نميز المنهج العلمي عن المنهج غير العلمي، فتكون الماركسية علمية عند البوبري إذا كان الماركسيون مستعدين لتحديد وقائع من شأنها إذا لوحظت أن تجعلهم يتخلون عن الماركسية، فإذا كانوا يرفضون ذلك تصبح الماركسية علما زائفا. إن من المثير دئما أن تسأل الماركسي ما هو الحدث المدرك الذي يمكن أن يجعلك تهجر ماركسيتك: فإذا كان صاحبنا ملتزما بالماركسية فإنه ملزم بألا يحدد وضعا يمكن أن يكذبها وبأن يجد ذلك فسقا عن النظرية. هكذا قد تتحجر قضية ما إلى دوجما علمية زائفة أو تصبح معرفة أصيلة وفقا لما إذا كنا مستعدين لذكر أحوال قابلة للملاحظة من شأنها أن تفند القضية.
إذن هل معيار قابلية التكذيب عند بوبر هو الحل لمشكلة تمييز العلم عن العلم الزائف؟ كلا، ذلك أن معيار بوبر يتجاهل العناد الشديد الذي تتحلى به النظريات العلمية. إن للعلماء جلدا سميكا، فهم لا يهجرون نظرية لمجرد أن الوقائع تناقضها، ودأبهم في هذه الحالة إما أن يبتكروا فرضية إنقاذ معينة لتفسير ما يسمونه إذاك مجرد «شذوذ»
anomaly ، وإما أن يتجاهلوا ذلك وينصرفوا إلى مشكلات أخرى. لاحظ أن العلماء يتحدثون عن «شذوذات»، عن أمثلة مستعصية، لا عن «تفنيدات». صحيح أن تاريخ العلم يعج بأوصاف لتجارب فاصلة يزعم أنها قتلت نظريات، غير أن هذه الأوصاف ملفقة بعد أن تم التخلي عن النظرية بوقت طويل. ولو أن بوبر كان قد سأل يوما عالما نيوتنيا تحت أية ظروف تجريبية سيكون حريا به أن يتخلى عن نظرية نيوتن، لارتبك بعض العلماء النيوتنيين ولم يحيروا جوابا شأنهم شأن بعض الماركسيين.
ما هي إذن السمة المميزة للعلم؟ هل علينا أن نستسلم ونوافق على أن الثورة العلمية ما هي إلا تغير غير عقلاني في الالتزام، ما هي إلا تحول ديني؟ لقد خلص توماس كون - وهو فيلسوف علم أمريكي بارز - إلى هذه النتيجة بعد أن اكتشف سذاجة مذهب التكذيب
falsificationism
عند بوبر، ولكن إذا كان كون صائبا فليس ثمة تمييز صريح بين العلم والعلم الزائف. ليس ثمة تمييز بين التقدم العلمي والانحطاط الفكري. ليس ثمة معيار موضوعي للأمانة، ولكن أي معايير يمكنه عندئذ أن يقدمها لتمييز التقدم العلمي عن التنكس الفكري؟
لقد تقدمت في السنوات القليلة الأخيرة بمنهج لبرامج البحث العلمي يحل بعض المشكلات التي لم يتمكن كل من بوبر وكون من حلها.
أولا: أنا أزعم أن الوحدة الحقيقية للإنجازات العلمية الكبيرة ليست فرضية منعزلة، بل هي «برنامج بحث»
research programme ، فالعلم ليس مجرد محاولة وخطأ، ليس سلسلة من الحدوس الافتراضية والتفنيدات: «كل البجع أبيض» قد يكذبها اكتشاف بجعة واحدة سوداء، ولكن هذه «المحاولة والخطأ» التافهة لا ترقى إلى أن تكون علما. العلم النيوتني مثلا ليس - ببساطة - مجموعة من أربعة حدوس (قوانين الحركة الثلاثة وقانون الجاذبية)، فهذه القوانين الأربعة لا تشكل إلا «النواة الصلبة»
hard core
للبرنامج النيوتني، غير أن هذه النواة الصلبة محمية بشدة من التفنيد بواسطة «حزام واق»
protective belt
من الفرضيات المساعدة
auxiliary hypotheses ، بل أهم من ذلك أن برنامج البحث لديه أيضا «مساعد كشف»
heuristic ، أي آلية حل مشكلات قوية. من شأن هذا المساعد الكشفي - بمساعدة تقنيات رياضية معقدة - أن يهضم الشذوذات، بل ويحولها إلى دليل إيجابي. مثال ذلك أنه إذا كان ثمة كوكب لا يتحرك كما ينبغي له بالضبط، فإن العالم النيوتني يكبح حدوسه المتعلقة بالانحراف الجوي، والمتعلقة بانتقال الضوء في العواصف المغناطيسية، ومئات من الحدوس الأخرى التي هي جميعا جزء من البرنامج، بل هو قد يبتكر كوكبا ما زال مجهولا ويحسب موضعه وكتلته وسرعته من أجل أن يفسر الشذوذ.
فلننظر الآن في نظرية نيوتن في الجاذبية والنظرية النسبية لأينشتين وميكانيكا الكوانتم والماركسية والفرويدية، إنها جميعا برامج بحث، لكل منها نواة صلبة مميزة يحميها بعناد حزام واق مرن، ولكل منها آلية معقدة لحل المشكلات خاصة بها، ولكل منها - في أي مرحلة من نموها - مشكلات لم تحل وشذوذات لم تستوعب. جميع النظريات بهذا المعنى تولد مفندة وتموت مفندة ، ولكن هل هي جيدة على حد سواء؟ لقد كنت حتى الآن أصف ماذا تكونه برامج البحث، ولكن كيف يمكن للمرء أن يميز البرنامج العلمي أو المتقدم عن البرنامج الزائف أو المتنكس؟
على خلاف بوبر، لا يمكن أن يكون الفارق هو أن البعض ما زال غير مفند بينما البعض الآخر قد تم تفنيده. عندما أصدر نيوتن كتابه «المبادئ»
كان من المعروف للجميع أنه لم يتمكن من تفسير حتى حركة القمر على نحو قويم. والحق أن حركة القمر فندت نيوتن. وقد فند كوفمان - وهو فيزيائي بارز - نظرية النسبية لأينشتين في العام نفسه الذي نشرت فيه، ولكن جميع برامج البحث التي أقدرها لديها خاصة مشتركة: أنها جميعا تتنبأ بوقائع جديدة، وقائع إما لم تخطر في حلم أحد وإما قد ناقضتها بالفعل برامج منافسة أو سابقة. في عام 1686م مثلا، عندما نشر نيوتن نظريته في الجاذبية، كانت هناك نظريتان راهنتان فيما يتعلق بالمذنبات: الأكثر رواجا منهما تعتبر المذنبات إنذارا من رب غاضب ينذر بأنه سوف يضرب ويوقع كارثة. أما الأقل انتشارا - وهي نظرية كبلر - فكانت ترى أن المذنبات أجسام سماوية تتحرك في خطوط مستقيمة. أما وفقا لنظرية نيوتن فإن بعضها يتحرك في قطوع زائدة
hyperbolas
أو في قطوع مكافئة
parabolas
بلا عودة أبدا، والبعض الآخر يتحرك في مسارات بيضاوية معتادة، وقد عقد هالي
Halley - الذي يعمل ببرنامج نيوتن - حساباته القائمة على ملاحظة تمدد مختصر في مسار مذنب معين، وخلص منها إلى أنه سوف يعود بعد 72 سنة، وحسب الدقيقة التي سوف يرى فيها مرة ثانية في نقطة من السماء حددها جيدا. كان هذا شيئا لا يصدق، إلا أنه بعد 72 عاما، بعد وفاة كل من نيوتن وهالي بزمن طويل عاد مذنب هالي كما تنبأ هالي بالضبط. كذلك تنبأ العلماء النيوتنيون بوجود كواكب صغيرة (وبحركتها الدقيقة) لم تلاحظ من قبل قط. أو فلننظر إلى برنامج أينشتين: لقد اجترح هذا البرنامج تنبؤا مذهلا بأن المرء إذا قام بقياس المسافة بين نجمين بالليل وقياس المسافة بينهما بالنهار (إذ هما مرئيان أثناء كسوف للشمس ) فإن القياسين سوف يختلفان! لم يفكر أحد قط أن يقوم بهذه الملاحظة قبل برنامج أينشتين. هكذا نرى أنه في البرنامج البحثي المتقدم تؤدي النظرية إلى اكتشاف وقائع جديدة مجهولة حتى الآن. أما في البرامج المتنكسة فتلفق النظريات، لا لشيء إلا لكي تستوعب الوقائع المعروفة، فهل تنبأت الماركسية - مثلا - في يوم من الأيام بواقعة جديدة مذهلة تنبؤا ناجحا؟ كلا، إن لها تنبؤات مخفقة شهيرة: تنبأت بالفقر المطلق للطبقة العاملة، وتنبأت بأن أول ثورة اشتراكية سوف تحدث في المجتمع الأكثر نموا صناعيا، وتنبأت بأن المجتمعات الاشتراكية ستكون خالية من الثورات، وتنبأت بأنه لن يكون ثمة صراع مصالح بين البلاد الاشتراكية. هكذا كانت التنبؤات المبكرة للماركسية جريئة ومذهلة غير أنها أخفقت. وقد قام الماركسيون بتفسير كل إخفاقاتهم: فسروا ارتفاع مستوى معيشة الطبقة العاملة باختراع نظرية في الإمبريالية، بل فسروا لماذا وقعت أول ثورة اشتراكية في روسيا المتخلفة صناعيا، وفسروا برلين 1953م وبودابست 1956م وبراغ 1968م، وفسروا الصراع الروسي الصيني، ولكن فرضياتهم المساعدة
auxiliary hypotheses
جميعا تم طبخها «بعد الحدث» لكي يحموا النظرية الماركسية من الوقائع، فإذا كان البرنامج النيوتني قد أدى إلى وقائع جديدة فإن البرنامج الماركسي قد تقهقر خلف الوقائع وجعل يركض بسرعة لكي يلحق بها.
مجمل القول أن السمة المميزة للتقدم التجريبي ليس تحقيقات تافهة؛ فبوبر على حق في أن هناك الملايين منها، فليس نجاحا للنظرية النيوتنية أن الأحجار عندما تسقط تقع تجاه الأرض مهما تكرر ذلك، غير أن ما يسمى «تفنيدات»
refutations
ليس السمة المميزة للإخفاق التجريبي كما كان يبشر بوبر؛ إذ إن جميع البرامج تنمو في خضم دائم من الشذوذات. أما الفيصل حقا فهو التنبؤات المذهلة المباغتة المشهودة؛ فقليل منها يكفي لقلب الميزان، وحيثما تخلفت النظرية وراء الوقائع نكون بإزاء برامج بحث متنكسة بائسة.
والآن، كيف تحدث الثورات العلمية؟ إذا كان لدينا برنامجان للبحث متنافسان: أحدهما يتقدم بينما الآخر يتنكس، يميل العلماء إلى الالتحاق بالبرنامج المتقدم. هذا هو الأساس المنطقي للثورات العلمية، ولكن في حين أنه من الأمانة الفكرية أن نبقي على السجل معلنا، فليس من الخيانة أن نتمسك ببرنامج متنكس ونحاول تحويله إلى برنامج متقدم.
وبخلاف بوبر فإن منهج برامج البحث لا يقدم عقلانية فورية، فالمرء ينبغي أن يعامل البرامج المبرعمة بتساهل: فقد تأخذ البرامج عقودا قبل أن تقف على قدميها وتصبح متقدمة تجريبيا، والنقد الهام هو دائما نقد بناء: ليس ثمة تفنيد بدون نظرية أفضل. كما أن توماس كون مخطئ في اعتقاده أن الثورات العلمية تغيرات لاعقلانية مفاجئة في الرؤية. إن تاريخ العلم يدحض كلا من بوبر وكون: فالتفحص الدقيق لتجارب بوبر الفاصلة وثورات كون يتكشف أنهما خرافتان؛ ذلك أن ما يحدث عادة هو أن البرامج البحثية المتقدمة تحل محل البرامج المتنكسة.
ولمشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف متضمنات خطيرة أيضا بالنسبة لمأسسة النقد. لقد منعت الكنيسة الكاثوليكية نظرية كوبرنيقوس سنة 1616م؛ لأنه قيل: إنها علمية زائفة، ثم حذفت عام 1820م من قائمة الممنوعات؛ لأنه بحلول هذا التاريخ اعتبرت الكنيسة أن الوقائع قد أثبتتها فأصبحت من ثم علمية. وفي عام 1949م أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي أن علم الوراثة المندلي علم زائف، وساقت دعاته - مثل فافيلوف
Vavilov - إلى القتل في معسكرات الاعتقال، وبعد قتل فافيلوف أعيد تأهيل علم الوراثة المندلي، ولكن حق الحزب في تقرير ما هو علم وينشر، وما هو علم زائف ويعاقب ظل حقا قائما. تمارس المؤسسة اللبرالية الجديدة للغرب أيضا الحق في أن ترفض منح حرية الحديث لما تعتبره علما زائفا، مثلما رأينا في حالة الجدل المتعلق بالذكاء والعنصر. لم يكن ثمة مناص من أن تستند جميع هذه الأحكام إلى ضرب من معيار التمييز. من أجل هذا فإن مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف ليست مشكلة زائفة تليق بالفلاسفة النظريين في مقاعدهم الوثيرة. إن لها منطويات أخلاقية وسياسية هي من الخطورة بمكان.
الفصل التاسع
من أوهام العقل: الباريدوليا1
هنالك كانت السرعة ضرورة بقاء. ***
الباريدوليا هي ميل العقل البشري إلى إدراك نمط مألوف لشيء ما حيث لا وجود في واقع الأمر لمثل هذا الشيء، من ذلك: رؤية وجوه أو حيوانات أو أشياء في تشكيلات السحاب العشوائية، ورؤية وجه إنساني في القمر، وسماع رسائل خفية في الموسيقى التي تدار بسرعة أكبر أو أصغر من المعتاد أو التي تدار عكسيا، ومن ذلك رؤية وجوه أو أشكال مألوفة في الصخور وأجراف الجبال من جراء التآكل وعمل الرياح وعوامل التعرية. (1) الأصل اللغوي للباريدوليا
وتأتي كلمة «باريدوليا» من كلمتين يونانيتين:
para
وتعني «بجانب» أو «بمحاذاة» أو «بدلا من»، وتعني في هذا السياق شيئا مغلوطا أو خطأ أو «جانبه الصواب»، وكلمة
eidolon
وتعني «صورة» أو «شكلا» أو «هيئة». (2) الأساس النيوروبيولوجي والتطوري
من شأن هذا النزوع الإدراكي - الباريدوليا - أن يحمل الناس على تأويل الصور العشوائية أو التشكيلات التصادفية للضوء والظل كوجوه. يحدث ذلك كنتيجة للطريقة التي يعمل بها الدماغ. ثمة منطقة في الدماغ تسمى «منطقة الوجه المغزلية اليمنى»
right fusiform face area
متخصصة في معالجة الوجوه الحقيقية، وهذه المنطقة ذاتها تنشط عندما يرى الناس هيئة وجه داخل ضوضاء عشوائية، فإذا ما رأى الناس أي دائرتين صغيرتين وخط تحتهما داخل دائرة كبرى فسرعان ما يميزون ذلك كوجه دون أدنى تردد، وقلما يستطيعون صرف هذا التصور عن أذهانهم إن هم حاولوا ذلك!
كانت الباريدوليا يوما ما تظن عرضا من أعراض الذهان، غير أنه قد تبين اليوم أنها نزوع بشري سوي، وفي كتابه «عالم تسكنه الشياطين» يفسر كارل ساجان هذا الميل المفرط لإدراك الوجوه بأنه قد نجم عن حاجة تطورية لتمييز الوجوه بسرعة.
بإزاء الشيء الشبيه بالوجه تنشط عمليات معرفية تنبه الملاحظ إلى هوية الشيء وحالته الانفعالية (عدائية، عدوانية، إحباط ... إلخ) في آن معا، ويتم ذلك حتى قبل أن يشرع العقل الواعي في معالجة المعلومات أو حتى استقبالها، ويبدو أن هذه القدرة المرهفة الحادة هي نتاج دهور من الانتخاب الطبيعي الذي يجتبي الأشخاص الأقدر على التعرف على الحالة الذهنية للغير (لأشخاص مهددين مثلا)، والذي يتيح لهم فرصة للفرار أو للمعاجلة بالكر والهجوم، وبصياغة نيوروبيولوجية يمكننا القول: إن معالجة هذه المعلومات على مستوى تحت-لحائي
subcortical ، ومن ثم تحت-شعوري، قبل أن تمر إلى بقية الدماغ للمعالجة التفصيلية، من شأنها التسريع بالحكم واتخاذ القرار حيث تكون السرعة ضرورة بقاء.
والحق أن أكثر الأخطاء الإدراكية شيوعا (ومنها الباريدوليا) هي تلك الطرائق التي خدمت الجنس البشري في مراحله الأولى وأعانته على البقاء حين كان الرهان الإدراكي باهظا.
2
لقد ترسخت في الدماغ البشري وتأصلت؛ لأنه لا ينسى جميلها القديم، ولقد بقيت به لأنه بقي بها!
كان ليوناردو دافنشي يوصي الفنانين الناشئين بطريقة وجدها «جزيلة الفائدة في استثارة الذهن لشتى ضروب الابتكار: إذا نظرت إلى حائط ملوث، أو حائط مبني من حجارة خليطة، فقد تجد فيه ما يشبه المناظر الطبيعية، من جبال وأنهر وصخور وأشجار ووديان عريضة وتلال في تشكيلات عديدة، أو لعلك ترى معارك ورجالا يقاتلون أو وجوها وأزياء غريبة في تنويع لا ينتهي.» والأطفال يمتازون بهذا النوع من الرؤية، فالطفل الذي لا يتجاوز الثالثة قد ينظر إلى قشرة برتقالة على المائدة ويراها بوضوح، وفي الوقت نفسه - في قشرة البرتقالة ومن خلالها - يرى سفينة في البحر، أو إنه حين يكون مع الكبار على العشاء في الحديقة، يرى فتات الخبز والجبن على المائدة المجلوة كانعكاسات للنجوم والقمر.
3
وقد سجل لنا التاريخ قديمه وحديثه والإعلام بشتى ضروبه أمثلة ووقائع من الخيال والثيمات الدينية، وبخاصة ظهور وجوه لشخصيات دينية وتجليها في ظواهر معتادة، مثل: صورة يسوع، العذراء، كلمة «الله» ... إلخ في الشجر والحجر والسحاب، بل على البيض وعلى درقات السلاحف وفي قعر المقلاة، ومن الأمثلة الطريفة ما حدث في سنغافورة في سبتمبر 2007م حيث وجد بروز لحائي متصلب على شجرة يشبه القرد؛ جعل المؤمنين يرتادون الشجرة ويقدمون فروض الإجلال لل «الإله القرد»!
