حمد الله ذاته الكريمة في آيات كتابه الحكيمة
حمد الله ذاته الكريمة في آيات كتابه الحكيمة
प्रकाशक
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
शैलियों
المقدمة
الحمد لله الذي حمد ذاته الكريمة قبل أن يحمده الحامدون، وأشهد أن لا إله إلا الله سبّحت بحمده الملائكة المقربون، وأشهد أنّ نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق المأمون، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
وبعد؛ لمّا منّ الله ﵎ بما يسّر لي من الدراسة والبحث حول مواضع تسبيحه لذاته العليّة في آيات كتابه السنيّة؛ عقدت العزم على تتبّع مواضع حمده تعالى لذاته؛ لِما أنّ الحمد صنو التسبيح وقرينه من جهة، ولِما أنّ حمده سبحانه لذاته في أمر من الأمور يدلّ على أهمية وعظم شأن ذلك الأمر من جهة أخرى؛ إذ يخصّه ﷿ بهذا المقام الخاص اللائق بجلاله وعظمته.
هذا وقد قيل في سبب حمده لذاته تعالى أنه لمّا علم عجز عباده عن القيام بواجب حمده مع عظم نعمه وآلائه حمد نفسه بنفسه في الأزل، وليدلّ على كونه محمودًا أزلًا وأبدًا بحمده سواء حمد أو لم يحمد، فهو مستغن بذلك عن حمد الحامدين، وليومئ - أيضًا - أنه لايليق بذاته إلا حمده الصادر عنه سبحانه.
وعلى هذا فحريّ بي أن أتأمّل في هذه المواضع القرآنية وأفيد منها في إظهار عظمة الله ﵎ بصفاته العليا وآياته الكبرى ونعمه العظمى التي لا تعدّ ولاتحصى.
ومن بعد التتبع لتلك المواضع وجدت أن الله عزوجلّ حمد ذاته الكريمة في خمسة عشر موضعًا عند أمور مختلفة وشؤون شتى. فشرعت في دراستها وتحليلها وكشف لطائفها وأسرارها متوكلًا على الله تعالى طالبًا منه السداد والهدى.
ولقد قسّمت هذه الدراسة إلى أربعة عشر فصلًا، لكلّ موضع فصل مستقلّ
1 / 13
- به، إلا موضعي سورة سبأ فقد جعلتهما في فصل واحد لورودهما في آية واحدة. ومن ثمّ بينتُ تلك المواضع حسب ترتيب سورها في المصحف الشريف.
- ومهّدت لهذه الدراسة بتمهيد في معنى الحمد وتعريفه ومشتقاته والفرق بينه وبين الشكر والمدح. وأتبعت فصولها بخاتمة للبحث ذكرت فيها أهمّ النتائج والمقترحات.
- أمّا منهجي في بيان هذه المواضع الكريمة فإني أذكر وجه الحكمة في مجيء الحمد في موضعه وغاية إيراده، وهذا يُلْزِمُنِي أن أبيِّن ما قبل الموضع وما بعده في أغلب الأحيان لكشف وجه الصلة والمناسبة، وأذكر في ذلك كلام المفسرين بما أراه مناسبًا وراجحًا وقريبًا من المعنى الظاهر دون اللجوء إلى مناسبات بعيدة في التأويل ومتكلّفة.
- كما أني أعمد إلى ذكر بعض اللطائف حول الآيات التي أتناولها بالبيان، والتي أرى من المناسب ذكرها لما فيها من زيادة إيضاح أو تأكيد لمعنى أو كشف لسرٍّ بلاغي أو لغوي يبيِّن جمال النصّ القرآني الكريم.
- ثم إني قد أذكر في الهامش بعض الاستطرادات التي أرى أنه ليس من المناسب إدخالها في متن الفقرات الأصلية للبحث، ولكن إيرادي لها بسبب ما أخشاه من لبس عند القارئ أو وهم يزول بها. هذا مع ما أذكر فيه من التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في المتن.
وأخيرًا أسأل الله تعالى أن يتقبل بحثي هذا في ميزان حسناتي يوم ألقاه وأن يغفر لي ما كان فيه من خطأ أو نسيان.آمين
وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.
1 / 14
التمهيد
(في معنى الحمد وتعريفه ومشتقاته والفرق بينه وبين الشكر والحمد)
يحسن بي وأنا أتعرض للحديث عن حمد الله ذاته الشريفة أن أمهِّد له ببيان معنى الحمد وتعريفه وذكر أهم مشتقاته والفروق بينه وبين الشكر والمدح للتقارب المعنوي بينها. فأقول والله المستعان سبحانه:
الحمد في اللغة: مصدر حَمِد. وهو ضد الذم ومنه المحمدة خلاف المذمّة.
وعُرِّف بأنّه: الثناء باللسان على الجميل الاختياري. فيقال: حمدتُ الرّجل أي أثنيت عليه بفعله الجميل الصادر عن اختياره (١) .
