إهداء
تقدمة
تمهيد
نصر أبو زيد1مشواري من النص إلى الخطاب
تأسيس التأويل لغويا وبلاغيا1
القرآن في التأويل الصوفي1
إعادة تعريف القرآن1
هموم كتابة
إضاءات
ثبت بكتابات نصر أبو زيد
إهداء
تقدمة
تمهيد
نصر أبو زيد1مشواري من النص إلى الخطاب
تأسيس التأويل لغويا وبلاغيا1
القرآن في التأويل الصوفي1
إعادة تعريف القرآن1
هموم كتابة
إضاءات
ثبت بكتابات نصر أبو زيد
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول)
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول)
من نص المصحف إلى خطابات القرآن
تأليف
جمال عمر
إهداء
كنت أود أن أهدي كتابي السابق «مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية» إليهم. ولكنه طبع بدون إهداء فأهديهم هذا الكتاب.
إلى
نصر أبو زيد
علي مبروك
جابر عصفور
حسن حنفي
من جهدكم وإليكم
جمال
تقدمة
عشر سنوات تمر على رحيل نصر أبو زيد بالجسد عن دنيانا، ورغم أن تسجيل وحفظ الذاكرة في عصرنا أصبح من رخص التكلفة المادية ومن السهولة بمكان، وإمكانية حفظ وتخزين المعلومات بكل أشكالها وإتاحتها، سهولة لم يبلغها عصر من عصور البشرية السابقة علينا؛ ورغم كل ذلك فما زالت ذاكرتنا الجمعية كثقافة وكمجتمعات وكأفراد باهتة وضعيفة وفي حالة تفتت وبعثرة، مما يشتت وعينا بواقعنا ويجزئ ماضينا، ويجعل السعي نحو المستقبل سيرا في ضباب وفي غيم؛ فما زالت حارتنا تعاني من آفة النسيان رغم ثرثرتها ليل نهار عن الماضي وعن التاريخ، حتى تصور الكثيرون أننا نعيش في الماضي. لكننا في الواقع نحن أصبحنا ماضيا؛ لأننا نتعيش بالماضي، نقتات على فتافيت منه ونتباهى بتوهماتنا عنه وتوهتنا فيه. لكن ما علاقة هذه الصور اللغوية التي ربما قد بالغت في رسمها بنصر أبو زيد؟ علاقتها أن خطابه وتعاملنا معه نموذج ومثال لهذه الحالة من النسيان والتناسي، رغم ذكر اسم «نصر أبو زيد» المتوالي في الأحاديث والقعدات الإعلامية المذاعة، منذ رحيله، فما زالت كتاباته لم تجمع في كتب، وما زالت نصوصه بالإنجليزية لم تترجم إلى العربية، ورغم الإعلان عن نشر أعماله الكاملة، فلم تكن سوى إعادة نشر لكتبه المنشورة سابقا .
في عقده الأخير لم يعد أبو زيد يكتب تقريبا نصوصا لمحاضراته، بل كان يعتمد على نقاط «بوربوينت»، ويتحدث عن الموضوع، وكل محاضرة يضيف إليه؛ مما يجعل أن تحويل تسجيلات محاضراته إلى نصوص مكتوبة هي عملية مهمة جدا لرصد خطابه، وخصوصا في مرحلته الأخيرة. أدركت هذه الأهمية وهذا العجز في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، فطلبت منه أن يسجل مداخلاته هذه تسجيل صوت «ديجيتال»؛ حتى يكون هناك توثيق لجهوده، وقضيت عام 2009م أحول تسجيلات المحاضرات إلى نصوص مكتوبة، وأرسلت له نصوصا لعشر محاضرات، لعله يجمعها في أحد مؤلفاته. وطبعا بعد رحيله تصبح عملية نشر نصوص محاضراته عملية لا تغري بالنشر، فبعد عشر سنوات، أقدم نصوصا لأربع محاضرات ألقاها نصر أبو زيد بمكتبة الإسكندرية في ديسمبر 2008م، وقد رفعت فيديوهاتها على النت منذ عشر سنوات. وهذه المحاضرات الأربع تصور مراحل التفكير عنده، وكان ينقصها محاضرة خامسة تتناول جهوده في دراسة التفاسير والتأويلات المعاصرة للقرآن. هذه المحاضرات وحدة متكاملة تصور تطور خطاب نصر أبو زيد، أضعها بين يدي القارئ وبين أيادي الثقافة، وأضيف إلى المحاضرات الأربع النصوص التي كتبتها عن خطاب نصر أبو زيد، خلال العقد الماضي؛ لتضع محاضراته هذه في سياق تطور هذا الخطاب، وأختمها بقائمة مؤرخة ومرتبة تاريخيا لكتابات نصر أبو زيد، من عام 1962م حينما كان في التاسعة عشرة، حتى آخر كتبه الذي نشر بعد عامين من رحيله، عام 2012م. لعل هذا النص يساهم في مواجهة آفة النسيان في ثقافتنا.
جمال عمر
31 مايو 2019م
تمهيد
(1) القرآن والقراءة: تطور المفاهيم عند نصر أبو زيد
1
صاحب تجربة المد الاشتراكي بمصر،
1
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وفي ظل حركة التحرر من الاستعمار ومحاولة استقلال القرار الوطني والتنمية الداخلية، صاحبها خطاب ديني من المؤسسات الدينية الرسمية يعبر عن المرحلة، مقدما فهما وتفسيرا للدين، يعبر عن المساواة بين البشر، تصدر فيه نصوص مثل: «الناس سواسية كأسنان المشط»، «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، و«أن المال مال الله ونحن خلفاء له، والعباد عباد الله والبلاد بلاد الله، فمن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له». وتوزع الثروة والمال حتى لا يكون المال:
دولة بين الأغنياء منكم (59/الحشر: 7). والمال مصدره العمل والعرق. قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي في مدح الرسول الكريم، التي تغنت بها أم كلثوم، تتصدر المشهد:
الاشتراكيون أنت إمامهم
لولا دعاوى القوم والغلواء
وكتابات عن اشتراكية أبي ذر الغفاري، وانحيازه للفقراء. بل تجد عضوا من أعضاء جماعة الإخوان في سوريا (مصطفى السباعي) بكتابه «اشتراكية الإسلام»، وكتاب سيد قطب في نهاية الأربعينيات «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وفي الصراع مع المشروع الصهيوني، كان الموقف: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، فكانت آية:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
تتصدر المشهد؛ تعبيرا عن موقف الدين، مساندا للخطاب السياسي، وأن القتال شر لا بد منه:
كتب عليكم القتال وهو كره لكم (2/البقرة: 54).
حينما تغيرت بوصلة تحيزات الخطاب السياسي في السبعينيات والثمانينيات منقلبة على تحيزات الفترة السابقة عليها، داعية إلى الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية الوطنية، والملكية الخاصة، وتشجيع القطاع الخاص، تحولت بوصلة الخطاب الديني وتحول فهم وتأويل الدين أيضا؛ لنكتشف أن القرآن تحدث عن التفاوت الطبقي بين الناس:
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا (43/الزخرف: 32). وكلمة «درجات» تفسر على أنها الدرجات بالمعنى الاقتصادي/الاجتماعي؛ بمعنى التفاوت الطبقي. ويصبح الدين لا يتعارض مع الرأسمالية، ويتصدر الصورة ما نسب إلى النبي عليه السلام: «تسعة أعشار الرزق في التجارة». وحين اتجه النظام السياسي إلى التعاهد مع العدو، تتصدر المشهد:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (8/الأنفال: 61). فيكون الخطاب الديني تابعا للخطاب السياسي وداعما للسياسة. وأيضا المعارضون السياسيون يستخدمون الدين وتفسيره وسيلة في صراعهم السياسي مع السلطة. إنه الصراع على نفس الأرضية، أرضية استخدام الدين وتوظيفه لأهداف سياسية سواء من جانب السلطة، أو من جانب معارضيها؛ لمجرد أهداف أيديولوجية.
2
في هذه اللحظة المعرفية وسياقها الثقافي السياسي الاجتماعي؛ كان دخول نصر أبو زيد إلى الجامعة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وذلك عام ثمانية وستين من القرن الماضي، عام بعد الهزيمة الكبرى، وهو قد نشأ على الميل لفكرة الإخوان والتأثر بكتابات سيد قطب ومحمد قطب عن الرؤية الإسلامية للعالم، وعلى «مشاهد يوم القيامة في القرآن» و«التصوير الفني في القرآن». لكن أبو زيد كان على تواصل فكري مع مدرسة الشيخ أمين الخولي، في التفسير الأدبي للقرآن، وأيضا كان متبنيا لشعارات نظام يوليو عن العدالة الاجتماعية؛ فعايش أبو زيد عملية التحول في الخطاب الديني التي حدثت في المجتمع. من شعار، إلى آخر، ومن اتباع مفردات خطاب سياسي في الستينيات إلى مفردات خطاب آخر في السبعينيات. وكان السؤال عنده: لماذا حدث هذا التحول؟ وقضية العلاقة بين المفسر والنص، وما هو دور المفسر؟ وما دور النص في تشكيل معنى النص؟
لكن أبو زيد كان تحيزه واضحا للعدالة الاجتماعية، وإلى استقلال القرار الوطني، والانحياز إلى الفقراء. وإن كان ينتقد غياب الديمقراطية السياسية والحرية، في تجربة الستينيات، إلا أنه ضد التطبيع وضد السلام المنقوص مع العدو، وضد الانفتاح «السداح مداح»، وأيضا ضد الهجمة السلفية الآتية مع أموال البترول الخليجي وقيم الحياة القبلية الصحراوية. وكما أصبح الماضي وقراءة التراث الذي تم اختصاره في جوانب منه هي الأكثر فقرا من ناحية إسهامها في التقدم، كانت العودة عنده أيضا للتراث وللماضي؛ لمحاربة هذه الهجمة السلفية التي ازدادت انغلاقا بعد الهزيمة بأثر ضخ أموال البترول. في مواجهة هذه الهجمة المعتمدة على تراث أحمد بن حنبل وابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وجهود محمد بن عبد الوهاب دينيا، بصورتها السلفية التقليدية، وبشكلها السياسي في جماعات الإسلاميين، جماعات لتديين السياسة، والتي تحولت إلى جماعات العنف.
