وهم أن يقدم لها شخصه العزيز، واستدلت السيدة من لهجته على ذلك، فأشارت إليه بيدها البضة، وقالت بسرعة وهي تبسم عن در نضيد: وهل أنت في حاجة إلى تعريف يا أستاذ ...؟ تفضل.
وجلس كما أرادت، ولكن عبارتها الأخيرة قلبت ما بنفسه رأسا على عقب؛ فعلاه الوجوم، وأطفأ الكدر نور السرور في عينيه؛ لأنه من المحتمل أن يكون فاتنا محبوبا من النساء، وأن تقع في غرامه حرم عاصم باشا، ولكن مما لا ريب فيه أنه في حاجة إلى تعريف ككل إنسان، وأنه لم يكن أبدا في غنى عن التعريف، فماذا تعني السيدة الجميلة بقولها هذا؟ إنه يكاد يهتدي إلى وجه الحق، وقد ساعده على ذلك قولها له «يا أستاذ»؛ فهل تظن السيدة أنه شاعر مصر الأكبر، بل شاعر الشرق العربي جميعا الأستاذ محمد نور الدين؟
والحق أن المشابهة التي بينه وبين سيد الشعراء معروفة مشهورة، يعلم بها جميع أصحابه، وطالما جعلوا منها موضوعا للتنكيت والقفش؛ فكلاهما له هذا الوجه المستطيل الذي يحد من أعلى بجبهة عالية، ومن أسفل بذقن عريضة، وكلاهما له هذا الأنف الروماني العظيم، والشارب الشركسي الغزير، ولا اختلاف بينهما إلا أنه أطول من الشاعر وأعظم امتلاء؛ وهذا يدل على أن السيدة - فيما لو صدق ظنه - لم تر الشاعر إلا في إحدى صوره التي تظهر أحيانا في المجلات والصحف.
وا أسفاه! ذاق حلاوة الفوز ومرارة الهزيمة في لحظة واحدة، فهل يتراجع ويرضى بالغنيمة بالإياب؟ ولكن مثل هذا التردد لم يكن ليخالجه إلا لحظات قصيرة العمر؛ لأنه - كما قلنا - يفقد رشاده في حضرة النساء، ولا يفكر إلا في انتهاب اللذة واقتناص الفرصة، فجلس مبتسما على ما به من خيبة مريرة، مطمئنا كما ينبغي لشاعر مصر العظيم.
وقالت السيدة: سيدي الأستاذ، إن معرفتي بك قديمة جدا لا كما تظن، وإن أفضالك على روحي لا تقدر بثمن، ولا يحصيها عد، وطالما منيت نفسي بالتحدث إليك، وكم كان فرحي عظيما حين عثر بصري بك فلم أتردد عن دعوتك، وإني أرجو يا سيدي أن تغفر لي تطفلي.
فقال علي أفندي وقلبه يلعن الشاعر: ما أسعدني بعطفك يا سيدتي! إننا معشر الشعراء لنحرق أرواحنا في سبيل الخلود والشهرة، ومثل إعجابك يا سيدتي أثمن لدي من الخلود والشهرة!
فتوردت وجنتا المرأة، ورنت إليه بعينين ناعستين، وقرأت في عينيه ما حملها على تجنب حديث العواطف وإن كانت تضمر الرجوع إليه في المستقبل! فقالت: هل أعجبتك الرواية؟
الرواية التي صدعت رأسه وفر منها إلى النعاس!
إنه كان حكيما فلم يسارع إلى مصارحتها برأيه، ولم تنتظر السيدة جوابه، فقالت بثقة: لا شك أنك تعجب بها أيما إعجاب؛ لأنها من تلك الفكاهة العالية التي كتبت عنها فصلا رائعا في كتابك الخالد «فلسفة الجمال»، وقد كان هذا الفصل سبيلي إلى تذوق موليير وتوين وشو.
فحمد الله أن لم يذكر رأيه الحقيقي، وهز رأسه باسما، وقال باطمئنان عجيب: البخيل آية فنية رائعة، وهي من الآيات التي لا تمنح كنوزها مرة واحدة. ولقد قرأتها مرة وأخرى، وها أنا ذا أشاهدها للمرة الثالثة، وفي كل مرة أفوز بحسن جديد!
अज्ञात पृष्ठ