4
والباريدوليا - إن شئنا الدقة - هي فرع من ظاهرة أعم هي ال
apophenia ، والأبوفينيا هي النزوع البشري إلى إدراك أنماط ذات معنى داخل المعطيات العشوائية أو الضوضاء المختلطة، من ذلك على سبيل المثال: أن المقامرين يتصورون أنهم يرون أنماطا في الأعداد التي تظهر في اللوتاري أو بطاقات اللعب أو عجلات الروليت، ومن ثم يكيفون رهاناتهم وفقا لهذه الأنماط (بينما الرمية أو السحبة في القمار لا ضغط لها على ما سيحدث بعدها، فهي لا تقدم ولا تؤخر في احتمالات الرمية أو السحبة القادمة ولا تؤثر على أرجحيتها أقل تأثير)،
5
ومن ذلك قراءة الطالع والفنجان، وهي تقوم على تمييز أنماط ترى في التشكيلات العشوائية التي تبدو للناس لطخات تصادفية لا معنى لها. (3) الولع بال «أنماط»
patterns
وقد أفاض ميشيل شيرمر
Michael Shermer
في تبيان هذه الظاهرة، وأسماها «الولع بالنمط»
patternicity ،
6
وعرفها بأنها «الميل إلى إيجاد أنماط ذات معنى في الضوضاء الفارغة.» الاعتقاد هو الأصل، الاعتقاد هو الوضع الطبيعي للإنسان، أما عدم الاعتقاد أو الشك، فهو شيء مقلق وغير مريح، وثمة دلائل قوية على أن معالجة القضايا الموجبة أيسر على الدماغ البشري من معالجة القضايا السالبة.
الإنسان كائن «يريد» أن يعتقد. ثمة جهاز اعتقاد في الدماغ البشري. الدماغ آلة اعتقاد، آلة تمييز أنماط، تصل النقاط وتخلق معنى من الأنماط التي تراها في الطبيعة. نحن رئيسيات تلتمس «النمط»
pattern ، وإذا غم عليها النمط تخترعه، وجميع الكائنات الحية - في الحقيقة - على هذا المنوال؛ فهي تستخلص من تعاقبات الأحداث «أنماطا» تتوقعها وتتنبأ بها وتكيف عليها سلوكها، الأمر الذي يعينها على البقاء والإنسال. يتوقع كلب «بافلوف» الطعام كلما سمع الجرس ويسيل لعابه. تربط الكائنات بين المنبه والنتيجة، بين السلوك والمكافأة. إذا وضعت حمامة في قفص وعلمتها أن تسلك سلوكا معينا تعقبه مكافأة الطعام فإنها تتبنى هذا السلوك وتكرره، فإذا حرمتها مرارا من المكافأة فإنها تخترع سلوكا جديدا من عندها تتوسم فيه النجاح؛ تلتف مرتين مثلا ثم تنقر الزر بمنقارها مرتين عسى أن يواتيها الطعام. تلك هي مسودات الخرافة والطقوس الخرافية مسجلة محفورة في سلوك أبسط الكائنات.
ثمة دلائل تشير إلى أن مادة «الدوبامين» هي الموصل العصبي المسئول عن إدراك النمط، فإذا كانت هذه المادة زائدة عن الحد في مساراتها العصبية المقدرة أدى ذلك إلى التشوش والإفراط في تبين «أنماط» حيث لا نمط، وذلك هو «الذهان»
psychosis
وما يصحبه من «هلاوس»
hallucinations
سمعية أو بصرية ... إلخ، و«ضلالات»
delusions
فكرية تؤول الواقع على غير وجهه، أما الحد المعتدل من الدوبامين فهو وسيط الإبداع وما يصحبه من رؤية أنماط جديدة صائبة لا يكتشفها غير المبدعين من الناس، وأما النقص الشديد في هذا الموصل العصبي فيؤدي إلى الجمود والتصلب والبلادة وعدم إدراك الأنماط والتشكك في وجودها عند رؤيتها.
غير أننا لسوء الحظ لم نطور في أدمغتنا شبكة كشف للزيف نميز بها بين الأنماط الحقيقية والأنماط الكاذبة، ليس لدينا «كاشف خطأ» يعدل آلة تمييز الأنماط. من هنا تأتي حاجة العلم إلى اتخاذ آليات تصويب الذات؛ من قبيل تكرار التجربة ومراجعة النظراء والمجموعة الضابطة ومحاولات التكذيب والتجربة الفاصلة ... إلخ.
على أن التمييز الخاطئ لا يزيحنا من «المجمع الجيني»
gene pool ، ولم يكن يمكن - من ثم - أن يستبعد من جانب التطور، فحيثما كانت كلفة الشك أبهظ من كلفة الاعتقاد حسم الأمر لصالح الاعتقاد: إذا استشعرت أذناك حفيفا في العشب قد يكون الريح وقد يكون حيوانا مفترسا، فمن الحصافة أن تتصرف على اعتباره حيوانا مفترسا، فإن أصبت نجوت بعمرك ومررت جيناتك، وإن أخطأت لم تخسر شيئا يذكر. نحن «نراهن»
wager
على النمط، والانتقاء الطبيعي يجتبي الأمهر منا في تمييز الأنماط ولو جانبه الصواب في معظم تمييزاته!
التطور - إذن - لا يستصفي الصواب دائما وينفي الخطأ، وإنما يأخذ الأمور على علاتها ويروز المواقف على الجملة، ويخلط الارتباطات العلية الصحيحة بالارتباطات الخاطئة ما دامت الارتباطات الضرورية للبقاء واقعة في شبكته وداخلة في حوزته ومتضمنة في اعتقاده. من هنا تجد الارتباطات الزائفة - الخرافة - مبررا تطوريا، وتظل قابعة في سراديب العقل البشري إلى أمد بعيد. لقد انسربت الخرافة في ال «ما بين» وتربعت على العوالم العميقة من العقل، ومهما حاول الفكر العلمي طردها تبدلت على عينه وأنسلت سلالات جديدة أقدر على البقاء وأمنع على الزوال والفناء.
الفصل العاشر
مغالطة التصديق الشخصي1
يطلق على هذه الظاهرة أيضا «أثر بارنم»
Barnum effect ، نسبة إلى المخرج الاستعراضي ومقاول السرك في القرن التاسع عشر ب. ت. بارنم
. كان بارنم يعزو نجاحه إلى أنه يقدم مقاسا واحدا يناسب الجميع! أو - على حد قوله - «لدينا شيء ما لكل شخص.» وهو القائل أيضا: «هناك مغفل (جديد) يولد كل لحظة.» يشير بارنم بهذا القول الساخر إلى ميل الناس على الدوام إلى تصديق توصيفات شخصية زائفة على أنها تصف شخصيتهم الخاصة على نحو فريد.
2
ويطلق على هذه الظاهرة أيضا «أثر فورر»
Forer effect ، نسبة إلى عالم السيكولوجيا برترام فورر
Bertram R. Forer (1914-2000م)، الذي اكتشف أن الناس تميل إلى قبول توصيفات شخصية عامة على أنها تنطبق عليهم هم بصفة خاصة، غير مدركين أن نفس الوصف يمكن أن ينطبق على أي شخص كان.
قدم فورر إلى طلابه اختبارا للشخصية، وتلقى أجوبتهم وأغفلها تماما، ثم قدم لكل طالب التقييم التالي على أنه يخصه وحده وفقا للاختبار الذي أجراه، يقول التقييم (الذي استعار فورر عباراته من قراءات متعددة للطالع أو خرائط البروج استقى معظمها من كتاب تنجيم اشتراه من أحد أكشاك الجرائد):
بعض طموحاتك تميل إلى أن تكون غير واقعية إلى حد ما.
أحيانا ما تكون انبساطيا ودمثا واجتماعيا، بينما تكون في أحيان أخرى صريحا للغاية في الكشف عن ذات نفسك للآخرين.
أنت مغتبط بكونك مفكرا مستقلا ولا تسلم بآراء الآخرين دون أدلة كافية.
أنت تحبذ قدرا معينا من التغيير والتنوع وتضيق ذرعا حين تحاصرك القيود والحدود.
أحيانا ما تنتابك شكوك خطيرة فيما إذا كنت قد اتخذت القرار الصائب أو تصرفت التصرف الصحيح.
أنت تميل إلى الضيق وعدم الاستقرار في داخلك حين تستشعر تحكما وسيطرة من الخارج، لقد شكل لك توافقك الجنسي بعض المشكلات.
في حين أن لديك بعض نقاط الضعف في الشخصية فإن لديك القدرة بصفة عامة على تعويضها.
لديك الكثير من القدرات غير المستغلة والتي لا تستخدمها لمصلحتك.
لديك ميل إلى أن تنتقد نفسك، لديك رغبة قوية في أن يحبك الناس ويعجبوا بك.
بعد أن قدم فورر هذا التقييم لكل واحد من طلابه على أنه يخصه وحده طلب منهم «تقييم التقييم»: من صفر إلى 5، حيث 5 تعني أن الطالب يشعر أن التقييم ممتاز وينطبق تماما عليه، و4 تعني أن التقييم جيد ... وهكذا وجد فورر أن متوسط التقييمات في الفصل هو 4,26 (بين الجيد والممتاز)، كان هذا عام 1943م، وقد أعيد إجراء الاختبار منذ ذلك الحين مئات المرات مع طلاب علم النفس، وظل المتوسط دائما حول 4,2 من 5، أي إن درجة الدقة 84٪.
يعزو فورر هذا الأثر العتيد إلى ما أسماه «السذاجة البشرية»
human gullibility ، غير أن هناك تفسيرات عديدة لفاعلية أثر فورر، أهمها الأمل أو التفكير الآمل
wishful thinking
والغرور والميل إلى استخلاص معنى من الخبرة.
هذا الميل إلى قبول رسم ما للشخصية على أنه مفصل على مقاسها بعناية بناء على رغبة الشخصية في قبوله، هذا الميل إلى تقبل العموميات الغامضة على أنها خصوصيات محددة، هو ما أطلق عليه فورر عام 1948م مصطلح «مغالطة التصديق الشخصي»
fallacy of personal validation .
3
تفيدنا دراسة أثر فورر في تفسير كيف تعمل العلوم الزائفة كالتنجيم والكف إلخ، وكيف تقنع الناس بأنها تقدم لهم تحليلات دقيقة لشخصياتهم. تركز قراءات الطالع على السمات الإيجابية للشخص، فتجد في التقييم الذي قدمه فورر لطلابه: «لديك رغبة قوية لأن يحبك الآخرون ويعجبوا بك.» تلك عبارة بلغت من العمومية بحيث لا يمكن أن ينكرها أي شخص على نفسه، وكذلك «الحس الفكاهي الجيد» فتلك صفة يتمناها أي شخص ويتوسمها في نفسه، وحتى السمات السلبية يقدمها المنجم معماة برتل من السمات الإيجابية بحيث تصعب على الشخص ملاحظتها، فحين يقول لك المنجم: «في حين أن لديك بعض نقاط الضعف في شخصيتك فإنك قادر بصفة عامة على تعويضها.» فقد نوه لك بضعف شخصيتك، ولكنه ما لبث أن أضاف أنك قادر جدا على تدارك هذا الضعف وتعويضه، ورغم أن المنجم نفسه لا يعلم كيف يكون ذلك فأنت تربطه بأحداث معينة في حياتك وتخلص إلى اقتناع بما قيل.
وكثيرا ما يقدم الناس لهؤلاء الدجالين - من خلال كلماتهم وإيماءاتهم - معلومات تنفلت منهم عفو الخاطر؛ فيتلقفها الدجالون ويعيدونها على مسامعهم في صيغة جديدة. هكذا يعزون هذه المعلومات إلى الدجالين أنفسهم، ويقع في ظنهم أن هؤلاء الدجالين قد أمدوهم بمعلومات عميقة وشخصية، وهكذا يمضي «التصديق الذاتي» في سبيله ويؤتي أثره. (1) القراءة الباردة
cold reading
هي طريقة أو إجراء يمكن به لقارئ الشخصية أن يقنع عميلا لم يقابله من قبل قط أنه يعرف كل شيء عن شخصية هذا العميل ومشكلاته. قد يتم ذلك بإلقاء «قول جاهز»
stock spiel
أو «قراءة نفسية» تتكون من عبارات بالغة العمومية يمكن أن تناسب أي فرد، مثل هذا القارئ السيكولوجي يحفظ في العادة ذخيرة من الأقوال الجاهزة، وبوسعه من ثم أن ينتقي قراءة يلقيها تكون ملائمة للصنف العام الذي ينتمي إليه العميل: فتاة في مقتبل العمر غير متزوجة، مواطن كهل ... إلخ.
ينطلق القارئ من افتراضات أساسية:
أننا جميعا بشر تجمعنا مشتركات واحدة، وأن أوجه الشبه بيننا أكثر من أوجه الاختلاف.
أن مشكلاتنا تتولد من نفس مراحل الانتقال الكبرى من الميلاد والبلوغ والعمل والزواج والأطفال والشيخوخة والموت.
أن أغلب من يأتون لقارئ الشخصية إنما يلتمسون شخصا ما يصغي إلى صراعاتهم متضمنة الحب والمال والصحة ... إلخ.
يمضي القارئ البارد فيما وراء هذه القواسم المشتركة بأن يجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات الإضافية عن العميل، وأية مشعرات عن أحواله وأوضاعه: هندامه مثلا، ذوقه فيه وأسلوبه ودرجة عنايته وثمنه ... مستواه الاقتصادي الاجتماعي، عمره، وزنه، جلسته، نظراته، نطقه ولغة حديثه، إيماءاته وتواصله بالنظر، ثقافته، درجة تهذيبه، تعليمه ... إلخ.
وبناء على تقييمه المبدئي يضع القارئ في ذهنه فروضا اختبارية يتحقق منها بأن يبدأ تقييمه بألفاظ عامة تمس فئات عامة من المشكلات، ويلاحظ رد فعل العميل، وبوسعه إذاك أن يتبين أنه على المضمار الصحيح فيتقدم، أو على المضمار الخطأ فيأخذ الحذر، وسرعان ما يضرب ضربات صائبة ويعثر على المشكلات التي تؤرق العميل ويوالف القراءة والموقف. في هذه اللحظة يكون العميل قد اقتنع بالقدرة الخارقة للقارئ ووقر في قلبه أن القارئ قد وقع على استبصارات بأعمق أفكاره. هنا يزول تحفظه ويفشي للقارئ بتفصيلات موقفه، وبعد مسافة كافية سوف يرجع القارئ على العميل المعلومات التي أفشاها الأخير ، مصوغة بحيث تبعث فيه مزيدا من الاندهاش لقدرة القارئ على معرفة كل شيء عنه، وفي جميع الحالات ينصرف العميل دون أن يدرك أن كل ما أنبأه به القارئ إن هو إلا الحديث ذاته الذي أفشاه العميل من غير أن يتفطن لذلك.
4 (2) القول الجاهز
stock spiel
يشير حديثنا عن القارئ البارد إلى أنه شخص بالغ المهارة والموهبة وهذا حق، ولكن المدهش في هذا الأمر أنه حتى القارئ غير الماهر وغير القدير بوسعه أن ينجح في إقناع العميل بأنه قد سبر أغوار طبيعته الحقيقية! لعل من مزايا إبداعية العقل البشري أن بوسع العميل - تحت الظروف الصحيحة - أن يستخرج معنى من أي قراءة تقريبا وأن يؤالف بينها وبين موقفه الفريد، وليس على القارئ سوى أن يبين - بشكل معقول - لماذا ينبغي أن تنطبق قراءته على العميل ولسوف يكمل العميل المهمة.
إن بوسعك أن تحقق درجة مدهشة من النجاح كقارئ شخصيات حتى لو اقتصر عملك على قراءة قول جاهز تقدمه لكل عميل يأتيك، مثال ذلك أن سندبرج
Sundberg (1955م) وجد أنك إذا قدمت مخطط الشخصية التالي لطالب كلية فسوف يقبله عادة كوصف دقيق له إلى حد كبير:
أنت شخص سوي جدا في مواقفه وسلوكه وعلاقاته بالناس، وتمضي قدما دون عناء. الناس تحبك عادة، وأنت لا تسرف في انتقادهم أو انتقاد نفسك. لست مفرطا في التقليدية ولا في الفردية. مزاجك الغالب هو التفاؤل والجهد البناء، ولا تنال منك فترات من الاكتئاب أو المرض النفسجسمي أو الأعراض العصبية.
كما وجد سندبرج أن طالبة الكلية سوف تستجيب للمخطط التالي بسرور أكبر حتى من هذا:
شخصيتك تبدو مرحة ومتوازنة. قد تعتريك بعض التقلبات بين المزاج السعيد وغير السعيد ولكنها لم تعد عنيفة. ليست لديك مشكلات صحية تذكر. أنت اجتماعية تجيدين التواصل مع الغير، وأنت متكيفة في مواقفك الاجتماعية. لديك ميل للمغامرة، اهتماماتك عريضة. أنت واثقة بنفسك بدرجة جيدة وتفكرين بوضوح عادة.
5
أجرى سندبرج دراسته منذ عقود، ولكن المخططين لا يزالان يعملان بنجاح حتى اليوم، وسيظلان يعملان بنجاح مع كلا الجنسين. (3) بعض قواعد اللعبة
من قواعد لعبة قراءة الشخصية أن يبدو القارئ واثقا من نفسه ومن قوله، وقد تبين أنه حتى القراءة الخاطئة والمضادة للشخصية يتم تقبلها والاقتناع بها إذا كان الإلقاء رصينا واثقا.
ومنها أن تفيد من أحدث المسوح الاجتماعية واستطلاعات الرأي في استنباط ميول العميل في شتى المجالات بالنظر إلى شريحته الاجتماعية ومسقط رأسه وديانته ومهنته وعمره ومستوى تعليمه، وأن تكسب تعاون العميل منذ البداية وتؤكد له أن نجاح القراءة مرهون بتعاونه ومسايرته، وأن تعزو أية حيودات مبدئية عن الصواب إلى مصاعب اللغة والتواصل، وأن تدفعه إلى إعادة صياغة العموميات الغامضة وفقا لمفرداته ومعجمه وخصوصيات حياته، وبذلك تجعله مشاركا نشطا في القراءة يعتصر ذاكرته وفكره لكي يجد معنى لعباراتك.
