ولما بلغت فريدة العشرين من عمرها، واشتد بروز نهديها وضمور خصرها تحت الفستان البسيط، الذي تلبسه في المكتب كل صباح، لاحظت أن سكرتير «سعادة البك» يطيل إليها النظر، وهي تكتب على الآلة الكاتبة، واختفت لهجته الخشنة الآمرة، التي عودها عليها بصفته رئيسها المباشر. وكأي أنثى فهمت بغريزتها السبب، ودب الحماس الدافئ في داخلها، وجعلها تتمشى بخطوات أخف وأرشق، وفي بيتها بعد أن تأكل ما أعدته أمها، تذهب إلى سريرها وتمدد ساقيها، لتقضي ساعة أو أكثر في تخمين لذيذ، عما سيكون سببا لهذه الرقة الجديدة.
ولم تعش أياما كثيرة في لذة هذا التخمين؛ إذ أصبح السبب مؤكدا، واعترف لها السكرتير بحبه في ليلة مقمرة بجانب النيل، وتذوقت طعما جديدا لم تعرفه من قبل، طعم الرجل، أنفاسه وعرقه. ولم يعجبها هذا الطعم، أو لم يكن في مستوى خيالها الخصب، وأحست أن الواقع صغير بالنسبة للخيال، لكنها قنعت به، وظنت أنها لن تجد واقعا خيرا منه؛ فهو رجل مثل كل الرجال وهو رئيسها.
وبعد أيام قليلة اعتادت هذا الواقع وألفته، وأصبح أجمل مما كان، ولم تتصور أن هناك سعادة أكثر من أن تتزوج هذا السكرتير، لولا أنها اكتشفت سعادة أكبر؛ إذ تغيب السكرتير يوما عن العمل، واضطرت إلى القيام بأعماله، ودخلت حجرة «سعاد البك» لأول مرة، وتعثرت قدماها في السجاد الفاخر، ولم تجرؤ على التدقيق في ملامح «البك»، لكنها رأت ابتسامة على شفتيه، ابتسامة رقيقة، وبعد هذا اليوم أصبح «البك»، يطلبها إلى حجرته، ويكلفها بأعمال ليست من اختصاصها، وبعد انتهاء العمل في أحد الأيام لمحت «سعادة البك»، وهو يركب عربته، ولم تتوقع أن يناديها بالاسم، ويدعوها للركوب معه قائلا : بيتك فين يا فريدة؟
وتلعثمت وهي تقول: في العباسية.
وابتسم وهو يفتح لها باب العربة قائلا: عال، تبقي في سكتي، وأنا طالع مصر الجديدة.
وركبت إلى جواره، وهي تلتصق بباب العربة، لتحصل على أكبر مسافة بينه وبينها، وأطرقت وهي تفرك أصابعها، إنها أول مرة في حياتها تركب عربة ملاكي، وبجوار من؟ «سعادة البك» رئيس رئيسها، وصاحب الجاه والمال والمكتب وكل شيء. ولم يساورها شك في أن تصرفات البك معها، ما هي إلا إشفاق عليها، وخصوصا وهي كما وصفت نفسها في طلب العمل، يتيمة الأب وتعول أسرتها.
ولم يدم يقينها بهذا الإشفاق قليلا؛ إذ بعد ثلاثة أيام بالعدد، كانت تركب بجوار البك، ولم تكن تلتصق بالباب خجلا، وإنما كانت تلتصق بالبك نفسه، الذي حوطها بذراعه، وبين كل عمودي نور، يميل عليها ليأخذ قبلة، وكانت فريدة تنظر إلى ما حولها، كأنها عمياء أو نائمة تحلم. وأوقف البك العربة فنزلت، وانحنى أمام المصعد، لتدخل أمامه فدخلت، وصعد المصعد إلى أعلى، كأنه يصعد إلى السماء، ثم وقف وخرجت أمامه، وأخرج البك من جيبه مفتاح شقته، وفتح الباب وانحنى لها لتدخل أمامه فدخلت.
لم تدر فريدة كيف فرطت في نفسها مع هذا البك، رغم أن السكرتير لم يستطع أن يأخذ منها شيئا، لكنها كانت لا تستطيع أن تخالف البك، أو خيل إليها أنه شرف عظيم لها، أن تنام في أحضانه على فراشه الوثير، ولم تعرف قيمة ما منحته له من نفسها، إلا بعد شهر كامل، بعد أن ملها البك ولم يعد يوصلها إلى البيت أو يعطيها مواعيد لتلقاه بالليل كما كان يفعل. وعادت فريدة منكسرة إلى مكانها، على الآلة الكاتبة بجوار السكرتير، وتباعد عنها السكرتير أياما قليلة، ثم عاد يبثها غرامه، فعادت إليها ثقتها بنفسها، وبكت على صدره، وهي تحكي له قصتها مع البك بالعكس؛ قالت إن البك أحبها وظل يغريها، لكنها لم تحبه؛ لأنه سمين وله كرش، ثم تركها بعد أن يئس منها، وأحست بالزهو وهي تحكي، ولو بالكذب، عن انتصارها على البك، وزاد زهوها حينما لمحت معالم التصديق في عيني السكرتير.
وعرفت أن السكرتير لن يتزوجها لأنه متزوج؛ ولهذا لم تلتزم معه العفة والأدب، وتعمدت أن تكون مستهترة؛ فهي تقبله مرة، وتهجره مرة، وتحكي له بالكذب عن مغامراتها مع رجال آخرين؛ لتعذبه وتهزأ من رجولته، وهي في الواقع تتمرن على الخلاعة، وتجرب معه الحياة المستهترة بلا خلق، ولعل تجربتها السافرة هذه هي التي أفهمتها سر الرجل؛ لأنها كانت تقلبه وتفتش فيه بجرأة عن نقط ضعفه؛ لذلك حينما سكن إلى جوارهم ذلك الشاب الطيب، الذي تخرج من معهد التربية واشتغل مدرسا، استطاعت فريدة في الدقائق التي تمكثها في البيت، أن تجذب عينيه إليها، ثم تجذبه كله بعد أيام، ليطلب يدها من أمها، وقبلت فريدة الزواج بلا تفكير؛ لأنه شيء جديد لم يحدث لها من قبل؛ فقد عاشت مع البك في شقته أياما طويلة، لكنها لم تعتبر ذلك زواجا؛ لأنها تريد أن يعرف الناس أنها تزوجت، أن يصبح لها زوج وبيت وأولاد، أن يكون لها رجل تضع يدها في يده في ضوء النهار كالناس الشرفاء، لا أن تتلصص معه في الظلام كالمشبوهين.
وحينما جلس الشاب الطيب أمامها، وأخذ يدها في يده اغرورقت عيناها بالدموع، دموع الحب، وأحست وهو يردد وراء الشيخ العجوز «لقد قبلتك زوجتي يا فريدة» لأول مرة في حياتها، أنها تحب هذا الشاب الطيب، الذي يعلن زواجها أمام كل الناس بصوت عال.
अज्ञात पृष्ठ