{ يا أولى الألباب } يا ذوى العقول السالمة المتأهلة للتأمل فى حكمة القصاص المقتضى لبقاء الحياة، والعاقل لا يريد إتلاف نفسه لإتلاف غيره وخصهم بالنداء، لأنهم المتأهلون للتأمل فى حكمة القصاص، المنتفعون بالأمر والنهى. { لعلكم تتقون } تخافون الله وتراعون حقه فى المحافظة على القصاص والحكم به، ولا سيما وإلى الأمر والإذعان له مع التوبة، أو لعلكم تحذرون الموت فتكفون عن القتل، لأنه يؤدى إلى موتكم به، ومن اتق الله بالمحافظة عليه والحكم به دعاه إلى سائر التقوى، لأن الطاعة يثاب عليها بأخرى وتدعو أخرى بأخرى وهكذا، وكذا من أذعن له، فإنه يكون أطوع لله فيما بقى من حياته قتل أو لم يقتل، ولعلكم تعليل للاستقرار فى قوله { ولكم فى القصاص } أو ترجية مع محذوف أى شرعنا لكم القصاص لعلكم تتقون، أو أريناكم حكمة القصاص لعلكم تتقون.
[2.180]
{ كتب } فرض. { عليكم إذا حضر أحدكم الموت } أى حضرته أسباب الموت ودلائله من الأمراض المخوفة والعلل المهلكة، وليس المراد معانيه الموت لأنه يعجز فى ذلك الوقت عن الإيصاء، وإنما قال كتب ولم يقل كتبت بتاء التأنيث مع أن نائب الفاعل مؤنث، وهو قوله { الوصية } لأنه ظاهر مجازى التأنيث، فجاز تذكير فعله كما تقول طلع الشمس وطلعت الشمس، وحسن ذلك أن الوصية مؤولة بالإيصاء، كما يدل عليه رد الضمير إليها مذكرا فى قوله { فمن بدله } على أحد أوجه تأتى إن شاء الله، وحسنه أيضا الفصل بين كتب والوصية، والفصل يسيغ التذكير ولو كان التأنيث حقيقا، وجواب إذا محذوف دل عليه كتب ولا يشكل على ذلك أن الكتابة أزلية لا متقيدة بزمان حضور الموت، لأنا نقول كما فرض الله جل وعلا ذلك فى الأزل فرضه وقت حضوره، فهذا إيجاب آخر مطابق للأزلى، وإن شئت فقل عبر بالفرض الأزلى وأراد لازمه ومسببه وهما الوجوب، ولكن هذا يشكل عليه أن الوجوب أزلى أيضا، يحتاج إلى الجواب بأنه إيجاب آخر مطابق للأزلى، فالوجه الأول أولى، وأما جواب أن فمحذوف أيضا مدلول عليه بإذا وشرطها وجوابها المقدر، أى إن ترك خيرا فإذا حضره الموت كتبت عليه أعنى الوصية، لأنها فى نية التقديم على إذا وإن. وإن قلت كيف تقول ذلك وترك الخير بعد حضور الموت وبعد الموت؟ قلت المعنى أنه قرب ترك الخير وشارفه وهو وقت أوسع من وقت حضور الموت شامل له، ويجوز أن يكون نائب الفاعل هو قوله عليكم فوجب ألا يقرن الفعل بالفاء، فحينئذ يكون الكلام فى جواب إذا وإن كما مر. والوصية نائب لمحذوف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ما المكتوب أو ما كتب على أحدنا إذا حضره الموت؟ فقال كتبت الوصية أو خبر لمحذوف كذلك كأنه قيل ما المكتوب عليه؟ فقيل الوصية، أى المكتوب الوصية، ويضعف أن يقال الوصية متبدأ و للوالدين خبر، والجملة جواب إن حذفت منه الفاء، لأن حذفها قليل مع غير القول، وإنما يكثر فى الضرورة كقول حسان
من يفعل الحسنات لله يشكرها
مع أنه روى من يفعل الخير فالرحمن يشكره، وجعل جواب إن كما مر، والوصية للوالدين مبتدأ وخبر استئناف للبيان أولى من ادعاء حذف الفاء، والأولى غير هذين الوجهين، فيعلق للوالدين بالوصية أو بكتب وإن خرجت إذا عن الشرط تعلقت بكتب ولم يقدر لها جواب، وكان دليل جواب إن هو قوله { كتب }.. إلخ. { إن ترك خيرا } أى مالا كثيرا، روى أن عليا كان له بعد أعتقه وأرد أن يوصى وله سبعمائة درهم فمنعه وقال قال الله تعالى { إن ترك خيرا } ، والخير هو المال الكثير، وأراد رجل أن يوصى فسألته عائشة كم مالك؟ فقال ثلاثة آلاف يعنى ثلاثة آلاف درهم.