والاستعانة بعدة احتيال من مثل بطاقات اللعب أو كرة البللور أو قراءة الكف تقدم لك خدمة مزدوجة: فهي تضفي شيئا من الإثارة والجدة على ما تفعل، وتتيح لك فسحات من الوقت للتمهل وتدبر ما ستقوله في اللحظة التالية. أما قراءة الكف فتقدم للقارئ مزية فريدة وهي استشعار استجابات العميل وانفعالاته من اهتزازات يده، وهو ضرب من «قراءة العضلات»، كما أن عرض الخطوط المختلفة: خط القلب ويخص العواطف، وخط المصير ويخص أمور العمل والمال، وخط الصحة ... إلخ، وتخيير العميل بما يفضل التركيز عليه أولا، من شأنه أن يضع يدك على الفئة الأعم من المشكلات التي تشغل عقله.
ولتكن لديك ذخيرة من العبارات الجاهزة طوع لسانك، تنثر منها بين ثنايا قراءتك الأساسية لتمنحها قوة وقواما، وتملأ بها اللحظات التي تكون فيها مستغرقا بصياغة تشخيصاتك الأكثر دقة.
استخدم تقنية «الصيد»، وهي ببساطة وسيلة لجعل العميل يفصح لك عن نفسه، ثم تصوغ حديثه بطريقتك في مخطط متسق وتعيده على مسامعه مرة أخرى. ومن صور الصيد أن تصوغ كل عبارة في شكل سؤال ثم تنتظر العميل كي يرد، فإذا كان رد فعله إيجابيا فاعمد إلى تحويل العبارة إلى تقرير إيجابي، وبمرور الوقت سوف ينسى العميل أنه كان مصدر معلوماتك، وسوف يدهش من أنك تعلم عنه الكثير.
عليك أن تكون مستمعا جيدا، وأن تترك العميل يتدفق بحرية في الحديث؛ ذلك أنه سوف ينسى أنه باح لك بكل شيء، والحق أيضا أن أولئك الذين يلتمسون قارئ شخصية إنما يريدون في المقام الأول من يصغي إلى مشكلاتهم، كما أن كثيرا منهم قد عقد النية على ما سوف يعمله ولا يريد إلا من «يخلص» له قراره ويدعمه في اختياره.
اعمد إلى مسرحة قراءتك وبهرجتها، واجعلها تبدو أكبر مما هي، وابتكر صورا لفظية عن كل نقطة أفشاها العميل.
لا تتردد في إطراء عميلك، فأغلب الناس تحب الإطراء، وحتى العميل الاستثنائي الذي يعترض على إطرائك سوف يعتز به في قلبه، ويمكنك في هذه الحالة منحه مزيدا من الإطراء بأن تقول له: «أنت دائم الشك فيمن يمدحك، فأنت لا تصدق أن أحدا يمكن أن يمدحك دون أن يكون له في ذلك غرض خفي وحاجة في نفسه.» (4) خدعة «قوس قزح»
ومن الخدع الشهيرة في القراءة الباردة ما يعرف ب «خدعة قوس قزح»، وهي عبارة ماكرة تعطي الشخص المفحوص سمة شخصية محددة والسمة المضادة لها في الوقت نفسه! بمثل هذه العبارة يمكن للقارئ أن «يغطي كل الاحتمالات»، ويكون قد عقد استنباطا دقيقا في ذهن الشخص، رغم أن العبارة المقدمة في الخدعة غامضة ومتناقضة، تفعل هذه العبارة فعلها وتؤتي أثرها؛ لأن السمات الشخصية ليست شيئا قابلا للتقدير الكمي، ولأن كل إنسان تقريبا قد خبر كلا جانبي أي عاطفة معينة في وقت ما من حياته، من أمثلة هذه العبارات: «أنت إيجابي ومرح في أغلب الوقت، ولكنك في وقت ما في الماضي كنت في غاية الضيق والتبرم.» «أنت طيب جدا وتراعي مشاعر الآخرين، إلا أنك يتملكك غضب عميق إذا قام أحد بعمل من شأنه أن يهدم ثقتك.» «أود أن أقول إنك محتشم وهادئ في الأغلب الأعم، إلا أنك إذا أغرقت في المرح يمكنك بسهولة أن تصبح محط انتباه الجميع.»
بوسع القارئ البارد أن يتخير سمة من بين تنويعة من السمات الشخصية ثم يفكر في عكسها، ثم يربط السمتين معا في عبارة، موصولتين على نحو غامض بواسطة عوامل من قبيل: المزاج أو الوقت أو الإمكانية.
ولا تنس بعد القاعدة الذهبية: «قل للعميل ما يريد أن يسمعه.» أو كما يقول فرويد: «قارئ الطالع الناجح هو من يتنبأ بما يود العميل سرا أن يحدث وليس بما سوف يحدث بالفعل.» (5) لماذا تنجح القراءة الباردة؟
قلنا: إن الغرور البشري والتفكير الآمل يؤازران المنجم في عمله، ويقصران عليه الطريق، ولكن هناك سببا أكثر عمقا وجوهرية يؤدي إلى نجاح الدجل: ذلك هو نزوع العقل البشري إلى إضفاء المعنى؛ فنحن البشر نستشعر القلق والفزع كلما واجهنا الغموض أو الالتباس أو اللايقين، وهي استجابة عمومية وطبيعية بالنظر إلى أن أدمغتنا مشيدة على أن تضفي معنى على العالم من حولنا وعلى المعلومات التي تصلنا؛ لذا يميل الناس سيكولوجيا إلى ملء الفراغات وسد الخانات لكي يظفروا بصورة مترابطة لما يرون ويسمعون ويدركون، حتى إذا كان الفحص الدقيق أو التمحيص الأمين للأدلة قمينا أن يكشف أن البيانات غامضة ومختلطة ومتناقضة.
هكذا جبلت منظوماتنا الاعتقادية على أن تجد معنى في الشواش، فتعيننا بذلك على أن نتكيف فكريا وعاطفيا مع الغموض واللاتحدد، فنحن على الدوام نحاول أن نسبغ المعنى على الوابل المعلوماتي المتناثر المفكك الذي يمطرنا كل لحظة، وأحيانا ما نستخلص معنى من اللامعنى. نحن نسد الفراغات ونملأ الشواغر ونضفي صورة متماسكة على ما نسمع ونرى حتى لو كان في ذاته غامضا ومشوشا ومعتما وغير متسق بل وغير مفهوم.
ولكن لماذا تعمل القراءة الباردة بنجاح وبنجاح كبير؟! ليس يجدي أن نقول: إن الناس سذج أو قابلون للإيحاء، ولا هو بإمكاننا أن نرفضها بالإشارة إلى أن بعض الأشخاص ليس لديهم التمييز أو الذكاء الكافي لكشفها. الحق أن بوسع المرء أن يحاج بأن القراءة الباردة تتطلب درجة معينة من الذكاء من جانب العميل لكي تعمل جيدا! فما إن ينخرط العميل إيجابيا في محاولة إيجاد معنى لسلسلة من العبارات - المتناقضة أحيانا - الصادرة من القارئ (قارئ الشخصية/الطالع/الكف ...) حتى يصبح كيانا مبدعا لحل المشكلات يحاول أن يجد اتساقا ومعنى في المجموعة الكلية للعبارات، وهي مهمة لا تبعد كثيرا عن محاولة إيجاد معنى لعمل فني أو قصيدة أو - في مقامنا هذا - لعبارة، تعمل القطعة الفنية أو القصيدة أو العبارة كرسم تخطيطي أو مخطط يمكننا أن نشيد منه خبرة ذات معنى بأن نهيب بخبراتنا الماضية وذاكرتنا الخاصة.
وبعبارة أخرى فإن القراءة تنجح لا لشيء إلا لأنها تستدعي عمليات الفهم السوية التي اعتدنا أن نطلقها في استخراج معنى من أي شكل من أشكال التواصل. إن المعلومات الخام في أي تواصل ما قلما تكون كافية في ذاتها للفهم، فهي تفترض وجود سياق مشترك وخلفية مشتركة. ثمة الكثير من الفراغات التي يتعين ملؤها بواسطة الاستدلال، والقارئ الجيد - شأنه شأن أي شخص يتلاعب بإدراكاتنا - لا يعدو أن يستغل العمليات العادية التي نستخرج بها معنى من الوابل المختلط من المدخلات التي تمطرنا بلا توقف، «والحق أن معظم الفلاسفة وعلماء الإبصار اليوم يتفقون على أن الإدراك «محمل بالنظرية»
theory-laden
وأن خبرتنا الحسية في أي موقف معطى تتأثر بمفاهيمنا واعتقاداتنا وتوقعاتنا، وربما حتى بآمالنا ورغباتنا التي نجلبها معنا إلى الموقف.» يقول الأنثروبولوجي جون بيتي: «إنما يرى الناس ما يتوقعون أن يروه؛ ذلك أن تصنيفات إدراكهم تحددها إلى حد كبير - إن لم يكن كليا - خلفيتهم الاجتماعية والثقافية.» ويقول فيرابند: «حين نعطى منبهات ملائمة ولكن مع أنساق مختلفة من التصنيف (تهيؤ ذهني مختلف) فإن جهازنا الإدراكي ينتج موضوعات إدراكية لا تمكن المقارنة بينها بسهولة.»
6
إن العبارات بحد ذاتها غير ذات معنى، ولا توصل معنى إلا في سياق، ولا تبلغ دلالة إلا إذا كان بوسع المستمع أو القارئ أن يستدعي مخزونه الكبير من المعرفة بالعالم، والعملاء ليسوا غير عقلانيين بالضرورة حين يجدون معنى في «الأقوال الجاهزة»
stock spiel
أو القراءة الباردة، إنما المعنى تفاعل بين التوقعات والسياق والذاكرة والعبارات المعطاة.
أجرى سولومون آش
Solomon Asch (1948م) - من علماء نفس الجشطلت - تجربة ستساعدنا في فهم هذه النقطة، فقد أعطى المفحوصين الفقرة التالية لكي يفكروا فيها:
أعتقد أن تمردا ضئيلا من وقت لآخر هو شيء طيب وضروري في العالم السياسي ضرورة العواصف في العالم الفيزيائي.
وأنبأ مجموعة من المفحوصين بأن قائل العبارة هو توماس جيفرسون (تصادف أن هذا صحيح)، وسألهم هل يتفقون مع العبارة وماذا تعني لهم، وكانت النتيجة أن هؤلاء وافقوا على الفقرة وفسروا كلمة «تمرد» بأنها تعني اهتياجا غير ذي خطر، أما المجموعة الأخرى من المفحوصين (وقد أعطوا نفس الفقرة) فقد أنبأهم أن قائلها هو لينين؛ فكانت النتيجة أنهم لم يوافقوا عليها وفسروا كلمة «تمرد» بأنها تعني ثورة عنيفة.
من وجهة نظر بعض السيكولوجيين الاجتماعيين فإن الاستجابتين المختلفتين تثبتان لا معقولية التحيز، غير أن آش يشير إلى أن المفحوصين قد يكون مسلكهم عقلانيا تماما: فبالنظر إلى ما يعلمونه عن توماس جيفرسون ولينين أو ما يعتقدونه عنهما، فإن من المعقول أن يسبغوا معنيين مختلفين على نفس الكلمات التي تفوه بها كل منهما: فإذا كان المرء يرى أن جيفرسون كان يدعو إلى حكومة منظمة وعمليات سلمية فلن يستقيم أن يفسر عبارته على أنها تعني حقا ثورة دموية أو مادية، وإذا كان المرء يرى أن لينين يحبذ الحرب وسفك الدماء فإن من المعقول إذا نسبت إليه العبارة أن يفسر التمرد بمعناه الأكثر تطرفا.
تؤدي القراءة الباردة عملها بنجاح إذن؛ لأنها تستنفر عملية بشرية أساسية وضرورية. إن علينا أن نستدعي معرفتنا وتوقعاتنا ونهيب بها لكيما نفهم أي شيء في عالمنا، وفي معظم المواقف العادية يتيح لنا هذا الاستخدام للسياق والذاكرة أن نفسر العبارات على نحو صحيح، وأن نقدم الاستدلال الضروري لفعل ذلك، غير أن هذه الآلية القوية قد تضل السبيل في المواقف التي لا تكون فيها رسالة فعلية يجري توصيلها. هنالك سنظل قادرين على أن نجد معنى في الموقف بدلا من أن نتعرف ضوضاء عشوائية.
يعني ذلك إذن أن نفس الجهاز الذي يمكننا من أن نجد معاني على نحو إبداعي ونجترح اكتشافات جديدة، يجعلنا أيضا عرضة تماما للاستغلال من قبل شتى ضروب المتلاعبين، وفي حالة القراءة الباردة قد يكون المتلاعب على وعي بخداعه، غير أنه أيضا كثيرا ما يكون ضحية لمغالطة التصديق الشخصي.
الفصل الحادي عشر
نسبية الذاكرة!
(1) ما الذاكرة؟
يا أيام ذلك العام، اختزنتك ذاكرتي، ومن صورتك انمحت رويدا رويدا السترة المهترئة الحائلة اللون، واحتفظت به، وهو ينضو عنه سترته المهترئة، ويستوي أمامي بالغ الكمال، مثل تحفة لا تشوبها شائبة.
قسطنطين كافافيس
ثمة وهم متوارث، روجت له زمنا نظريات سيكولوجية عتيقة، يقول بأن الذاكرة البشرية أشبه بشريط التسجيل الذي يسجل كل ما يرد عليه دون أن يخرم منه شيئا، وأن كل منبه ورد على عقل الإنسان هو مسجل فيه بشكل ما وبدرجة ما. وإن تكن أغلب المادة المسجلة محفوظة في مستوى عميق من باطن العقل؛ وهي من ثم قابلة للاسترجاع. أما المادة المحفوظة في ظاهر العقل فهي قابلة للاستدعاء بدقة ما دام الشخص يتمتع بكفاية عقلية تامة ونزاهة تعصمه من الكذب ولي الحقائق. وأما المادة المحفوظة في أعماق سحيقة من باطن العقل - وبخاصة إذا كانت مؤلمة قد نالها الكبت وجعلها في حصن منيع - فهي قابلة للاستعادة بواسطة تقنيات سيكولوجية من قبيل التوجيه اللفظي وحفز التخيل والتنويم ... إلخ.
غير أن البحث الحديث في الذاكرة وآلياتها قد كشف لنا زيف هذه التصورات وسذاجتها، فالذاكرة في حقيقة الأمر لا تقوم بعملها كما يقوم شريط التسجيل، فنحن لا نسجل بالتفصيل كل حدث يجري في حياتنا؛ ذلك أن الدماغ يواجه في كل لحظة بكم هائل من ال «المثيرات»
stimuli
الواردة أو «المدخل»
input
البيئي يتجاوز قدرته التخزينية، الأمر الذي يحتم على الذاكرة أن تكون «انتقائية»، مثلما يحتم على الانتباه نفسه أن يكون انتقائيا يصطفي من المثيرات ما يعنيه ويضرب صفحا عن بقية المثيرات، بل يصرفها عن ساحة الوعي بطريقة حاسمة وآليات نشطة. يتعين على الدماغ أن يقوم بعملية «ترشيح»
filtration
دقيقة للمثيرات الواردة حتى يتسنى له أن يعمل بالطريقة التي يعمل بها، بحيث إذا اختلت كفاءة هذا الترشيح يصاب المرء باضطرابات دماغية ليس أقلها الفصام.
1
الذاكرة إذن عملية انتقائية، وهناك أنظمة منفصلة للذاكرة القريبة والذاكرة البعيدة، بحيث لا يعوزنا أن نسجل كل حدث قريب تسجيلا مستداما، وحتى عندما تنقل المادة من الذاكرة القريبة إلى الذاكرة البعيدة فإن عناصرها البارزة فقط هي ما يتم تسجيله. هكذا يتبين أن الذكريات هي في الحقيقة انطباعات إجمالية قلما تتسم بالدقة الوقائعية. تتضمن الذكريات حقا عناصر من إعادة البناء الخيالية وربما الإبداعية، تنطوي عادة على شيء من الاختلاق و«الأراجيف»
confabulations .
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الذاكرة بطبيعتها غير دقيقة، وهناك أسباب وجيهة تجعلها غير دقيقة. إن الذكريات التي تقبع في الدماغ هي شيء «تمت معالجته»
processed ، ومن ثم فإن المخططات المعرفية
cognitive schemata
الموجودة سلفا من شأنها أن تؤثر على التسجيل النهائي للأحداث، وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الذكريات ليست شيئا نقيا مبرأ لم تمسسه يد، بل هي نتاج تفاعل بين الأحداث الحقيقية وبين العمليات الإدراكية للشخص، بين «الموضوع» وبين «الذات».
ثمة نوعان من الذاكرة (قد يكون لكل منهما مسلكه النيوروبيولوجي الخاص):
الذاكرة الصريحة وتتضمن تسجيل المعلومات.
الذاكرة الضمنية وتتضمن تسجيل الخبرات.
والذكريات الضمنية ليست أكثر دقة من الذكريات الصريحة؛ فقد يتسنى لنا أحيانا أن نتذكر بنودا من المعلومات بدقة كبيرة، أما الذكريات الخاصة بأحداث الحياة فهي دائما عرضة للخطأ، كما أن الأحداث المصحوبة بانفعال قوي ليست أفضل تذكرا من الأحداث الخالية من الانفعالات. وقد دلت الدراسات الإمبيريقية على أن شهادة الشهود قد تكون محرفة بدرجة تدعو للدهشة، كذلك تثبت الدراسات أن استدعاء الأحداث التاريخية الدرامية هو أيضا تشوهه المخططات المعرفية المسبقة.
وصفوة القول أن الذاكرة ليست تسجيلا سطحيا لمثيرات خام، فما يذخر في الذاكرة هو في الحقيقة بناءات تم تشييدها وفقا للمخططات المعرفية، وهي نتاج ثقافي بالدرجة الأساس. (2) الدراسات الثقافية للذاكرة
كان بارتلت هو أول سيكولوجي تجريبي يدرس موضوع الثقافة والذاكرة بطريقة منضبطة. ذهب بارتلت إلى أن هناك مبدأين يحكمان تنظيم الذاكرة؛ الأول: هو عملية التذكر الإنشائي، يقول بارتلت بأن الثقافات هي تجمعات منظمة من الأفراد ذات عادات ومؤسسات وقيم مشتركة، تتكون لدى الأفراد عواطف قوية تجاه النشاطات المرتبطة بالمؤسسات والقيم الاجتماعية، تشكل هذه القيم وتجسدها الثقافي الميول النفسية لاختيار أنواع بعينها من المعلومات لتذكرها، وتشكل المعرفة التي تم تمثلها تحت تأثير هذه العواطف القوية البنيات التي تقوم عليها عملية التذكر، فيكون تذكر المحتوى المعرفي في المجالات الغنية بالبنيات أفضل مما هو عليه في المجالات الأقل اعتبارا وقيمة حيث تقل العواطف القوية، وبالتالي تشح البنيات التي ترشد عملية التذكر، كمثال لهذا المبدأ يروي بارتلت قصة راع يعمل لدى أحد أصحاب المزارع استطاع تذكر تفاصيل دقيقة خاصة بعملية شراء عدد من البقر: ثمن كل بقرة، والعلامة الخاصة بها، وملاكها السابقين.