فكانت العودة لتراث المعتزلة الكلامي كمنظومة عقيدية من التراث تختلف عما هو قادم من تراث حنبلي، وما هو سائد من تراث أشعري. فكانت كتب المعتزلي القاضي عبد الجبار (359ه/969م-415ه/1025م) التي تم اكتشافها في اليمن في نهاية الأربعينيات. كان قد تم طباعتها منذ ما يقرب من عقد من الزمان حين بدأ نصر دراسته للماجستير، فاختار دراسة الفكر الاعتزالي بحيث يكون له قدم في البلاغة العربية، وقدم أخرى في الدراسات الإسلامية. فبحث دور المعتزلة في نشأة وتشكيل مفهوم المجاز، كمفهوم جذر في البلاغة، وكمفهوم محوري في تأويلات المعتزلة، يدرس ذلك من خلال علاقة المفسر بالنص، في السياق السياسي الاجتماعي الثقافي للعصر.
حاول أبو زيد التدليل على دور الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية، بين فرق المسلمين، ودورها في نشأة الاعتزال، وقلل من دور التأثيرات الخارجية، ومن دور ما أثاره خطاب الاستشراق من دور الفلسفات اليونانية في هذه النشأة. فأدرك أبو زيد من خلال دراسته أهمية ودور استخدام مصطلح التأويل غير مصحوب بالصورة السلبية السائدة في عصرنا، الناظرة إلى التأويل على أنه خاضع لأهواء الفرد المؤول، وتفضيل التفسير على التأويل بدعوى أن التفسير موضوعي لا تتدخل فيه ذاتية المفسر، إلا أن أبو زيد أدرك أيضا أن التأويل والتفسير النفعي حسب رأي الفرد المسبق، ليس قاصرا على عصرنا لفساد الذمم كما هو سائد من تصور، بل إن القدماء أيضا فعلوا ذلك؛ فعلها المعتزلة في جعل النصوص تنطق بمبادئهم الفكرية المسبقة، وكذلك فعلها خصومهم فجعلوا النصوص تنطق بردودهم الفكرية على المعتزلة، ووجد صعوبة في تحليل رؤية المعتزلة في اللغة، فوجد تناثرا لهذه الرؤية نتيجة للطبيعة السجالية في طريقة كتابة المعتزلة كتبهم، كردود على أسئلة متصورة لخصومهم. وبدأ أبو زيد يتواصل مع قضية طبيعة القرآن والجدل الذي دار بين المعتزلة وخصومهم حولها، وكيف توقف الحوار حولها في القرون العشرة الماضية، وأدرك أهميتها ومحوريتها في تشكيل المفاهيم السائدة في الفكر الديني، وأيضا أهميتها في حالة الاستخدام النفعي للنصوص قديما وحديثا.
انتقل نصر أبو زيد في رسالته للدكتوراه إلى حقل آخر من حقول التراث، وهو حقل التصوف والتجربة الروحية، والجانب الأخلاقي. ويمكن إدراك أن استدعاء تراث التصوف وابن عربي تحديدا هو جزء من مواجهة الهجمة السلفية أيضا؛ إلا أن عدسة الباحث هنا اتسعت، فمن دراسة مفهوم جزئي - المجاز - إلى دراسة «فلسفة التأويل» عند محيي الدين بن عربي، ليس من خلال علاقة المفسر بالنص، بل اتسعت الرؤية لمحاولة الوصول إلى القواعد الفكرية الرابضة خلف فعل التفسير والتأويل. وكانت لمنحته للدراسة بأمريكا فرصة له أن ينفتح على الدراسات اللغوية الحديثة ومناهجها. فكتب عن الهرمنيوطيقا، أو التأويلية في التراث الغربي، والبحث عن تأصيلها في التراث العربي؛ إلا أن نصر بعد الانتهاء من كتابته لرسالة الدكتوراه وموافقة مشرفه الثاني على الرسالة، وأن تطبع لتتم مناقشتها، أدرك أنه استغرق في شرح فلسفة ابن عربي وفي عرض جوانبها؛ حتى أصبحت فلسفة ابن عربي هي متن الرسالة، وأصبحت قضايا تأويل القرآن عند ابن عربي هي الهامش. لكن نصر أبو زيد أيضا طوال بحثه في الرسالة كان مشغولا بدور المؤول في جعل النص ينطق بأفكاره المسبقة، لكن بدأ يدرك دور النص القرآني في تشكيل رؤية وتصورات ابن عربي ذاته، بل أيضا أدرك كيف أنه كان لطبيعة لغة ابن عربي المكتنزة، والتي تخدع الباحثين بالوقوف أمام منطوق نصوص ابن عربي دون الالتفات إلى المسكوت عنه في الخطاب، وإلى الكيفية التي يقول بها ابن عربي كلامه، فقد ظلتا (هاتان النقطتان) تؤرقان أبو زيد بعد مناقشة رسالته للدكتوراه؛ حتى عاد إلى الكتابة عن ابن عربي في مقال صغير سنة 92 بمجلة الهلال المصرية عدد مايو: «قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي»، ثم كتب كتابه في نهاية الألفية: «هكذا تكلم ابن عربي». وأبو زيد أدرك أيضا أن الاستخدام النفعي للنصوص موجود في التراث الصوفي أيضا.
أصبح السؤال الذي يؤرقه، وقد تولد من أطروحتي للماجستير والدكتوراه: هل هناك دلالة موضوعية للنص في الثقافة العربية خارج التحيزات الأيديولوجية المسبقة؟ وهل يمكن تكوين تصور موضوعي للنص في الثقافة؟ وحاول من خلال وضع التراث المكتوب حول النص في موسوعتي السيوطي والزركشي في علوم القرآن بحثا عن مفهوم للنص. لكن نصر كان يتحرك منطلقا من المنظومة المعتزلية في العقيدة، ومن خلال جهود البلاغة العربية متمثلة في عبد القاهر الجرجاني من التراث مع استعارة مفاهيم غربية حديثة في التأويل عند «جادامر». لكن من منظور جدلية مادية بين الفكر والواقع، وأيضا منطلق من الجهود العربية الحديثة في مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم بجهود محمد عبده والشيخ أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله . فمس أسئلة حول طبيعة الوحي وكيفيته، وطبيعة القرآن، وسؤال: ما الإسلام؟ في محاولة لفتح المعنى والدلالة، والتي لم تخل هي نفسها من تحيز أيديولوجي، وإن كان يسعى إلى وضع الظاهرة الدينية تحت عدسات الدراسة «الموضوعية العلمية».
لكنه في هذه المرحلة احتك مباشرة، وفتح الحوار حول قضية قد كان أغلق الباب في التفكير فيها منذ عشرة قرون عن طبيعة القرآن وعن ماهيته، وأن كل عمليات التجديد التي تمت في العالم العربي والإسلامي تعتمد على نفس الأساس اللاهوتي/العقيدي الراسخ بأن: «القرآن هو كلام الله القديم»، بالإضافة إلى استخدامه مصطلحات علوم اللغة والبلاغة الحديثة في مجال الدراسات القرآنية، منطلقا من أن القرآن رسالة لغوية من الله للبشر، وكونها من الله لا ينفي عنها أنها رسالة لغوية تخضع لقواعد البشر في التواصل والفهم والدراسة؛ ربطا بين الدراسات الإسلامية والقرآنية بالدراسة الأدبية للنصوص من خلال مناهج الدرس اللغوي وتحليل النصوص المعاصرة. دراسة النص في سياق تفاعله مع الواقع ومع التاريخ تشكلا وتشكيلا من خلال علاقة جدلية بين النص والواقع، معتمدا على التراث المعتزلي حول مفهوم خلق القرآن وحدوثه، مفارقا ما هو سائد من التعامل مع النص القرآني كسلطة لإخضاع البشر لها، مخفية وراءها سلطة بشر خلف أقنعة المقدس والمطلق، إلى أن يكون النص ساحة رحبة للفهم الإنساني.
موظفا التفرقة التي أخذها عن «هرش» للتفرقة بين
Meaning
و
Significant
الاصطلاحين اللذين ترجمهما في البداية إلى «المعنى» و«الدلالة»، ثم فيما بعد إلى «المعنى» و«المغزى»؛ للتفرقة بين المعنى الذي فهم من النص في زمن ظهوره، والذي يمكن أن نصل إليه بتحليل النص في سياقه التاريخي والاجتماعي واللغوي والثقافي. وبين مغزى هذا النص لنا في عصرنا نحن الآن، عبر عملية التأويل التي تحدث للنص في التجاوز من المعنى إلى المغزى. فالتعامل مع القرآن كنص بدلالة كلمة «نص» المعاصرة وليس النص بالمعنى التراثي التي كانت تعني الواضح وضوحا بينا، الذي لا يحتاج إلى تأويل، بل النص كعملية تواصل لغوي بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة في سياق.
