انتهى. والمختار عندهم أنها من الأسرار التى لا يعلمها إلا الله جل وعلا، أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، ومثله عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وعثمان بن عفان وعلى، قلت ويحتمل أن يريدوا بالسور الأمر الكريم العزيز، فإنه يسمى سرا تشبيها له بالكنز العظيم المصون المسرور به ونحوه، وإنها سر بين الله ورسوله، ورموز إذا لم يقصد بها إفهام غيره، وذكر بعض إنها من المتشابه فيكون فيها الخلاف، هل يعرفها الراسخون فى العلم أم لا يعرفها أحد على اختلافهم فى المتشابه، فتراهم خاضوا فيها بأقوال وأخبار. وإن قلت إذا كانت سرا لا يعلمه غير الله عز وعلا فما فائدة ذكرها؟ قلت فائدة ذكرها الإيمان بها، وقال قطرب تلميذ سيبويه هى حروف مزيدة للتنبيه والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر، واعترض القاضى، بأن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع، ولا يخفى ان الاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضى ذلك ألا يكون لها معنى فى حيزها، وعندى أن قول قطرب حسن، وكنت أشبه المقام بمقام من أراد أن يتكلم لمن استغرق قله فى شىء، فيقدم إليه ما يصغى به إلى الكلام كأن يجيده أو يغمز بدنه أو يقرعه بالحصى، ومن ذلك الوادى أن تشير إلى من كان فى كلام دنيوى بالبسملة تنبيها على أن يقر، ثم رأيت عن الجوينى ما يناسبه إذ قال القول بأنها تنبيه جيد، لأن القرآن كلام عزيز، وفوائدة عزيزة، فينبغى أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم فى بعض الأوقات كون النبى صلى الله عليه وسلم فى عالم البشر مشغولا فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله آلم آلم حم، ليسمع النبى صلى الله عليه وسلم صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه، وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة فى التنبيه كألا وأما، لأنها من الألفاظ التى تعارفها الناس فى كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ فى قرع سمعه.
انتهى . وقيل إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن ألغوا فيه، فأنزل تبارك وتعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم سببا لاستماعهم، واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترق القلوب، وتلين الأفئدة، عد هذا جماعة قولا مسقلا، والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال لا قولا فى معناها، إذ ليس فيه بيان معنى، واعترض القاضى قول بعضهم إنها حروف متقطعة من كلمات، بأنها لم تستعمل للاختصاص، ومن كلمات معينة فى كلامهم، وأما الأشعار الوارد فيها الاقتطاع فشاذة، لا يخرج القرآن عليها، وإن قلت قد ثبت هذا عن ابن عباس ونحوه، فلم يبق بحث، قلت إنما لا يبقى بحث لو كان حديثا صحيحا عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا كان من كلام ابن عباس فيقبل البحث، مع أن تفسيره بذلك محتمل لأن يكون تمثيلا بأمثلة حسنه، وتنبيها على أن الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينات، فلم يرد تفسيرا حتما معينا مخصوصا بهذه المعانى الذى ذكرها دون غيرها، إذ لا مخصص لفظا ومعنى، وقيل إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التى هى أ ب ت ث، فجاء بعضها مقطعا، وجاء تماما مؤلفا ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم التى يعرفونها ويبنون كلامهم منها، وقيل فرقت تلك الحروف على السور ولم تعد بأجمعها فى أول القرآن، لإعادة التحدى وتكرير التنبيه والمبالغة فيه، والمعنى هذا التحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، والمؤلف منها وللإيقاظ لمن تحدى بالقرآن، وللتنبيه على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون إليه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما جرءوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فان النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمى الذى لم يخالط الكتاب، فمستبعد مستغرب، خارق للعادة كالكتابة والتلاوة، ولا سيما وقد راعى فى ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق فى فنه، وهو أنه أورد فى هذه الفواتح أربعة عشر اسما هى نصف أسامى حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسه فى تسع