2
افترض بارتلت أيضا وجود نوع آخر من التذكر يكون فيه الترتيب الزمني هو المبدأ التنظيمي: «هناك نوع من التذكر هو أقرب ما يكون إلى ما يسمى الحفظ عن ظهر قلب أو «الصم»
rote memory . يعد الصم خاصية من خواص حياة ذهنية ذات اهتمامات قليلة نسبيا وجميعها عينية في طابعها إلى حد ما وليس من بينها اهتمام مسيطر.»
3
وكمثال لذلك يسرد بارتلت وقائع جلسة تحقيق لم تستطع فيه الشاهدة أن تدلي بما حدث إلا بأن تسرد كل ما مر بها من أحداث منذ قيامها من النوم في الصباح وحتى وقوع الجريمة، ويخلص بارتلت من ذلك إلى أن بعض الثقافات تشجع التذكر التتابعي المفرط والذي أطلق عليه اسم «الصم».
وقد قام س. ف. نيدل بتجارب ميدانية وسط كل من اليوروبا والنيوب في نيجيريا. وهما شعبان يختلفان اختلافا صارخا في نواح عديدة على الرغم من أنهما يعيشان جنبا إلى جنب وتحت نفس الظروف العامة، ولديهما أنظمة اقتصادية وتنظيمات اجتماعية متشابهة ويتحدثان لغات متقاربة. يتميز دين اليوروبا بنسق تراتبي هرمي معقد من الآلهة لكل إله فيه واجباته ووظائفه المحددة، وقد طور اليوروبا فنونا تشكيلية واقعية ومسرحا واقعيا. وعلى النقيض من ذلك كان دين النيوب يتمركز حول قوة غامضة مجردة غير شخصية، وكانت الأشكال الفنية لديهم متطورة جدا في الفنون الزخرفية، ولم يكن لديهم تراث مسرحي شبيه بما لدى اليوروبا.
قام نيدل بتأليف قصة يمكن استخدامها لاختبار التذكر في كلتا الجماعتين، وقد جاءت النتائج مؤكدة لتوقعاته: فقد تذكر اليوروبا البنية المنطقية للقصة والعبارات ذات الدلالة والأحداث الحاسمة في مجرى القصة ولم يأبهوا للكليشيهات غير الدالة، بينما تذكر النيوب الكليشيهات كما هي بالضبط وأقحموا على القصة عناصر من عندهم تخلق صورة ملموسة حية لوقائع القصة.
لم يتذكر أحد من أي من الثقافتين القصة بالضبط، على العكس من فكرة الذاكرة الخرافية للشعوب البدائية، غير أن أجدر شيء بالملاحظة في هذا المقام هو أن التجربة تتعلق بالفروق النوعية (المتوقفة على الثقافة) في الخبرة والمخططات
schemata
المرتبطة بها. الأمر هنا لا يتعلق ب «من فاق الآخر في التذكر: اليوروبا أم النيوب؟» وإنما بأن كليهما قد تذكر بطريقة متمايزة تنسجم مع الاهتمامات التي تشغل ثقافته، وهو ما تنبأ به بارتلت.
تم النظر كذلك إلى أفكار بارتلت عن التكرار الصم من خلال المعلومات التي أتاحتها الدراسات الأنثروبولوجية كجزء من دراسته للجوانب الإدراكية لدى شعب الإياتمول (شعب يعيش في غينيا الجديدة)، وجد جريجوري باتيسون أن أهل العلم في هذا الشعب كانوا مستودعات للطواطم والأسماء المستخدمة في «أغاني الأسماء» والمستخدمة في المجادلات. وبالنظر إلى عدد «أغاني الأسماء» الموجودة لدى كل عشيرة وعدد الأسماء المستخدمة في كل أغنية، قدر جريجوري أن أهل العلم يحملون في رءوسهم عددا يتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألفا من الأسماء. قدمت هذه المادة فرصة رائعة لاختبار القدرة على الصم. قام باتيسون بتسجيل ترتيب الأسماء الذي استخدمه أهل العلم في مناسبات مختلفة. بين باتيسون أن أهل العلم كانوا يغيرون ترتيب الأسماء من مناسبة إلى أخرى، وأن أحدا لم ينتقدهم على هذا العمل على الإطلاق، وعندما كانوا يتعثرون عند نقطة ما في محاولتهم تذكر مجموعة معينة من الأسماء لم يكونوا يرتدون إلى بداية السلسلة كما هو متبع في التكرار الصم، ولا كانوا عندما يسألون عن حدث ما في الماضي يسترسلون في سلسلة من الأحداث المتصلة زمنيا بغية الوصول إلى الحدث المقصود. يبين باتيسون بوضوح أنه على الرغم من أننا واثقون كثيرا بأن الصم ليس العملية الرئيسية المستخدمة لدى أهل العلم من شعب الإياتمول، فإن من غير الممكن تحديد أي العمليات العقلية العليا هي التي تضطلع بالدور الرئيسي في ذلك.
4
بعد ثلاثة عقود من هذه الأعمال الرائدة قام مايكل كول وزملاؤه بسلسلة من الدراسات التي تتناول عملية التذكر لدى مزارعي الأرز من شعب الكبلي في وسط ليبيريا. وبعد عقد آخر أجريت دراسة وسط قبيلة الفاي الليبيرية تتناول مستوى ونمط التذكر لعدد من القصص تم استخدامها على نطاق واسع في الولايات المتحدة في مجال البحوث المتعلقة بنمو الذاكرة. تكمن أهمية الدراسات المتعلقة بالذاكرة في أنها تبين أن الفروق الثقافية تعود إلى تنظيم النشاط الحياتي اليومي: حيثما تتشابه بنيات النشاط بين الجماعات تقل الفروق الثقافية في عمليات التذكر، وحيثما كان بحوزة مجتمع ما ممارسات مؤسساتية هامة لها علاقة بالتذكر لا توجد بحوزة مجتمع آخر (مثل التعليم المدرسي) يمكننا توقع اختلافات ثقافية في عمليات التذكر في صورة أشكال محددة من التذكر تتلاءم مع هذا النشاط (مثل المقدرة على تذكر قوائم من الكلمات).
5 (3) قلم (الذاكرة الشفاهية)
إن قلمي أمهر مني.
أينشتين
ليس ثمة من سبيل إلى تفنيد عالم الشفاهية الأولية، وكل ما تستطيع أن تفعله هو أن تدبر عنه نحو عالم الكتابية.
والتر ج. أونج
كان الماضي يخني على الحاضر والمستقبل، ولا يسمح لشيء جديد أن يولد ... اللفظة المحكية لا تدخل وحدها أبدا، بل تجر معها عالما بأسره، عالما قديما لا يريد أن يزول.
ع. م.
حين اختار الإنسان أن يتكلم اختار أن يبدع نفسه.
وحين اختار أن يجبل أدوات يعجنها بفكره ويمدها بينه وبين العالم فقد اختار أن يضخم دماغه ويفسح نطاقه ويطبع بصمة عقله على الطبيعة.
وحين اختار أن يتخذ قلما، أن يصل أطرافه بهذه القصبة النحيلة، ويطيل أنامله بهذا السن المستدق؛ تضاعفت مهارته، وطال مرمى فكره، وبعد شوط طموحه ومنال عقله.
كان القلم مفتاح الانعتاق من السجن الشفاهي الذي كان مرتهنا فيه دهورا!
كانت الشفاهية قيدا خفيا يكبل العقل والوجدان ويفرض عليهما ضوابط صارمة وأحكاما مبرمة.
تتألف الكلمات في الثقافة الشفاهية (أي التي لم تعرف الكتابة والتدوين) من أصوات، ومن أصوات فقط، ومن شأن ذلك أن يفرض ضوابط على أنماط التعبير، بل على أنماط التفكير؛ ذلك أن «حالة المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرة وآلياتها سطوة كبرى في «عملية المعرفة».
6
في الثقافة الشفاهية يجد المرء نفسه مدفوعا إلى أن يصوغ تفكيره بطريقة يمكن تذكرها، إن كان له أن يظفر بمعرفة على الإطلاق.
لا مندوحة للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يصب تفكيره نفسه داخل أنماط حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي. هنالك يتعين عليه أن يجبل مادة الفكر في أنماط ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جمل متكررة أو متعارضة أو مسجوعة، أو في ثيمات ثابتة، أو في أمثال رنانة سهلة الترديد، وهو مدفوع بحاجته التذكرية إلى أن يلصق بالأشياء أوصافا صارخة فاقعا لونها، وأن يضفي الإيقاع ويتشبث به كأنما يحبس فيه الطليق ويعبئ السائب! وأن يستعين بحركات الجسم وإشارات اليد كأنه يثبت بها الكلمات ويسد عليها كل مهرب، أو كأنه يكمل بها رسم موقف وجودي يسهم فيه الجسد بقسط كبير.
تهيب الشفاهية بالمرء أن يفكر بعقل الجماعة، وأن يعتصم بالأنماط الواردة والنماذج المألوفة والصيغ الجماعية الثابتة، والنعوت الموزونة يلصقها بالحق أو بدونه! إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تملي تركيب العبارة وتحدد مجال الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.
ومن سمات الحفظ الشفاهي أنه يخضع للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. لا يملك الراوي الشفاهي روايته ملكية تامة أبدا، إنه منغمس في تفاعل مباشر مع مستمع حي، ومن شأن توقعات المستمعين واستباقاتهم أن تعمل على تثبيت الموضوعات والصيغ. ينجرف المتحدث الشفاهي بعقل الجماعة ويميل لميل الجمهور ويقول ما يريد منه الجمهور أن يقوله، يقول «ما يطلبه المستمعون!» إن جاز التعبير. وحين ينقطع الطلب على سلسلة من الأنساب (سلسلة المهزومين مثلا) تميل هذه السلسلة للاختفاء أو التحوير. هكذا تسمح الثقافة الشفاهية للأجزاء المؤلمة من الماضي بأن تنسى بسبب مقتضيات الحاضر المستمر، وهكذا تحتم الشفاهية دائما شيئا من الكذب والتحوير والتحريف بحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية ذاتها.
وبحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية، وابتغاء العون التذكري، تلجأ الثقافة الشفاهية إلى المبالغة البطولية، وتضخيم الشخصيات إيجابا وسلبا، والتهويل والإغراب والاستقطاب الذهني، وما يقتضيه ذلك من الإفراط في المدح والقدح والحب والبغض والود والشنآن؛ ذلك أن من الاقتصاد العقلي أن تسرف في الوصف كي تدخر في الجهد التذكري، وأن تحول العادي إلى غير عادي، وأن تزيد من ثقل الشخصيات وتمد من أقطارها وتبرز من آثارها حتى تتيح لها الدوام والبقاء، فهي على كل حال لن تبقى إلا ببقاء الذاكرة ولن تذهب إلا بذهابها.
من عمل الشفاهية أن تلقي بعقلك في عالم من الهول والجلل والشخصيات البطولية، لا رغبة في التأمل ولا ميلا للبطولة، بل لسبب أبسط من ذلك وأكثر تواضعا: وهو أن تصوغ الخبرة في شكل يمكن تذكره! وبعد أن سادت الكتابة وظهرت الطباعة تغيرت بنية العقل وقنع برؤية الأشياء بحجمها الطبيعي، واستغنى عن الشخصية الأسطورية وشكر لها خدماتها القديمة. لقد أسعفته الكتابية بالذاكرة الدقيقة والتدوين الأمين، ولم يعد بحاجة إلى بطل أسطوري لكي يثبت له المعرفة ويحفظها من الفناء.
7
في المجتمعات الشفاهية لم يكن للمعرفة سجل إلا عقول الشيوخ وسدنة الماضي وحفظة الحكمة، وكان على هؤلاء ترديد حكمة الماضي مرارا وتكرارا حتى لا يرخي عليها النسيان سدوله. كان عبء الحفظ ثقيلا لا يترك للذهن فسحة للتجديد أو مراغما للتجريب. هذا مرد الصبغة المحافظة وسطوة التقاليد وقداسة السن في البيئة الشفاهية. لقد كان الماضي يخني على الحاضر والمستقبل ولا يسمح لشيء جديد أن يولد.
حين اختار الإنسان تدوين فكره اختار الانفصال عنه، وأخذ مسافة منه، وجعله من ثم موضوعا للنقد والتمحيص؛ «ذلك أننا ما دمنا نضمر اعتقادا حدسيا من غير تمثيل رمزي فنحن وإياه واحد، ولا نملك نقده، ولكن بمجرد أن نصوغه أو ندونه في شكل رمزي، هنالك يتسنى لنا أن ننظر إليه بموضوعية وأن ننقده ونتعلم منه، نتعلم حتى من رفضه.»
8
حين اختار الإنسان أن يتخذ قلما اختار الانفصال عن الوسط الطبيعي، اختار أن يقيم في العراء، في برد الموضوعية، في طقس التجاوز والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود. والقلم، شأنه شأن الآلة الموسيقية وشأن كل عتاد تقني، يتحول من خلال التدريب والحذق إلى عضو جديد يضاف إلى أعضائه، يثري عالمه ويوسع نطاق وجوده.
حين اختار الإنسان أن يتخذ قلما كان يؤسس لموضوعية لم تعرفها الثقافات الشفاهية ، وكان يحد من تدخل عالم الشئون اليومية وشحناتها الانفعالية في نشاط الفكر المجرد والتأمل الرياضي والخيال العلمي. لا يتسنى للعلم أو الفكر أن ينمو على نحو مطرد إلا مع توافر المصطلح الحيادي الصلب، و«القطيعة» مع اللغة الدارجة السائلة، وتوافر حد أدنى من الانفصال عن مقتضيات الشفاهية، وعن المعاني الارتباطية للفظة المحكية التي لا تدخل وحدها أبدا، بل تجر معها عالما بأسره، عالما قديما لا يريد أن يزول.
الفصل الثاني عشر
مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف
حالما تعانق الفرقاء النظريون في ساحة التطبيق فثم (مفارقة) تنادي بمزيد من العمل الفلسفي، وتهيب بنا أن ننظر في عقلنا الاستدلالي قدر ما ننظر في المشكلة.
ع. م.
مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف هي جزء من مهمة أكبر هي مهمة تحديد أي الاعتقادات هي المبررة إبستيميا.
1
وقد أدلى الكثير من الفلاسفة بدلوه فيها وبقيت المشكلة بلا حل نهائي حاسم؛ فقد انعقد الاتفاق على بعض جزئيات التمييز أكثر مما انعقد على المعايير العامة التي ينبغي أن تتأسس عليها مثل هذه الأحكام، الأمر الذي يشير إلى أننا لا نزال بحاجة إلى مزيد من العمل الفلسفي في مسألة التمييز بين العلم والعلم الزائف.
وقد بين لودان (1983م) أنه لا أمل في العثور على معيار «ضروري»
necessary
و«كاف»
sufficient
2
لشيء غير متجانس مثل المنهج العلمي.
3
ومنذ ذلك الحين وهن العمل الفلسفي في مسألة التمييز فيما يبدو، ثم أعيدت إثارة المشكلة فيما بعد، وذهب البعض ممن يدركون أهميتها إلى أن المفهوم يمكن إيضاحه بوسائل أخرى غير التعريف بالشروط الضرورية والكافية، أو إلى أن مثل هذا التعريف هو في الحقيقة ممكن وإن كان بحاجة إلى إكماله بمعايير خاصة بكل مبحث
discipline-specific criteria . (1) مفهوم العلم
رغم أن معظمنا لديه فكرة تقريبية عما يكونه العلم، بل وبوسعه أن يقدم لنا توصيفا فيما يشبه القائمة: «أشياء مثل الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا بالإضافة - ربما - إلى أشياء من قبيل علم النفس والاقتصاد والاجتماع.» رغم ذلك لا توجد طريقة بسيطة لتعريف العلم؛ فمن المؤكد أنه لا توجد سمة واحدة ، ولا حتى مجموعة صغيرة من السمات، تشترك فيها جميع العلوم. لقد حاول فلاسفة العلم منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية الخمسينيات منه أن يستخلصوا مفهوما مجردا للعلم يضم كل العلوم، غير أنهم اليوم يميلون إلى اعتبار مفهوم العلم «مفهوم تشابه عائلي»
family-resemblance concept
4
ينطبق بفضل عديد من مجالات التشابه المتداخلة جزئيا.
يحمل مفهوم العلم جانبا معياريا
normative (المعرفة المنهجية المبررة إبستيميا)، وجانبا وصفيا
descriptive (مفهوم العلم قد تكون عبر عملية تاريخية، وكثير من «العوارض»
contingencies
تؤثر فيما نطلق عليه - أو لا نطلق - كلمة «علم»).
كانت فلسفة العلم في السابق تنظر إلى العلم بوصفه مجموعة معارف علينا أن نبحث لها عن تعريف (مجرد قدر الإمكان) في حدود من مفردات اللغة أو مادة الموضوعات التي يتناولها. أما الآن فتركز المداخل المعاصرة على العلم بوصفه شيئا «يفعله» (يعمله) البشر ممارسة بشرية، قد يبدو هذا تعريفا دائريا خالصا ما دام علينا أن نمضي ونعرف العالم بأنه «شخص يفعل العلم»، غير أن الأمر خلاف ذلك؛ فليس هناك في الحقيقة صعوبة تذكر في تبين العلماء وتمييزهم من بين عامة البشر، وبوسعنا إذا تبيناهم أن نقوم بدراسات مفصلة حول ما يفعلونه.