في هذه الفترة من نهاية الثمانينيات، بدأ ينتقل لدراسة الواقع المعاش، بدراسة ظواهر معاصرة مثل «نقد الخطاب الديني»، وطرقه في إهدار السياق بمستوياته المختلفة، في تعامل هذا الخطاب مع النصوص الأولي منها والثانوي، ومع الظواهر المختلفة. وكذلك نقد أبو زيد خطاب «اليسار الإسلامي»، بل انتقل من نقد الخطاب الديني إلى نقد الخطاب العام، فدرس «مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق» على أن الخطاب الديني هو صورة من أزمة الخطاب العام؛ بحثا عن المعوقات الفكرية التي تعوق خطاب النهضة عموما وخطاب التجديد خصوصا، وكيف أن خطاب النهضة وخطاب التجديد يقعان في أسر الخطاب النقيض لهما، مما يؤدي إلى ضمور ثمار النقد وثمار التجديد، مقارنة بالخطاب التقليدي الذي يجتر التراث. وتزامن مع حالة النقد هذه عند أبو زيد التي نقد فيها مشروع أستاذه حسن حنفي، كجزء من نقده لذاته هو، حيث أعاد النظر في موقفه من تراث المعتزلة، وأدرك محدودية مفهوم الحرية عندهم وارتباطه بزمانهم كحرية الإنسان في مواجهة القدر. وليست الحرية بمعناها السياسي والاجتماعي، والاقتصادي لعصرنا. وأدرك إطلاقية المعتزلة لمفهوم العقل؛ ليتحول إلى مطلق، لا يحده لا الزمان ولا المكان ولا التاريخ.
3
قد كانت محنة قضية عدم ترقيته وقضية التفرقة بينه وبين زوجته، والمحاكمة التي مر بها نصر، في ظل حالة الاحتقان التي كانت تمر بها مصر، والتي أطاحت بمدرسة في الدراسات القرآنية داخل كلية آداب القاهرة، وعطلت نصر أبو زيد الأستاذ عن الاستمرار في العمل، وكادت أن تطيح بنصر أبو زيد الباحث أيضا، وتستدرجه إلى ساحات السجال. لكن خروجه مرتحلا إلى الشمال وإلى جامعة «لايدن» حافظ لنا على الباحث من التعطل ومن خطر التوقف. لكن المحنة ولدت داخله سؤالا: «لماذا حدث كل هذا؟ ولماذا يستطيع خطاب التقليد السلفي قديما وحديثا تهميش خطاب التجديد والانفتاح؟» فها هو نفسه على الشاطئ الشمالي من البحر المتوسط. فاستدعى تجربة أبو حامد الغزالي وابن رشد، ودرس: كيف استطاع خطاب الغزالي أن يهمش خطاب ابن رشد في الثقافة العربية؟ وفي قلبها بحثا عن أسباب فشل خطاب التجديد وضمور ثماره بعد قرن ونصف من محاولات التجديد في الخطاب العربي الحديث والمعاصر، وكيف أن خطاب التجديد في الفكر الديني يتحرك داخل نفس البناء اللاهوتي القديم.
بدأ يدرك نصر أبو زيد أن مفهوم «النص» بالمعنى المعاصر في الدراسات اللغوية الحديثة ذاته، الذي دافع هو عنه خلال العقدين السابقين، قد يكون هو في ذاته بذرة الإشكال. فبعد أن أعاد النظر في تصورات المعتزلة، وأعاد النظر في دراسته لخطاب ابن عربي، أعاد النظر في تصوره لطبيعة القرآن كنص، أو لتعريف القرآن بأنه نص. وتناول حسب تعبير محمد أركون الذي تأثر أبو زيد بدراساته: «الظاهرة القرآنية»، وأدرك أهمية التعامل مع القرآن كخطاب شفاهي، القرآن قبل عملية الجمع والتدوين وتقنينه في مصحف، وعملية التحول بمراحلها المختلفة. ليس بالمعنى التقليدي من قراءة القرآن في سياق ترتيب النزول وفي ترتيب المصحف الحالي. بل إن النظر إلى ماهية القرآن كنص فقط، تجعل المفكر المسلم القديم والمعاصر على السواء، يبحث عن رفع التباين والتناقض المتصور حول جوانب القرآن؛ لأن النص ذا المصدر الواحد لا يجب أن يكون به تناقض أو تباين. لكن القرآن كخطاب بين متكلمين، به أصوات متعددة، الصوت الإلهي، وصوت النبي عليه السلام، وأصوات المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب. بل هناك «مود» ونمط، للخطاب، فالكلمة الواحدة تتعدد دلالتها في الخطاب حسب «مود» الخطاب، وهذا التعدد يتم اختصاره وتحجيمه، في حالة تحويل الخطاب إلى نص مكتوب.
في نهايات القرن الماضي تركزت عدسة نصر أبو زيد القرائية، من تركيزها على قراءة الخطاب العام السائد، ومن التركيز على تجلي هذا الخطاب العام، في الخطاب الديني؛ ليركز بؤرة عدسته على القرآن بالتحديد وعلى التعامل معه. وبدأ يتبلور هذا في محاضرته لكرسي «كليفرنجيا» للحريات في نهايات عام ألفين عن: «القرآن كتواصل بين الله والإنسان». فيها عاد إلى سؤال: ما القرآن؟ مركزا على البعد الرأسي من عملية التواصل بين الله والإنسان وطبيعتها؛ فالمسلمون اتفقوا على أن القرآن «كلام الله الذي أوحي به إلى النبي محمد باللغة العربية على مدار ثلاثة وعشرين عاما»، وإن اختلفوا فيما بينهم إن كان هذا الكلام قديما أم مخلوقا/محدثا. لكن أبو زيد بدأ مما هو متفق عليه. فما هو متفق عليه يحتوي على عناصر ثلاثة: كلام الله، ثم القرآن، فالوحي. وكلام الله لا نهاية له، والقرآن أحد مظاهر كلام الله. والعنصر الثالث الوحي: هو قناة الاتصال من الله إلى البشر، وقد تحدث القرآن عن أشكال ثلاثة لوحي الله إلى البشر. لقد انتقل نصر من السؤال القديم حول: هل القرآن قديم أم مخلوق؟ إلى سؤال: ما هو القرآن، وما هي طريقة التواصل التي تم من خلالها، وما هي طبيعتها؟ فالقرآن حسب تصورات المسلمين عبارة عن رسالة إلهية من الله إلى البشر. وأيضا للقرآن لغة تتجسد من خلالها هذه الرسالة الإلهية؛ فاللغة العربية ببشريتها يستخدمها القرآن بطريقة خاصة؛ لإيصال رسالته من خلال تركيبة معينة وبنية مميزة في استخدام هذه اللغة البشرية. الإلهي يتجلى في الإنساني، حسب قوانين عمل الإنساني، ولكن بطريقة خاصة، هي التي تجعل للقرآن لغته، أو طريقة خاصة في نظم اللغة العربية.
وأخذ أبو زيد في نقد طرق تعامل المسلمين مع القرآن قديما وحديثا، مما تجلى في مشاركته في الاحتفال بمئوية الكواكبي (1849-1902م) في دمشق عام ألفين وثلاثة 2003م دراسة لمدرسة التأويل الأدبي للقرآن، التي امتد بها أبو زيد وبجذورها إلى المعتزلة والفلاسفة المسلمين وإلى جهود عبد القاهر الجرجاني (ت 471/1107ه)، إلى صورتها الحديثة في جهود محمد عبده (1848-1905م) وجزئيا طه حسين (1889-1973م)، فمدرسة الشيخ أمين الخولي (1895-1966م)، وتلاميذه: محمد أحمد خلف الله (1916-1998م)، وشكري عياد (1921-1999م)، وعائشة عبد الرحمن (1913-1998م)، واقفا على المعضلات التي تواجه هذه المدرسة الذي يعد نصر نفسه إحدى حلقاتها. وفي ندوة باريس بنفس العام قدم ورقة: «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، استكمل نقد الجهود المعاصرة في التعامل مع القرآن، من محمود محمد طه (1909-1985م) في السودان، والذي حاول التمييز بين رسالتين في الوحي؛ رسالة أصلية هي الرسالة المكية ، وأخرى مدنية. وأشار نصر إلى أن إشكال طه أنه يفهم علمي المكي والمدني والناسخ والمنسوخ من علوم القرآن خارج إطار التاريخ الاجتماعي، والسياسي، والثقافي للمسلمين، ومحمد شحرور (ولد 1938م) في سوريا رغم اختلاف أسلوبه عن محمود طه، فهو يرى أن المصحف يحتوي على جانبين؛ جوهر ثابت هو القرآن ومصدره النبي، وهو المتشابه الذي يحتاج إلى الراسخين في العلم؛ لفهمه وتأويله، والجانب الآخر هو الواضح، التاريخي المؤقت، القابل للتطور. إلا أن شحرور يتعامل مع اللغة ككائن هلامي بلا معجم تاريخي ولا دلالات استعمالية، مما يجعله يستنطق المصحف بمعان ودلالات محددة سلفا. وجمال البنا (1920-2013م)، الذي يميز تمييزا حادا بين الإسلام والمسلمين، من حيث ثبات وتعالي الإسلام الذي تم تلويثه من خلال اختلاط المسلمين بالحضارات القديمة، ويتعامل مع النصوص على أنها بلا سياق إنساني، وأنها مفارقة للتاريخ والثقافة الإسلامية، مما جعل قراءته انتقائية. وخليل عبد الكريم (1930-2002م) بمصر، الذي انشغل بالنقد التاريخي، والذي لم يتجاوز عنده منهج نقد الرواية التراثي، ويوظفها لأغراض براجماتية، مما يوقعه في انتقائية واضحة للنصوص التراثية، فيهمل ما يتعارض مع أهدافه، إلى حسن حنفي الذي ولد (1935م) من مصر، وفضل الرحمن (1919-1988م) من باكستان، وتأكيدهما على الدور الإيجابي للنبي في عملية الوحي. إلا أن سؤال كلام الله وطبيعته ظل غائبا عن جهودهم.