ـ هذا ولقد كثرت مشتقاته التي ارتبط أكثرها بحمد الله تعالى خاصة. ومنها: التحميد. وهو أبلغ من الحمد، والمراد به حمد الله مرّة بعد مرّة. ومنها: رجلٌ حُمَدَة وحمّاد ومحمّد، وذلك بأنه يحمد الله مرة بعد مرة، أو أنه كثير الحمد. و" محمد" - أيضًا - هو من كثُرت خصاله المحمودة - و"أَحمد" صار أمره إلى الحمد، أو فعل ما يحمد عليه - وفي المثل: والعَوْدُ أحمدُ (٢)، أي أكثر حمدًا؛ لأنّ الإنسان لايعود إلى شيء غالبًا إلا بعد خيريته، أو معناه: إذا ابتدأ المعروف جلب الحمد لنفسه؛ فإذا أعاد كان أحمد أي أكسب للحمد له، أو هو أفعَل من المفعول، أي الابتداء محمود والعود أحقّ بأن يحمدوه.
- وفلان محمود إذا حُمِد.
- والحَمْدلة هي حكاية قول (الحمد لله) .
_________
(١) انظر: لسان العرب لابن منظور ج٣ ص١٥٥؛ البحر المحيط لأبي حيان ج١ ص١٨؛ فتح القدير للشوكاني ج١ ص٦٨.
(٢) هو من قول الشاعر: فلم تجرِ إلا جئت في الخير سابق ولا عُدْتَ إلا أنت في العود أحمد. (لسان العرب ج٣/ص١٥٨) .
1 / 15
- وحُماداك أن تفعل كذا أي: غايتك المحمودة.
- والحميد هو الله تعالى، وهو من صفاته العليا وأسمائه الحسنى، بمعنى المحمود على كلّ حال (١) .
- وقد اختلف في الحمد والشكر والمدح هل هي ألفاظ متباينة أم مترادفة أم بينها عموم وخصوص مطلق أو من وجه؟ فمن قال بالتباين نظر إلى ما انفرد به كل واحد منها من المعنى، ومن قال بالترادف نظر إلى جهة اتحادها واستعمال كل واحد منها في مكان الآخر، وأما من قال باجتماعها وافتراقها ما بين خصوص وعموم فقد نظر إلى الأمرين المذكورين آنفًا. وهذا هو الأولى وهو ما عليه الأكثر. وعلى هذا فيسوغ - ههنا - النظر إلى ما تميّز به كلّ لفظ عن الآخر وبيان الفرق بينها؛ لما يترتّب عليه من وضع رسم وحدٍّ لمعنى حمد الله تعالى الذي هو مقصود هذا البحث وغايته.
- أما الفرق بين الحمد والشكر فخلاصة ما قيل فيه أن الحمد هو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله وإنعامه؛ والشكر هو الثناء على المحمود بإنعامه فقط. وعلى هذا فالحمد أعمّ من الشكر فكلّ شكر حمد وليس كل حمد شكرًا. ولذلك ورد حمد الله تعالى نفسه ولم يرد شكرها.
وأما الفرق بين الحمد والمدح فإن المدح أعم من الحمد؛ وذلك لأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، ولايلزم فيه كون الممدوح مختارًا، ولهذا يكون وصف اللؤلؤة بصفائها مدحًا لا حمدًا، وقد يكون المدح - أيضًا - عن ظن وبصفة
_________
(١) انظر: لسان العرب لابن منظور ج٣ ص ١٥٥ – ١٥٧؛ مختار الصحاح للرازي ص ١٥٣؛ تهذيب الصحاح لمحمود الزنجاني ج١ ص٢١٥؛ ترتيب القاموس المحيط للطاهر الزاوي ج ١ص ٧٠٢-٧٠٤؛ المفردات للراغب الأصفهاني ص١٣١؛ الكليات لأبي البقاء الكفوي ص ٣٦٥.
1 / 16
- مستحسنة وإن كان في الممدوح نقص ما، أما الحمد فإنّه لايكون إلا للفاعل المختار على كون الصفات المحمودة له صفات كمال، كما يكون صادرًا عن علم لا عن ظن؛ وعلى ما يكون منه من نعمة أو إحسان.
- وبهذا يقال في الفرق بين هذه الثلاثة: المدح أعمّ من الحمد؛ والحمد أعمّ من الشكر (١) .
- وعلى ما سبق بيانه فإنّ قول القائل: (الحمد لله) يعني الثناء على الله - تعالى - بصفاته الذاتية الكاملة التي لا يشوبها نقص؛ وبنعمه التي لا تعدّ ولاتحصى.