وللعلم تاريخ طويل ومعقد، وينعقد الاتفاق اليوم على أننا لا يمكن أن نفهم طبيعة العلم المعاصر دون دراسة تاريخه، مما يتضمن عمليا دراسة تاريخ علوم جزئية كثيرة، فالورقة الرابحة لفهم العلم المعاصر هي أن ننظر في نموه التاريخي، وبالمثل فهم العلاقة بين علمين من العلوم، فخير مدخل لذلك هو النظر في صلاتهما التاريخية. ومن المهم على كل حال أن نضع في اعتبارنا أن الفلاسفة عندما يتحدثون عن فهم علم من العلوم، فإنما يتحدثون عما يفهمه شخص غير متخصص وغير مساهم فيه، مما يتضمن النظر في مكان ذلك العلم في المجال الكلي للأنشطة الفكرية البشرية، أي إنهم لا يتحدثون عن ذلك النوع من الفهم الكائن لدى المساهم في العلم والداخل في حلقته، فذلك شيء مقصور على العلماء ذاتهم.
وإذا كانت كلمة
science
الإنجليزية تشير إلى العلوم الطبيعية وما نحا نحوها (ومن ثم لا تشمل الدراسات الأدبية والتاريخية) فإن كلمة
Wissenschaft
الألمانية تشمل كل ذلك وكل ما هو معرفة منهجية؛ ولذا فإن هذا المفهوم للعلم هو أنسب في مقامنا هذا؛ فالحق أن الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية جميعها أطراف لنفس المسعى البشري: أي الفحص المنهجي والنقدي الذي يهدف إلى اكتساب أفضل فهم ممكن لتشغيلات الطبيعة والبشر والمجتمع الإنساني، ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين تنامت المباحث التكاملية (مثل البيولوجيا التطورية، الفيزياء الفلكية، العلوم العصبية ونظرية اللعب، كيمياء الكوانتم، الإيكولوجيا (علم البيئة)، الكيمياء الحيوية ... إلخ) بسرعة مشهودة، وأسهمت في ربط أفرع كانت من قبل غير مرتبطة، وقد أدى هذا إلى تقارب العلوم الطبيعية والإنسانيات وارتباطها، يتبدى ذلك على سبيل المثال حين ننظر كيف تعتمد المعرفة التاريخية اليوم بشكل متزايد على التحليل العلمي المتقدم للكشوف الأركيولوجية (الأثرية).
إن المفهوم الأعرض للعلم هو الأفضل لنا حين نكون بصدد مشكلة التمييز؛ إذ إن هذه المشكلة معنية بما هو أعمق من مجرد تحديد ما أسميناه - لأسباب متعددة - علما؛ فنحن بعد كل شيء نريد أن نحدد أي الاعتقادات هي المسوغة إبستيميا. (2) على أي شيء يقع التمييز؟
أي جانب أو عنصر في العلم ينبغي أن تطبق عليه معايير التمييز؟
تعددت الآراء في ذلك؛ فهناك من ذهب إلى أن التمييز يجب أن يشير إلى برنامج البحث (لاكاتوش)، وهناك من قال: إنه يطبق على «الحقل الإبستيمي» أو المبحث المعرفي، أي مجموعة أشخاص لديهم أهداف معرفية مشتركة وممارسات هذه المجموعة، وهناك من قال إنه يسري على النظرية الفردة (بوبر)، أو على الممارسة (لوج، موريس)، أو على مشكلة علمية (سيتونن)، أو على بحث معين (كون). وربما يكون من الإنصاف أن نقول: إن معايير التمييز يمكن تطبيقها على كل مستوى من هذه المستويات الوصفية. أما السؤال الأصعب حقا فهو: أي من هذه المستويات هو المستوى الأساسي الذي يمكن أن ترد إليه التقييمات الواقعة على المستويات الأخرى؟
وقد شذ ديركسن (1993م) عن أغلب الكاتبين في هذا الموضوع، فجعل التوكيد في عملية التمييز على الشخص نفسه الذي يمارس العلم الزائف ، على أساس أن العلم الزائف لديه ادعاءات علمية، ومثل هذه الادعاءات ترتبط بشخص وليس بنظرية أو ممارسة أو حقل بأسره،
5
غير أن هذا الرأي قد يجانبه الصواب؛ لأن العبرة بعلمية المؤسسة لا الشخص؛ إن العقلانية والموقف النقدي المبيت في المؤسسات - لا السمات الفكرية الشخصية للأفراد - هي ما يميز العلم عن الممارسات غير العلمية كالسحر؛ فالشخص الممارس للسحر في مجتمع بدائي ليس بالضرورة أقل عقلانية من العالم الفرد في المجتمع الغربي الحديث. إن ما ينقصه هو بيئة فكرية حاضنة من العقلانية الجمعية والنقد المتبادل، وإن التركيز على العالم الفرد من حيث امتلاكه عقلا نقديا، يكاد يكون من قبيل مغالطة التقسيم
fallacy of division .
6
وقد نزعت جميع العلوم إلى أن تكون «مؤسسة»، فرجل العلم رغم كل شيء ليس مفكرا منعزلا، بل هو مشارك في قسم علمي بجامعة أو كلية، أو في مركز أبحاث، وله زملاء في التخصص يتبادل معهم المعلومات بشكل رسمي وغير رسمي، ويشترك معهم في التجريب والبحث، ولكل فرع علمي أيضا ما يسمى «الكلية المحجوبة» أو «المجمع المحجوب»، وهو مجموع العلماء - أينما كان موقعهم - الذين يعتبرون أنفسهم مضطلعين بنفس النوع من العلم، يبقى أعضاء هذا المجمع غير المنظور على صلة من خلال الهاتف والرسائل وتبادل النسخ التمهيدية لمقالاتهم، والمشاركة في نفس الدوريات العلمية وقراءتها.
والأوراق العلمية
scientific papers
هي الناتج الأخير الأعم للنشاط العلمي مهما تكن نواتجه الأخرى، فبالإضافة إلى التداول غير الرسمي السابق على النشر، ترسل هذه المقالات إلى الدوريات المناسبة الخاصة، لكي تمر بعملية تقييم تسمى «مراجعة النظراء»
peer review ، ثم يتم نشر ما تحكم الدورية بقيمته، وتتحدد أهمية المقال بمدى تواتره بعد ذلك في أعمال زملاء التخصص مستشهدين به وراجعين إليه.
يعتمد الحكم بما يعد ذا قيمة علمية على الموافقة أو الإجماع، غير أن العلماء لا يصلون إلى هذا الإجماع إلا بتقديم حجج مقنعة لدعم وجهات نظرهم. وعلينا أن نسلم بأن في كل حقل علمي هناك دائما قلة من الشخصيات البارزة القوية تقوم بدور حارس البوابة وتتحكم في منافذ الدوريات والوظائف والاعتمادات المالية الخاصة بالبحث العلمي.
من الحق أن رجال العلم يميلون - كقاعدة عامة - إلى إعلاء شأن البارزين منهم وأخذهم بكثير من الجد والاهتمام، وأن العلم ليس أكثر من غيره من الأنشطة البشرية حصانة ضد «سماسرة النفوذ» الذين يتلذذون ببسط سلطانهم. ومع ذلك فحين ننظر في الطريقة التي تقوم عليها المؤسسة العلمية، ندرك أنه ما من فرد أو جماعة بمكنتها أن تعزز أو ترعى نتاج علم رديء حتى لو شاء هذا الفرد أو هذه الجماعة ذلك (حقا لقد استخدمت الحكومات الشمولية نفوذها أحيانا لتغيير المسار الطبيعي لعملية البحث العلمي أو التدخل فيها إن لزم الأمر، ولكن هذا لا يجب أن يبعث الشك في العلم وهو قائم في مؤسساته المعتادة). إن الأثر العلمي لا بد أن ينشر؛ وبالتالي لا بد أن يعرض للفحص والتمحيص من قبل أفراد يهمهم ويعزز وظيفتهم أن يكشفوا أي أخطاء فيه أو أوجه قصور. هكذا تكون الأشكال المؤسساتية للعلم هي التي تضمن أمانة ممارسيه، وهي تحقق ذلك بأن تعتمد على التنافس البشري المعتاد، وألا تسمح لأي دافع آخر بأن يعلو عليه (بل لا يدفعنا كل هذا أن ننكر أن كثيرا من العلماء ليس لهم من دوافع غير الاستطلاع المنزه عن الغرض والتكريس المخلص لحل المشكلات من أجل حل المشكلات). (3) معايير التمييز (3-1) معيار قابلية التحقيق
verifiability
وهو المعيار الذي ارتكزت عليه الوضعية المنطقية (حلقة فينا)، وينص على أن العبارة العلمية تتميز عن العبارة الميتافيزيقية بأنها قابلة للتحقق التجريبي على الأقل من حيث المبدأ، فمعنى العبارة - عند الوضعيين المناطقة - هو طريقة تحقيقها؛ ومن ثم فليس هناك معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها (تحققا تجريبيا حسيا بطبيعة الحال ) أو يؤيدها بشهادة الخبرة والحواس. وكثيرا ما كان يسحب هذا الرأي على التمييز أيضا بين العلم والعلم الزائف، غير أن هذا الحديث غير دقيق من الوجهة التاريخية، فالحق أن معيار التحقيق في الوضعية المنطقية كان يهدف إلى حل مشكلة مختلفة تماما، هي مشكلة التمييز بين العلم والميتافيزيقا. (3-2) كارل بوبر : معيار قابلية التكذيب
falsifiability
لم يرق مبدأ التحقيق لكارل بوبر، فقام بتفنيده تفنيدا منطقيا مفصلا، واستبدل به مبدأ جديدا، هو مبدأ «قابلية التكذيب»، ومفاده - ببساطة - أن من صفة العبارة العلمية الأصيلة أن تشير إلى أمثلة لما تكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة، أي تخبرنا بشيء محدد يكذب النظرية إذا ما لاحظناه.
النظرية العلمية الأصيلة لديها القدرة على تقديم تنبؤات يمكن من حيث المبدأ
in principle
أن يتبين كذبها. أما التحقيق فإنه لا يثبت شيئا، فإن بوسع أي نظرية أن تجد لها ما شاءت من الأمثلة التي تتسق معها وتحققها، ومهما استقرأ العالم من أمثلة مؤيدة لنظريته سيظل ممكنا أبدا أن يأتي المثال القادم في رتل الملاحظة مكذبا.
وتزعم مثل هذه النظريات أنها مشيدة أصلا على أساس من التفكير الاستقرائي، أي استقراء كل الحالات المعروفة واستخلاص تعميم يشملها جميعا، وماذا يكون التحقيق هنا سوى مجرد الإتيان بمزيد من نفس الصنف من الحالات؟! إن هذا من الوجهة المنطقية هو عقم لم يأت بجديد، أما المنهج المجدي عند بوبر فهو أن نفكر استنباطيا
deductively
ونفتش بهمة عن حالات مفندة للنظرية؛ لأن العثور على مثال مضاد واحد سيكون كافيا للإجهاز عليها، أما إذا صمدت النظرية للتفنيد فإنها ستعد قوية وأهلا لاستمرار الدعم.
ويوجز بوبر تعريف النظرية التجريبية الأصيلة في كتابه «منطق الكشف العلمي» بقوله:
يقال للنظرية: إنها «إمبيريقية» أو قابلة للتكذيب إذا قسمت فئة كل القضايا الأساسية الممكنة بغير غموض إلى الفئتين الفرعيتين غير الفارغتين الآتيتين:
الأولى:
فئة كل القضايا الأساسية التي لا تتسق معها (أي التي تمنعها النظرية من الحدوث)، ونحن نطلق عليها فئة «المكذبات بالقوة»
potential falsifiers .
الثانية:
فئة كل القضايا الأساسية التي لا تناقضها (أو التي تسمح بها)، ويمكننا أن نضع هذه بصورة أكثر إيجازا بالقول: تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذباتها بالقوة غير فارغة. (بوبر: منطق الكشف العلمي، الفحص المنطقي لقابلية التكذيب)
وقد كشف بوبر النقاب عن مشكلة أخرى بشأن النظرة الوضعية المنطقية، وهي أن بإمكان النظرية أن تقدم تنبؤات شديدة الحذر والتحوط (وهو ما يمكن أن تفعله أيضا العديد من النظريات الأخرى حول نفس الموضوع) والتي لا يكون تحقيقها مستغربا أو مثيرا، ولا تسهم بشيء في تقدم العلم، أما التنبؤات التي تسهم حقا في تقدم العلم فهي التنبؤات الجديدة المخاطرة غير المتوقعة والتي يسميها بوبر «الحدوس الافتراضية الجريئة»
bold conjectures .
ذلك أن كل نظرية علمية أصيلة هي نوع من «المنع» أو «الحظر»: إنها تمنع أشياء معينة من أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة العلمية، أما النظرية التي تسمح بكل شيء و«تمرر» كل شيء وتفسر كل شيء فهي لا تقول شيئا، ولن تكون نهايتها المنطقية سوى أن تلحق بتحصيلات الحاصل.
وكذلك الشأن بالنسبة لدرجة «احتمالية» الفرضية باصطلاح بوبر: يذهب بوبر - وهو ما يبدو مفارقة للنظرة الأولى - إلى أن النظرية الأكثر احتمالا هي الأقل في المحتوى المعلوماتي، والعكس بالعكس؛ ومن هنا كانت الفرضيات غير المحتملة هي الأفضل من الوجهة العلمية والأكثر إثارة لاهتمام العلماء الحقيقيين، فمثل هذه الفرضيات الجريئة البعيدة الاحتمال تملك قوة تنبؤية عالية، وهي بالتالي أكثر قابلية للدحض، وبالطبع يشغف العلماء بالفرضيات البعيدة الاحتمال القريبة رغم ذلك من الحقيقة، أي التي صمدت لأعتى اختبارات التكذيب، مثل نظرية أينشتين عن «التواء المكان» بفعل الكتل الكبيرة.
توجز باتريشيا تشرشلند فكرة التكذيب عند بوبر بصياغة محكمة إذ تقول: «كان بوبر مناوئا لفكرة أن المعرفة العلمية تتراكم عن طريق تأييد الفرضيات أو تحقيقها. وفي تصور شديد الاختلاف والجدة لدينامية العلم ذهب بوبر إلى أن الفرضيات لا تكون جديرة بالقبول ما لم تكن قابلة للتكذيب. كانت فكرته مدمرة وبسيطة: من السهل أن تجد أمثلة مؤيدة للفرضيات سهولة تجعل من المستبعد أن يكون هذا هو طريق العلم الصحيح، تأمل مثلا فرضية بسيطة مثل: «جميع النباتات تتكاثر جنسيا.» فإذا كان كل ما يلزمني هو الشواهد المؤيدة لذلك، فإن بميسوري أن أهرع إلى الحديقة وأكتشف أن جميع الزنابق الستمائة وأربع وستين تتكاثر جنسيا، وجميع البنفسجات التسعمائة وثلاث وخمسين تتكاثر جنسيا، وهلم جرا، وسرعان ما يجتمع لدي عدد هائل من الأمثلة الموجبة. ومع ذلك فلو اطلع أي عالم نبات على عملي فلن يأبه له؛ لأنني لم أحاول أن أجد مثالا مفندا، لم أنظر إلى حالات يمكن أن تكون أمثلة مضادة
counter-examples ، فقبل تبني أي فرضية ينبغي على أن أفحص كثيرا من الأنواع المختلفة من النباتات المزهرة، وأن أفحص الأعشاب والسراخس، وبعامة يجب على أن أحاول جهد ما أستطيع أن أكذب فرضيتي.
تأمل فرضية أخرى، وهي الفرضية القائلة بأن «منطقة بروكا» هي التي تتحكم في إنتاج الكلام، فلكي يبرهن المرء على هذه الفرضية فلن يكفيه أن يعثر على ارتباط موجب بين حالات تلف منطقة بروكا وبين فقدان الكلام، فلا بد للمرء أن يكشف ما إذا كان هناك مرضى بتلف في منطقة بروكا بدون فقدان للنطق، وأن يكشف ما إذا كانت هناك حالات فقدان نطق مع تلف في مناطق أخرى، عندئذ سيكون الفشل في التكذيب ذا دلالة، بعكس تجميع الحالات المؤيدة. تفيد دعوى بوبر أن العالم إذا قبل الفرضيات عن طريق إيجاد أمثلة مؤيدة فسوف ينتهي به المطاف إلى قبول ما لا يحصى من الفرضيات الكاذبة والسير فيما لا يحصى من الطرق المسدودة. أما إذا ظفر بفرضية صمدت لمحاولات عنيفة لتكذيبها، فعندئذ يمكنه قبول هذه الفرضية، لا باعتبارها صادقة، ولا باعتبارها مؤيدة، بل باعتبارها أفضل فرضية متاحة حتى الآن. لقد أتى بوبر بتصور للتبرير مختلف عمن قبله، وخلص من ثم إلى آراء مختلفة تماما حول ديناميات العلم وبنيته وديناميات المعرفة وبنيتها على وجه العموم.
وفضلا عن ذلك رفض بوبر الافتراض القائل بأن على العلم أن يحاول صياغة فروض شارحة عالية الاحتمال، وقال - على العكس - بأن الفروض لا تكون مثيرة للاهتمام ما لم تكن جريئة، أي غير محتملة، أي الأرجح لها أن تكذب؛ ذلك أنها إذا صمدت عندئذ للتكذيب باختبار عنيف يكون ذلك نصرا وتكون هذه الفرضية ذات دلالة كبيرة. إن الفروض الآمنة (أي المحتملة) رخيصة لا تساوي شيئا (العشرة بقرش) وآمن الفروض هي الحقائق المنطقية. وإذا كان مرام العلم الأول هو مجموعة من الحقائق اليقينية فإن عليه بغزل المبرهنات المنطقية لا يبرحها، غير أن عيب هذا الأمان هو أنه لا يوصلنا لشيء. لقد كانت فرضية أينشتين بأن هندسة المكان «تنحني» بفعل الكتل الكبيرة فرضية بعيدة الاحتمال جدا باعتبار النظرية السائدة في ذلك الوقت، فإذا أصاب أينشتين لوجب أن يرى نجم معين أثناء كسوف الشمس في موضع معين، وإذا أخطأ لوجب أن يرى في موضع آخر، فلما صمدت الفرضية لاختبار التكذيب (مشاهدات إدنجتون) كان هذا أمرا بالغ الدلالة.»
7
في كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر رحلة عقله مع الأفكار العلمية، يقول بوبر: «في صيف عام 1919م بدأ يداخلني شعور بعدم الارتياح لهذه النظريات، وبدأ يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية. ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلا بسيطا: «ما خطب هذه النظريات؟ ولماذا تبدو مختلفة عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبصفة خاصة عن نظرية النسبية؟» ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أفضي بأن أغلبنا في ذلك الوقت ما كان يمكن أن يقول: إنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية. من هذا يتبين أن ما كان يؤرقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات، بل هو شيء آخر، ولا كان ما يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي من النظريات. لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات، وإن اتشحت بوشاح العلم، تشبه الأساطير البدائية أكثر مما تشبه العلم، تشبه التنجيم أكثر مما تشبه علم الفلك.