لمس نصر أبو زيد بصورة عامة ما ناقشه في محاضرته السابقة، بحثا عن منهج إسلامي جديد للتأويل. إن «تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يكون تجديدا ناجزا إذا ظل التعامل مع النصوص التأسيسية - القرآن والسنة - ينطلق من نفس الأسس اللاهوتية/الكلامية، التي استقرت في الفكر الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري/العاشر من الميلاد. فبدون الاستعادة للسؤال المغيب والمحبط والمكبوت، سيظل التأويل أداة لقراءة الحداثة في النصوص، لا لفهم النصوص لذاتها». ولمس أبو زيد سؤال ما معنى أن القرآن كلام الله؟ وأسئلة أخرى تتفرع عنه، مثل: طبيعة الوحي وكيفيته، وما إذا كان تواصلا باللغة أم تواصلا بالإيحاء والإلهام؟ وبعد عرض جهود السابقين في الجانبين مال هو إلى أن القرآن كوحي، كان تواصلا بالإيحاء والإلهام. وانتقل من النظر إلى القرآن كنص، التي دعا وأصل لها إلى النظر إلى القرآن كنصوص؛ لطول سنوات الوحي وتعدد المناسبات والوقائع المرتبطة بأحداث في الواقع ، مما جعل القرآن في تركيبة بنيته مجموعة من النصوص ذات سياقات.
4
في السابع والعشرين من مايو عام ألفين وأربعة، في محاضرته كأستاذ كرسي ابن رشد في جامعة الإنسانيات «بأوتريخت» التي اختار لها عنوان: «إعادة تعريف القرآن». انتقل نصر من تركيزه على المحور الرأسي في عملية التواصل بين الله والإنسان عن طريق التواصل وحيا بالنبي عليه السلام، التي تناولها في محاضرته عند اعتلائه كرسي الحريات بجامعة لايدن، فهو هنا استكملها في محاضرته هذه بالتركيز على الجانب الأفقي، لهذا التواصل بين الإلهي والإنساني، ليس بالمعنى التقليدي لهذا التواصل بالطريقة التي تم الاهتمام بها عند التراثيين من حيث الاهتمام بعملية جمع وتدوين القرآن بمراحلها المختلفة، على أهميتها، ولا أيضا بمعنى عملية التبليغ من النبي الكريم للرسالة، ودور المتلقين لهذه الرسالة فهما وتفسيرا وتأويلا. فكل هذا على أهميته كان هو ما استقطب جهود الكثيرين، إلا أن نصر أبو زيد عني بالجانب الأفقي؛ ذلك الجانب الرابض المتضمن في بنية وتكوين القرآن الذي يظهر في عملية التواصل، والذي يمكن إدراكه إذا انتقلنا من التركيز على القرآن كنص مكتوب، إلى التركيز على القرآن كخطاب، بالتركيز على الظاهرة القرآنية بتعبير محمد أركون، الظاهرة القرآنية قبل تدوين القرآن في كتاب. ففارق بين القرآن/المصحف، الصامت، وبين القرآن/الخطاب، الناطق.
بالتركيز على القرآن كنص فقط، أطلق الباب واسعا لعملية التأويل وإعادة التفسير، وأيضا تتيح الاستخدام الأيديولوجي المغرض ليس فقط لمعاني القرآن، ولكن التقسيم الأيديولوجي للبنية القرآنية ذاتها متخفية وراء رؤى لاهوتية/كلامية، في سبيل البحث عن وحدة المضمون والمحتوى القرآني؛ مما أخرج قراءات موجهة أساسا، أيديولوجيا القارئ والمؤول، السياسية أو الثقافية أو العقيدية أو المذهبية. التركيز في التعامل مع القرآن كنص فقط، ينتج تأويلية شمولية أو تأويلية سلطوية، كلتاهما تزعم إمكانية الوصول إلى الحقيقة المطلقة. وما ساد تراثنا في التعامل مع القرآن كنص فقط يمكننا الكشف عن معناه بالتحليل الفيلولوجي/البنيوي كما فعل المتكلمون/اللاهوتيون من خلال مفاهيم المحكم والمتشابه، والفقهاء من خلال مفاهيم مثل الناسخ والمنسوخ. وهما النسقان اللذان سادا تاريخنا وما زالا حتى الآن في التعامل مع القرآن، وأديا إلى تحويل القرآن إلى ساحة نزاع أيديولوجي ومذهبي، أدى إلى التلاعب بمعانيه لأهداف تبريرية لا تخلو من نوايا حسنة. وكثير مما بدا للمتكلمين والفقهاء تناقضا واحتاج منهم إلى منهج تأويلي لحله، ما هي إلا مواقف وترتيبات لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى سياقها الخطابي، سياق التحاور والتساجل والجدال والاختيار والرفض، سياق الخطابات وليس سياق النص.
ودعا أبو زيد إلى تأويلية إسلامية جديدة للتعامل مع القرآن، تأويلية منفتحة تربط المعنى الديني والبحث عنه بمعنى الحياة، معنى الحياة بطبيعته الإنسانية القائمة على الاختلاف والتعدد البشري، تأويلية تخرج من سجن التركيز فقط على الطبيعة النصية للقرآن وما يستدعيه مفهوم النص من أنه بنية مستقلة ومؤلف وقصد للمؤلف وسياق تأليف وقارئ ضمني متصور، وتناص ووحدة للنص. ومفهوم النص يغذيه علوم كعلم الكلام/اللاهوت والفلسفة والفقه؛ لأنها تركز على المؤلف وعلى مقصده. وفي هذه الحالة تكون أداة التأويل هي المجاز، والمجاز يتعامل مع الكلام على مستوى الجملة. وهذا يشير إلى أن انفتاح المعنى عند الصوفية، حدث بانتقالهم إلى مفهوم الرمز، وتركيزهم على دور المتلقي للنص، وتجربته في اكتشاف دلالات ومعاني القرآن. وأصبح القرآن والكون كتابين من الله إلى البشر، وكذلك انفتاح واتساع المعنى القرآني عند المحدثين بالانتقال من مفهوم المجاز إلى مفهوم التمثيل والتصوير عند محمد عبده أو عند أمين الخولي وسيد قطب. لكن أبو زيد طالب بالالتفات للطبيعة الخطابية المنطوقة للقرآن، وضرورة التحليل الخطابي للقرآن أولا. ففي تحليل الخطاب نبحث عن متكلم وليس مؤلفا، وتعدد أصوات المتكلمين - طبعا القرآن كله كلام الله - لكن تظهر من خلاله أصوات متعددة، صوت النبي، أصوات المشركين، والمؤمنين، والمنافقين وأهل الكتاب. وهناك مخاطبون، مخاطب مباشر هو النبي عليه السلام ومخاطبون ضمنيون، وهناك «مود» خطاب ونمط خطاب سواء؛ تهديد، بشرى، تقرير، اعتراض، نفي، إزاحة ... إلخ. وبعد تحديد بنية الخطابات القرآنية ووحداتها الخطابية، نشرع في التحليل النصي لهذه الوحدات؛ فكل خطاب نص وليس كل نص خطابا.
في محاضرته الرابعة كباحث مقيم بمكتبة الإسكندرية، في الثلاثين من ديسمبر 2008م، وكانت بعنوان «إعادة تعريف القرآن»، بعد محاضرة عن التأويل اللاهوتي وأخرى عن التأويل البلاغي، وثالثة عن التأويل الصوفي، عرض أبو زيد لأهمية الانتقال من التركيز على الطبيعة النصية للقرآن إلى الطبيعة الخطابية. وأعطى نماذج وأمثلة لذلك، وكيف أن العديد من المشكلات التي اختلف فيها أجدادنا، لها إجابات من خلال هذه النقلة، إلا أنه أضاف مفهوما قد شغله ونقطة بحث يعمل عليها وهي عن «الرؤية القرآنية للعالم»، والتي تناولها بعد ذلك في محاضرته الافتتاحية لمؤتمر: «السياقات التاريخية للقرآن» الذي انعقد في شهر إبريل 2009م جامعة «نوتردام» الأمريكية، ومحاضرته بجمعية ألوان الثقافية بنيويورك بعدها بيومين. وكان السؤال الذي يشغله هو: هل يمكننا من كل هذه المداخل المختلفة التي تعاملت مع القرآن، هل توجد رؤية كلية للعالم داخل الخطاب القرآني تتشكل من هذه المداخل، ومن التعامل مع القرآن في بنيتيه؛ بنية ترتيب التلاوة الحالي، وكذلك بنية ترتيب النزول على مدى أكثر من عقدين من الزمان؟ وهذا هو السؤال الذي تركنا نصر أبو زيد وهو يفكر فيه، تركنا لكن يظل سؤاله حيا يقف أمامنا ويواجهنا. (2) عقد ونصف في عقل أبو زيد
وجدته بمدخل الفندق
2
الذي ينزل به في نيويورك الساعة الحادية عشرة صباحا، لكنه قد استيقظ منذ عشر ساعات على الأقل. كان كريما ومرحبا بحفاوة ابن البلد، يشعرك دائما بالقرب والحميمية في اللقاء. جلسنا وكان معي جهاز التسجيل وبادرته قائلا: دكتور نصر، ما بين عام 1992م، وكتابتك لمقال «مشروع النهضة ما بين التوفيق والتلفيق»، احتفالا بمرور مائة عام على صدور مجلة «الهلال» القاهرية، ونظرتك وتحليلك لمشروع النهضة وأزمته وسقوط معادلة النهضة بهزيمة 1967م، ومحاضرتك التي ألقيتها في جمعية ألوان الثقافية في نيويورك باللغة الإنجليزية ليلة أمس، عن مشروعك الذي أنجزته لدراسة مشروع تيار الإصلاح في العالم الإسلامي، فما بين 1992م و2007م، خمسة عشر عاما، فهل يمكن أن تحدثني عن التغيرات التي حدثت في منهج الباحث وفي أدواته ونظرته؟ وماذا حدث لعدسة المفكر، أريد الجانب الداخلي من الباحث وللفكر عند أبو زيد؟ - على مستوى مشروع النهضة، أنا أعتقد أن هذا المقال سنة 92، كان بداية الوعي بضرورة نقد مشروع النهضة من الناحية الفكرية، وما حدث بعد 92 اتسعت العدسة. إني أستطيع أن أرى مشروع النهضة على مستوى العالم الإسلامي كله. 92 أنا كنت مشغولا على مستوى مصر، بعد 95 وما تلاها فأنا على صلة أكثر بما حدث خارج مصر، بما حدث في الهند، وفي جنوب شرق آسيا، وأماكن أخرى من العالم.
