قال القاضى وهم فى النار فيدعون ليدخلوها، أى بصورة من يدعى ليدخلها - وإلا فلم يدعوا ليدخلوها - بل يقال لهم تعالوا فيجيئوا فيزدادوا فيقع الاغتمام لهم بذلك، فيجيئون أى مسرعين ليدخلوها، فإذا بلغوا الباب أغلق، فيرجعون. ثم يدعون حتى إنهم ليدعون فما يجيئون من الإياس. واختص الشيخ بذكر تكرار دعائهم وردهم حتى يئسوا، وفى رواية عن الحسن وابن عباس تفتح لهم أبواب النار فيدعون فيسرعون للخروج، فتغلق عليهم.
[2.15]
{ ويمدهم } يزيدهم كما يقال مد الجيش وأمده إذا زاده ما يقوى به من ناس أو طعام أو سلاح، وم الدواة وأمدها إذا زادها ما تصلح به من ماء أو مداد، ومد السراج وأمده زاده زيتا، ومد الأرض وأمدها زادها سمادا أو خلطها به من قبل أن يكون فيها شىء منه، وأمده الشطيان ومده فى الغى إذا زاد فى وسوسته، كل ذلك الهمزة وتركها بمعنى واحد، وأكثر ما يأتى مد بلا همزة فى الشر، وأمد بهمزة فى الخير والمعنى يزيدهم. { فى طغيانهم } ما يقوى به طغيانهم، وليس من المدد الذى هو الزيادة فى العمر باللام، يقال مد له فى عمره لا بالهمزة، والذى فى الآية قد يقال فى الهمزة كما أقر ابن كثير وابن محيصن { ويمدهم فى طغيانهم } بضم الياء وكسر الميم، وقرأ نافع وإخوانهم يمدونهم بضم الياء وكسر الميم، وهما فى القراءتين من أمد بالهمزة وهى لموافقة المجرد، وإن قلت إذا كان من الزيادة فأين مفعوله الآخر؟ قلت محذوف تقديره ما يقوى به طغيانهم، وإن قلت كيف ساغ أن يقول زادهم الله ما يقوى به طغيانهم؟ قلت معناه خذلهم ولم يلطف بهم.وهذه قاعده أصحابنا رحمهم الله فى التفسير، وكذا الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية خلافا للمعتزلة، فإنهم لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره كما تعذر علينا، لأن الزيادة فى الطغيان تقوية للكفر بحسب ظاهر الكلام، تأولوه بغير الوجه الذى تأولناه، وهو أنه لما كان خذلانه إياهم ومنع الإلطاف عنهم سببا فى كفرهم وإصرارهم، وفى زيادة قلوبهم رينا وظلمة، كما كان توفيقه المؤمنين سببا فى الإسلام وثباته، وفى زيادة قلوبهم انشراحا ونورا، أسند الزيادة فى الطغيان إلى نفسه، إذ كان مسبب ذلك السبب، بكسر الباء، الأولى من مسبب. والحاصل أنه لما كان تزايد طغيانهم مسببا، بفتح الباء الأولى، خذلانه لهم أسند الزيادة إلى نفسه ولا جبر هناك، أو لما كان إغواء الشيطان إياهم إنما هو بإقدار الله - عز وجل - إياه عليه، أسند الزيادة فى الطغيان إلى نفسه، وعلى كل حال فإنما أضاف الطغيان إليهم، ولم يأت به مجردا عن الإضافة، لئلا يتوهم أن إسناد الزيادة إلى الله تعالى على الحقيقة، وإما أن يضاف الطغيان إلى الله ونحوه من الأفعال فحرام، لأن ذلك مخلوق له لا فعل له، إنما هو فعل الناس، ويدل على أن إضافة الطغيان إليهم لما ذكر أنه لما أسند الإمداد إلى الشياطين فى سورة الأعراف لم يحتج الكلام إلى الإضافة إليهم، إذ قال يمدونهم فى الغى، ولم يقل فى غيهم، وقال مجاهد المعنى يملى لهم فى طغيانهم، فأصل الكلام ويمد لهم حذفت اللام وانتصب محل الضمير على نزع الخافض، لأنه على تفسير مجاهد من المد فى العمر، والمد فيه يتعدى باللام كما مر، وأغنى قوله { فى طغيانهم } عن أن يقال