وكانت روحية هانم لا تهتم بشيء اهتمامها بشبابها، فكانت لا تني عن العناية به والتفكر فيه حتي غدا ذلك وسواسا ومرضا ينغصان حياتها بالمخاوف والأوهام، وكانت كلما تقدم بها العمر يوما تزايدت مخاوفها؛ ذلك أنها كانت تحس في أعماقها ببلوغ قمة الشباب التي لا يعقبها إلا الانحدار، وكانت تعلم أن شبابها هو سعادتها؛ لأنها بدونه لا تستطيع أن تجذب إليها الرجل الذي تحبه والذي تعلم - مع الألم الشديد - أنها تكبره بما لا يقل عن عشرة أعوام.
ولطالما تذكر ما قالت مرة امرأة - تعلن لها الود وتكتم العداوة - في مجلس لأخرى وهي تعنيها بالذات من أن النساء اللاتي يحافظن على شبابهن بعد فوات عهده يهرمن مرة واحدة بلا تدرج .. واها .. كم سخرت من رأي هذه المرأة وكم أرجعته إلى الحسد الذي تحمله لها، ولكن لا سخريتها ولا تظاهرها بالاستهانة أفاد شيئا في مغالبة الذعر الذي استولى عليها، والرجفة التي استحوذت على أعصابها .. فغدت كالمجنونة يخفق قلبها جزعا وإشفاقا كلما طرقت أذنيها دقات الساعة.
وجعلها ذلك في حيرة بين حبها لمدحت وحياة وبين الخوف منهما؛ فهما بلا شك لذة الأمومة التي تخفق في صدرها ولكنهما آيتان على كذب شبابها؛ أما حياة فقد بلغت السادسة عشرة من عمرها وهي تخطو إلى النضوج بخطى سريعة تدل عليها معاني العينين ونهوض الثديين، وأما مدحت فتعذيبه لها أشد؛ إذ إن هذا الشاب - الذي لم يجاوز الثامنة عشرة - ينمو نموا خطيرا؛ فهو فارع الطول جاهر الفتوة عريض المنكبين، والأدهى من هذا كله غرامه بشاربه ومطاوعة الشارب له؛ فالشاب يحب الرجولة ويستزيد منها حب أمه للشباب واستزادتها منه .. وقد كانت حريصة على استصحابه كلما خرجت حتى قالت لها مرة امرأة من صاحباتها: «ما أحرى الذي يراكما بأن يقول ما أسعدهما زوجين!» ولم تدر ما إذا كانت المرأة تثني على شبابها أو تغمزه، وعلى كل حال لم تستصحب فتاها بعد ذلك أبدا.
على أنه لاح في أفقها الآن ما يستخف بجميع همومها السابقة؛ إذ ما مدحت وما شاربه إلى زواج حياة المنتظر؟!
لقد بغتها الخبر، وكانت البغتة من الشدة بحيث لم تدع لها فرصة للتدبير ولا التفكير ولا حتى للتظاهر بالفرح أمام ابنتها إذ هم بالسيارة .. فلما ذهبوا إلى الفيلا خلت إلى نفسها بحجرتها معتذرة بتعب السفر، وفي عزلتها عاودت التفكير في هدوء وإمعان فتوالت عليها الفروض والتصورات؛ فهي لا تشك في أنه لولا الحياء لغنت حياة فرحا وسرورا، وأي فتاة لا تفرح للزواج؟ وخاصة إذا كان الشاب في عنفوان شبابه وجيها في بحبوحة من الغنى والجاه، سيدا في وظيفة تتيه على جميع الوظائف؛ فلعلها باتت تغرد في قلبها أطيار الحب وتحلق في جوها الطاهر أحلامه العذبة؛ فهي جد سعيدة بحاضرها، جد آملة في مستقبلها، ولا شك أنها تنتظر الآن أن تستعيد أمها راحتها من وعثاء السفر وأن تذهب إليها لتطبع على خدها الوردي قبلة التهنئة، فتعلن رضاها وموافقتها، فتتم الخطوبة وتكمل السعادة.
ولكنها إذا فعلت فستغدو الابنة زوجة وتمسي أما، فتسمع عن قريب من يناديها بقوله: «جدتي، جدتي.» لقد نطقت بهذه الكلمة الشنعاء فدوت في أذنيها دوي التصويت والنواح، فارتج لها جسمها البض وخفق لهولها قلبها العاشق .. وأحست ببرودة الخوف تسري في أعصابها سريان الجفاف في الغصن الرطيب .. وخيل إليها الوهم أنها تجلس إلى مقعد وثير وإلى جانبها ابنتها وعلى حجرها غلام كأنها تسمعه بأذنيها يهتف بها: «يا جدتي.» ورأت نفسها وقد ذوى جمالها وتغضن جبينها وغارت عيناها ورق خدها وابيض شعرها، فانتفضت واقفة وكتمت صرخة رعب كادت تفلت من شفتيها، وهزت رأسها بعنف لتطرد عن خيالها الأطياف المرعبة، حتى إذا عاودها اطمئنانها صاحت: «أبدا .. أبدا .. لن يكون هذا.» ولبثت ملازمة لحجرتها غير عابئة بما عسى أن يحدثه غيابها في نفس ابنتها العزيزة، حتي ثقل الأمر على البك فاستأذن عليها ودخل، وجلس قبالتها وجعل يرمقها بعينيه الحادتين وهو يرجو أن تفاتحه بالحديث، ولما لم يدع له إصرارها أملا قال: أرجو أن تكون أسوان قد شفت أعصابك.
وأغضبها قوله، وظنت أنه يتهكم عليها فنظرت إليه نظرة حمراء. ولما شاهدت عينيه الحادتين وقر في نفسها أنه هو الذي سعى إلى هذه الخطوبة، وأنه سعى إليها تأديبا لها وانتقاما منها، فهو أعرف الناس بها وأعرفهم على وجه الخصوص - بما يسرها وما يسوءها - واشتد بها - عند ذاك - الغضب، فعضت على شفتها السفلى، وأهملت الرد عليه، فقال كالداهش: ما لك؟ لست كعادتك .. والأعجب من هذا أنك لم تفرحي لما بشرتك به.
فاهتاجها الغيظ وقالت محنقة غاضبة: لن تتم هذه الخطوبة.
فبدا على وجه البك الانزعاج وقال: ما تقولين يا هانم؟
وأجابته بصوت صارم: أقول إنه لن تتم هذه الخطوبة. - كيف .. ولمه؟ - إن «حياة» ما زالت صغيرة السن. - ولكنها بلغت سن الزواج القانونية. - ماذا يفيد القانون إذا كان الزواج المبكر يؤذي صحتها؟ - لقد تزوجت يا هانم في مثل سنها، ومع هذا فإن كل من يراك يشهد لك بالصحة والنضارة.
अज्ञात पृष्ठ