وبالتالي فالدراسة التي نشرت عام 2006م وهي
The reformation of Islamic thought «تيار الإصلاح في الفكر الإسلامي» هي محاولة لتغطية هذا الموضوع. ففي الفترة من 92 إلى 2007م كان فيه أبحاث؛ أبحاث صغيرة في مؤتمرات ونقاشات. إنما كان السؤال باستمرار هو: ما هي معوقات مشروع النهضة من الناحية الفكرية؟ هناك طبعا معوقات سياسية ومعوقات اجتماعية ومعوقات كثيرة، لكني مشغول بالمعوق الفكري. ليه العجز عن إنتاج وعي علمي بالتراث؟ كما أشرت في مقال 92 وهنا حدث تطور؛ أني أدركت أنه تم بالفعل مناقشة جميع الأمور تقريبا وكثير من الأمور أصبحت محسومة، وأنا هنا أتحدث عن الخطاب الثقافي، وليس الخطاب الإعلامي، لكن في كل هذا النقاش والنقد في هيكل مثلا (محمد حسين هيكل) كان فيه محاولة كتابة سيرة النبي من منظور تاريخي، لكن كان فيه طول الوقت الهاجس الدفاعي. الاستشراق هنا كمعادل فكري للاستعمار كان يمثل تحديا. الاستجابة لهذا التحدي أخذ طابعا اعتذاريا أكثر ما هو طابع معرفي. كما تقول الآن باستمرار إن الإسلام دين المحبة والسلام؛ لأن هناك هجوما على الإسلام. وهذا ما أسميه المنهج الاعتذاري؛ أنك «ترد». أو المنهج السجالي، فتقول له: طيب ما هو دينك فيه عنف، وكذا، وكذا، ففيه السجالية والاعتذارية. هما وجهان لحقيقة واحدة؛ أن تطور المعرفة لا يتم نتيجة لتطبيق منهج نقدي.
وبدأت أركز في مشروع النهضة من عموميتها، إلى مشروع النهضة في تعامله مع القرآن. إن هذا مؤشر مهم جدا جدا، طبعا فيه إنجازات هايلة عملها مشروع النهضة؛ محمد عبده، وفيه إنجازات هامة في تناول الشيخ أمين الخولي في تعامله مع القرآن، فيه إنجازات في تناول محمد أحمد خلف الله في القصص الفني في القرآن. هذه الإنجازات كلها مبنية على الأساس اللاهوتي الكلاسيكي التقليدي باستثناء محاولة محمد عبده، في محاولة تبنيه مفهوم المعتزلة في خلق القرآن في الطبعة الأولى من كتاب رسالة التوحيد، فيه كلام كثير أن رشيد رضا هو من غير؛ لأن الطبعة الثانية خرجت من دار المنار. ليست هذه القضية، لكن القضية أنه كان فيه خطورة في تناول هذه القضية، هذه الخطورة ما تزال موجودة، وما يزال مفهوم القرآن أنه: كلام الله الأزلي القديم، ما يزال مفهوما لم يتم إعادة النظر فيه، إعادة التفكير فيه، وبالتالي كل محاولات التفسير تظل مبنية على نوع من حسن النية. وتظل الإنجازات القائمة على حسن النية، والتي لا تقوم على منهج نافذ، يمكن الالتفاف حولها والعودة للتفسير القديم، بدليل أننا في القرن الواحد والعشرين نناقش نفس القضايا؛ المرأة، الزواج، الطلاق، ودخلنا في الحجاب والنقاب، يعني مشكلات كنا ظننا أنها قد أصبحت في عداد الماضي، مما يعني أن هذا الخطاب الإصلاحي في مجال التفسير والتأويل قد حقق هذا الإنجاز، ولكن ليس على أساس منهجي صامد.
هناك أسباب أخرى كما قلت، فأصبح السؤال عندي: كيف نتجاوز هذه الأزمة؟ وأنا أدركت إن أنا نفسي في حياتي كلها كنت طرفا في هذا. يعني محاولة فتح معنى النص القرآني بدون أن يكون انفتاح المعنى هذا مؤسس على إعادة صياغة لماهية مفهوم هذا النص، لطبيعة هذا النص؛ لأنه إذن محاولة فتح المعنى دون توسيع أفق لفهم هذا الإطار الذي نسميه القرآن يصبح فتح المعنى معتمدا على ما نسميه النوايا الحسنة، على ردود الأفعال. من هنا طورت نقدي مثلا لمسألة القرآن وحقوق المرأة والنسوية الإسلامية ... إلخ. إنه في النهاية محاولات تركز على جانب من القرآن وتتجاهل جانبا آخر. والمسئولية العلمية ألا تتجاهل بعدا من الأبعاد، وهذا ما جعلني في السنوات الاخيرة أن أعيد النظر في المفهوم الذي بدأت العمل فيه، وهو أن القرآن نص، وبدأت أعيد النظر في هذا المفهوم. فمشكلة التعامل مع القرآن كنص، أننا سنظل نخوض المعارك كلها على أرضية النص، فيصبح النص كما قلت في دراستي للمعتزلة «الاتجاه العقلي في التفسير» أنه أصبح القرآن مجالا للصراع الفكري، يمكن ينطق بما يشاؤه المفسر.
أصبح السؤال: كيف نخرج من هذه الأزمة؟ السؤال إذا لاحظت موجود من سنة تسعين في كتاب مفهوم النص؛ أي: كيف نخرج من التأويلات الأيديولوجية للدين؟ تقدر تقول إن عملي استمر في مجالين؛ في مجال تحليل تاريخ التفسير في العصر الحديث، دراسة إنجازات عصر النهضة وإخفاقاته، والوصول إلى اقتراح حلول. هذه الحلول فيما يرتبط بالقرآن هي: ما أزعمه أن القرآن ليس نصا، إنما هو مجموعة من الخطابات. وهذا مهم جدا حتى نفهم الاختلافات فيه والإمكانيات فيه التي يمكن أن تكون إمكانيات لتفكير سلفي تقليدي، وأن تكون إمكانيات لتفكير ليبرالي تقدمي. - ممكن أن نقف وقفة هنا عند: ما هو الفرق بين نص وخطابات أو خطاب في المفهوم؟ - أولا نفرق بين الخطاب والخطابة، فالخطاب ليس الخطبة. النص يفترض نسقا، متكاملا لغويا، له بناء، وأن فيه مؤلف، وأن هذا المؤلف هو الذي بنى هذا النص، وأنه أعاد النظر فيه، مثل أي مؤلف حينما يؤلف، يحاول أن يجعله خاليا من التغيرات والاختلافات والتناقضات، وهنا يكون المؤلف. فأنا هنا أدرس المؤلف وأدرس النص نفسه، وأبحث عما يسمى القارئ الضمني في النص. الخطاب أكثر تعقيدا من النص، طبعا كل مشكلات النص توجد في الخطاب، لكن ليست كل مشكلات الخطاب توجد في النص. الخطاب هو مسألة فيها كثير من الحيوية، فيه متحدث وليس مؤلف، وفيه مخاطب، والمخاطب يمكن أن يكون مخاطبا مباشرا، ومخاطبا غير مباشر، وهناك أيضا نوع (نمط - مود). الجملة الواحدة خطابيا ممكن يكون لها معان كثيرة كما قال أهل البلاغة؛ لأنهم كانوا يتكلمون عن الخطاب الشفوي؛ يعني مثلا التنغيم يعطي معاني مختلفة، يعني في الخطاب مثلا: تأكل حاجة حلوة فتقول الله، هذه لها معنى، إنك تكون غضبان وتقول: «الله» (بحدة قالها) هنا لها معنى ثان، مع أن الكلمة واحدة في النص، الخطاب يعمل تنغيمات، هذه التنغيمات تخلق «مود».
