ولاحت منها نظرة إلي فالتقت عينانا، وتوقعت بقلب خافق أن أطالع في وجهها آية التذكر، وتحفزت للسلام، ولكن خاب رجائي؛ لأن نظرتها كانت جامدة لا حياة فيها، ولم تلبث أن ولتني ظهرها وعادت من حيث أتت. وا أسفاه! نسيتني بغير شك .. وما من شك في أنها هي جارتنا القديمة، وهي ما تزال تحافظ على جمالها وأنوثتها، ولكن ما لها تعيش وحدها في هذا الفندق .. وما الذي يحملها على هذه الوحدة الغريبة .. وأين زوجها يا ترى؟
وطال تفكيري في شأنها حتى قمت لارتداء ثيابي وغادرت حجرتي، وشاءت المصادفات أن يفتح باب حجرتها على أثر خروجي مباشرة، فتباطأت في خطاي حتي حاذتني وهبطنا الأدراج معا، ووجدت في نفسي رغبة شديدة في محادثتها، ولم أكن أحجم في مثل ذاك الموقف، فقلت لها بهدوء غريب: سعيدة يا هانم .. لعلك تذكرينني.
فحدجتني بنظرة إنكار، ولعلها ظنت أني أتذرع بالحيلة لاستدراجها إلى محادثتي، وأسرعت الخطى فلحقت بها عند باب الفندق وقلت لها: أهكذا تنسين جيرانك بسرعة؟ .. ألا تذكرين حرم حسن بك همام القاضي؟
فألقت علي نظرة غريبة، ولاحت في عينيها الأحلام، وسمعتها تتمتم: عدالات هانم .. شارع الزقازيق!
فقلت بفرح: نعم، هذه هي والدتي .. وهذا شارعنا.
فهشت لي وسارت إلى جانبي وهي تقول: أأنت ابنها؟ .. تذكرت .. كيف حال عدالات هانم؟
فقلت بسرور وقد أيقظ صوتها وجدي القديم بها: والدتي بخير .. كيف حالك أنت يا هانم؟ - عال، ولكن أين عدالات هانم؟ .. هل أنت وحدك؟ - نعم، الأسرة في رأس البر لأن والدي يحبها ويفضلها على الإسكندرية، وأنا هنا بحكم عملي. - نسيت اسمك. - حسونة.
وكنت نسيت اسمها كذلك، ولكني نفرت بطبعي من سؤالها عنه، فمشيت إلى جانبها صامتا، وكان وجداني في يقظة قوية، وأصارحكم القول بأني من الذين لا يملكون عواطفهم إذا خلوا إلى امرأة أيا كان جمالها، وإن رغبتي في النساء عامة لا تعرف التخصص. وقد كنت قبل نحو عشرين عاما ذا استعداد للحب، ولكني فقدت بمرور الزمن واطراد التجارب وكثرة الأهواء تلك الموهبة الجميلة، ودنوت كثيرا من الحيوانات الراقية. وكنت في ذلك الوقت خاطبا، وكنت اخترت خطيبتي من بين عشرات الفتيات، ولكن ذلك لم يمنع قلبي - ذلك اليوم - من التعلق السريع بتلك المرأة ومعاناة الرغبة والطمع، قلت لها: أأنت وحدك هنا؟
فقالت بلا اكتراث: نعم! - وزوجك؟ - في السلوم. - ولماذا تعيشين وحدك؟
فضحكت ضحكة رقيقة وقالت: لا ينقصك إلا أن تفتح محضرا للتحقيق وتطالبني بالشهود.
अज्ञात पृष्ठ