" من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدرى متى يغلق عليه "
ويجوز أن يكون المراد بالخيرات الجهات الفاضلات، وهى التى على سمة الكعبة، ويجوز أن يكون المعنى لكل أمة قبلة شرقية أو غربية جنوبية أو شمالية، أضلوا فيها أو أصابوا، فاستبقوا أنتم معشر المؤمنين الجهات المقابلة للكعبة من كل أفق، ودعوا اليهود والنصارى على زيغهم، إذ أمروا بالإيمان واستقبال القبلة فلم يقبلوا. { أين ما تكونوا يأت بكم الله } أين اسم شرط لتعميم الأمكنة متعلق بمحذوف خبر تكون، أو متعلق بتكونوا على أنها لا خبر لها، وما لتأكيد العموم، أى أينما تكونوا بعد الموت يأت بكم الله إلى المحشر للجزاء يوم تبعثون. { جميعا } لا يبقى منكم واحد موافق للحق أو مخالف له، ولا بعض واحد متفرق الأجزاء أو مجتمعها، فيعاقب اليهود والنصارى على مخالفة الحق وإنكار القبلة وغيرهم من كل مخالف للحق، ويثيب المطيع فى أمر القبلة وغيرها، ويجوز أن يكون المعنى أين ما تكونوا من المواضع المتسفلة والمرتفعة من الأرض والجبال، ومن السهلة والحزنة، يقبضكم الله جميعا بالإماتة إلى دار الجزاء والعقاب، المؤمنين والمشركين من اليهود والنصارى وغيرهم، ويجوز أن يكون المعنى أينما تكونوا معشر المؤمنين من المواضع المسامنة للكعبة، يجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة، لأن الكعبة تشملها. { إن الله على كل شئ قدير } فهو قادر على الإماتة والإحياء والبعث والثواب والعقاب.
[2.149]
{ ومن حيث خرجت } من أى مكان خرجت للسفر أو لغيره. { فول وجهك شطر المسجد الحرام } إذا صليت، أى ول وجهك جهته، أى موضع أنت، من موضع خروجك إلى حيث تنهى، وإلى أى موضع رجعت تستقبل جهة الكعبة للصلاة فى ذلك كله، سافرت أو خرجت للشرق أو للغرب، ويجوز أن يكون حيث خرجت مرادا به مكة، لأنه خرج منه، أى ول وجهك شطر المسجد الحرام حال كونه من حيث خرجت، ولا بأس من مجئ الحال من المضاف إليه وهو المسجد، لأنه يغنى عن المضاف، أو من معنى إلى أى ول وجهك إلى حيث خرجت شطر المسجد الحرام، فيتعلق شطر ومن معا بول لاختلافهما، أو يعلق به من وشطر بدل من مجموع الجار والمجرور، لا من المجرور وحده بدليل عدم جره وحيث مضمنة معنى الشرط، وليست شرطية لعدم زيارة ما متعلقة بول، والفاء صلة لتأكيد الربط، وقيل تكون شرطية جازمة ولو لم نزد بعدها ما. { وإنه } أى إن شطر المسجد الحرام، فالضمير عائد إلى شطر، أو أن المسجد الحرام يعود الضمير إلى المسجد الحرام، ويقدر مضاف، أى أن استقبال شطر المسجد الحرام، وأن استقبال المسجد الحرام، ويجوز عود الضمير إلى تحويل الوجه المفهوم من ول وجهك، أو إلى هذا الأمر أو إلى المذكور من التولية. { للحق من ربك } فحافظ عليه. { وما الله بغافل عما تعملون } وهو يجازيكم بها، والخطاب للمؤمنين، أو لهم وللكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وقرأ أبو عمر { عما يعملون } بالمثناة التحتية.