القرآن به أنواع من الخطابات، حينما أتعامل مع القرآن كنص، لا تلاحظ هذه الخطابات. في أماكن معينة من التفسير الكلاسيكي كان فيه وعي بهذا، ولكن لم يكن وعيا كاملا، وعي جزئي. بأنه الأمر هنا ليس أمرا، وإنما تهديد مثلا، وأن الاستفهام هنا ليس استفهاما وإنما استفهام بلاغي يعني إنكار. ولكن هذا كان على مستوى الجملة؛ إنجازات علم البلاغة العربية على مستوى الجملة، وليس على مستوى أوسع، مستوى الخطاب. علم تحليل الخطاب يساعد كيف نوسع هذه المجالات؟
ممكن أن نعطي مثالا يوضح ما المقصود بالخطاب. مثلا
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، خصوم المعتزلة قالوا: إن الله هو الذي يتصرف في كل شيء، إن ربنا إذا أراد أن يهلك قرية فهو الذي يأمر المترفين أن يفسقوا من أجل أن يدمرها، وهنا واضح أنه في نوع من الحتمية، القدرية الحتمية. المعتزلة طبعا ارتبكوا كثيرا، فقالوا إن «أمر» هنا، ليست من أمر يأمر، إنما أمر يعني أكثر عددهم، ولما يكثر المترفين، يفسقوا، لكنهم لم يحلوا المشكلة؛ لأن ربنا هو الذي أمرهم في النهاية. ففي النهاية فيه حتمية، وفيه جبر، لكن بتحليل الخطاب هنا الآية تهديد، «مود» الخطاب تهديد، ولا يمكن أن يؤخذ أن القرآن يطرح قضية لاهوتية، فهنا غاب في الجدل السجالي بين اللاهوتيين، غاب إدراك ما يسمى نوع الخطاب.
كثير من النماذج القرآنية لا بد أن ننظر على نمط الخطاب، هل هو وصفي، هل هو تهديدي، هل هو وعدي، هل هو ابتهالي؟ ابتهال بمعنى
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة ... إلخ القرآن مليء بالنصوص الابتهالية، المتحدث فيها الإنسان وليس الله، هذا جانب.
إني أبحث عن: من المتكلم، ومن المتكلم هنا ؟ ليس كما يقول بعض الناس إني أقول إن القرآن له مؤلفون كثيرون، لا، لكن ما هو الصوت؟ وكلمة صوت ليست بالضرورة بالمعنى الذي يفهمه الناس. عندي تعدد في الأصوات في القرآن، عندي الصوت المقدس، طبعا موجود، موجود أحيانا بصيغة المفرد
إنني أنا الله لا إله إلا أنا ، وموجود في بعض الأحيان بصيغة الجمع. لكن موجود في معظم الأحيان أيضا بصيغة الغائب، وموجود بصيغة المخاطب في الابتهالات، وضمير المتكلم موجود في القرآن. إذن أنا عندي نص متعدد الأصوات. صوت المجتمع موجود في هذا النص ليس كنوع من الاقتباس، ولكن كنوع من إعادة الإنتاج، كل اتهامات المشركين وأهل الكتاب التي قالوها ضد محمد موجودة في القرآن.
هذا معناه أن هذه البنية بنية خطاب. الخطاب: أن المتحدثين يخاطب بعضهم بعضا بأنماط مختلفة من الحديث، هذا معنى الخطاب وهو أعقد من النص. إحنا عارفين إن القرآن كان ظاهرة متداولة قبل أن يوضع في كتاب. السؤال هنا: ألا يجب أن نعود إلى الظاهرة المتداولة؟ وليس معنى هذا أننا نقول: نلغي المصحف. بعض الناس تفهم الكلام بطريقة بشعة، كأنك تقول نلغي المصحف، لا طبعا. أنا أتكلم عن الدراسة، الدراسة تراعي الظاهرة التي يسميها أركون - محمد أركون - الظاهرة القرآنية. الظاهرة القرآنية ظاهرة شفاهية، ظاهرة مكونة من خطابات في سياقات مختلفة لمخاطبين مختلفين ليس فقط المخاطب من مكة والمدينة، لكن حتى داخل مكة فيه أكثر من مخاطبين، وداخل المدينة فيه أكثر من مخاطبين. ردود أفعال المخاطبين منعكسة في النص. كل هذه الحيوية أفقدها إذا نظرت للقرآن كنص، أو لو نظرت للقرآن أنه إما أوامر بالفعل أو أوامر بعدم الفعل، فيختصر القرآن في حلال وحرام ... إلخ.
عندي جانب من الخطاب القرآني مهمل تماما من الدارسين المسلمين، وهو الجانب المرتبط بصورة الكون، يعني صورة الكون والسماء والأرض والجبال، كلها صور كونية مطروحة في القرآن في سياقات خطابية مختلفة لا تدرس. يعني كيف أن القرآن حول الظاهرة الطبيعية إلى علامات بالمعنى السيموطيقي مثلا. لا توجد دراسات من هذا النوع، إحنا معنيين بحاجات غريبة جدا جدا، نتصور أن الإسلام مختصر فيها، وبالتالي لا نستطيع أن نصل إلى ما يسمى رؤية العالم في القرآن؛ لأنها محتاجة إلى أن ندرس القرآن من خلال هذا التجلي الخطابي باستمرار. أنا أعتقد أن التعامل مع القرآن كخطاب بيكشف درجة عالية من الغنى والخصوبة مفتقدة في التعامل مع القرآن كنص، ويحرر القرآن من كثير من المعاني التي فرضت عليه طوال تاريخ التفسير من خلال صراعات سياسية وصراعات اجتماعية بين الجماعات الإسلامية المختلفة. المسلمون ليسوا كتلة واحدة وعمرهم ما كانوا كتلة واحدة، ولا حتى الصحابة كانوا كتلة واحدة. وهذا كله مشكلة أنك تقول إن الصحابة لم يكونوا كتلة واحدة. كل ما أقرأ القرآن أكتشف أنه حتى بين الجيل الأول تيارات واتجاهات، وليس فقط المنافقين والمؤمنين والكافرين وأهل الكتاب، وإنما حتى داخل المؤمنين فيه أصوات مختلفة، تحليل الخطاب ممكن يكشف عنها.
أدركت أنا بالضبط ما معنى ما يقوله دكتور نصر أبو زيد عن الفرق بين النص وبين الخطاب؛ فعندما جلست لتفريغ هذا التسجيل معه، لكي يكتب كنص، فأنا أحول خطابه المنطوق إلى نص. فلهذا الحوار سياق يمكن أن يشعر القارئ ببعض منه سواء في الحوار ذاته أو ما أشير إليه أنا من سياق بكلماتي. لكن النص لا يظهر هذا السياق. فمثلا لا يظهر النص أن الحوار تم على أجزاء وأماكن مختلفة خلال نفس اليوم، أو أن أبو زيد كان في زيارة قصيرة إلى نيويورك، وبرودة الطقس وتأثير البرد على نبرة صوت أبو زيد. ولا يدرك قارئ النص مدى إرهاق أبو زيد من فرق التوقيت بين أوروبا وأمريكا، قد يدرك القارئ من النص أنه ألقى محاضرة عن تيار الإصلاح في الفكر الإسلامي، باللغة الإنجليزية منذ ليلتين، لكن لن يدرك أنه ألقى محاضرة في جامعة كولومبيا بعدها بيوم عن «الجدل بين مفكري العرب والمسلمين الأوائل وبين اللاهوتيين المسيحيين»، وأنه على موعد بعد ساعة من بداية حوارنا، وأن جزءا من الحوار كان في مدخل الفندق، وصوت ماكينة التنظيف تنظف غرفته، ونحن ننتظر ونتحدث . قد لا يكون لكل هذا صلة، ولا تأثير لها على معاني النص، لكن كل هذا كان في وعيي وأنا أحاوره.
لكن الجانب الذي أدركته بشدة هو صوتي أنا وتدخلي في كتابة النص وفي تشكيل معانيه؛ فرغم أنه كلام نصر أبو زيد كخطاب منطوق، فأنا حين كتبته نصا فأنا الذي اخترت مكان الفاصلة والنقطة، واخترت بداية الجملة ونهايتها، واخترت بداية ونهاية الفقرة، وكل هذا يشكل في معاني الكلام هنا، بل أنا استبدلت كلمات بكلمات لكي يستقيم النص بخلاف الكلمة التي نطقها أبو زيد في التسجيل؛ مما يشكل ويغير في المعاني. لاحظت أيضا أننا حينما نتحدث، نكرر كثيرا في الكلمات والعبارات، وفي الأفكار أيضا؛ لأننا نعتمد على الذاكرة في حالة الشفاهية، ويقل هذا التكرار حينما نكتب.
ودكتور نصر أبو زيد له «لازمة» لفظية في كلامه يكررها باستمرار في حديثه: «واخد بالك»، يكررها تقريبا نهاية كل جملة مفيدة أو فقرة، لم أكتب أيا منها في النص. واستخدام كلمة «مش» دائما في اللهجة المصرية غيرت بعضها، واستبدلت بعضها لتتناسب مع الكتابة. صيغة السؤال الذي طرحته عليه وجدت أن السؤال يمكن أن يصاغ بطريقة أفضل تتوافق مع نص مكتوب، وكنت في حيرة: هل أغير في كلمات السؤال، دون أن تغير في المعنى أو أتركها كما هي؟ فرغم أن هذا خطاب دكتور أبو زيد إلا أنه نصي، إن كان صوته هو الظاهر والواضح، فبطريقة أو أخرى صوتي موجود، فأدركت ماذا يعني بالأصوات والخطابات في القرآن، ومدى التحول في المعنى بالانتقال من خطاب إلى نص، والعكس. ونعود إليه، وإلى خطابه. - ما الهدف للانتقال من نص إلى خطاب؟ - كشف المعنى في سياقه التاريخي، وبالتالي يمكن الوصول إلى: هل هذا المعنى في سياقه التاريخي قادر على مخاطبة العصر الذي نعيش فيه وإلى أي حد؟ ما هي الصلة بين المعنى التاريخي وبين المغزى المعاصر؟ ولا تبقى المسألة مزاج المفسر؛ مفسر تقدمي فيخرج كل شيء تقدميا؛ مفسر ماركسي فيطلع كل حاجة ماركسي، مفسر محافظ؛ يعني إخضاع القرآن للأيديولوجيا، هذا هو تاريخنا . إنما النظر للقرآن في بنيته التاريخية وتكوينه وشكله هو الذي قد يحمي القرآن من أن يصبح موضوعا للسجال الأكاديمي، أو هو على الأقل الأمل المنوط به.