فقالت رضى الله عنها كم عيالك؟ فقال أربعة. فقالت رضى الله عنها إنما قال الله تعالى { إن ترك خيرا } ، وإن هذا لشئ يسير فاتركه لعيالك. وأراد آخر الوصية وله عيال وأربعمائة دينار، فقالت ما أرى فيه فضلا. وفى النيل قال ثلاثون ألف درهم. فقالت كم عيالك؟ قال أربعة. قالت يسير فاتركه لعيالك، وقيل الخير هنا ألف درهم فصاعدا، وقيل سبعمائة درهم فصاعدا، وقيل ستون دينار فصاعدا، وقيل خمسمائة دينار فصاعدا، وقيل الكثير الفاضل عن العيال كما يفيده كلام عائشة، وتلك أقوال الجمهور، ومنهم على كما مر قوله. وروى عنه أيضا أنه دخل على رجل من قومه يعوده فى مرضه، فأراد أن يوصى فقال له على إنما قال تبارك وتعالى { إن ترك خيرا } وأنت مقل لا مال لك. وقال أصحابنا الخير المال القليل والكثير، وهو قول الزهرى، وتجب الوصية بحسب تلك الأقوال. فعندنا الآية منسوخة بآية الإرث إلا وصية الأقرب الذى ليس بوارث فغير منسوخة، فتجب عندنا وصية الأقرب على من له مال قليل أو كثير، وقال بعض قومنا نجب إن ترك كثيرا على الخلاف المذكور فى الكثير، وقال جمهورهم نسخ وجوب وصية الأقرب، وبقى ندبها على من ترك خيرا كثيرا. { الوصية للوالدين والأقربين } ولكن يقول أوصيت لأقربى أو لأقاربى، أو للأقرب إلى أو منى أو للأقارب منى وإلى نحو ذلك مما هو نص فى أن القرابة منتسبة إليه، وإن قال للأقرب أو للأقارب جاز عندى للعلم بأن مراده قرابته، قال فى الإيضاح وفى الأثر وقد اتفق علماؤنا رحمهم الله أن من قال قد أوصيت لقرابتى أنها وصية صحيحة، وإذا قال للأقربين فعند بعض أنها ضعيفة انتهى. والآية أوجبت الوصية للأقربين، فيتعمد الموصى اللفظ التى هو أقرب فى امتثال الآية. قال فى الإيضاح ولما بين الله عز وجل فى سورة النساء ميراث الولدين كانت وصيتهما منسوخة، وثبتت وصية الأقربين على حالها، ومن مات ولم يوص بها فقد روى عن ابن عباس أى والضحاك بن مزاحم أنه قال من مات ولم يوص فقد ختم عمله بمعصية. وفى الأثر لا يقال ختم بمعصية إلا فيمن مات على كبيرة، فالمنسوخ من الآية وصية الوالدين ووصية الأقربين الذين يرثون، وبقيت وصية الأقربين الذين لا يرثون، وذلك قول ابن عباس والحسن البصرى وقتادة، وزعم بعض عن ابن عباس والضحاك أنهما قالا إن الوصية للأقربين غير الوالدين واجبة ولو كانوا ورثة وهو خطأ فى الرواية، وقال جمهور الصحابة والامة إن وصية الأقربين الذين لا يرثون منسوخة أيضا من حيث الوجوب، فكانت مندوبا إليها وذلك قول الحجازيين والبصريين والكوفيين، وعن ابن عباس رضى الله عنهما والحسن ومسروق وطاووس وقتادة والضحاك ومسلم بن يسار أن وصية من لا يرث من الوالدين والأقربين باقية الوجوب، ووصية من يرث منهم منسوخة الوجوب، لأن النسخ بآية الإرث، فمن لا يرث وحيث له فمن ترك والدا مشركا أو أما مشركة أو أقرب مشركا أوصى له، لأن المشرك لا يرث الموحد، وقيل لا تثبت الوصية لمشرك، وكذا اختلف فى القتل هل يبطل الوصية إن كانت ويبطل وجوبها على من كان محتضرا به؟ فقيل نعم كالإرث، وقيل لا وكذا الوالد العبد والأم الأمة والأقرب الرق، وقيل كانت الجاهلية يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف والرياء، ويتركون الأقربين فقراء، فأوجب الله تعالى الوصية للأقربين، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث، وبما روى عن عمرو بن خارجة أنه قال
" كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فسمعته يقول " إن الله أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث "
أخرجه النسائى والترمذى بنحوه، قال الترمذى حديث حسن، ورواه الربيع على شرطه حسنا صحيحا عن أبى عبيدة عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رحمهم الله بلفظ
" لا وصية لوارث "
وتقدم الخلاف فى نسخ القرآن بالحديث صحح بعض أنه ينسخ به وإن لم يتواتر، واختار الزمخشرى والقاضى أنه لا ينسخ بالحديث إلا إن تواتر إلا أن الزمخشرى قال نسخت الآية بالمواريث وبالحديث المذكور، لأنه وإن كان للآحاد لكن تلقى الأمة له بالقبول يلحقه بالمتواتر، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا الثبت الذى صحت روايته، وقال القاضى تلقيه بالقبول لا يحلقه بالمتواتر فلا تنسخ الآية به، وقال إن آية المواريث لا تعارض هذه الآية، بل تؤكدها لدلالتها على تقديم الوصية مطلقا. وقال الشافعى هذا الحديث متواتر، قال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازى من قريش وغيرهم لا يختلفون عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال عام الفتح
अज्ञात पृष्ठ