[2.150]
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ذكر الأمر بتولية الوجه شطر المسجد الحرام أربع مرات تأكيدا لعظم شأن القبلة، ولأن النسخ من مظان الفتن والشبهة، ولا سيما أنه أول نسخ ظاهر بعد العمل به بين المؤمنين والكفار، فكان حقيقا بالتكرير، وأيضا ذكره فى قوله
فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام
مقرونا بعلته وهى تعظيمه الرسول، صلى الله عليه وسلم، بابتغاء مرضاته، ومقرونا مع قوله { وحيث ما كنتم.. } إلخ بفائدة هى أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر محمد وأمر القبلة حق فى التوراة والإنجيل، وذكره فى قوله { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } تصريحا بأن حكم أمته حكمه، ولينبه بعده أن لكل أمة قبلة تبعا لداعيها، وهو نبينا بقوله { ولكل وجهة } وذكره فى قوله { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } لينبه على تساوى السفر وغيره فى أمر القبلة بحسب الإمكان، وليقرنه بشهادة الله أنه حق، وشهادته مغايرة لشهادة أهل الكتاب، وذكره فى قوله { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ، لينبه على أن حكم أمته فى السفر حكمه كالحضر، وأن المراد وحيث ما كنتم من السفر وغيره من الخروج، وليقرنه بدفع حجج الكفار بقوله { لئلا يكون للناس } اليهود والنصارى والمنافقين، أو جميعهم مع مشركى العرب، أو قريش واليهود، وقال الحسن مشركى العرب، وقال مجاهد مشركى قريش. { عليكم } أيها المؤمنون. { حجة } فقرن كل مرة بعلتها كقرن المدلول بكل واحد من دلائله، للتأكد كما هو شأن ما أريد تقريره وتقريبه للأفهام والقبول، وزعم بعضهم أن قوله { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } إشارة إلى حال كون الإنسان فى المسجد الحرام، وقوله { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } إشارة إلى حال كون الإنسان فى البلد، وقوله { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ، إشارة إلى حال كون الإنسان خارجا عن البلد، والحجة المنفية فى قوله { لئلا يكون للناس عليكم حجة } يقول إن اليهود والمنافقين تبع لهم، والنصارى المنعوت فى التوراة والإنجيل قبلته الكعبة، فلو لم يستقبلها لقالوا ليس المذكور فى التوراة والإنجيل، لأن المذكور فيهما يستقبلها بعد أن يستقبل بيت المقدس، وأن يقول اليهود إن محمدا يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، فيأمر باستقبال الكعبة لئلا يقولوا ذلك، وأن يقول المشركون من العرب إنه لو كان نبيا لم يخالف قبلة أبيه إبراهيم، وهى قبلة العرب قبلة حق. { إلا الذين ظلموا منهم } استثناء من الناس، أى إلا الذين ازداد ظلمهم للمبالغة فى العناد، لأن الناس المذكورين ظالمون، فإن الذين ازداد ظلمهم لا تنتفى الحجة عليهم بذلك بالنظر إلى عنادهم، فيقول اليهود والنصارى والمنافقون انصرف عن بيت المقدس إلى الكعبة برأيه، واشتياقا لبلده، وسيرجع إلى دين آبائه، وتقول قريش، انصرف لقبلة بلده اشتياقا لبلده، وعلما بأن ديننا حق فسيرجع إليه كما رجع لقبلتنا، فهذه حجة هؤلاء المستثنين، وسماها حجة من حيث إن المراد لا الذين ظلموا فلهم حجة، لأنهم يسوقونها مساق الحجة كقوله
حجتهم داحضة
وقيل الحجة الاحتجاج والمبحث واحد، فإن هذا منهم مسوق مساق الاحتجاج، وليس باحتجاج صحيح، ويحتمل أنها سميت حجة واحتجاجا أخذا من الحج بمعنى القبلة والقطع والغلبة، وقطع كلام الخصم يكون فى الجملة بالحق والباطل، ويجوز أن يراد بالناس عموم من ذكر، وبالذين ظلموا من يؤمن منهم، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا، أى لكن الذين ظلموا منهم يجادلونكم بالباطل ولا حجة لهم، وهو أبلغ فى نفى الحجة، كأنه قيل لئلا يكون للناس عليكم حجة غير حجة الذين ظلموا، ومعلوم أنها حجة غير معتبرة كقوله
अज्ञात पृष्ठ