في النهاية، هذا ليس تجزيئا للقرآن؛ لأن البعض يتصورك أنك ستحول القرآن إلى أشلاء . لا، ليس تجزيئا للقرآن إنما الدراسة هنا تجزيء من أجل التحليل. لا تستطيع أن تحلل نصا إلا إذا جزأته إلى أجزائه الطبيعية. الأجزاء الموجود عليها القرآن الآن، والمتأكدون منها أن هذا الجمع وتلك الأجزاء مختلفة عن حالة التداول التي كان عليها النص. ونحن لا نشكك في شيء أو نقول بترتيب جديد ففيه درجة عالية من العبث في حياتنا الثقافية. هناك فرق بين الدراسة وبين القرآن الذي تلقاه المسلمون على هذا الشكل، هو هيظل القرآن الذي تلقاه المسلمون، لكن البحث العلمي من حقه، كما كان المفسر القديم يفرق ما بين المكي والمدني، وبين ما نزل قبل وما نزل بعد، وبين الناسخ والمنسوخ. من حقي كباحث حديث أن أرجع إلى هذا السياق بغرض الدراسة، لكني لا أقول يا إخوان رتبوا القرآن كما كان منزلا. محاولات ترتيب سور القرآن محاولات مشروعة للدراسة وليس للتلاوة في المساجد، لكن التمييز بين دراسة القرآن وبين تلاوة القرآن للأسف الشديد ليس مدركا في الوعي العام. إن الدراسة لها وسائل ولها أساليب تختلف عن تناول العابد أو المصلي في المسجد أو في البيت، هذا ما حصل خلال هذه السنوات.
إذا لخصته تاني: أنه أصبح عندي وعي بالمشكلات أكثر اتساعا من مشكلات الجدل في مصر أو في العالم العربي، أصبح عندي إدراك أوسع بمشروع الإصلاح في العصر الحديث ومشكلاته ليس فقط في مصر والعالم العربي ولكن على مستوى أوسع. طبعا المشكلات التي نتناقش فيها في الغرب من غير ما أكون في الغرب ما كنت انشغلت كثيرا بقضايا الهجوم على القرآن الهجوم على الإسلام، ومحاولة وضع القرآن والإسلام في معنى واحد، هو نفسه الذي تحاوله القوى التي نسميها الرجعية أو السلفية أو المتزمتة. إحنا محتاجين طول الوقت كمسلمين أن ننخرط في البحث العلمي والدراسة العلمية عن القرآن، وألا نترك ذلك لغير المسلمين. وطبعا أنا لا أقلل من عمل غير المسلمين، لكن أقول إنه قد آن الأوان أن ننخرط في ذلك، ونميز بين التعامل مع القرآن من منظور إيماني والتعامل معه من منظور بحثي.
ثنائية الشرق والغرب - فيه نقطة هنا، في دراستك التي كتبتها سنة 92، فقد وصلت إلى أن خطاب النهضة مسكون بالآخر الغربي، بعد خمس عشرة سنة، أنت أقمت الإحدى عشرة سنة أو أكثر الأخيرة في الغرب، فنظرتك أنت للغرب كباحث، ونصر أبو زيد: هل حدث نوع من التغيير أو تطور أو نمو في نظرتك وفهمك ومفهومك للغرب؟ طبعا أنت زرت من قبل كدارس وكباحث، لكن تأثير الإقامة المستمرة. - ما يحصل أنه حتى من البداية، تفكك مفهوم الغرب، لا يوجد حاجة واحدة اسمها الغرب، تقدر تصدر عليها أحكام، على الأقل في أوروبا وفي أمريكا الشمالية «ما تقدرش» تعمم حكم، داخل أوروبا فيه تعدد. وبعدين لما تقول الغرب، الغرب السياسي أم الغرب الثقافي؛ الغرب ليس كتلة واحدة، ولما بتعيش فيه بتدرك أكثر وبشكل عملي فساد التصور بغرب واحد موحد تقدر أن تصدر عليه حكم، وتعمل عليه جملة مفيدة.
نفس الأمر بالنسبة للإسلام، المسلمون يتشاركون في مجموعة من العقائد ومجموعة من الشعائر. وراء ذلك المسلمون شعوب وثقافات مختلفة جنسيات وأعراق مختلفة، لو أنا ارتكبت نفس الخطأ الذي يرتكبه بعض المفكرين في الغرب. عندما يتكلمون عن العالم الإسلامي باعتباره كتلة واحدة، أنا طبعا عندي ناس في الغرب أعتبرهم أقرب لي من مثقفين في العالم العربي، وفيه مثقفين أعتبرهم خصومي، «زي» مثقفين في العالم العربي. يعني المسألة ليست غرب وشرق، أكثر ما هي أنا عقلية نقدية أم لا، هذا هو الملخص العام.
حتى لما تعيش في المجتمع الهولندي، المجتمع الهولندي ليس كتلة واحدة. لما تعيش في الولايات المتحدة؛ الولايات المتحدة ليست كتلة واحدة، إدراك هذا التنوع والتعدد فيما يسمى الآخر هذه نمرة واحد. نمرة اثنين: ما يسمى الآخر ليس خارج الأنا تماما. ولما قلت إن مشروع النهضة مسكون بالآخر، لولا الآخر ما كان يبقى فيه تفكير في النهضة أصلا.
دائما أحب أن أستخدم مجاز المرآة إذا جاز الاستخدام، الآخر هو المرآة التي أنظر فيها. فالأنا تدرك عيوبها، حتى والآخر هذا «يهاجمني» ويهاجمه، بدون الآخر الأنا «مش» موجودة. لا توجد الأنا في فراغ، الآخر هو الذي يحدد للأنا موقعها، إنها - يعني الذات - على الشمال أو اليمين من الآخر، فلا وجود لشمال ولا يمين، ولا فوق ولا تحت، حتى ثنائية الأنا والآخر فيها شيء من التزييف هائل تاريخيا وفلسفيا، لأنه تاريخيا هذه مشكلة معقدة جدا؛ يعني لما أقول أنا المصري، تاريخيا وثقافيا ورثت ثقافات من العالم كله، العالم القديم كله.
لا بد من تفكيك الأفكار التي يقول عنها أمين الخولي: «تجد خلاء من العقل فتستقر»، لا بد من تفكيك هذه الأفكار سواء المتصلة فلسفيا بالأنا والآخر، أو تاريخيا أو ثقافيا. إن ما أتصوره ثقافات أو رؤى للعالم مختلفة. هذا الاختلاف ليس اختلافا مطلقا، إنما هو اختلاف في نقاط اتفاق في نقاط أخرى، وإن عناصر كثيرة جدا من الثقافات متداخلة ببعضها البعض. يعني لولا الفكر اليوناني والهندي والإيراني والفكر القديم كله لا نقدر أن نتكلم عن حضارة إسلامية ولا فلسفة إسلامية، ولولا الفلسفة الإسلامية لا نقدر أن نتكلم عن النهضة في أوروبا.
نسيج حركة الفكر الإنساني في حركته التاريخية، حضارة بتموت لكن ما يتبقى من هذه الحضارة يتسرب في الحضارة التي ترثها، الآن إحنا لا نعيش في عالم حضارات، نحن نعيش في حضارة واحدة وفيه ثقافات. أي ثقافة معزولة بتموت مثل ثقافة الهنود الحمر «خلاص خلصت»، يعني هم موجودون في السينما الأمريكية، لكن هذه الثقافة تم امتصاصها في الثقافة الأمريكية الحديثة. لا توجد ثقافة تعيش وحيدة؛ أي ثقافة منعزلة عن الثقافات الأخرى فهي تحكم على نفسها بالموت، وهذا تصور نظري، أعتقد أن حياتي في الغرب لو صح هذا التعبير كما نقول، جعلتني أدرك بشكل أعمق أن أي تعميمات هي خطأ فلسفي وخطأ تاريخي.
الآن السؤال الذي يشغلني جدا: هل يمكن أن نعمل مصالحة بين العقلانية وبين التدين، أو مصالحة بين العلمانية وبين الروحانية بشكل عام؟ الأسئلة هذه ناتجة من انخراطي في الجامعة والتدريس والاحتكاك برؤى العالم المختلفة من خلال الجامعة، جامعة الإنسانيات. إن الرؤى المختلفة للعالم سواء نتكلم عن ثقافات يهودية، مسيحية، إسلامية، أو نتكلم عن «الهيومانيزم»، أو نتكلم عن الثقافات الهندية البوذية والكونفوشيوسية ... إلخ.
داخل هذه الثقافات على تعددها واختلافها إيمان أو بعد ما أعلى وأرقى في علاقة الإنسان بالكون، وفي علاقة الإنسان بالعالم الذي يعيش فيه، في العالم الآن وعي شديد جدا بالجريمة التي ارتكبها الإنسان في حق البيئة، وإلى أي حد التحدي الذي خلقه طمع الإنسان في البيئة، سيؤثر على الإنسان نفسه. هذا إدراك؛ لأن الإنسان ليس سيد الكون وإنما هو جزء من العالم، وكجزء من هذا العالم عليه أن يتعامل مع هذا العالم. هذا في جوهره فكر ديني، ليس بالمعنى اللاهوتي ولا بالمعنى المؤسساتي، وإنما أن الإنسان ليس وحيدا في هذا العالم، وأنه تربطه وشائج عميقة جدا بما هو وراء المنظور.