- ولهذا فإنّ (أل) التعريف في (الحمد) هي لاستغراق جميع أفراده، واللام في (لله) لام الملك والاختصاص أو الاستحقاق، فجميع أفراد الحمد مختصة بالله تعالى؛ إذ هو المنعم الكامل في صفاته؛ وحمد غيره لا اعتداد به؛ لأنّ ما صدر منه من نعمة فإنما مرجعها حقيقة إلى الله تعالى، وهو سبحانه الذي أجراها على يديه. فالحمد الكامل الخالص لايكون إلا لله تعالى وهو المستحق له دون سواه (٢) .
وقد دلّ إعراب هذه الجملة الكريمة - أيضًا - إلى هذا المعنى؛ فقد أشار
_________
(١) انظر: تفسير البغوي ج١ ص٣٩؛ الكشاف للزمخشري ج١ ص٧؛ النكت والعيون للماوردي ج١ ص٥٥؛ التفسير الكبير للفخر الرازي ج١٢ ص١٤٢؛ البحر المحيط لأبي حيان ج١ ص١٨؛ زاد المسير لابن الجوزي ج١ ص١١؛ المفردات للراغب الأصفهاني ص ١٣١؛ لسان العرب لابن منظور ج٣ص١٥٦-١٥٧؛ مختار الصحاح للرازي ص١٥٣؛ فتح القدير للشوكاني ج١ ص٦٨.
(٢) انظر: تفسير ابن جرير الطبري ج٧ ص٨٢؛ تفسير البغوي ج١ ص٣٩؛ فتح القدير للشوكاني ج١ ص٦٨؛ أضواء البيان للشنقيطي ج١ ص١٠١.
1 / 17
- ابن الجوزي (١) في تفسيره إلى هذا بقوله: «الحمد رفع بالابتداء، ولله الخبر، والمعنى الحمد ثابت لله ومستقرّ له (٢») .
وبهذه الأسطر أرجو أن أكون قد مهدت للحديث عن مواضع حمد الله ذاته في كتابه الكريم. ولله الحمد والمنّة.
_________
(١) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، أبو الفرج (٥٠٨-٥٩٧؟): علامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، مولده ووفاته ببغداد، ونسبته إلى
(مشرعية الجوز) من محالّها. من أشهر مصنفاته: زاد المسير في علم التفسير - صيد الخاطر - مناقب بغداد - نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر. (انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان ج١ ص٢٧٩؛ البداية والنهاية لابن كثير ج١٣ ص٣١-٣٣؛ الكامل لابن الأثير ج١٠ ص٢٢٨؛ الأعلام للزركلي ج٣ص٣١٦-٣١٧) .
(٢) زاد المسير لابن الجوزي: ج ١ ص ١١.
1 / 18
الفصل الأول: حمد الله ذاته الكريمة في فاتحة الكتاب
المبحث الأول: في وجه الحكمة بافتتاح الفاتحة بحمد الله ذاته الكريمة
...
الفصل الأول:
حمد الله ذاته الكريمة في فاتحة الكتاب
قال الله تعالى: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ (١) .
المبحث الأول:
في وجه الحكمة بافتتاح الفاتحة بحمد الله ذاته الكريمة
مما يدلّ على عظم مقام الحمد عند الله - تعالى - أن افتتح به كتابه الكريم وصدّر آياته به.
هذا وقد اجتهد أهل التفسير في بيان أوجه الحكمة في ذلك، منها: أنّ نعمة تنزيل القرآن الكريم هي أعظم النعم الدالة على جلائل صفاته تعالى وكمالها؛ خاصة وأنّه قد اشتمل القرآن الكريم على كمال المعنى واللفظ والغاية؛ فكان افتتاحه أولى المواطن بثناء الله ﵎ على ذاته.
وهو في ذات الوقت أمرٌ لعباده بحمده وتذكير لهم بعظمة وجمال صفات منزِّله - سبحانه - وجزيل نعمته عليهم بإنزال كتابه عليهم وحفظه وتوفيقهم لتلاوته وسماعه وفهمه؛ وإذ فيه سعادتهم في الدارين (٢) .
ومنها - كذلك - أنّه لما كانت سورة الفاتحة مُنَزَّلةً من القرآن منزلة الديباجة من الكتاب، أو المقدّمة للخطبة، جعل افتتاحها بالحمد لله؛ وليكون سنة ماضية من بعد في افتتاح كل كلام مهم وعظيم، يقول ابن عاشور (٣) (رحمه الله تعالى) في
_________
(١) سورة الفاتحة: الآية (١) أو (٢) على الخلاف المشهور هل البسملة آية من الفاتحة أم لا؟
(٢) انظر: تفسير الطبري ج١ ص ٤٦؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج١ ص ١٥٨.
(٣) هو محمد الطاهر بن عاشور (١٢٩٧-١٣٩٣؟): رئيس المفتين المالكيين بتونس، وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس، مولده ووفاته ودراسته بها. عيّن عام (١٩٣٢م) شيخًا للإسلام مالكيًا، وهو من أعضاء المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة. له مصنفات مطبوعة من أشهرها: مقاصد الشريعة – التحرير والتنوير في التفسير – أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. (انظر: الأعلام للزركلي ج٦ ص ١٧٤) .