وقد اكتشفت أن أولئك المعجبين بماركس وفرويد وأدلر من أصدقائي كانوا مأخوذين بعدد من الخصال المشتركة بين هذه النظريات، ولاسيما ما تتمتع به من قوة تفسيرية واضحة. لقد بدت هذه النظريات قادرة فعلا على تفسير كل شيء يحدث ضمن نطاقها الخاص، وبدا أن دراسة أي واحدة منها تقع منك موقع التحول الفكري الحاسم أو موقع الوحي، فاتحة عينيك على حقيقة جديدة محجوبة عن أولئك الذين لم يهتدوا بعد. وما إن تنفتح عيناك هكذا حتى يتسنى لك أن ترى شواهد مؤيدة لها حيثما نظرت. كان العالم يعج ب «تحقيقات»
verifications
للنظرية، وما من شيء يحدث إلا هو تأييد لها. بذلك بدا صدقها أمرا ظاهرا وبدا أي منكر لها مكابرا مبينا لا يريد أن يرى الحقيقة الواضحة: إما لأنها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان «الكبت» التي لم تحلل بعد والتي تصرخ طلبا للعلاج.»
هكذا بدأت الشرارة الأولى في ثورة بوبر المنطقية على العلم الزائف. لقد استوقفه التباين الشديد بين الماركسية والفرويدية من جهة، ونظرية أينشتين من جهة أخرى. كان الماركسيون والفرويديون يرون أينما نظروا تأييدات لنظرياتهم، «بينما جهد أينشتين غاية الجهد لكي يصوغ تنبؤا بالغ الدقة والتحديد وقابلا للملاحظة ومن شأنه إذا كذبته الملاحظة أن يدحض النظرية ويأتي عليها.» لم يكن الفارق الذي استرعى انتباه بوبر في هذا الأمر فارقا سيكولوجيا يتعلق بالنزاهة العلمية في مقابل العناد والمكابرة وعدم الرغبة في الاعتراف بوجود حالات لا تؤيد النظرية، وإنما الفارق منطقي محض يتعلق بطبيعة البنية المنطقية للنظرية الماركسية والفرويدية ذاتها والتي تجعلها «محصنة» من التكذيب. يقول بوبر في «منطق الكشف العلمي»: «إن النسق الذي ينتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تكذبه، وهكذا فعبارة «قد تمطر السماء هنا غدا أو لا تمطر» لن تعتبر عبارة تجريبية؛ لسبب بسيط وهو أنها لا يمكن تفنيدها، على العكس من عبارة «ستمطر السماء هنا غدا» التي ستؤخذ على أنها عبارة تجريبية. أما العلم الزائف فهو يرفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياه؛ فقضايا التحليل النفسي مثلا لا تعدو أن تفسر الأوضاع الممكنة للأشياء دون أن تشير إلى حالة الأشياء الملاحظة، ومن ثم لا يمكن تكذيبها بالملاحظة. إن النسق النظري للتحليل النفسي كله نسق لا وصفي، فهو يتساوق مع كل ملاحظة ممكنة، ويلائم الشيء ونقيضه، ولا يقدم لنا ما عسى أن تكون عليه الأشياء الملاحظة لو أن قضاياه كانت كاذبة. إن الفارق يجب أن يحدث فارقا، ولو كانت قضايا التحليل النفسي تقول شيئا محددا عن عالم الواقع لتسنى لها أن تحدد مشاهدات ممكنة كانت حرية أن تقع لو أنها كانت كاذبة، أي أن تحدد لنا أي فارق كان يحيق بعالم الشهادة لو أن ما تنبئنا به النظرية كان مجانبا للحق وكانت الأمور تسير في حقيقة الأمر على وتيرة أخرى.»
لم يكن مصدر النظرية مما يعني بوبر من قريب أو بعيد، فلتأت النظرية من حيث تأتي، المهم أن تكون علما، أي قولا يحمل نبأ عن العالم المحدد الذي وجدنا فيه، ويحمل في تضاعيفه تنبؤات محددة قابلة للاختبار أي الدحض. وليس التحليل النفسي من ذلك في شيء. «إنه نظرية لا تؤدي إلى أي توقعات أو تنبؤات محددة، ولو صح ذلك لكانت لها «مكذبات بالقوة»
potential falsifiers (كل ما هو خارج التنبؤ)، ولكن أين هي هذه المكذبات؟ أين المشاهدات المحددة التي «تمنعها» النظرية من الحدوث. إنها تسمح بكل شيء وتمرر كل شيء، ثم ترخي عليه تصوراتها الفضفاضة الغامضة التي تشمل كل شيء وتفسر كل شيء وتقبل الشيء ونقيضه.»
توماس كون
هذه الطبيعة المعيارية لنظرية بوبر في التكذيب لم تقابل بارتياح من جانب الكثير من الفلاسفة؛ ذلك أن رفض نظرية علمية ما بناء على تنبؤ كاذب، هذا الرفض من شأنه أن يؤدي إلى استبعاد أغلب النظريات العلمية الأصيلة، ففي الأيام الأولى لنشأة أي نظرية علمية قد تكون هناك كثير من التجارب التي تناقض النظرية، غير أن النظرية قد تطور لتفسر هذه الدحوضات المبكرة بطريقة علمية.
وفي مقاله «منطق الكشف أو سيكولوجية البحث» يذهب توماس كون إلى أن بوبر قد ركز أكثر من اللازم على البنية المثالية للكشف العلمي، وأغفل الواقع التاريخي للكشف العلمي؛ فقلما يرفض العلماء نظرية ما من أجل مثال كاذب وحيد؛ وعليه فإن مبدأ التكذيب لا يصف ما يعمله العلماء في واقع الحال.
8
وعلى فلسفة العلم أن تعنى بالبنية الفعلية للبحث العلمي والبنية الفعلية للمجتمع العلمي.
وتوماس كون
Thomas Kuhn
هو واحد من فلاسفة كثيرين كان رأي بوبر في مشكلة التمييز هو منطلقهم لتطوير آرائهم الخاصة. ذهب كون إلى أن توصيف بوبر للعلم لا ينطبق إلا على أجزائه الثورية العرضية، وأن تركيزه على تكذيب النظريات أدى إلى التركيز على حالات نادرة تكون فيها نظرية بأسرها محل نظر، وموقف العلم في مثل هذه الحالات لا يمكن أن يستخدم لكي يعبر عن خصائص المشروع العلمي كله.
يقسم كون العلم إلى شكلين متمايزين: العلم القياسي (العادي)
normal science
والعلم الثوري (غير العادي)
revolutionary science . ويرى كون أن العلم القياسي (العلم الذي يجري فيما بين اللحظات الاستثنائية للثورات العلمية) هو ما ينبغي أن نلتمس فيه الخصائص التي تميز العلم عن بقية المشروعات. في العلم القياسي يتمثل النشاط العلمي في حل الألغاز لا في امتحان النظريات الأساسية، وفي عملية حل لغز يتم التسليم بالنظرية الراهنة، ويتم في الحقيقة تعريف اللغز في حدودها. يرى كون أنه إنما في العلم القياسي (الذي لا يجري فيه صنف الاختبار الذي اقترحه بوبر)، وليس في العلم الاستثنائي، يتميز العلم عن بقية المشروعات؛ ومن ثم فإن معيار التمييز يجب أن يشير إلى آليات العلم القياسي، ومعيار التمييز الخاص يكون هو القدرة على حل الألغاز الذي يراه خصيصة جوهرية للعلم.
في أزمنة العلم العادي يسلم العلماء تسليما بالنظريات التي تعمل بها تجاربهم. في هذه الفترات فإن العلماء الأفراد لا يقومون بتفحص صواب القوانين المسلم بها (الفيزيائيون مثلا لا يحاولون تكذيب قوانين الديناميكا الحرارية) وإنما ينصرفون إلى الألغاز التي يطرحها النموذج الإرشادي (البرادايم) العلمي الراهن، أي إنهم يركزون على استخدام النظريات المقبولة والمتاحة كوسيلة لحل الألغاز، وليس على الشك في تلك النظريات وامتحانها، كما أن فشل النظرية في تقديم تفسير لحل لغز ما لا يعد فشلا للنظرية بل للعالم.
أما عملية إعادة تقييم النظريات ورفض النماذج الإرشادية فهي لا تحدث إلا في مراحل الثورات العلمية، عندما تفشل محاولات عديدة لتفسير لغز ما في ظل البرادايم الراهن، وكون يطلق على مثل هذه الألغاز «الشذوذات»
anomalies .
هكذا يتجلى الفرق بين معيار بوبر ومعيار كون في تمييز العلم الزائف: فبينما يرى بوبر أن التمييز يرتكز على واقعة أن أنصار العلم الزائف يلتفتون إلى التأييدات
confirmations
ويجتنبون التكذيبات
falsifications
الممكنة، فإن كون يذهب إلى أن التمييز يرتكز على خاصية حل المشكلات التي تميز العلم. إن صفة العلم الزائف عند كون أنه يفتقر إلى النظريات الأساسية والمعايير والتقنيات المرعية وتعاليم حل المشكلات التي تميز العلم القياسي، وبين هذه الخصائص يعد تعاليم حل المشكلات أهمها جميعا في التمييز.
وأوضح مثال تمييزي يقدمه كون هو مقارنته بين علم الفلك والتنجيم: فالفلك منذ القدم كان نشاط حل ألغاز، وكان من ثم علما، فإذا ما فشل فلكي في تنبؤ كان هذا يعد لغزا بوسعه أن يحله بمزيد من القياسات - مثلا - أو بإجراء تعديلات في النظرية. أما المنجم فليس لديه مثل هذه الألغاز؛ إذ إن أي فشل معين - في مجال التنجيم - لا يفضي إلى بحث ألغاز؛ إذ لا يمكن لأي إنسان - مهما بلغت مهارته - أن يستخدم هذا الفشل في محاولة بناءة لمراجعة تعاليم التنجيم؛ لذا فإن التنجيم - وفقا لتوماس كون - لم يكن قط علما.
لم يقتنع بوبر بمعيار التمييز الذي قدمه كون، فالمنجمون في رأيه ينخرطون في حل ألغاز، وبالتالي فإن معيار كون يلزمه باعتبار التنجيم علما، (الحق أن بوبر يعرف الألغاز - بخلاف كون - على أنها مشكلات صغرى لا تؤثر في وتيرة البحث)، ومن هنا فإن بوبر يرى أن معيار كون يؤدي إلى الكارثة الكبرى: كارثة استبدال معيار سوسيولوجي بالمعيار العقلاني للعلم.
9
وقد استهدفت وجهة رأي توماس كون للنقد الشديد من جانب فلاسفة العلم (وإن كانت - ربما - الرأي الأكثر قبولا بين العلماء اليوم)؛ فهي ترتكز على مجتمع من العلماء قد يكون عرضة لقيم وتوقعات اجتماعية ، والكثيرون يرون ذلك أمرا مفرطا في الذاتية. على أن هذا مردود عليه بأن عضوية هذا المجتمع لا تتم كيفما اتفق بل تتطلب تعليما طويلا وممارسة مكثفة، كما ذهب آخرون إلى أن تعريف كون للعلم يكاد يكون «هو ذلك الذي يفعله العلماء»، وهو عندهم تعريف دائري غير مريح (انظر ردنا على ذلك فيما سبق).
إمري لاكاتوش
قلنا: إن معيار التمييز عند بوبر معني بالبنية المنطقية للنظريات، وقد وصف إمري لاكاتوش
Imre Lakatos
هذا المعيار بأنه معيار مربك: فالنظرية قد تكون علمية وإن لم يكن هناك أدنى دليل في صالحها، وقد تكون غير علمية وإن أطبقت جميع الأدلة على صوابها؛ أي إن الخاصية العلمية أو غير العلمية للنظرية قد تتحدد بمعزل عن الوقائع.
10
وعليه قدم لاكاتوش تعديلا على معيار بوبر أطلق عليه «مذهب التكذيب المطور (الميثودولوجي)»
sophisticated (methodological) falsificationism . وفقا لهذا الرأي فإن معيار التمييز ينبغي ألا يطبق على فرضية أو نظرية معزولة، بل على برنامج بحث بأكمله، والذي يشمل سلسلة من النظريات تحل إحداها محل الأخرى تباعا، ويوصف برنامج البحث بأنه متقدم إذا كانت النظريات الجديدة تحدث تنبؤات مدهشة تم تأييدها، بينما يوصف بأنه متدهور إذا كانت النظريات فيه تلفق من أجل استيعاب الوقائع المعلومة لا أكثر. ولا يكون التقدم في العلم ممكنا إلا إذا كان البرنامج البحثي يفي بالحد الأدنى من المتطلبات، وهو أن تكون كل نظرية جديدة تنشأ فيه لديها محتوى إمبيريقي أكبر من سابقتها، فإذا لم يف البرنامج بهذا المتطلب فهو إذن علم زائف.
يتألف برنامج البحث وفقا لإمري لاكاتوش من: نواة صلبة وحزام واق ومساعد كشف (مختصر ذهني). (1)
أما النواة الصلبة
hard core
فهي القوانين الأساسية جدا للبرنامج البحثي، مثل:
في فلك كوبرنيقوس: دوران الأرض حول الشمس الثابتة، دوران الأرض حول محورها مرة في اليوم.
في الفيزياء النيوتونية: قوانين الحركة، قانون الجاذبية.
في المادية التاريخية عند ماركس: فرضية أن التغير الاجتماعي يفسره صراع الطبقات، والطبقات تتحدد طبيعتها وصراعها بالبناء التحتى (الاقتصادي). (2)
وأما الحزام الواقي
protective belt
فيتكون من فرضيات مساعدة
auxiliary hypotheses
تساعد على تدعيم قوانين النواة الصلبة . هذه الفرضيات المساعدة هي التي يقع عليها العبء وتحمل التبعة عند تعارض برنامج البحث مع معطيات الملاحظة، فهي تمتص محاولات تكذيب النواة الصلبة، وهي لذلك عرضة للتغيير أو التعديل لكي تستوعب الشذوذات وتفدي النواة الصلبة. (3)
وأما مساعد الكشف
heuristic - بإيجاز شديد - فيعمل كمرشد يساعد العلماء في تحديد التجارب الممكنة وفحص الشذوذات ، وتطوير دعم إضافي لكل من الحزام الواقي والنواة الصلبة.
وبينما يتفق لاكاتوش مع بوبر في رفض مذهب التحقق فإنه يخالفه في معيار قابلية التكذيب. ذهب لاكاتوش إلى أن ما يميز العلم هو أنه قادر على إنتاج تنبؤات مثيرة وغير متوقعة ومذهلة، وأنه يظل متقدما داخل برنامجه، هذا معيار مثير غير أنه لا يميز العلم عن العلم الزائف؛ فالحق أن البرنامج العلمي الزائف قد يتنبأ بملاحظات مستقبلية على نحو دقيق، وذلك بطريق الصدفة (رمية من غير رام).
11
وترتكز نظرية التمييز عند بوبر ارتكازا أساسيا على وجود أشياء من قبيل «الاختبارات الحاسمة»
critical tests
التي إما أن تكذب النظرية تكذيبا حاسما، وإما أن تمنحها درجة عالية من التعزيز. وبوبر نفسه مغرم بذكر مثال معين على هذه الاختبارات الحاسمة: وهو الحل الذي جاء به آدمز وليفرير
Adams and Leverrier
للمشكلة التي فرضها المسار الفلكي الشاذ لكوكب أورانوس على فلكيي القرن التاسع عشر؛ فقد توصل هذان العالمان - كل على حدة - إلى تفسير هذا الانحراف الفلكي لمسار أورانوس بحتمية وجود كوكب سابع غير مكتشف، وقد تمكنا من حساب الموقع الدقيق لهذا الكوكب الجديد. وهكذا عندما تمكن جول
Galle
في مرصد برلين من اكتشاف هذا الكوكب فيما بعد (كوكب نبتون) وتبين أنه موجود في الموضع الذي حدده آدمز ولفرير بالضبط، استقبل هذا الكشف بالتهليل، واعتبر نصرا مؤزرا للفيزياء النيوتونية. وبحسب مصطلح بوبر فإن نظرية نيوتن كانت قد تعرضت «لاختبار فاصل»
critical test
وخرجت منه بنصر عظيم، وقد اعتبر بوبر نفسه هذا التعزيز القوي للفيزياء النيوتونية «أروع نجاح يمكن أن يظفر به أي إنجاز فكري بشري».
غير أن لاكاتوش ينكر بصريح العبارة وجود اختبارات فاصلة - بالمعنى البوبري - في العلم، ويثبت رأيه بشكل مقنع؛ إذ يقلب المثال السابق (الذي يزعم بوبر أنه اختبار فاصل) رأسا على عقب، يقول لاكاتوش:
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن جول لم يجد كوكب نبتون؟ أكنا سنهجر الفيزياء النيوتونية أو نعد نظرية نيوتن قد كذبت؟ الجواب هو: بالطبع لا؛ لأن فشل جول كان من الممكن عندئذ أن يعزى إلى أسباب كثيرة غير كذب نظرية نيوتن (مثل: تدخل الغلاف الهوائي للأرض مع التلسكوب، وجود حزام شبه نجمي يحجب الكوكب عن الأرض ... إلخ.) المشكلة هنا هي أن الفصل الذي قدمه بوبر بين التكذيب والتعزيز دقيق منطقيا بدرجة مفرطة: إن عدم التعزيز لا يعني التكذيب بالضرورة، وتكذيب النظريات العالية المستوى لا يمكن أن يتأتى بملاحظات معزولة أو بمجموعة من الملاحظات، ومن المتفق عليه الآن أن هذه النظريات عصية جدا على التكذيب. إنها إن أمكن أن تكذب على الإطلاق فإنما يتم ذلك لا باختبارات بوبر الفاصلة، بل داخل السياق المعقد ل «برامج البحث»
research programmes
المرتبطة بها؛ إذ يلاحظ أنها تتحرك بعسر حتى تتوقف، الأمر الذي يخلق فجوة تتسع باستمرار بين الوقائع المطلوب تفسيرها وبين برامج البحث نفسها.
12
إن تمييز بوبر بين منطق التكذيب ومنهجه لا يقدم في نهاية المطاف تفسيرا شافيا لحقيقة أن جميع النظريات العالية المستوى تنمو وتعيش برغم وجود شذوذات
anomalies (أي وجود أحداث أو ظواهر غير متفقة مع النظريات)، وإن وجود مثل هذه الشذوذات لا يؤخذ عادة من جانب العلماء كدليل على كذب النظرية، بل على العكس، إنهم سيفترضون دائما وبالضرورة أن الفروض المساعدة
auxiliary hypotheses
المقترنة بالنظرية يمكن أن تعدل بحيث تستوعب الشذوذات الموجودة وتفسرها.
