ولكن سيدة من الموجودات لم تلب النداء، فقالت: المدام غير موجودة بلا شك.
قالت ذلك بلهجة من ترى وجوب انتهاء المقابلة عند هذا الحد، فلم ير بدا من الخروج، وأغلق الباب خلفه، ولكنه لم يتحرك من مكانه، ولبث يرمق الباب بعين متقدة، ترى هل أخطأ البواب حسبانه، أم إن الشيطانة موجودة بداخل شقة الخياطة؟ ولماذا صرخت الفتاة الملعونة بهذا الصوت المزعج وهي تنادي مدام جمال ذهني؟! ألا يجوز أنها فعلت ذلك لتحذر الغافلين؟ وهل يجوز أن يبقي في مكانه لا يحرك ساكنا وزوجه في داخل الشقة في خلوة غرامية؟ فما عسى أن يفعل؟ وكيف يضبط الآثمة متلبسة بجريمتها؟
وعند ذاك فتح الباب، فتقهقر خطوتين، وخرجت سيدة، وأوصلتها الفتاة الإفرنجية، وقد رأته ولكنها لم تباله، وأغلقت الباب مرة أخرى.
فمضى يروح ويجيء في حيرة شديدة. من المؤكد أنها في هذه العمارة؛ فقد رآها وهي تدخل ورآها وهي تندس في المصعد، وأكد البواب أنها صعدت إلى الطابق الرابع، وها هو ذا الطابق الرابع، ولا مكان يصح افتراض دخولها إليه إلا شقة الخياطة؛ فالشيطانة لا شك في الداخل، ولكن ما عسى أن يفعل؟ هل يظل يروح ويجيء أم ينتظر إلى ما شاء الله؟ ومما يزيد ارتباكه أن وقوفه هكذا قد يريب الصاعدين والهابطين وتيارهم لا ينقطع. ومرت عليه ساعة كاملة كانت أقسى ساعات حياته جميعا، ونال منه التعب والقهر كل منال، فاضطر إلى مغادرة مكانه وفي نيته أن ينتظرها لدى الباب الخارجي، ولكن خطر له خاطر أزعجه، فسأل البواب: هل للعمارة مدخل آخر؟
فأجابه الرجل بلهجته البربرية بأن للعمارة ثلاثة أبواب، فأحس باليأس وذاق مرارة الخيبة، وعض شفتيه من الحق والغيظ، وكبر عليه أن تتغفله الشيطانة وتمثل به هذا التمثيل المزري. وكان ما عاناه عقله وجسمه فوق ما يحتمله شيخ في سنه، فعاد خائر القوى إلى سيارته. وكم كانت دهشته عظيمة حين هم بالدخول فرأى زوجه جالسة آمنة مطمئنة تنتظر أوبته منذ زمن غير يسير، وقد نظرت إليه بإنكار وسألته: أين كنت يا بك؟
فأنعم في وجهها النظر فرآها تبتسم ابتسامتها المألوفة، ولكن لم يخف على عينه الثاقبة شحوب لونها ونظرتها الدالة على الإثم بقدر دلالتها على الطهارة المصطنعة؛ فهي شيطانة بلا ريب، ولكنها لم تتعود الإجرام بعد.
وجلس إلى جانبها صامتا وانطلقت بهما السيارة.
وكان مقهورا مغلوبا على أمره، يعاني مرارة الهزيمة، ويحس كأن يدا تخنق كبرياءه خنقا. وكان يسوءه أن يجلس هكذا إلى جانب المرأة التي تغفلته وهزأت بكرامته ولوثت عرضه .. ولم يرتب قط أنها تعلم بأمر مطاردته الفاشلة لها. ومن يعلم؟ فلعلها تضحك في سرها الآن من خيبته وهزيمته. يا له من تصور لا يحتمل!
لقد أنذرها بأنه لن يتركها لحظة، ثم اضطر إلى تركها أو هي اضطرته إلى ذلك، ولكن لم يخطر له على بال أن تتخذ من زيارتها لشيكوريل سبيلا إلى مقابلة عشيقها.
واستسلم للتفكير الحزين، وذكر طريقة عامة الشعب في الانتقام من الخائنات، فوجد نفسه - في محنته - يقرها، وهل تستحق الأفعى إلا تهشيم رأسها؟ .. أما هو البك الوجيه المثقف فيجلس إلى جانب معذبته يعاني آلامه في صبر، ويشيع كبريائه إلى القبر وهو كظيم. وكيف يفعل غير ذلك وهو القاضي الذي قضى حياته في خدمة القانون؟
अज्ञात पृष्ठ