1 / 19
ذلك: «فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقِّبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذًا من حديث أبي هريرة (١) ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع (٢»)
_________
(١) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي (٢١ق –٥٩؟) صحابي جليل، أكثر الصحابة حفظًا للحديث ورواية له، نشأ يتيمًا ضعيفًا في الجاهلية، وقدم إلى المدينة ورسول الله ﷺ بخيبر، فأسلم سنة ٧هـ، ولزم النبي ﷺ فروى عنه (٥٣٧٤) حديثًا، نقلها عنه أكثر من ثمانمائة رجل من صحابي وتابعي، ولي إمرة المدينة مدة، واستعمله عمر ﵁ فترة على البحرين، وكان أكثر مقامه بالمدينة وتوفي بها. (انظر: صفة الصفوة ج١ ص٦٨٥-٦٩٤؛ الإصابة في الكنى ج٤ ص ٢٠١-٢٠٨؛ أسد الغابة ج٥ ص٣١٨-٣٢١؛ الأعلام للزركلي ج٣ ص ٣٤) .
(٢) أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب النكاح (٩) باب (١٩) خطبة النكاح، حديث
(١٨٩٤) بهذا اللفظ (أقطع) والمراد أي مقطوع من البركة. وقال السندي في سنده: الحديث قد حسّنه ابن الصلاح والنووي. وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه (سنن ابن ماجه. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ج١ ص٦١٠) .ولقد صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه رقم ٢٠٦٥. ورواه أبو داود بلفظ (كل كلام لايبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) أي منقطع أبتر لا نظام له. والمعنى متقارب لما سبق. قال أبو داود: رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي ﷺ مرسلًا. وقال الحافظ المنذري: وأخرجه النسائي مسندًا ومرسلًا. (انظر: سنن أبي داود، إعداد وتعليق: عزت عبيد الدعاس وعادل السيد. ج ٥ كتاب الأدب (٣٥) باب في الخطبة (٢٢) حديث (٤٨٤١) ص ١٧٣، وانظر (مختصر سنن أبي داود للمنذري ج٧ ص١٨٩ حديث (٤٦٧٣) .
1 / 20
وقد لُقِّبت خطبة زياد بن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد.. (١») .
ومنها - أيضًا - أنه لما كانت الفاتحة مناجاة للخالق –عزوجل - بما لايهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غيره - تعالى - قدّم الحمد لذاته وجعله في أولها، وليضعه المناجون له في كلّ مناجاتهم ودعائهم له؛ جريًا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء بافتتاح خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل. قال أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاه عن تعرّضه الثناء (٢)
وقد دلّ على كون الفاتحة مناجاة لله عزوجل الحديث المروي عن أبي هريرة ﵁ وفيه قوله: فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط
_________
(١) انظر: التحرير والتنوير ج ١ ص ١٥٤.
(٢) انظر: المرجع السابق ج١ ص ١٥٤، وأمية بن عبد الله أبي الصَّلت بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي: شاعر جاهلي حكيم من أهل الطائف، وهو ممّن حرّموا على أنفسهم الخمر ونبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية، أدرك النبي ﷺ ولكنه لم يسلم، توفي عام ٥؟. (انظر: الأعلام للزركلي ج٢ ص٢٣) وعبد الله بن جدعان هو التيمي القرشي أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، أدرك النبي ﷺ قبل النبوة، له أخبار كثيرة، وسمّاه اليعقوبي بين حكام العرب في الجاهلية. (انظر: الأعلام للزركلي ج٤ ص٧٦) .
1 / 21
المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولاالضالين. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل (١») .
ومن ذهب إلى أنّ قوله تعالى ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ أوّل آية من سورة الفاتحة؛ فيكون قوله تعالى ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ الآية الثانية، وقد ذكروا مناسبة ورود الحمد بعد البسملة بأنه لما كانت البسملة نوعًا من الحمد ناسب تعقيبها وإردافها باسم الحمد الكليّ ﴿الحمد لله﴾ الجامع لجميع أفراده البالغ أقصى درجات الكمال (٢) . وهي مناسبة لطيفة سائغة.
وإضافة إلى ما سبق ذكره فبالنظر إلى ما من أجله سميت الفاتحة بأمّ القرآن لاشتمال محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع: الثناء على الله ثناء جامعًا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه عن جميع النقائص، ولإثبات تفرّده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء، وذلك من قوله ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ إلى قوله ﴿مالك يوم الدين﴾، والأوامر والنواهي من قوله ﴿إياك نعبد﴾، والوعد والوعيد من قوله ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ إلى آخرها، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن (٣) . فبذلك كان الحمد لله هو أحد أركان هذه المقاصد بل من أولاها وأحراها بالتقديم لصلته وارتباطه بذات الله - تعالى - وإثبات صفات الكمال لها وتنزيهه عن كل نقص. وبهذا النظر يثبت للمتأمّل من هذه الجهة سرٌّ آخر من أسرار تقدّم الحمد ووجوده في هذا المقام الأعلى. والله أعلم بمراده.
