وكان يندفع في سبيله بقوة غريزة مستحكمة قهارة كأنه فنان صادق أمين. ولم يقصد قط أن يتقاضى عن فنه أجرا، ولكن المجد أتاه طوعا يجر أذياله، وإذا به يشغل مكانا عاليا بين الرفاق الصغار، وإذا به قطب يهدفون إليه ويطوفون به ويبذلون في سبيل مرضاته الدوم وأبو النوم وغزل البنات.
ولكن للطفولة نهاية ككل شيء في هذه الدنيا، وقد ودع عهدها الجميل واستقبل عهد الشباب واشتغل في حانوت والده في أول شارع الخرنفش يبيع الخردوات.
وأراد أبوه أن يزوجه فتزوج، وكانت زيجة سعيدة وصلت ما بين آل شلضم الكرام وآل الأعمش معلم العربات الكارو الشهير وسيد موقف النحاسين. وعمرت بيت شلضم الفتاة المهذبة حميدة ربيبة الحجرات المغلقة، التي لم تقع على وجهها عين غريب أو لم تر نور الدنيا إلا خلال خمار كثيف ألقي على وجهها ساعة انتقالها في الزفة من العطوف إلى حارة جعيصة. وقد وجد فيها حسن أول شخص يحترمه ويهابه على ظهر البسيطة. كانت تدعوه «سيدي»، ولا تقعد فيه حضرته إلا إذا أذن لها؛ فإذا أذن جلست عند قدميه على شلتة واستلقى هو على الكنبة في كبرياء، ولكن مع الأيام بعد أن صارت أما لحسونة ومتولي وأبو سريع وزينب وخديجة ونبوية طمعت في مجالسته في طمأنينة وثقة.
صار السيد حسن شابا عاملا وزوجا، ولكنه لم يقلع عن لهوه وعبثه؛ كان يقضي نهاره في الحانوت، أما ليله فكان يلاحق أصحابه في قهاوي الخرنفش ومرجوش والغورية، ويساهرهم الليل يشربون الزنجبيل والقرفة ويدخنون الجوزة ويتسامرون ويتضاحكون. كان يجلس على أريكة متربعا ويضع إلى جانبه مركوبه، وعلي المركوب عمته، ويقذف بنكاته وقفشاته ذات اليمين وذات الشمال غير مبق على إنسان، والجمع من حوله يضحك ويقهقه ويسعل. وشهدت تلك الفترة من شبابه أبدع وأكبر مجموعة من النكات البلدية التي سارت مع الزمن سير الأمثال، وصارت من محفوظات أهل البلد وآدابهم التقليدية يلوذون بها في مناظراتهم اللطيفة ويستعيرون منها في معاركهم الهزلية، ويستشهدون بها كلما لج بهم الشوق إلى الفكاهة والمرح؛ فكان فنانا إلى درجة ما، وكان من الفنانين المغمورين، ولكن من حسن الحظ أنه لم يكن يفهم من معاني الخمول ما يمكن أن تذهب نفسه معه حسرات على خموله النسبي. والحق أن آيات السيد حسن شلضم التي ألفها في تلك الفترة البعيدة لا تزال جارية على الألسن، وستظل محتفظة بفكاهتها إلى أن تتغير العقلية البلدية أو أن يضعها مكتب الآداب في قائمة المحرمات.
ولبث الشاب يحيي السهرات الساذجة في ذاك الحي بضع سنين، ثم ولى وجهه وجهة أخرى. كان كثير من رفاقه لا يفتأ يذكره بأن المرجوش والخرنفش ليسا بالميدانين الصالحين لعبقريته الفذة، وأنه ينبغي أن يهاجر إلى شارع الأنس والطرب ومجمع العشاق وأهل الهوى. وأصاخ الشاب إلى إغراء الهمس، وأسلم قياده لمن دله على الطريق، وهنالك اطلع لأول مرة على ذلك العالم الفائر الذي تتجاوب فيه الأنوار ما بين المصابيح والكئوس وتمتزج به آهات الدلال وآهات المواويل، وتتصل حركات البطون بقفزات السكارى وتلويح العصي. ولم يعدم في تلك الدنيا العامرة صديقا؛ لأنها كانت مبيت عدد عديد من أثرياء الجمالية، فتلقوه بترحاب وأوسعوا له حول موائدهم. وإلى هنا اختتم الشاب حياة واستقبل حياة؛ اختتم حياة ساذجة طاهرة قوامها الفن، واستقبل حياة ترف وعربدة أساسها الاحتراف. وقد أكرمه أهل الهوى فنزعوا عنه الجلباب والعمامة والمركوب وخلعوا عليه جبة وقفطانا وحذاء أصفر لامعا وطربوشا أنيقا، وأكل مما يأكلون لحما مشويا وعصافير محمرة ونقلا لذيذا، وشرب مما يشربون خمرا معتقة ونبيذا أحمر وأبيض. وفي مقابل ذلك كان يقطع لياليهم الهانئة بالنكات الممتعة والملح النادرة والقفشات البارعة، وتنقل من حانة إلى حانة ومن ملهى إلى ملهى وهو يكتسب في كل مكان أصدقاء ومعجبين ومريدين. وامتدت شهرته من ذاك الشارع المنير إلى جميع حلقات الغناء والسمر والطرب في القاهرة الخالدة الحالمة، وعلا نجمه وشع نورا بهيجا، وطغت عبقريته واستحكم ظرفه حتى أصبح حبيبا إلى كل نفس عزيزا على كل قلب، تشتهيه الأنفس وتتلهف عليه المهج، كان لكل داء دواء طاردا للهم، كاشفا للكرب، أو كان روح كل مجلس أنيس، ينقلب إذا غاب عنه كئيبا واجما.
