فقام مسرعا خافق الفؤاد، وفتح له الباب المحروس فاجتازه إلى الحجرة ذات السجاجيد والزخارف، ونظر إلى صدر المكان فرأي معالي الباشا كما يدعونه يطالع في شيء بين يديه؛ فلما أن شعر بوجوده رفع إليه عينيه ومد له يده وعلى فمه شبه ابتسامة وقال: أهو أنت .. لقد اشتبه علي الاسم .. أوما تزال حيا؟
فسر جلال للمداعبة الأخيرة، واطمأنت نفسه، وقال بخضوع وإجلال: نعم يا صاحب المعالي ما أزال أكابد حظي في الدنيا.
فنظر إليه نظرة استفهام، ومال إلى الوراء قليلا وهو يتمتم: أفندم؟
فقال جلال: يا معالي الباشا قصدت إلى معاليك لأشكو إليك ما أشكوه من عنت الدهر وشقاء الأيام. لي أسرة كبيرة وأبناء كثيرون ومرتبي صغير، ولست طامعا في علاوة أو درجة، ولكني أضرع إلى معاليكم أن تعفي ابنين لي في مدرسة شبرا الثانوية من المصروفات. - الاثنين معا؟! - نعم يا معالي الوزير، إن آمالي مشرقة بمعاليكم، لقد جاورت معاليكم عهدا طويلا من سني الدراسة، وينبغي لمن حظي بذاك الجوار أن يربو حظه على حظوظ الناس جميعا، خاصة إذا علمتم أن لي غيرهما أربعة آخرين.
فقال الوزير باقتضاب: قدم لي مذكرة.
وكان الرجل محتاطا لذلك، فأخرج من جيبه التماسا أعده لهذه الساعة وقدمه إلى الوزير، فجرت عليه عيناه بسرعة، ثم أمسك قلمه ووقع عليه بكلمة وقال للرجل: اطمئن.
فانحني جلال أفندي تحية، فتكرم الآخر بمد يده له، ثم غادر الحجرة مغتبطا مثلج الصدر، ولكنه ما كاد يعود إلى مكتبه بالوزارة حتى قال لنفسه متعجبا: لم يتغير «حامد شامل» البتة، ولا تقدم به العمر، وكأنه في ريعان الشباب .. هل يصدق إنسان أن كلينا ابن خمس وأربعين؟ .. تالله إني لأبدو لعين الناظر في سن والده .. وقضى وقته يفكر في الوزير، في حاضره وماضيه، وفي صلته القديمة به .. ثم اضطجع بعد غدائه في بيته، وأشعل سيجارة، واستسلم إلى أحلام الذكريات .. فألوت به إلى عهود الماضي المنطوي .. إلى الوقت الذي كان يجلس فيه إلى يسار التلميذ «حامد شامل» على مقعد واحد لا يكاد يفرق بينهما فارق جوهري .. وكان التلميذ «حامد شامل» يلفت الأنظار إليه ببياض بشرته واحمرار وجهه. ويلازمه عبد متهدم طويل يرتدي بذلة سوداء في الطريق إلى المدرسة وفي طريق العودة، يتبعه كالظل إذا مشى، ويطمئن إلى مكانه إلى جانب حوذي العربة إذا ركب؛ ولذلك كان يحلو لرفاقه أن يداعبوه فدعوه «حامد أغا». على أنه عجب غاية العجب كيف كانت المنافسة تحتدم بينه وبين وزير اليوم وتلميذ الأمس كأنهما أخوا حظ واحد .. والأعجب من هذا أنهما جريا معا وراء تلك العاطفة - التي تهيج الجد والنشاط ولا تتسامي عن المرارة والألم - منذ أول عهد تجاورهما! وكانا في كفاحهما كأنهما يعيشان منفردين في فصل واحد، فكانت الغاية التي يهدف إليها كل منهما أن يتفوق على قرينه بغير مبالاة الآخرين. وعلى الرغم من استعانة حامد بالدروس الخصوصية يتلقاها على أنبه مدرسي المدرسة، فقد كانت الغلبة بينهما سجالا، وكانت كفة جلال الراجحة .. وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان، وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع، فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة .. يا لله! .. كانا يستبقان كأنما الدنيا تضيق عنهما معا، وكأنما كان مستقبلهما ينذر بحرب مستمرة تشمل ميادينها الجد واللعب والإدارة والوزارة. فكيف شالت كفته بعد ذلك؟ كيف سقط من عيون الغربال وضاع في الحثالة؟ .. كيف صار رفيقا المقعد الواحد أحدهما وزيرا والآخر مراجعا للحسابات ينوء صدره بآلام الحاضر ووساوس المستقبل.