_________
(١) رواه مسلم في صحيحه: كتاب الصلاة – باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث (٣٥) (صحيح مسلم بشرح النووي ج٢ ص٢٧) .
(٢) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ج١ ص ١٤؛ روح المعاني للآلوسي ج١ ص ٦٧.
(٣) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج١ ص ١٣٣.
1 / 22
المبحث الثاني:
في وجه الحكمة في إسناد الحمد إلى اسم الذات الإلهية
وما جاء بعده من أوصاف.
الذي يلحظه المتأمّل أنّ الحمد أُسْنِد أوّل ما أُسْنِد إلى اسم الذات الإلهية (الله)؛ وهذا هو شأن الحمد في جميع مواضع ذكره في القرآن الكريم، والحكمة في ذلك - والله أعلم بمراده - التنبيه على استحقاقه تعالى للحمد أوّلًا لذاته لا لشيء غيرها، باعتبار أنها حائزة لجميع الكمالات الإلهية؛ وأنها مصدر جميع الوجود وما فيه من الخيرات والنعم (١) .
ومن بعد إسناد الحمد لاسم ذاته تنبيهًا على الاستحقاق الذاتي أتبعه - سبحانه - بأربعة أوصاف له تعالى؛ ليؤذن باستحقاقه الوصفي للحمد - أيضًا - كما استحقّه بذاته؛ وذلك باعتبار تعلّقها وآثارها (٢) .
وهذه الأوصاف أوّلها (ربّ العالمين) وقد تكرّر هذا الوصف لله تعالى في القرآن الكريم بشأن استحقاق الحمد في سبعة مواضع (٣)، ولا ريب أنّ هذا يدلّ على
_________
(١) انظر: تفسير أبي السعود ج ٣ ص ١٠٤؛ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ج١ ص ١٤؛ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ج١ ص ٥٠؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج١ ص ١٦٦.
(٢) انظر: تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ج١ ص٥٠؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج١ ص ١٦٦.
(٣) في سورة الفاتحة، وسورة يونس الآية (١٠) في قوله ﴿..وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين﴾، وفي سورة الصافات الآية (١٨٢) في قوله تعالى ﴿والحمد لله رب العالمين﴾، وفي سورة الزمر الآية (٧٥) بقوله ﴿وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين﴾، وبسورة غافر الآية (٦٥) في قوله ﴿فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين﴾، وفي سورة الجاثية الآية (٣٦) بقوله ﴿فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين﴾ .
1 / 23
أنّ استحقاق الله تعالى للحمد بربوبيته للعالمين (١) هو في أوّل درجات الاستحقاق الوصفي وأعلاها؛ ذلك بأنّ ربوبيته تعالى للعالمين تقتضي تربيته لهم وتدبيره وإصلاحه لأمورهم وشؤونهم بما أسبغ عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة (٢) .
وثاني الأوصاف وثالثها الوصفان الجليلان (الرحمن الرحيم)، والإتيان بهما في مقام الحمد - هنا - لتأكيد استحقاقه تعالى له؛ إذ إنّ من رحمته تعالى بخلقه ما يتقلّبون فيه من نعمه وإحسانه صباح مساء.
قال الفخر الرازي (٣) في تفسيره الكبير: «فاعلم أنّ الرحمن الرحيم عبارة عن التخليص من أنواع الآفات؛ وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات (٤») .
وفي وجه الحكمة في ذكر هاتين الصفتين الجليلتين لله تعالى بعد وصفه برب العالمين ذكر المفسرون أمرين: (أحدهما) الإشارة إلى أن تربيته سبحانه للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرّة، وإنّما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه. و(ثانيهما) البيان بأنّ ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان لا ربوبية قهر
_________
(١) الراجح في معنى (العالمين) أنّه جمع العالَم (بفتح اللام) وهو كل موجود سوى الله تعالى. وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده. ودليله قوله تعالى ﴿قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين﴾ الشعراء ٢٣ – ٢٤. (انظر: فتح القدير للشوكاني ج١ ص٧١؛ أضواء البيان للشنقيطي ج١ص١٠١) .
(٢) انظر: تفسير الطبري ج١ ص٤٨؛ تفسير البغوي ج١ ص٣٩-٤٠؛ نظم الدرر للبقاعي ج١ ص١٤؛ تفسير المراغي ج١ ص٣٠.
