وأنزلنا من السماء ماء
أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الأرض
قال خالد بن مقدان المطر ماء من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع فى سماء الدنيا، فتجىء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها حيث يشاء، وعلى كل حال، من للابتداء فإن المطر يبتدئ من الجنة أو السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض وكذا إذا قلنا إنه من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء، فينعقد سحابا ماطرا. { فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } الفاء تدل على أنه ليس بين الإنزال والإخراج إلا مدة القلة، وعلى السببية فهى للترتيب، وترتيب كل شىء بحسبه أو المراد وخصت مدة فأخرج به، أو أراد بإخراج الثمرات خلق مادتها وأصلها فى الشجرة، وجملة أخرج معطوفة على جملة أنزل، وجملة أنزل معطوفة على جملة جعل، والله - جل وعلا - قادر على إخراج الثمار بلا ماء وعلى إيجادها بلا شجر ولا أرض، وعلى خلق الحيوان بلا نطفة وعلى إيجاده بلا أم ولا أب ولا من الأرض ولا غيرها، وكذا سائر مخلوقاته التى يخلق بأسباب ومواد، هو سبحانه قادر على أن يخلقها بلا سبب ولا مادة، ويدل على قدرته أنه خلق الأسباب والمواد بلا سبب ولا مادة، وما خلق منها بسبب ومادة فقد انتهى إلى ما ليس بسبب ولا مادة، وإلا لزم التسلسل والدور، ولكن فى خلق الأشياء بأسباب ومواد برهان محسوس مشاهد لا يمكن إنكاره ولطف بخلقه بأن يقبل المعرض، وينتبه الغافل، ويتبصر الأعمى.
إذا شاهدوا تدريج الشىء من حال إلى حال، وتولد شىء من شىء تدريجيا، تولدا يستحيل فى عقولهم أن يكون بالذات بلا فاعل، وأن يكون بصنع مخلوق، فلو خلق الأشياء بلا سبب ومادة ولا تولد ولا تدرج لم يكن فى خلقها من العبر والسكون إلى قدرته العظيمة ما فى خلقها الأشياء بسبب ومادة وتولد وتدريج، وذلك حكمة. وجعل الماء الممزوج بالتراب والتراب الممزوج بالماء سببا فى إخراج الثمرات، ومادة لها بأن أفاض صورة الثمار وكيفيتها على المادة الممتزجة من الماء والتراب، أو أبدع فى التراب قوة فاعلة وفى الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمر، ونعتقد فى ذلك كله أنه لا خالق إلا الله، فكل من القوة التى فى الماء وفعلها والقوة التى فى الأرض وقبولها مخلوق الله تبارك وتعالى، ومن فى قوله { من الثمرات } للتبعيض لقوله
فأخرجنا به ثمرات
فإن ثمرات بالتنكير جملة من الثمرات بالتعريف، كما أن رجالا جماعة من الرجال فالثمرات بأل كل، فإنما يفيد بالتبعيض بواسطة من، ويدل على كونها للتبعيض أيضا توسطه بين المنكرين ماء ورزق، المراد بهما بعض الماء وبعض الرزق، إذ لا شك أنه لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر الثمرات كلها، ولا جعل كل الرزق ثمرات، وليس الماء كله يخرج بعض الثمرات فقط، فكأنه قيل فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، ويجوز أن تكون من للتبيين ومفعول أخرج هو من التبعيضية على القول باسميتها ومحذف نابت عنه هى ومجرورها على القول بحرفيتها وهو الصحيح، فأخرج به شيئا ثابتا من الثمرات، ورزقا بمعنى المصدر مفعول لأجله، أو بمعنى مفعول أى مرزوق بدل من المفعول الذى هو من أو محذوف أو رزقا بمعنى مرزوق، ومفعول به لأخرج ومن الثمرات حال من رزقا، ولكم نعت لرزقا على أنه بمعنى مرزوق أو مفعول به لرزقا على أنه بمعنى المصدر قوى باللام كأنه ليس رزقا إياكم ولا مانع من كونه نعتا لرزق بمعنى المصدر، ويجوز تعليق لكم بأخرج، ويجوز كون رزقا مفعولا من أجله لأنزل وهو أعم، لأن المعنى وأنزل من السماء ماء ليكون منه الرزق، وهو يشمل المأكول والمشروب وغيرهما كالملبوس، والثمرات جمع قلة، لأنه جمع بألف وتاء، وإنما ساغ جمع القلة هنا والمقام مقام كثرة، لأن اللفظ ولو كان لفظ قلة لكن المراد الكثرة لأن الثمرات جمع الثمرة، والثمرة بالإفراد مراد به ثمار كثيرة، إما لأجل أل أو من تسميتهم الثمار المتلاحقة الكثيرة ثمرة، كما يقال أدركت ثمرة بستانه فكل مفرد من أفراد الجمع الذى هو قوله الثمرات هو ثمار، فالثمرات بهذا القصد أدل على الكثرة من الثمار الذى هو جمع كثرة، ويدل لذلك قراءة محمد بن السميدع من الثمرة، بالإفراد، لأن المراد بها الجماعة لا الواحدة، أو استعمل جمع القلة فى الكثرة كقوله تعالى
كم تركوا من جنات وعيون
بدليل كم التكثيرية كما عكس فى قوله
ثلاثة قروء
بدليل لفظ العدد لا أصله أن يضاف لجمع القلة هكذا حكم ثلاثة وعشرة وما بينهما، أو نفاذ الكثرة من أل فتكون أل جائزة لجمع القلة ملحقة له بجمع الكثرة، وأجاز القاضى أن يلوح بالآية زيادة على ظاهرها إلى معنى باطن، وهو تمثيل البدن بالأرض والنفس بالسماء والعقل بالماء، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة، والأرض المنفعلية بقدرة الفاعل المختار، فإن لكل آية ظهرا وباطنا، ولكل حد مطلعا. انتهى. وقوله بقدرة الفاعل المختار عائد إلى قوله الفاعلة والمنفعلة تنازعاه، وقوله فإن لكل.. إلخ هو حديث رواه الحسن مرسلا وظهر الآية ما ظهر لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنه من الأسرار التى أطلع الله عليها أرباب الحقائق، وقيل ظاهرها تلاوتها وباطنها فهمها والحد أحكام الحلال والحرام، والمطلع الإشراف على معرفتها. { فلا تجعلوا لله أندادا } متصل فى المعنى بقوله
अज्ञात पृष्ठ