وعشرين سورة بعددها، إذا عد فيها الألف مشتملة على أنصاف أنواعها، قال القاضى هذا القول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل، وأسلم من لزوم النقل إلى العلمية ووقوع الاشتراك فى الأعلام من واضع واحد من حيث إن { الم } علم لسور و { الر } علم لسور و { طسم } علم لسورتين و { حم } لسور، فإن الاشتراك يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية من تعيين المسمى بلا قيد، ووجه كونه أقرب إلى التحقيق أن فيه بقاء للألفاظ على أصل وضعها، فإن الحروف المكتوبة مثلا هكذى { آلم } تقرأ هكذا ألف لام ميم وقولك اسم للحرف المكتوب، هكذى، أو قولك لام اسم للحرف المكتوب هكذى، وقولك ميم اسم للحرف المكتوب هكذى م كما صرح به الخليل وأبو على لاعتوار خواص الاسم كالإضافة والجر والتنوين وأل والجمع، تقول الألف ورأت، وعن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال
" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف، بل الألف حرف ولام حرف وميم حرف "
وأراد بقوله ألف حرف.. إلخ غير المعنى المصطلح عليه، فإن تخصيص الحرف بالمعنى المصطلح عليه عرف متجدد، بل المراد المعنى اللغوى، ولعله سماه باسم مدلوله كما قال الفخر سماه حرفا مجازا تسمية للاسم باسم المسمى لتلازمهما، ووجه كون ذلك القول أوفق للطائف التنزيل، أن الحمل على التحدى معنى لطيف دون التسمية فإنها أمر واضح ظاهر، وقيل حكمة الجمع بين الألف واللام والميم على كل الأقوال أن الألف أعنى الهمزة من أقصى الحلق، وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفه وهو آخرها، فجمع بينهن إيماء إلى أنه ينبغى أن يكون أول كلام العبد وأوسطه وآخره، ذكر الله تعالى، قويل هى حساب أبى جاد لتدل على مدة هذه الأمة، أخرجه ابن إسحاق عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد بن زيات.
" مر أبو ياسر بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فأتى أخاه حيى بن أخطب فى رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فى ما أنزل عليه { الم ذلك الكتاب } فقال أنت سمعت؟ قال نعم، فمشى حيى فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب } ، فقال بلى، فقالوا لقد بعث الله أنبياء ما نعلم لنبى منهم مدة ملكه ولا أجل أمته، غير أن الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، ثم قال يا محمد وهل مع هذا غيره؟.. قال نعم { المص } قال هذه أطول وأثقل، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، هل مع هذا غيره؟. قال نعم { الر } قال الألف واحدة واللام ثلاثون، والراء مائتان، هل مع هذا غيره؟ قال نعم { الم } قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان لقد لبس علينا أمرك حتى لا ندرى أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قال قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه ما يدريك لعله قد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره "
، وفى رواية حساب الصاد بتسعين، وفى رواية الشيخ هود قال الكلبى
" بلغنا أن رهطا من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب وأبو ياسر دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن { الم ذلك الكتاب } قال حيى بلغنى أنك قرأت { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } نناشدك الله إنها أتتك من السماء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نعم والله لكذلك نزلت " وقال حيى إن كنت صادقا فإنى أعلم مدة هذه الأمة، ثم نظر إلى أصحابه فقال كيف ندخل فى دين رجل إنما ينتهى ملك أمته إلى إحدى وسبعين سنة، فقال له عمر وما يدريك إنها إحدى وسبعون؟ فقال هى فى الحساب الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حيى هل غير هذا؟ فقال نعم.. قال ما هو؟ قال { المص. كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين }. فقال هذا أكثر من الأول، هذه واحد وثلاثون ومائة سنة نأخذه من حساب الجمل، قال هل غيره؟ قال نعم قال ما هو؟ قال { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } قال حيى هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد لأن كنت صادقا ما ملك أمتك إلا واحدة وثلاثون ومائتا سنة، فاتق الله ولا تقل إلا حقا فهل غير هذا؟ قال نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الر. تلك آيات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ، قال حى فأنا أشهد أنى من الذين لا يؤمنون بهذا القول، لأن هذه الآية أكثر، هذه واحد وسبعون ومائتا سنة، فلا أدرى بأى قولك نأخذ وأى ما أنزل الله عليك نتبع؟ قال أبو ياسر أما أنا فأشهد أنه ما أنزل الله على أنبيائه إلا الحق، وأنهم قد بينوا على ملك هذه الأمة ولم يوقنوا كم يكون ملكهم، فإن كان محمد صادقا فأراه سيجمع لأمته واحد وسبعون، وواحد وثلاثون ومائة، وواحد وثلاثون ومائتان، وواحد وسبعون ومائتان، وذلك سبعمائة وأربع سنين، فقالوا كلهم قد اشتبه علينا أمرك، فلا ندرى أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى { هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } "
، قال الكلبى فواتح السر من المتشابه، وإن قلت كيف يعتبر كلام اليهود، ويجعل تفسيرا للقرآن الكريم؟ قلت زعم بعضهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تبسم، وفى رواية ضحك حين حسبوا { الم } بحساب الجمل، وأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، وتلى عليهم الفواتح على ذلك الترتيب جوابا لغيرهم، هل غير ذلك، فدل ذلك منه على صحة حسابهم، ويبحث بجواز كون تبسمه وضحكه تعجبا من جهلهم وعدموا إنكاره عليهم لظهور بطلان ما قالوا، ولا سيما قد خلطوه بالكفر، مثل قولهم كيف ندخل فى دين من مدته كذا؟ وقولهم لا نؤمن به، وقولهم هذا تخبط، وقولهم لا ندرى بأى أمرك نأخذ. وأما زيادته التلاوة حين استزاده فطمع فى إيمانهم، لعلهم إن لم يهتدوا بهذه اهتدوا بأختها. قال الجوينى وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى
الم غلبت الروم
أن البيت المقدس يفتحه المسلمون سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، ووقع كما قال، وقال السهولى لعل عدد الحروف التى فى أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال ابن حجر وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن أبى جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له فى الشريعة. انتهى. وقي فواتح السورة أمارة جعلها الله عز وجل لأهل الكتاب، بأنه سينزل على محمد كتابا فى أول سورة منه حروف مقطعة، وقد مر أن فواتح السور اشتملت على أربعة عشر حرفا نصف حروف المعجم، أعنى حروف التهجى، والتقدير حروف الخط المعجم، أو المعجم مصدر ميمى، أى حروف الإعجام، والفعل على الوجهين أعجم كأكرم وهمزته للسلب، أى لإزالة أعجميته أى إبهامه بالنقط، فإنك إذا نقطت حرفا تبين بالنقط وتبين ما يشابهه ويلتبس به بعدم النقط كالطاء والظاء والصاد والضاد، وإذا نقطت المتشابهين جميعا تبين كل بتخالف النقط كالتاء والثاء، والقاف والفاء، وإنما سميت حروف التهجى لأنها تهجى، أى تعد شيئا فشيئا، ومنه هجاه يهجوه إذا عد ما فيه من المعايب، وتلك الأربعة عشر منها خمسة من حروف الهمس الحاء المهملة، والهاء والصاد المهملة، والسين والكاف، وهن نصف حروف الهمس، ويجمع حروف الهمس حث شخصه فسكت، والحرف المهموس ما يضعف الاعتماد على مخرجه، وباقى الأربعة عشر حروف جهر، ويقال لحروف الجهر المجهورة، وهى ما عدا المهموسة من حروف التهجى، وهى ضد المهموسة، والذى شمل فواتح السور من المجهورة نصف المجهورة ، ويجمع هذا النصف قولك لن يقطع امرء ويجمع المجهورة كلها، قولك ظل قوريض إذ عزى حند مطيع، وهى ما ينحصر جرى النفس مع تحريكه، ومن تلك الأربعة عشر أربعة من الحروف الشديدة يجمعها قولك اقطك، ويجمع كل الحروف الشديدة قولك أجدت قطبك، وإن شئت فقل أجدت طبقك، والأقط ما يعمل من لبن الغنم، وإن شئت فقل أقطك أى أحسبك، يقال قطك هذا الشىء أى حسبك أى كافيك، والقطب ما يدور عليه الشىء، والطبق معروف وهو ما يصنع من سعف أو غيره واسعا قصير الأطراف المستديرة، وهى للطعام وغيره، والحرف الشديد ما ينحصر جرى الصوت عند إسكانه فى مخرجه فلا يجرى، ولا مانع من وصف الحرف بصفتين وأكثر إذا لم يتنافيا كالحروف المجهورة ككون الحرف همسيا شديدا وجهريا شديدا، ومن تلك الأربعة عشر عشرة حروف رخوة يجمعها قولك حمس على نصره بضم الحاء وإسكان الميم جمع أحمس وهو الشديد الصلب فى دينه وفى القتال، وكذلك باقى الحروف رخوة كذا قيل، والمعروف أن العين والميم والراء والنون واللام بين شدة ورخوة، ويجمعها قولك نل عمر.
अज्ञात पृष्ठ