(٣) هو محمدبن عمربن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله (٥٤٤-٦٠٦هـ): الإمام المفسر، قرشي النسب، أصله من طبرستان، ومولده في الريّ وإليها نسبته، ويقال له: (ابن خطيب الريّ)، رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان وتوفي في هراة. من أشهر مصنفاته: مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) والمحصول في علم الأصول (انظر: لسان الميزان لابن حجر ج ٤ ص ٤٢٦؛ طبقات الشافعية للسبكي ج ٥ ص ٣٣؛ البداية والنهاية لابن كثير ج ١٣ ص ٦٠؛ الأعلام للزركلي ج٦ ص ٣١٣) .
(٤) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج١ ص ٧.
1 / 24
وجبروت كما قد يفهمه البعض، وفي هذا جمع لهم بين الترغيب والترهيب ليقبلوا على ما يرضيه بنفوس مطمئنة وصدور منشرحة (١) .
وآخر الأوصاف الإلهية في هذا المقام (مالك يوم الدين)، ولا ريب أنّ هذا الوصف يدلّ - أيضًا - على استحقاقه - تعالى - الحمد دون سواه؛ فمن كان مالكًا ليوم الثواب والعقاب وبيده جزاء خلقه على ما قدّموه في دنياهم مع بسطه لهم من نعمه وإحسانه فهو حقيق بأن لا يحمد إلا هو. وقد أشار إلى ذلك قوله عزوجل بآخر سورة الزمر في ختام مشهد القضاء: ﴿وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين﴾ (٢) .
وإجمالًا لما سبق ذكره - من البيان والتفصيل - أقول: إنّ هذه الصفات هي بمثابة التعليل لاستحقاقه الوصفي للحمد بعد استحقاقه الذاتي، وفي ذات الوقت تدلّ على أنّ من كان هذه صفاته لم يكن أحد أحقّ منه بالحمد والثناء. وفي هذا يقول ابن عاشور: «إجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأنّ موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة (الحمد لله)؛ لأنّ تقييد مفاد الكلام بأوصاف متعلّق ذلك المفاد يشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مفاد الكلام» (٣) .
لطائف:
الأولى: لابن قيم الجوزية (٤) كلام حسن حول ما تدلّ عليه هذه الأوصاف في
_________
(١) انظر: فتح القدير للشوكاني ج١ ص٧١؛ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ج١ ص ٥١؛ تفسير المراغي ج١ص ٣١.
(٢) سورة الزمر: الآية (٧٥) .
(٣) التحرير والتنوير: ج١ ص ١٧٧.
(٤) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، أبو عبد الله، شمس الدين
(٦٩١-٧٥١هـ): الإمام المشهور بابن قيم الجوزية، مولده ووفاته بدمشق، تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان لايخرج عن شيء من أقواله؛ بل ينتصر له في جميع ما يصدر عنه، وهو الذي هذّب كتبه ونشر علمه، وسجن معه في قلعة دمشق، وأطلق بعد موته.
من أشهر مؤلفاته: إعلام الموقعين – زاد المعاد- مدارج السالكين. (انظر: الدرر الكامنة لابن حجر ج٣ ص٤٠٠؛ البداية والنهاية لابن كثير ج١٤ ص ٢٤٦؛ شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي ج٦ ص١٦٨؛ الأعلام للزركلي ج٦ ص ٥٦) .
1 / 25
هذا المقام إذ يقول: «في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدلّ على أنّه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ورب محمود، ورحمان محمود، وملك محمود. فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من هذا الاسم بمفرده، وكمال من الآخر بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر..» (١) .
الثانية: وفي وجه افتتاح الفاتحة بالحمد دون التسبيح مع كون التخلية مقدّمة على التحلية قال الفخر الرازي: «إنّ التحميد يدلّ على التسبيح دلالة التضمّن، فإن التسبيح يدلّ على كونه مبرءًا في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات، والتحميد يدلّ مع حصول تلك الصفة على كونه محسنًا إلى الخلق منعمًا عليهم رحيمًا بهم، فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تامًا والتحميد يدلّ على كونه تعالى فوق التمام» (٢) .
والثالثة: في وجه تقديم الرحمن على الرحيم بقوله تعالى: ﴿الرحمن الرحيم﴾ يقول ابن عاشور: «تقديم الرحمن على الرحيم لأنّ الصيغة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلّقاتها» (٣) .
وبهذه اللطائف المفيدة المعتبرة أختم الحديث عن هذا الموضع من مواضع حمد الله ذاته الكريمة، وهو فاتحة المواضع كما هو فاتحة الكتاب ولله الحمد والمنة.
_________
(١) مدارج السالكين: ج١ ص ٣٥.
(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج١ ص ٢٢٤.
(٣) التحرير والتنوير لابن عاشور: ج١ ص ١٧٢.
1 / 26
الفصل الثاني: حمد الله ذاته الكريمة في فاتحة سورة الأنعام
المبحث الأول: في مناسبة فاتحة السورة بالحمد بخاتمة السورة قبلها
...
الفصل الثاني:
حمد الله ذاته الكريمة في فاتحة سورة الأنعام
قال الله تعالى ﴿الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ (١) .
