غير أنه كان بعيدا عنها، مثلما تبعد سياتل عن ميامي. «وخطأ من هذا؟» هكذا تساءل صوت طفولي في رأسه. لقد اختار المجيء إلى هنا، إلى أبعد مكان عن جنوب فلوريدا لكنه لا يزال داخل الولايات المتحدة. أحيانا كان يشعر أنه ابتعد أكثر مما ينبغي؛ ففي فلوريدا كان الناس يلطفون من حرارة أجسامهم بتناول بالكحوليات والمشروبات المثلجة، أما هنا فكانوا يحتسون القهوة القوية كي يشعروا بالدفء. كثيرا ما كان جونزاليس يشعر بالضياع وسط كآبة الشماليين واهتمامهم بصحتهم، وبالاشتياق إلى الشهوانية والمشاعر الهسبانية المميزة لجنوب فلوريدا.
ومع ذلك فقد كان يكره العالم الذي ترعرع فيه. لقد رأى مهربي المخدرات ومروجيها ولاعبي القمار منذ أن كان طفلا، ورأى في هؤلاء جميعا النهم الشديد نفسه للمال والأراضي والسلطة، وسمع الأصوات الطفولية نفسها وهي تريد المزيد والمزيد. وفي الحفلات التي كان يقيمها والداه يذكر الوجوه المسمرة لقاطني جنوب فلوريدا، البيض والسود الهسبانيين الذين لفحتهم الشمس، رجال يرتدون حليا ذهبية ثقيلة ويخلفون وراءهم سحبا من العطر الباهظ، ونساء ذوات شعور متيبسة ونهود مرفوعة، كانت ضحكاتهن تشكل حاشية رقيقة لأصوات الرجال العالية. وكان يهرب من كل هذا على نحو غريزي مثلما يبعد الطفل يده عن النار.
لكنه كان يقف في هذا المكان وتلك اللحظة في أرض غريبة، ولم يكن يشعر أنه في موطنه في هذا الطرف من البلاد أكثر مما كان يشعر في الطرف الأقصى منها.
قال جونزاليس: «لا رد.» •••
في اليوم التالي جلس جونزاليس في حجرة التشميس؛ حيث اضطجع على الكسوة السوداء وتحت الزجاج المنقوش بينما كانت أفكار الموت تقض مضجعه. ملأ غليونا برونزيا بأوراق القنب الخضراء الصغيرة وغاص في غيمة من الدخان وهو يحتسي الشاي.
تحول ضوء العصاري المتسلل من النوافذ إلى اللون الرمادي، لون الملل والقنوط التام، وصار شعور الوحدة طاغيا. كان بحاجة إلى رفقة، هكذا فكر، وتساءل عما سيكون عليه الأمر لو امتلك قطا. حينها فكر في حقيقة الأمر، كيف أن غيابه سيطول وأن القط سيلهو بماكينات المنزل. سيقول روبوت التنظيف: «مرحى أيها القط.» وسيرغب جهاز «الميميكس» في برامج بيطرية ورابط تشخيصي ... اللعنة! بمقدورهم جميعا العيش من دون قط.
بعدها شعر بقرصة الجوع، فقرر أن يعد بعض التبولة. «أنت لا تولي العمل اهتمامك.» هكذا قال جهاز «الميميكس» بينما وقف جونزاليس يقطع أوراق النعناع والبصل الأخضر والطماطم، ويعصر الليمون ويقلب البرغل في صبر شخص مسطول.
قال جونزاليس: «هذا صحيح. أنا لست في عجلة من أمري.» «لماذا؟ منذ عودتك من آسيا لم تكن لك أي إنتاجية تذكر.» «سأموت يا صديقي.» تسللت رائحة الليمون والنعناع إليه، فأخذ نفسا عميقا ثم أضاف: «اليوم، أو ذات يوم بالتأكيد ... ما زلت أحاول فهم ما يعنيه الأمر لي الآن. الإنتاجية أمر طيب، غير أن التأقلم مع فكرة موتي ... أعتقد أن هذا أفضل.» اكتملت التبولة. كانت جميلة، وتمنى لو استطاع غمس وجهه فيها. •••
قبل أن يمضي وقت طويل على انتهاء جونزاليس من تناول الطعام، وصله طرد من تايلاند. وداخل طبقات الفوم والشرائط كانت توجد وحدات الذاكرة التي أخدها التايلانديون. وحين أوصلها بجهاز «الميميكس» تبين أنها خالية: أصفار، مستعدة للاستخدام من جديد .
وقف جونزاليس ونظر إلى الوحدات المثبتة في حاوية جهاز «الميميكس». «لا أصدق ذلك.» هكذا فكر في نفسه قائلا. كان هذا يعني أن كل سجلات التدقيق قد محيت. وأي بيانات يجمعها هو أو أي شخص آخر الآن من فرع سينتراكس في ميانمار ستكون عديمة القيمة؛ فمن المؤكد أن جروسباك قد حظي بما يكفي من الوقت كي يزور البيانات التي يحتاج إلى تزويرها. الموقف كله يكتنفه الغموض.
अज्ञात पृष्ठ