ثم تمتم قائلا وهو يطفئ سيجارته ويرمي بالعقب إلى المنفضة: تالله ما يستحق أن يكون وزيرا ولا وكيل وزارة ولا شيئا من هذا، وخشي أن يكون متجنيا عليه أو مائلا مع عواطفه القديمة فتساءل باهتمام وجد كأنما يزمع كتابة ترجمة له: كيف اعتلى كرسي الوزارة؟ .. لقد انفصلا في نهاية الدراسة الثانوية، فاضطر هو لأسباب إذا ذكرها جرت المرارة في فمه إلى الانقطاع عن الدراسة، والتحق صاحبه بمدرسة الحقوق، ثم حصل على الليسانس، وكان أبوه محمد باشا شامل وزيرا للحقانية فعينه سكرتيرا له في الدرجة الخامسة فكانت القفزة الموفقة الأولى، وقرأ بعد ذلك في الصحف أنه اختير لبعثة في فرنسا لا يعلم كم أمضى بها وما حصل عليه فيها من الإجازات، ولكن كثيرين يعلمون بزواجه بعد ذلك بسنوات من كريمة المرحوم حامد باشا حامد الذي تولى الوزارة مرات، فارتقى فجأة إلى الدرجة الثالثة مديرا لإدارة التشريع، وانقطعت عنه أخباره فترة وجيزة حتى علم بتوليته مديرية أسوان، ثم بترقيته محافظا للقنال بعد ذلك بقليل، ثم باختياره وزيرا للمعارف. ومضى على توليته الوزارة أسابيع والمجلات لا تكف عن الإشادة بمواهبه القانونية ومقدرته الإدارية ومشروعاته عن إصلاح التعليم، وكاد جلال أفندي أن يصدق ما يقال لولا أنه قرأ مقالا عن تفوق الوزير في عهد الدراسة - في العلم والرياضة البدنية معا - وكيف أن مفتشا من مفتشي الوزارة تنبأ على أثر مناقشته بأنه سيكون يوما وزيرا، فأغرق الرجل في الضحك وقال ساخرا: «الآن فهمت سر المواهب القانونية والإدارية.»
وتنهد جلال أفندي رغيب وتمتم قائلا: «دنيا!» وأراد أن يريح نفسه من أفكاره فتناول مجلة يقلب صفحاتها المصورة. والظاهر أن ذكريات الوزير كانت تأبى أن تفارقه، فرأى صفحة من المجلة مخصصة للوزير تتوسطها صورة كبيرة، ما إن بصر بها حتى صاح في دهشة وغرابة: «رباه هذه صورة فصلنا القديم.»
وألقى عليها نظرة سريعة فثبت بصره على صورته، وكان يقف في الصف الأول وراء المدرسين مباشرة إلى يمين الوزير ينظر إلى عدسة المصور في ابتسام وثقة، وكان الوزير كالعابس وعلى حاجبه الأيمن ذبابة، فضحك جلال طويلا وذكر قصة الذبابة. وكانت في الأصل من نصيبه هو وتنبه لها والمصور يهم بالتقاط الصورة فهشها بسرعة فطارت عنه إلى حاجب قرينه وحطت عليه، وقد أحس أسفا لذبه الذبابة؛ فلعلها كانت ذبابة الحظ السعيد سكنت إلى وجه الوزير المدخر، ورنا إلى الصورة بعينين حالمتين فهامت روحه في آفاق الماضي حتى شعر بأن روح الطفولة تحل فيه مرة أخرى، وأن شعيرات قذاله البيضاء تسود، وتجاعيد جبينه وما حول فمه تلين، ونظرة عينيه تصفو وترق، ويمسح على ما فيها من هم وبلبال .. أحس قلبه يخفق مرة أخرى بالأمل والطمأنينة، وجرى بصره على الوجوه الصغيرة وهو يتساءل: تري كيف صار هؤلاء جميعا؟ .. وعاين أول صورة في الصف الأخير فعرف صاحبها بوضوح غريب، وذكر اسمه (عبد الملك حنا)، وذكر كيف كانت تنتابه نوبات الصرع في الفصل حتى انقطع عن المدرسة .. أما بقية الصف فتذكر وجوههم وغابت عنه أسماؤهم ومصائرهم، وعرف في الصف الثاني وجها كأنما تركه بالأمس؛ كان ابنا لأحد كبار المستشارين، فكان يتمتع لذلك بنفوذ وصولة فيحييه الناظر إذا بصر به، ويلاطفه المدرسون، وقد علم فيما بعد أنه عين وكيلا للنيابة وترقى قاضيا، ولعله يتأثر الآن خطى أبيه الكبير. أما من يليه من الصغار فجلهم من المغمورين، وبعضهم معه في المعارف، وهو يعرفهم حق المعرفة. وأما آخر هذا الصف - الذي ينظر إلى المصور بتحد غريب ويشبك ذراعيه على صدره - فكان من أشقياء التلاميذ المولعين بالشجار والتصادم، وقد طرد من المدرسة لاعتدائه على أحد المدرسين. ومن العجيب أنه احترف فيما بعد «البلطجة» وطاف بالسجن مرات.
अज्ञात पृष्ठ