المبحث الأول: في مناسبة فاتحة السورة بالحمد بخاتمة السورة قبلها.
ذكر السيوطي (٢) في كتابه (أسرار ترتيب القرآن) أنه قال بعض أهل العلم في مناسبة فاتحة هذه السورة بخاتمة سورة المائدة قبلها أنّ هذه افتتحت بالحمد وتلك خُتِمت بفصل القضاء للتلازم بين الأمرين كما قال تعالى ﴿وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين﴾ (٣) .وأضاف على ما ذكره سابقًا فقال: «وقد ظهر لي - بفضل الله - أنّه لما ذكر في آخر المائدة ﴿لله ملك السموات والأرض وما فيهن﴾ (٤) على سبيل الإجمال افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله، فبدأ
_________
(١) سورة الأنعام: الآية (١) .
(٢) هو عبد الرحمن بن أبي بكر محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين
(٨٤٩-٩١١؟): إمام حافظ مؤرخ أديب، نشأ في القاهرة يتيمًا، ولما بلغ أربعين سنة اعتزل الناس فألف أكثر كتبه، وبقي على ذلك إلى أن توفي، له نحو ٦٠٠ مصنف، من أشهرها: الإتقان في علوم القرآن – تاريخ الخلفاء – الدر المنثور في التفسير المأثور – الجامع الصغير في الحديث – تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي في مصطلح الحديث. (انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج٨ ص٥١؛ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي ج٤ ص٦٥؛ الأعلام للزركلي ج٣ ص ٣٠١-٣٠٢) .
(٣) سورة الزمر: الآية (٧٥) .
(٤) سورة المائدة: الآية (١٢٠) .
1 / 27
بذكر أنه خلق السموات والأرض وضمّ إليه أنّه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه قوله (ومافيهن) في آخر المائدة، وضمّن قوله (الحمد لله) أوّل الأنعام أنّ له ملك جميع المحامد وهو من بسط ﴿لله ملك السموات والأرض وما فيهن﴾» (١)، فهذه المناسبة خاصة في وجه ارتباط السورتين من حيث ختام السابقة وابتداء اللاحقة وهي مناسبة لطيفة أحببت الإشارة إليها والتذكير بها.
_________
(١) أسرار ترتيب القرآن للسيوطي: ص ٩٧.
1 / 28
المبحث الثاني: في غاية حمد الله ذاته بالآية وصلته بما بعده
إنّ سورة الأنعام التي جاءت هذه الآية في فاتحتها تعدّ أصلًا عظيمًا في محاجة المشركين وغيرهم من المكذبين والمبتدعين (١)، وكانت هذه الآية هي بداية المحاجة لهم والردّ عليهم بما يبطل شركهم ويدحض ضلالهم.وافتتاحها بحمد الله ذاته الكريمة يعتبر أول سبل إقامة الحجة على المشركين الذين اتخذوا شركاء لله من أوثان وأصنام؛ ذلك أنّ هذه الجملة (الحمد لله) تفيد - كما بينت سابقًا - استحقاقه تعالى الحمد وحده واختصاصه به دون غيره، وبذلك فهي ردٌّ عليهم في حمدهم لأصنامهم وأوثانهم بما تخيّلوه من إسدائها إليهم نعمًا ونصرًا وتفريج كربات، وما اقتضاه ذلك من عبادتهم إياها؛ ولا ريب أنّ العبادة هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد (٢) . ولهذا قال ابن جرير الطبري (٣) في هذا المقام: «الحمد الكامل لله وحده لا شريك له دون جميع الأنداد والآلهة ودون ما سواه مما تعبده كفرة خلقه من الأوثان والأصنام. وهذا كلام مخرجه مخرج الخبر ينحى به نحو الأمر يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خلقكم وخلق السموات والأرض ولا
_________
(١) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج٦ ص ٣٨٣.
(٢) انظر: تفسير أبي السعود ج٣ ص ١٠٤؛ فتح القدير للشوكاني ج٢ ص ١٠٢؛ محاسن التأويل للقاسمي ج٦ ص ٤٥٥؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج٧ ص ١٢٥ –١٢٦.
(٣) هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر (٢٢٤-٣١٠هـ): المؤرخ المفسر الإمام، ولد في آمل طبرستان واستوطن بغداد وتوفي بها، عرض عليه القضاء فامتنع والمظالم فأبى، من أشهر مؤلفاته: أخبار الرسل والملوك (تاريخ الطبري) – جامع البيان في تفسير القرآن – اختلاف الفقهاء (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ج٢ ص٣٥١؛ البداية والنهاية ج١١ ص١٥٦-١٥٨؛ لسان الميزان لابن حجر ج٥ ص ١٠٠-١٠٣؛ سير أعلام النبلاء للذهبي ج١٤ ص٢٦٧-٢٨٢؛ الأعلام للزركلي ج٦ ص٦٩) .