كانت غاية حياته أن يضحك ويضحك الآخرين ولو من نفسه. ولم تكن هذه الغاية فلسفة حياة ولكنها طبع وغريزة يندفع في سبيلها كالأعمى وكأنها صادرة من أعماقه لا يمكن أن يوقفها شيء. وكان ظاهر حياته يدل على أنه يربح من وراء هذه الموهبة جاها عريضا وسعادة متصلة وطعاما وشرابا، ولكنه كان في الحق يدفع الثمن غاليا ويبذله من كرامته وكبريائه؛ لأن همه الأول كان في التحبب إلى الناس وإدخال السرور على قلوبهم، وقد علم بغريزته أنه ينبغي لذلك أن يكون خفيفا لطيفا؛ فلا يجوز أن يعارض رأيا ولو خالفه بقلبه، ولا أن يغضب ولو مست كرامته، ولا أن يقاوم وإن هوجم وضيق الخناق عليه، فنال ما يشتهي من الحب وفق ما يشتهي ولكنه خسر الاحترام إلى الأبد.
ومهما يكن من أمر فقد تسنم السيد حسن شلضم ذروة المجد للحب، ويسلط سوط الإرهاب على رءوس آله جميعا، ولا يتكلم إلا آمرا أو منتهرا أو سابا، وكانت حميدة ترتجف رعبا في محضره، وكان أبناؤه إذا سمعوا صوته فروا إلى ركن قصي وانكمشوا فيه.
ومهما يكن من أمر فقد تسنم السيد حسن شلضم ذروة المجد ونال من الشهرة قسطا لم ينله أحد ممن سبقوه، ولن يتأتى لمحدث أو مهرج بعده أن يناله، ومضت لياليه سعيدة هانئة راضية، يحياها آكلا شاربا ضاحكا.
واصطدم وجه الأرض بأحداث مروعة، فوقعت الحرب وتوالت النكبات على الدنيا ثم قامت الثورة في مصر، وطفت بين من طفت بهم إلى السطح بالزنفلي أفندي الذي ظهر في أفق السيد حسن وإخوانه بعد عهد الانقلاب، فأضافه السيد حسن إلى أعاجيب الثورة كيدا وحقدا، وقد أتى به ذات مساء أحمد بك فائق وقدمه إلى جماعة السيد حسن قائلا: إنه شاب مثقف ومن أظرف الظرفاء. وما كان يسوء السيد حسن أن تزيد جماعته واحدا، فما كاد يطمئن به المجلس حتى جرت النكت على لسانه كالسيل، ومضى يعلق على آراء القوم وأحاديثهم بما تخترعه نفسه الذكية من الصور الساخرة والنوادر الأخاذة، فتبعث تعليقاته وراءها عواصف من الضحك والقهقهة. ولبث السيد حسن صامتا لا يتكلم يرمق صاحبه بعين فاحصة ويقول لنفسه: ترى هل هو زائر عابر أم قضي علي أن ينافسني طفل على آخر الزمن؟
والظاهر أنه قضي عليه حقا أن ينافسه الأطفال في النهاية؛ لأن الزنفلي لم يكن زائرا عابرا، لكنه أصبح بسرعة عجيبة عضوا لا يبتر من الجماعة، وكان يمتهن المزاح كالسيد حسن ولكن على طريقته الخاصة الجديدة، فما كان يفحش في القول ولا يقذف بالسباب والهجر ولا يحاكي الأصوات والأشكال، ولكنه كان يفتن ويتفوق في إرسال النكتة الخاصة الأدبية والملاحظة الساخرة والتهكم اللاذع.
अज्ञात पृष्ठ