الشيء الصعب
كان صوته العميق الهادئ ينساب في الليل، ويصل إلى أذني دائما هادئا، يريح أعصابي المرهقة من العمل طول اليوم، ويجعلني أمدد ساقي على السور الحديدي، في استرخاء يشبه النوم، وأترك نظراتي المطمئنة تهيم في صفحة النيل الساكنة. هدوء ... هدوء عجيب يخلفه صوته، ونظراته، وحركاته في كل مكان يوجد فيه، وأنا أحب كل شيء هادئ في الرجل، ليس دائما.
وأرهفت أذني إلى الصوت العميق أستمع، كان يحدثني عن نفسه، عن طفولته، وحياته، وشبابه، عن أمه وأبيه، وأخيه، عن تجاربه مع النساء، عن عمله، عن ماضيه، وحاضره ومستقبله.
كان يتكلم، وكنت أستمع، وأنا أنظر في عينيه ال... العسليتين، لا البنيتين؟ لا ليستا بنيتين، ما لونهما؟ لا أدري، ليستا سوداوين ولا زرقاوين، ولا خضراوين، ولكن لهما مع ذلك لون أراه، وأحسه، وأفهمه، لون غريب عميق، كأنه طبقات كثيفة كثيرة، متراكمة بعضها فوق بعض، ليس لها قرار، وليس لها سطح، شيئان كرويان يطلان على عالم معلوم وغير معلوم، وينفذان إلى عالم مجهول وغير مجهول.
وسمعته يقول: ولكن لماذا أحكي لك كل هذا عن نفسي؟!
ونظرت إلى طبقات عينيه وابتسمت، فقال: لا أدري، ولكني أشعر أنني أريد أن أحكي لك كل شيء عني، حتى تلك الأشياء التي كنت أخجل منها بيني وبين نفسي، أريد أن أحكيها لك.
وأسند رأسه إلى ظهر الكرسي في راحة واسترخاء، ونظر بعينيه العميقتين في السماء، وظل تائها في ذلك السواد الداكن فترة، كأنما يبحث فيه عن شيء، ثم التفت إلي، ونظر في عيني نظرة طويلة، أحسست بها تمشي في كل كياني، وتصيبني برجفة غريبة، كأن شحنة جديدة من الأحاسيس، اجتاحت نفسي وجسمي.
ورأيته يقترب مني، وامتدت أصابعه تبحث عن يدي، وأمسكها بكلتا يديه، واستكانت يدي بين كفيه الكبيرتين الدافئتين، كما يستكين العصفور الوليد في صدر أمه.
لكنها لم تكن سوى لحظة، لحظة استكانة قصيرة، غافلت فيها عاطفتي عقلي، وتسربت مني تريد أن تمارس حقها في أن تعيش، وأن تستكين، وأن تهدأ، وأن تضع رأسها على صدر عريض حنون.
لم تكن سوى لحظة تنبه بعدها عقلي، وشد عاطفتي من لجامها فأخضعها، وجذبت يدي من كفيه الدافئتين الكبيرتين فشعرت بالبرد، كأنني تعريت في برودة الليل، كأنني فقدت مأوى في يوم مطير.
अज्ञात पृष्ठ