1 / 29
تشركوا معه في ذلك أحدًا شيئًا فإن المستوجب عليكم بالحمد بأياديه عندكم ونعمه عليكم لامن تعبدونه من دونه وتجعلونه له شريكًا من خلقه» (١) .
وبعد حمده تعالى لذاته ذكر بعضًا من عظائم آثاره وجلائل أفعاله وآلائه الدالّة على قدرته العظيمة الكاملة الموجبة لاستحقاقه الحمد واستقلاله به إضافة إلى الاستحقاق الذاتي، وذلك هو قوله تعالى ﴿الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾ وهذه الجملة من الآية هي بمثابة الوصف له تعالى؛ إذ الموصول - ههنا - في محلّ الصفة لاسم الجلالة، وهي في نفس الأمر لها مفهوم العلة للحمد؛ فهو حقيق بالحمد وحدد دون سواه بسبب ما عُلِم من صفاته الذاتية الكاملة وأفعاله وآلائه ونعمه الجسيمة (٢) .
_________
(١) تفسير الطبري: ج٧ ص٩٢.
(٢) انظر: تفسير أبي السعود ج٣ ص١٠٤؛ تفسير الآلوسي ج٧ ص٨٠؛ فتح القدير للشوكاني ج٢ ص١٠٢؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ح٧ ص١٢٦؛ محاسن التأويل للقاسمي ج٦ ص٤٥٠.
1 / 30
المبحث الثالث:
في بيان قوله تعالى: ﴿الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾
أخبر الله تعالى عن قدرته العظيمة الكاملة بخلق السموات والأرض وجعله الظلمات والنور، وإنّما خصّ خلق السموات والأرض بالذكر دون غيرهما من المخلوقات - في هذا المقام لكونهما أعظمها ولاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء والنعم الجليّة والخفيّة التي أجلّها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كلّ موجود، هذا بالإضافة إلى ما فيهما من أنواع وفنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوط بها مصالح العباد ومنافعهم في المعاش والمعاد (١) .
وأما الظلمات والنور فجمهور المفسرين على أن المراد بهما سواد الليل وضياء النهار (٢)، وتخصيص جعلهما بالذكر في هذا المقام لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما (٣)، مع كونهما أمرين خطيرين ونعمتين عظيمتين مرتبطتين بانتظام الحياة والمعاش على هذا الكون. قال الله تعالى ﴿وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلًا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب..﴾ الآية (٤) .
لطائف:
الأولى: إنّ في ذكر هذه المخلوقات الأربعة (السموات والأرض والظلمات والنور) تعريضًا بإبطال عقائد كفار العرب من مشركين وصابئة ومجوس
_________
(١) انظر: تفسير البغوي ج٢ ص ٨٣؛ تفسير أبي السعود ج٣ ص ١٠٤.
(٢) انظر: تفسير القرطبي ج٦ ص ٣٨٦.
(٣) انظر: التحرير والتنوير ج٧ ص١٢٧.
(٤) انظر: تفسير ابن كثير ج٢ ص ١٢٣. والآية بسورة الإسراء رقم:١٢.
1 / 31
ونصارى، إذ إنّهم قد أثبتوا آلهة غير الله تعالى من هذه الأربع، فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض، والصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية، والنصارى أثبتوا إلهية عيسى ﵇ أو عيسى ومريم ﵉ وهما من الموجودات الأرضية، والمجوس وهم المانوية ألّهوا النور والظلمة فجعلوا النور إله الخير والظلمة إله الشر؛ فأخبرهم الله عزوجل أنه خالق السموات والأرض أي وبما فيهن وخالق الظلمات والنور، فكيف يجعلون المخلوق إلهًا ويساوونه بالخالق سبحانه؟! (١)
الثانية: إنّ التعبير بالخلق في شأن السموات والأرض؛ وبالجعل في شأن الظلمات والنور دلالة على فرق دقيق بين الكلمتين أشار إليه ابن عاشور إذ قال: «التفرقة بين جعل وخلق معدود من فصاحة الكلمات، وإن لكل كلمة مع صاحبتهما مقامًا، وهو ما يسمى برشاقة الكلمة، ففعل (خَلَق) أليق بإيجاد الذوات، وفعل (جَعَل) أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها» (٢) .
الثالثة: وإنّ في تقديم السموات على الأرض والظلمات على النور مراعاة لترتيب الوجود، فإنّ السموات تقدّم وجودها على الأرض كما هي على حالها الآن، والظلمات سابقة النور، فإن النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة وكانت الظلمة عامة (٣) .والله أعلم بمراده.
_________
(١) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج٧ ص ١٢٧.
(٢) المرجع السابق: ج٧ ص ١٢٧.
(٣) انظر: تفسير أبي السعود ج٣ ص ١٠٥؛ التحرير والتنوير ج٧ ص ١٢٧.
1 / 32