فى أعمارهم، لأن المد فى أعمار المخذولين بسبب الطغيان، وإنما مد فى أعمارهم ليطيعوا وينتهوا، وما ازدادوا إلا طغيانا، توصلوا إلى الطغيان بما خلق وسيلة لهم إلى الشرك، وعلى الأوجه المذكورة يتعلق فى طيغانهم بمد ويجوز تعليقه بقوله { يعمهون } على وجه آخر وهو أن المعنى يمهل لهم فى أعمارهم أو يزيدهم نعما ليؤمنوا ويشكروا، وهم فى ذلك يعمهون فى طغيانهم، وعلى كل وجه فيعمهون حال، والطغيان، بضم الطاء، فى قراءة السبعة، والجمهور، وبكسرها فى قراءة زيد بن على لغتان كلغيان وغينان، بضم أولهما وكسرة تجاوز الحد فى العصيان والغلو فى الكفر، وأصله تجاوز الشىء عن مكانه، وقوله سبحانه
إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية
يحتمل تجاوز الماء عادته، ويحتمل التشبيه بالعاصى وتخصيص الطغيان شرعا بالمبالغة فى المعصية حقيقة شرعية، ويعمهون يترددون متجبرين، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام فى البصر والرأى، والعمه خاص بالرأى وهو التحير والتردد، لا يدرى أين يتوجه، يقال رجل أعمه وعمه، أى لا رأى له جازم قال رؤبة
أعمى الهدى بالجاهلين العمه ومهمه أطرافه فى مهمه
أى الجاهلين الذين يترددون ولا معرفة لهم، جمع عامه كراكع وركع، لا جمع عمه كما قيل، وأعمى الهدى خالف الهدى وجاوزه، أو هو صفة من عمه الأمر التبس، وأرض عمهاء لا منار بها يعتمد عليه الرائى فيهتدى به، وبين العمى والعمه عموم مطلق، لأنه خاص بالبصيرة، والعمى عام فيها وفى البصر، قاله الفخر كجار الله، وقال ابن عطية إنه خاص بالبصيرة، والعمى بالبصر، فهما متباينان، ولا منافاة، فإن مراده الاختصاص والمباينة باعتبار الحقيقة، ومراد غيره بإطلاق العمى فى البصر والبصيرة الحقيقة والمجاز فإنه مجاز فى البصيرة، ولم يستعمل العمه فى البصر وإن استعمل كان مجازا، وقيل { يعمهون } يلعبون وقيل يتمادون.
[2.16]
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } بقوا على الضلالة وأعرضوا عن الهدى بعد ما جاءهم، وأمروا به شبه بقائهم عليها، وإعراضهم عنه بشراء شىء ردىء بشىء كريم، بجامع التمسك بردىء وترك كريم، ففى اشترى استعارة تبعية تصريحية تحقيقية، والمعنى اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى الذى فطر الله الناس عليه، وللفطر عليه وتمكنهم منه صار كأنه بأيديهم، فساغ إطلاق استبداله، وأصل الاشتراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان أو من الانتفاع بها، فإن كان أحد العوضين دينارا أو درهما تعين أن يكون ثمنا من حيث إنه لا يطلب لعينه وبذله اشتراء، وإلا فأى العوضين تصورته بصورة الثمن، فباذله مشتر وآخذه بائع، ولذلك يستعمل اشترى بمعنى باع وباع بمعنى اشترى، وإذا صورت إحدهما بصورة الثمن فهو الذى تدخل عليه الباء، فإدخال الباء فرع التصور ثمنا فيعرف فى كلام غيرك بالباء فلا إشكال فى قولنا فأى العوضين.. إلخ، ولا يرجح عليه قولك الثمن ما دخلت عليه الباء ولو ادعى ذلك زكريا، واستعير الاشتراء للإعراض عما فى يدك محصلا به غيره معنى أو عينا كقوله
أخذت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا وبالطويل العمر عمرا حيدرا كما اشترى المسلم إذا تنصرا
अज्ञात पृष्ठ