بول ثاجارد
وفقا لبول ثاجارد
تعد النظرية أو المبحث علما زائفا إذا انطبق عليه معياران (معا):
الأول:
أن النظرية لا تتقدم.
والثاني:
أن رابطة الممارسين له لا يحاولون أن يطوروا النظرية في اتجاه حل المشكلات، ولا يهتمون بمحاولة تقييم النظرية في علاقتها بالنظريات الأخرى، وهم انتقائيون في التفاتهم إلى التأييدات والتفنيدات.
والفارق الكبير بين مقاربة ثاجارد ومقاربة لاكاتوش هو أن لاكاتوش حري أن يعد المبحث الذي لا يتقدم مبحثا زائفا حتى لو كان ممارسوه يعملون بجد لتحسينه وتحويله إلى مبحث متقدم.
لم يسلم مبدأ التمييز عند ثاجارد من النقد: فشروطه لا تحدد العلم الزائف إلا بمقارنته بالنظريات الأخرى وليس بمحتوى النظرية، بحيث لا يمكن أن تعتبر نظرية ما علما زائفا إلا إذا وجدت نظرية منافسة. وقد أضاف ثاجارد لاحقا أن النظرية تكون علما زائفا إذا كان أنصارها يعتمدون على فرضيات احتيالية غرضية
ad hoc
معقدة ولا يكترثون بالارتباطات الإحصائية في محاولاتهم تصديق النظرية، ولكن حتى هذه الشروط الإضافية لم تقدم المعايير الضرورية والكافية لتمييز العلم من العلم الزائف. إن محاولة ثاجارد تسمح فعلا باحتمالية وجود «متصل» فيه نظريات معينة زائفة تماما، وأخرى علمية تماما، ونظريات أخرى بعد تحتل مواقع في المنتصف، ولكن حتى على هذا المتصل لن يكون بوسع المرء أن يحدد النقطة التي عندها يصبح شيء ما علميا أو علميا زائفا.
جورج رايش
أما المعيار الذي اقترحه جورج رايش
George Reisch
فهو قابلية المبحث العلمي الأصيل للاندماج في بقية العلوم. إن بين شتى العلوم الأصيلة ترابطات قوية قائمة على المنهج والنظرية وتماثل النماذج ... إلخ. إن مذهب الخلق مثلا ليس مذهبا علميا عند رايش؛ لأن مبادئه واعتقاداته الأساسية غير متوافقة مع تلك التي تربط العلوم وتوحدها، وبنظرة أعم فإن الحقل الإبستيمي يعد عند رايش علما زائفا إذا كان غير قادر على الاندماج في شبكة العلوم المستتبة القائمة.
13
مرتون
ثمة مقاربة مختلفة تقيم معيار التمييز على الأساس القيمي للعلم، قدمها عالم الاجتماع روبرت مرتون
Robert K. Merton . يتميز العلم - وفقا لمرتون - ب «روح»
ethos
يمكن أن تتلخص في أربعة أوامر مؤسساتية:
العمومية/العالمية
universalism
يفيد هذا المعيار أن دعاوى الصدق - أيا كان مصدرها - يجب أن تخضع لمعايير لا شخصية مسبقة. يتضمن ذلك أن قبول الدعاوى أو رفضها يجب ألا يستند إلى الصفات الشخصية أو الاجتماعية لأنصارها.
الشيوعية
communism (وهو تعبير ربما غير موفق، ولعل تعبير «المشاعية»
communality
هو أحصر لما عناه مرتون)، يفيد هذا المعيار أن الكشوف الجوهرية للعلم هي منتوجات التعاون الاجتماعي، ومن ثم فهي تنتمي للمجتمع وليست مملوكة لأفراد أو جماعات. وهذا - كما بين مرتون - لا يتفق مع نظام البراءات الذي يقصر حقوق الاستخدام على المخترعين والمكتشفين.
الارتيابية المنظمة
organized skepticism
ويتضمن هذا المعيار أن العلم يسمح بتمحيص مستقل للاعتقادات التي تكنها المؤسسات الأخرى باعتزاز، وهذا ما يضع العلم أحيانا في صراع مع الأديان أو الأيديولوجيات الأخرى.
وقد عرض مرتون هذه المعايير بوصفها تنتمي إلى سوسيولوجيا العلم، وبالتالي على أنها بيانات إمبيريقية حول ما هو كائن في العلم الفعلي لا ما ينبغي أن يكون، غير أن معاييره كثيرا ما يرفضها السوسيولوجيون بوصفها مفرطة في التبسيط، وليس لها تأثير يذكر في السجالات الفلسفية حول مسألة التمييز، ويبدو أن فاعليتها في هذا السياق الأخير لم تستكشف بما فيه الكفاية. (3-3) مقاربات المعايير المتعددة
رغم أن المعايير التي ذكرناها حتى الآن - باستثناء مرتون - هي معايير أحادية، فإن معظم الذين تصدوا لمسألة التمييز قد اقترحوا معايير متعددة تستخدم مجتمعة لتحديد العلم الزائف أو الممارسة العلمية الزائفة. وقد تقدم عدد كبير من الباحثين بقوائم مقترحة لهذه المعايير، يعود ذلك في رأي البعض - مثل ماريو بنج - إلى فشل المعيار الأحادي في تمييز العلم الزائف، ويعود في رأي البعض الآخر، مثل دوبري،
14
إلى أن العلم ينبغي أن نأخذه على أنه «مفهوم تشابه عائلي» على طريقة فتجنشتين، يعني ذلك أن هناك مجموعة من الملامح التي تميز العلم، ورغم أن كل جزء من العلم لديه بعض هذه الملامح، فلا ينبغي أن نتوقع أن يحوز أي جزء من العلم عليها جميعا.
وأيا ما يكون تعريف العلم، وحيد المعيار أو متعدد المعايير، فإن من الحق أن العلم الزائف يحيد عن العلم بطرائق متعددة، وفيما يلي قائمة بأهم ملامح العلم الزائف:
الاعتقاد في «السلطة»: ثمة «كبير» عارف (أو كبراء عارفون) لديه قدرة خاصة على تحديد ما هو حق وما هو باطل، وعلى الآخرين أن يتقبلوا أحكامه، عليهم السمع والطاعة.
تجارب غير قابلة للتكرار: يعول العلم الزائف على تجارب لا يمكن أن يعيد الآخرون إجراءها والخروج منها بنفس النتائج
أمثلة معطوبة تستخدم رغم أنها لا تمثل الفئة العامة التي يشير إليها البحث.
عدم الرغبة في الاختبار، فلا تختبر النظرية رغم أن من الممكن اختبارها.
عدم الاكتراث بالمعلومات المفندة: إغفال الملاحظات أو التجارب التي تخالف النظرية.
حيلة مبيتة
built-in subterfuge : يتم إعداد الاختبار بحيث لا يسمح إلا بتأييد النظرية (لا تسمح النتائج بتفنيد النظرية على الإطلاق).
التخلي عن التفسيرات القائمة دون القيام مقامها: يتم التخلي عن تفسيرات وجيهة للأمر دون إحلال شيء محلها، بحيث إن النظرية الجديدة لأعجز من سابقتها على التفسير.
المفارقة
paradox
سبق أن لاحظ توماس كون أنه رغم أن معياره ومعيار بوبر مختلفان للغاية فإنهما يؤديان إلى نفس الاستنتاجات فيما يجب أن يعد علما أو يعد علما زائفا!
والحق أن هذه الظاهرة - ظاهرة التقاء الفرقاء النظريين في ساحة التطبيق - هي ظاهرة عامة للغاية. إن فلاسفة العلم ليختلفون اختلافا بعيدا حول ماهية العلم، غير أنهم متفقون جميعا في أن التنجيم والعلاج المثلي واستنباء الآبار والأطباق الطائرة، والذين هبطوا من السماء ... إلخ، هي علوم زائفة. هذه مفارقة
15
واضحة: كيف نكون مختلفين في الفكرة ومتفقين في تطبيقها؟! مفارقة تدل على أن المسألة بحاجة إلى مزيد من العمل الفلسفي.
نعم، يختلف الفلاسفة فيما بينهم حول معيار التمييز، غير أنهم - للعجب - يتفقون لدى تطبيقه على مبحث معين. إنهم يتفقون على زيف نظرية ما ولكن يختلفون في أسباب رفضها، أي يتفقون في رفضها ولكن أسبابهم في الرفض تتفاوت! وما من محاولة للتمييز قد سلمت من النقد المدمر، وثمة احتمالان في تفسير ذلك: (1)
إما أن هناك تمييزا مطلقا ولكن لم يكتشف بعد، والأمر مسألة وقت. (2)
وإما أن التمييز المطلق لا وجود له.
فيربند
قلنا: إن ثمة خلافا حول إمكان التمييز بطريقة موضوعية، غير أن هناك من يشكك - إضافة إلى ذلك - فيما إذا كانت محاولة التمييز ذاتها مفيدة. يحاج الفيلسوف بول فيربند
بأن جميع محاولات التمييز بين العلم واللاعلم هي محاولات مغلوطة، وبأن فكرة أن العلم يمكن - أو ينبغي - أن يمضي وفقا لقواعد ثابتة هي فكرة غير واقعة بل ومؤذية؛ لأنها تجعل علمنا أقل مرونة وأكثر دوجماطيقية.
يذهب فيربند إلى أنه ليس ثمة منهج واحد من شأنه أن يفضي بنا إلى اكتشاف الحقائق، بل هناك مناهج شتى تفوق الحصر كل منها مهيأ لمجاله الخاص. هو إذن يدعو إلى «فوضوية منهجية»
methodological anarchy
إن صح التعبير؛ ذلك أن تاريخ العلم أعقد من أن نحصره في بعض القواعد المنهجية البسيطة. إن كل نظرية وكل افتراض وكل إجراء إنما يحمل في داخله معاييره الخاصة ومحكاته التي تلائم الأصقاع التي يبحث فيها. إن علينا أن نمارس العلم دون ضمانة مسبقة ودون الركون التام إلى «منهج» مسبق محدد تحديدا نهائيا. ثمة معايير بطبيعة الحال، ولكنها لا تأتي بشكل مسبق، إنما تأتي من عملية البحث ذاتها، تأتي بالبحث وفي البحث، لا من ضوابط صورية مسبقة.
ماكنالي
ماكنالي
McNally
16
هو أستاذ علم النفس بجامعة هارفرد، وله في هذه القضية رأي خاص يستحق الالتفات. رغم أن ماكنالي يناوئ العلم الزائف ويسعى إلى فضحه والتحذير منه إلا أنه يقول بأن مصطلح
pseudoscience
لا يعدو أن يكون تعبيرا ازدرائيا ولفظة طنانة ملتهبة يستخدمها المرء لتسفيه خصومه تسفيها محفليا معفى من أي مجهود جدلي وأية معايير موضوعية، ويوصي مكنالي - بدلا من ذلك - إلى أن ينصرف المرء إلى صاحب الدعوى ويسأله: «ما دليلك؟»
يقول ماكنالي: إن المقاولين الدهاة قد طوروا وسوقوا طرائق علاجية جديدة يوصف بعضها بأنها معجزات علاجية حقيقية لشكاوى متنوعة. وقد كانت هذه الظاهرة آسرة لانتباه ممارسي العلم في مجال السيكولوجيا، الذين عمد كثير منهم إلى نقد هذه المقاربات بوصفها «علما زائفا»، غير أن هناك مقاربة بديلة أبسط من ذلك لفضح الطرائق المريبة في علم النفس الإكلينيكي. إن علينا حين نصادف دعاوى هؤلاء المقاولين ألا نضيع وقتنا في محاولة تحديد ما إذا كانت تصنف كعلم زائف، بل نسألهم: كيف تعرف أن هذا التدخل العلاجي الذي تقوم به يؤتي أثره ويفعل فعله، ما «دليلك؟»
إن العلم الزائف شأنه شأن البورنو: لا نستطيع تعريفه ولكننا نعرفه متى صادفناه، أو هكذا يبدو الأمر، ولكن على أي أساس يحدد العلماء العلم الزائف في مجال علم النفس الإكلينيكي؟ إنه حتى لو لم يكن ثمة معيار حاد يميز العلم الزائف عن العلم الأصيل فما نزال بحاجة إلى طريقة لتحديده إذا كنا نفترض أن مفهوم العلم الزائف ذو معنى، وعليه فقد عرف الباحثون العلم الزائف بإحدى ثلاث:
بممارسيه.
أو بنظرياته.
أو بطرق بحثه. (1)
غير أن العلم الزائف لا يعرف بممارسيه الأفراد،
17
فكثير من العلماء العظام في تاريخ العلم كانوا يعتنقون بعض الأفكار الواضحة الزيف (على الأقل بمقاييسنا الحالية). لقد بدأ الفلكيون الأوائل كمنجمين، بل إن روادا علميين - مثل بويل وليبنتز ونيوتن - كانوا يبتلعون بسذاجة كل أصناف الحكايا العجيبة عن العالم الطبيعي التي تشبه تلك التي نراها في الأقراص التي تباع اليوم في السوبر ماركت.
ومن الأمثلة الرائعة لعالم أمريكي جمع بين العلم الأصيل والزائف كوتون ماثر
Cotton Mather . كان لهذا العالم إنجازات علمية مقدرة، غير أن له مئات الإصدارات التي احتوت على كثير من الدعاوى الغرائبية (ثعابين ذات رأسين، أطفال مسحورين طاروا كالإوز برفرفة أذرعهم مثل أجنحة الطير ... إلخ).
إذن تعريف العلم بممارسيه لا يفي بالغرض؛ لأن العالم الحقيقي والعالم الزائف قد يكونان نفس الشخص! (2)
والعلم لا يعرف بالنظريات الفردة (على طريقة بوبر)؛ ذلك أن قابلية التكذيب
falsifiability
معيار متساهل جدا؛ لأن بوسع أي نظرية دجلية أن تعدل من حالها وتستعين بفروض مساعدة لتجنب التكذيب، وبوسعها أن تحدد ما يمكن أن يعد ملاحظة مكذبة. (3)
ولا طرق البحث يمكن أن تعرف الدجل؛ فقد تكون النظرية قابلة للتكذيب ولكن أنصارها ينخرطون في محاولات احتيالية (أد هوك)
ad hoc
للتخريج المتخلص من الملاحظات المضادة. والحق أن العلماء ينخرطون في المناورة التحايلية طوال الوقت، وقد تكون مناورتهم مثمرة كما في حالة اكتشاف كوكب نبتون بفضل فرضية تحايلية بعدية قدت لترم خللا حسابيا وتفسر ملاحظات شاذة. قد يرد على ذلك بأن هناك فرقا بين الأدهوك المشروع وغير المشروع، ولكن هذه المقاربة تجرد محك الأدهوك من قوته وفعاليته في رأي ماكنالي.
حتى معايير ماريو بنج السبعة للتمييز بين العلم والعلم الزائف غير حاسمة (هي باختصار: (1) الإفراط في استخدام الفرضيات التحايلية لتفادي التكذيب. (2) التركيز على التأييد دون التفنيد. (3) غياب التصحيح الذاتي. (4) عكس عبء البرهان. (5) الإفراط في الاعتماد على شهادات الآحاد
testimonials
والنوادر الفردية
anecdotes . (6) استخدام لغة غامضة معماة. (7) انعدام الترابط مع الأفرع العلمية الأخرى.) قلنا حتى هذه المعايير هي أيضا غائمة غير حادة: (متى يكون استخدام الفروض الاحتيالية «مفرطا »، ومتى يكون الاعتماد على النوادر الفردية «اعتمادا زائدا»، ومتى تصبح المفاهيم المعقدة «معماة»؟) وإذا كان العامة لا يفهمون معيار قابلية التكذيب عند بوبر على بساطته فكيف يتذكرون ويطبقون معايير ماريو بنج السبعة المعقدة؟!
الحق أن لفظة «علم زائف»
pseudoscience
لم تعد أكثر من كلمة طنانة ملتهبة ذات تأثير انفعالي لا أكثر، لفظة نستخدمها لإرهاب خصومنا وإسكاتهم في المناظرات المشهودة، لفظة تبعث من الحرارة أكثر مما تبعث من الضوء، ومن الأجدى أن نتخذ لنا سبيلا آخر.
ليس يعني ذلك أن ماكنالي لا ينتقد الممارسات الدجلية من مثل حركة العين (
EMDR )، وعلاج حقل الفكر ... إلخ، غير أنه ينتقدها على أسس أخرى غير أسس «العلم الزائف»، وهذه الأسس التي يستند إليها هي أكثر صرامة ومباشرة من معايير العلم الزائف التي استند إليها غيره؛ فبدلا من أن نسأل «هل هذا علم زائف أم علم أصيل؟» علينا أن نسأل «ما الحجج والأدلة
evidence
التي تدعم هذه الدعوى الإكلينيكية؟» إن ما يعنينا هو «المسوغ الإبستيمي» أو «الدليل المؤسس» أو «السند الإمبيريقي» ... حسبما تفضل من تعبير، وليس محاولة تحديد ما إذا كانت النظرية أو الممارسة تقع على الجانب الصحيح من معيار للتمييز يفصل بين العلم والعلم الزائف، فالمشكلة في ال
EMDR
ليست أن فرانسين شابيرو عالم زائف، أو أن هذا العلاج غير قابل للتكذيب، أو أنه يلوذ بالنقلات التحايلية (أد هوك) كلما واجهته بيانات محرجة، المشكلة هي أن الدعوى المركزية عن القوى العلاجية لل
EMDR
تعدم أي سند إمبيريقي مقنع.
وصفوة القول: أن علينا بدلا من أن نشدخ أصحاب هذه الدعاوى بلفظة
pseudoscience
أن نسألهم، ببساطة وصرامة ومباشرة: «كيف تعرف ذلك؟» «أرنا بياناتك.» «ما دليلك؟»
إليزابيث سبري
في مقال «العلم الزائف والعلم»
18
تذهب د. إليزابيث سبري إلى أن المشكلة ذاتها لا تبدو مشكلة يمكن حلها، وبوصفنا فلاسفة فنحن - ببساطة - لا نمتلك الأدوات الضرورية لتحديد تمييز مطلق بين العلم والعلم الزائف. إن السؤال نفسه ملغوم!
يصادر بأن التمييز موجود.
ويصادر بأن العلم في جميع الأزمان صحيح والعلم الزائف في جميع الأزمان غير صحيح.
ويصادر بأن المجتمع العلمي دائما لديه أساس جيد لاعتقاداته ومجتمع العلم الزائف لا أساس لاعتقاداته.
ويصادر بأن هناك تمييزا مطلقا بين أعضاء المجتمع العلمي وأعضاء مجتمع العلم الزائف، بل بأن هذين المجتمعين موجودان بالتمام والكمال.
إن كلا من هذه المتضمنات عرضة لأمثلة مضادة وانتقادات وتناقضات أساسية: فهناك أزمنة يكون فيه ما نسميه اعتقادات «علمية» غير مبرر جيدا، ويكون فيه المجتمع العلمي غير موجود وجودا مكتملا، وكذلك هناك أمثلة تكون فيها الاعتقادات «العلمية الزائفة» صحيحة ومبررة نسبيا، ويكون المجتمع موجودا وجودا مكتملا. يتضح ذلك في التحليل التاريخي الذي قدمه توماس كون. مثال ذلك أنه قد أتى حين من الدهر كان المجتمع فيه ينظر إلى التفسير البطلمي للسموات على أنه علمي، بينما نرفض اليوم هذه الدعوى (أي إن ما يعده المجتمع علما في يوم ما قد يتغير بتغير المجتمع).
لقد أدلى كل فيلسوف بدلوه في مشكل التمييز، فماذا قدموا؟
إن نظرية بوبر كانت قمينة أن تقصي معظم البرامج العلمية الناشئة قبل النضج!
ونظرية كون - إذا قبلنا نقد لاكاتوش لها - لا تقدم تمييزا قويا على الإطلاق.
ونظرية لاكاتوش لها أثر جانبي غير موفق إذ قد تصم بالزيف مشروعا علميا جديرا بنعت «علمي» لا لشيء إلا لأنه توقف عن التقدم.
أما نظرية ثاجارد فهي في أفضل الأحوال تقدم لنا «متصلا»
continuum
أو «طيفا»
spectrum
ولا يمكنها أن تقدم تمييزا مطلقا.
نخلص من ذلك إلى أنه لا داعي للقلق حول مشكلة التمييز؛ فنحن كفلاسفة ينبغي أن ننصرف إلى بحث صواب الحجة، وليس إلى ما إذا كانت هذه الحجة نابعة من علم أو من علم زائف. نحن حراس بوابة «المعرفة السليمة» لا بوابة العلم.
هل يوجد تمييز «بين العلم والعلم الزائف»؟ ذاك حديث يلائم السياسة/ الاقتصاد/الاجتماع، ولكنه غير ذي صلة بالفلسفة! إن التمييز لا يقدم بذاته دليلا على صحة أو صواب دعوى، وعلى الفلسفة أن تركز سعيها في التمييز بين الاعتقادات الصائبة والاعتقادات غير الصائبة، أي في مد خط بين الدليل المقبول والدليل غير المقبول، والتفريق بين الدعاوى الغامضة والدعاوى المحكمة ... إلخ. هذه هي الأسئلة التي تحمل دلالة فلسفية وإبستمولوجية حقيقية، وهذه هي الحلبة الصحيحة لصولة الفلسفة وجولتها. وإذا كان إمري لاكاتوش قد خلص في مقاله «العلم والعلم الزائف» إلى أن التمييز بينهما هو مشكلة فلسفية حقيقية، فقد خلصنا إلى أنها مشكلة حقيقية، ولكنها مشكلة اقتصادية/اجتماعية/سياسية، وليست مشكلة فلسفية. أما البديل الذي ندعو إليه فهو أن يعنى فلاسفة العلم بتأسيس المعايير التي يقيم بها صواب الاعتقاد، وقوة الدليل الداعم لهذا الاعتقاد، ومدى الإحكام والضبط والدقة التي يتعين أن يتصف بها لكي يكون اعتقادا صائبا. هذه هي الأسئلة التي تعد الفلسفة مؤهلة لتناولها، ويعد الفيلسوف مهيأ للإجابة عنها.
الفصل الثالث عشر
في العلم والخرافة
تأملات نثرية (1) طريق العلم
وإذا ما ازددت علما
زادني علما بجهلي
الإمام الشافعي
كلما عرفت شيئا تكشف لي أنني أجهل شيئين، وكلما محوت لي جهلا أبديت جهلين، كأنني أصارع «الهيدرا» الأسطورية ذات الرءوس السبعة كلما أطحت منها برأس نبت مكانه رأسان.
وهكذا كلما أوغلت في العلم تجلى لي الجهل كأنه مارد أسطوري يطمسني في ظله الهائل، ويحملني على الاستخذاء أمام جلالة العلم، وعلى التخشع في رحاب الحقيقة. (2) الأمر الإبستمولوجي المطلق
افعل بحيث تستطيع أن تجعل باعث فعلك قانونا كليا. (أي قانونا شاملا يشرع للإنسانية كلها، لا لفرد أو جماعة بعينها.)
كانت: الأمر الأخلاقي المطلق
فكر بحيث تكون على استعداد، من حيث المبدأ، لأن تغير رأيك إذا ما تبين خطؤه. (3) ظاهرة القبة الفارغة
empty dome phenomenon
قبة ليس تحتها شيخ،
غطاء خوان هائل ليس تحته وليمة،
ذلك مثل الوعد حين يكذب ويختان،
ومثل الأمل إذ يغتذي بالوهم،
ويرضع الهواء. (4) الاغتيال المعنوي
أحدث ألوان الاغتيال وأبشعها،
أن تعمل الإفك والافتراء في خصمك،
وتتركه ميتا إكلينيكيا في وسط معتركه،
مصلوبا مجففا على شجرة عمره. (5) أيديولوجيا
إن مذهبا لا يمكنه أن يصون نفسه إلا بمراوغات معقدة هو مذهب لا يعدو أن يكون هراء.
جون بيلوف
الدم البشري ليس حجة
لم يقتل أينشتين أحدا لكي يثبت أن الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء
لكن الأيديولوجيات الشمولية قد تقتل بشرا لإنقاذ فرضية!
ما أوهن النظرية التي تريد أن ترم اهتراءها بدم بشري!
ما أقلق البناء الذي ترتكز دعائمه على دم بشري! (6) الميل الأخير
لماذا تقدم العلم العربي حثيثا ثم توقف قبل أن يجتاز الميل الأخير إلى الحداثة؟
لأنه كان نبتة ظل جعلت تنمو بعنفوان ثم توقفت؛ لأنها افتقدت الشرط النهائي لكل نمو مكتمل: الشمس، الحرية. (7) خيانة العقل
ليس كل السرقة مالا مستلبا، وليس كل الغش بضاعة عينية؛
فالغش قد يكون غشا ذهنيا،
والسرقة قد تكون مخالسة منطقية،
العقل قد يكون قوادا وديوثا على طريقته. (8) فهم الخرافة
لا حجة بين العقل والخرافة.
لا جدوى بأن تجلس إلى الخرافة على مائدة حوار.
لا معنى لإعمال العقل مع كيان خلع العقل واحترف اضطهاده.
الخرافة لا تدرك بالعقل بل بغيابه!
الخرافة لا تعقل بل تشم. (9) بقاء الخرافة
الركود مأوى رغيد للطفيليات،
والخرائب مستقر آمن لكل ذي أربع،
وغيابات الجهل والعجز مرتع خصيب لأشباح الخرافة والعرافة.
ولقد أتى على الإنسان حين من الدهر كان متروكا وحده، أعزل أمام طوفان الماجريات الوجودية والأحداث الكونية، فهو ضعيف عاجز تجاه تهديداتها من ناحية، وهو جاهل عم إزاء ألغازها من ناحية أخرى، فما عتم أن أسلم نفسه لأحضان السحر والتعزيم والأضاحي يلتمس لديها الأمان والسكينة؛ يشتريهما بمنطق لا يغني وحجى لا تجدي. ولقد كانت مقايضة موفقة وصفقة رابحة في حينها، غير أن هذه الطريقة في مهادنة الملمات ومعاملة الحادثات وتفهم الماجريات سرعان ما تزهق وتخسر مبرراتها كلما تمكن الإنسان من السيطرة والتسيد وتقليم أظافر الطبيعة وفك أحاجيها وحل ألغازها بالعلم الدقيق والمنطق النزيه.
غير أن الخرافة لا تتبدد بالسرعة التي تتبدد بها مبرراتها، فيبدو أن العرق يحفظ لها جميل خدماتها القديمة فيبقي عليها ويطمرها في قيعانه السفلية حقبة قد تطول وقد تقصر، فتبقى عقابيلها متململة في سراديب النفس البشرية بقاء الصورة البعدية بعد زوال سببها الموضوعي.
1
على أننا يجب أن نأخذ حذرنا تجاه هذه التشبيهات التقريبية العفوية؛ فالحق أن بقاء الخرافة له قوانينه الخاصة وطرائقه الفريدة، فهي حيوية جدلية تأخذ وتعطي وتسفر وتتنكر وتحاور وتناور وتتطور وتتحور وتتأقلم وتتكيف، بل إن لها القدرة على أن تولد من جديد في تراكيب أكثر حيوية وقدرة على البقاء والصمود أمام دواعي الزهوق والفناء.
2 (10) أليثيا
3
لن تقوم لنا قائمة ما لم تكن الماجريات الأخيرة قد كثفت لأعيننا العشواء حقيقة كانت ماثلة على الدوام: وهي أننا غثاء، حلمنا أطيش من ريشة، وشوكتنا أطرى من نسمة، وظهرنا أذل من بساط، وأننا لا نملك حتى أن نكبح صغيرنا قبل أن نفكر في اللعب مع الكبار.
لن تقوم لنا قائمة ما لم ندرك أن معركتنا الأولى هي معركة بناء وإصلاح لا هدم وإفساد، وأن جهادنا الحقيقي هو جهاد أنفسنا الجاهلة المظلمة القابعة في كهفها التاريخي تدغدغ ذاتها وتداعب ظلها.
لن تقوم لنا قائمة ما لم ندرك أننا متخلفون: تحضرنا وهم وتمدننا «عيرة»، وأننا ننجرف ولا نتقدم، ننفعل ولا نفعل، تطفح مقتنيات العلم الجديد على وجه حياتنا كأنها الداء، وتطفو بلا جذور على سطح بركتنا القديمة.
إننا نتعاطى التقنية الغربية لتنمية تخلفنا،
ونقطف ثمرات التنوير لتغذية ظلامنا،
ونظن - لغفلتنا - أننا يمكن أن نقتل عدونا بسلاحه.
وأن ننازل العقل الجديد بعقل قديم.
وأن نلاقيهم في مكان واحد وزمنين مختلفين. (11) ما بعد العقل
لم نشبع عقلا بعد فنستمرئ القفز مع الغرب إلى ما بعد العقل.
فإذا كانت قفزتهم تخطيا وئيدا لما استوعبوه وقطعوا شوطه، وتجاوزا سديدا لما عركوه وخاضوا غماره، فإن قفزتنا المقلدة ليست تخطيا للعقل بل حذفا وإغفالا وتفويتا، وضربا من الغش والتهرب.
وبينما يقفزون بسلام إلى ما بعد العقل نتردى نحن بطيشنا فيما قبل العقل، ونسقط بسلام في حجر الخرافة. (12) في الانحطاط
الأكثر انتشارا اليوم في المجتمع العربي - ضمن مقاييسه وأوضاعه الثقافية - هو بالتأكيد الأقل حداثة وجذرية.
أدونيس «الكذب ليس له رجلان.»
إلا في الانحطاط؛ فللأدعياء أقدام وأرجل،
من جهل الجمهور ومن أمية المتلقي.
الأدعياء أقرب إلى قلب الجمهور وعقله؛
لأنهم يقدمون له غثاء محلولا قريب التناول.
لا يكلفك تدريب الذوق ولا يجشمك تقوية المعدة. (13) مرحل بدرجة أستاذ
والجهل حظك إن أخذ
ت العلم عن غير العليم
شوقي
منذ الأولى الابتدائية لا «ينجح» عندنا التلميذ بل «يرحل»،
يرحل إلى الأعلى، يأسا من تعليمه وقنوطا ونفاد حيلة،
وكلما ارتقى ثقلت وطأة البناء على الأساس الهش،
ولا يزال يرحل حتى درجة الدكتوراه، قمة البناء السائخ في الطين المبني على باطل،
وقد يكون لدينا منه «مرحل بدرجة أستاذ». (14) التجهيل الغالي ... فهو يتخرج غير قادر لا على القراءة ولا على الكتابة!
د. غالي شكري
ليس هذا بالتعليم العالي، وإلا كان أثمر وأينع وأضاف وأبدع، ولا هو مجرد أمية مقنعة، فالأمية بعد كل شيء هي صفحة بيضاء ممدودة للعلم ونداء خالص، هي مقعد محجوز للعلم وموطئ قدم، هي علم «بالإمكان» أو «بالقوة»،
4
وهي بهذا المعنى «نصف علم».
أما هذا التعليم العالي (كما ينادونه) فهو لقاح ضد العلم وتحصين منه، وضمان بأنه قد أمن شره وتم احتواؤه، ودعاء بأن يقطع الله دابره ويستأصل شأفته، إنه تعقيم ذهني منظم، وتجهيل باهظ التكلفة. (15) «أعلمة» الخلافات الأكاديمية
الخلاف الأكاديمي ينبغي أن يبقى أكاديميا.
وإخراجه إلى وسائل الإعلام هو لون من اللعب القذر وضرب تحت الحزام.
والطرف الذي يخرجه هو دائما الطرف الأضعف، الذي أعوزته الحجة فلجأ إلى الغوغائية، ويئس من لعبة العلم فلجأ إلى لعبة «الشرشحة»، فتعوذ بثغاء القطيع، وجلب إلى الحرم الأكاديمي وحشا جسيما يرهب به الخصم، هو «ديموس»،
5
ذلك الشبق الذاتوي الذي لا يعنيه إلا أن يدغدغ نفسه، ديموس البليد الذي لا يفهم الأمر ولا يهمه الأمر. (16) وهم الموضوعية
هذا العالم كما ندركه هو صورتنا الرمزية للعالم الموضوعي المستقل عنا.
جون إكلس
حين تتفرس طويلا في أي بناء علمي أو صرح فكري سيكون بوسعك أن تتبين ملامح العقل البشري بكل خطوطه وزواياه وأقطاره ماثلة أمامك كأنها منعكسة في صفحة المرآة، فالعقل لا يملك أن يسل نفسه من العالم ويتنصل من الظواهر ليراقبها بحيدة وبراءة. إنه مخلوط بالأشياء يرى ذاته في الأشياء وترى فيه ذاتها الأشياء. (17) العملية نجحت والمريض مات
إذا كانت النظرية فاشلة على الصعيد العملي فهذا يكفي لإثبات أنها على خطأ نظري، وهذا بغض النظر عن أي شيء هو مغزى إجراء التجربة العلمية.
كارل بوبر: المجتمع المفتوح
خدعوك فقالوا: النظرية صحيحة والتطبيق خاطئ.
التطبيق ليس حجة على النظرية.
الأتباع ليسوا حجة على المتبوع.
خدعوك فالتطبيق محك،
والعمل ابن النظر،
والعين التي تعثرك في كل خطوة هي عين عشواء غير مبصرة.
عين «غير صحيحة». (18) سطوة التأويل
غير أن النفوس الغيورة لا تهتم بالبراءة، ولا تجيئها نوباتها عن سبب، بل تغار لأنها تغار، وما الغيرة إلا بهيمة شاذة تلقح من نفسها وتتولد من ذاتها.
شكسبير: عطيل
ليست هناك حقائق، هناك فقط تأويلات.
نيتشه
من رآك من حيث هو فإنما رأى نفسه.
محيي الدين بن عربي
ليست الغيرة فقط هي البهيمة الخنثى.
كل قناعة انغسل عليها الدماغ هي بهيمة خنثى تخلد ذاتها.
يراها في كل شيء،
ويتأولها في كل شيء.
سيان أن يكون هذا أو ذاك،
لا فرق بين شتى المدخلات والمرائي،
ما دامت تصب في القالب نفسه،
وتفصل على القد ذاته. (19) تعريب العلم
تعليم الأمة بلغتها ينقل العلم بكليته إليها، أما تعليمها إياه بلغة غيرها فإنه ينقل أفرادا منها إلى العلم.
الشيخ علي يوسف
أن نعرب العلم يعني أن نعلمن العربية، أي نعلمن عقولنا وأطرنا الذهنية ومورفولوجيتنا الدماغية. أما أن نتحدث العلم بالإنجليزية وعقولنا مصبوبة بلغة كهفية حرمت دهورا من النور فتعاطت الوهم وتقولبت بالخرافة، فذاك انفصام معوق يجعلنا غرباء على العلم مهما حفظناه وتقولناه، ويجعلنا عاجزين عن الإضافة الحقيقية إليه والإبداع الأصيل فيه، وهو واقع صلب لا محل فيه لجدل ولا نملك وجها لنقاشه. (20) جسارة العلم (من رسالة في المشترك الإنساني) ...
لماذا تصنفون شعاع الضوء، فإذا أتى من عندنا فهو نور وإذا أتى من عند غيرنا فهو «استلاب»؟! النور نور، والقيمة شيء كوني، والمطلق لا وطن له، والحكمة ضالة المؤمن، وما حيلتنا إذا كان أغلب الكشوف والمعارف في لحظتنا الراهنة يأتي من الشمال ويشرق من الغرب؟ أنوليه ظهرنا وما ننفك نداعب ظلنا على جدار كهفنا، ونكتفي بما عندنا مما لو كان ينفع ما كان هذا حالنا؟ أم نخرج إليه وننغمد فيه ونتملكه ونحيله إلى كياننا وبنيتنا فنكون منه ويكون منا، وبهذا وحده نضيف إليه ونسهم في بناء الحضارة بسهم بدلا من أن ننخر فيها وننطح أركانها، فعل العجزة البلهاء المفلسين المفسدين؟
بل نخرج إليه ونتملكه، هكذا كان أجدادنا في عصر الاجتهاد يحبون النور ويفتحون نوافذهم على الجهات الأربع، ويتشربون ثقافات الأمم وينهلون من العلوم بلا عقد، ولا ينخذلون مثلما ننخذل ولا يعانون من «رهاب الضوء» (الفوتوفوبيا) الذي أصابنا واستحكم فينا من طول انكفائنا على ذاتنا وإلفنا لفكر الكهوف.
هذا استلاب آخر، وإن كان مقلوبا يقف على رأسه فإذا عدلته وجدت أنه استلاب كأي استلاب. ...
ع. م.
अज्ञात पृष्ठ