نأخذ أشكالا متعددة، الفن شكل من التواصل مع هذا المنظور، الشكل محاولة للوصول إلى وحدة العالم والإنسان. يعني مثلا استخدام المجاز في الشعر، ما هو المجاز؟ المجاز يربط عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم الطبيعة، حتى في الأمثلة القديمة حينما نقول إن «واحدة زي القمر» ليه احتجت إلى شيء طبيعي من أجل الكلام عن الجمال. هذا معناه أن فيه إدراك لصلة بين الكائنات؛ روح ما. وروح هنا ليس بالضرورة بالمعنى الديني، روح ما تربط هذا العالم، وكل ما الإنسان يدرك هذا الترابط كل ما يبقى إنسان أرقى، وكل ما ينكر هذا الترابط ويتصور أنه سيد العالم والمتحكم فيه أو عبد فيه أو أشياء أخرى تتحكم فيه، تقل مرتبة إنسانيته، يعني الإنسان يكتسب إنسانيته كلما أدرك هذه الروابط. هذا ما يمكن أن نسميه الروحانية، وهي جذر الأديان والإنسان بطبيعته من حقه أن يعيش في عالم مأنوس، وليس في عالم عدم.
هنا العقلانية المتشددة التي أسميتها العرجاء، وأحيانا أسميتها الليبرالية العوراء؛ لأنه الليبرالية هي التي تستبعد اتجاهات داخل نفسها، كأنك تحكم على إنسان أنه ليس ليبراليا؛ يعني فيه مفاهيم حداثية مثل العقلانية والليبرالية ممكن هي «كمان» تتحول إلى أديان بالمعنى السلبي لكلمة دين، أي تتحول إلى دوجما. المسألة التي تشغل كثيرا من الفلاسفة في العالم الآن، وشغلت الفلاسفة المسلمين، والمفروض أن تشغلنا أيضا، هي الصلح بين العقلانية والدينية، الصلح بين العلمانية وبين الإيمانية؛ بمعنى أن العلمانية التي تستبعد الروحانية هي بالضبط مثل الروحانية التي تستبعد العلمانية. بمعنى أن فيه نوافذ مختلفة وهي في النهاية نوافذ وليست أبوابا مغلقة، هنا أنا مضطر أستخدم المجاز مرة ثانية.
مشغول أنا بهذه القضية جدا جدا، ورائدي فيها ابن رشد، أنا في وقت من الأوقات كتبت عن ابن رشد أنه «تلفيقي». وأنا الآن أقول لا، ابن رشد لم يكن تلفيقيا، وبعض الناس قالوا عنه إنه كان نصابا. لكن ابن رشد كان له ثلاث مسئوليات، كان فيلسوفا وكان طبيبا وكان قاضيا، وهذه ثلاث مهام صعبة جدا. يعني القاضي يحكم في مصائر الناس، والطبيب يعالج أجساد الناس، والفيلسوف يحاول ينظر لهذا كله. فمسئولية باهظة، غير أن تكون فيلسوفا فقط أو قاضيا فقط أو طبيبا فقط. وهذا أرجعني إلى مسئولية المفكر، فيه نوع من المسئولية يجعل المفكر متواضعا، ويبحث عن حل ويعمل عملية جراحية قد تكون مؤلمة فكريا، لا يجريها بخشونة وإنما يعملها برقة. يعني فتح باب الحوار مع الناس خصوصا مع الإنسان العادي يشغلني جدا جدا الآن؛ لأنه في مناسبات كثيرة جدا أضطر أن أقول «حاجات» يبدو أنها تجرح شعور المؤمن العادي بالرغم من أني ليس عندي أي نية إني أجرح شعور المؤمن العادي، أنا «عايز» أفتح أفقه من خلال إيمانه وليس من خارج الإيمان، والإيمان انفتاح وليس انغلاقا. ولما الإيمان يصبح انغلاقا يصبح ضد طبيعته؛ لأن الإيمان هو انفتاح الإنسان على عوالم خارجه، حين يؤمن الإنسان فهو يؤمن بشيء داخله فقط، ولكن داخله وخارجه. هذا كله أجري فيه حوارا مع تلاميذي ، وهم ليسوا مسلمين، ويكون حوارا مثمرا جدا جدا.
وأقرأ «حاجات» في التراث الإسلامي زي «حي بن يقظان» ولا أقرأها كرواية فلسفية فقط، ولكن أقرأها كسرد، وكسرد فيها من الغنى بغض النظر عن قصد المؤلف أن السرد له قوة وسحر تجعله قادرا على أن يوحي بدلالات ربما لم تدر في خلد المؤلف. والقرآن فيه جزء كبير منه، له طبيعة سردية، ويستخدم البنية السردية ليس فقط في القصص، وإنما في أجزاء أخرى من القرآن.
هذا سؤال لا يهم المسلمين فقط، ولكنه سؤال يهم العالم كله؛ لأن العقلانية في وقت من الأوقات، خصوصا العقلانية الأوروبية كانت بترا، ضد الكنيسة، ضد الغيبيات، ضد الدين. وضعت الدين كله في سلة الغيبيات، ووضعت الغيبيات كلها في الأوهام والأساطير. الآن نحن نعود إلى أن الأسطورة ليست أوهاما، إنما الأسطورة تعبير رمزي عن وعي، كل هذا ينعكس على قراءتي للقرآن، فهي ليست قراءة مغلقة ولكن هي قراءة مفتوحة، لم أعد مغرما بالتأويل الذي كنت مغرما به وأنا شاب، تأويل المعتزلة مثلا يد الله فوق أيديهم يعني قدرة الله.
العودة بالإيمان إلى نضارته، التي لا تنكر العقلانية، ولا تنكر الانفتاح، ولا تنكر الفكر. والإيمان نفسه هكذا انفتاح وليس انغلاقا، وحينما يتحول إلى انغلاق بفعل المؤسسة وبفعل الدوجما وبفعل عوامل كثيرة جدا تقتل الإيمان نفسه. حين أقرأ ابن رشد «تاني» وأقرأ بعض أفكار الفلسفة الإسلامية مرة أخرى أحس فيها بروح إيمانية على درجة عالية جدا من العقلانية، وعقلانية تحتفي بالإيمانية، لكن فهمت خطأ. يعني الفارابي وابن رشد حينما يضعان الفيلسوف والنبي على درجة تقريبا متقاربة، الفرق بين النبي والفيلسوف أن النبي يتصل بعالم الغيب، بالمخيلة، والفيلسوف يتصل بالعقل، فيكون الناتج مقولات فلسفية عند الفيلسوف، فهي لا تحتمل التأويل، إنما بالمخيلة يكون الناتج سردا، يحتاج إلى التأويل. وتفسيرهم «هايل»؛ لأن النبي يخاطب الناس كلهم. أما الفيلسوف فيكلم الفلاسفة. ولكي تكلم الناس كلهم فلا بد من لغة غنية جدا. أحاول قراءة التراث الإسلامي بعين أخرى، عين ترى إلى أي مدى كان الفيلسوف المسلم مشغولا بهذه القضية، وليس التوفيق بين العقل والدين بالمعنى التجريدي. قضية الإيمان جزء عميق من الفكر الفلسفي، عدم استبعاد الإيمان من إطار العقلانية، وعدم تجريد العقلانية من بعدها الإيماني. - دراستك لابن عربي في رسالتك للدكتوراه - فلسفة التأويل عند ابن عربي - وبين كتابك «هكذا تكلم ابن عربي»، وبينهما مقالتك في مجلة الهلال سنة 92 عن «المسكوت عنه في خطاب ابن عربي» هي نفس النقلة؟ - دراسة الدكتوراه طبعا دراسة أكاديمية تسعى أن تضع ابن عربي في سياق الفكر الإسلامي، وفي سياق المرحلة التاريخية التي عاش فيها، سياق الأندلس وسياق التصوف. فيه أكثر من سياق لابن عربي، وبالتالي: ما هي الأدوات التأويلية التي استخدمها في فهم القرآن؟ ابن عربي لا يمكن استيعابه في رسالة دكتوراه. وأنا طوال الوقت أرجع له وأنا في هذا السؤال حول العقلانية والروحانية، أرجع إليه؛ لأن ابن عربي عمره ما أنكر العقل، واللقاء بينه وبين ابن رشد هو لقاء متخيل أو على الأقل ليس عندنا دليل على حدوثه «هل وجدتم عندكم ما وجدناه؟ فقال له نعم، فابتهج الفيلسوف، وبعد ذلك قال: لا، فحزن، وبعد ذلك قال له بين نعم ولا» حتى القصة فيها كثير من عناصر السرد القابل للكشف والتأويل.
ابن عربي عمره ما أنكر العقل، والعقل ضروري جدا، وهذا موجود في حي بن يقظان، لا يمكن أن تصل إلى عمق الإيمان من غير عقل، وفي رأيي أنهم لا يقولون إن العقل يقف هنا، لا، العقل يوصلك إلى بداية الأفق، وكأن العقل يفتح لك الأفق، الأفق الذي يوسعه الإيمان جدا. ولهذا في دراستي الثانية - يعني هكذا تكلم ابن عربي - ركزت على هذا الفهم عند ابن عربي، وركزت بغير أن أخلق من ابن عربي يوتوبيا. عندي في الكتاب فصل وأنا أحب هذا الفصل جدا أسميته «ضغط التاريخ». هو كفيلسوف يحاول أن يحلق في المثل الأعلى، لكن التاريخ يرجعه إلى الأرض؛ تاريخ الحروب الصليبية، فتجد ابن عربي أصوليا. لا بد أن أنظر إلى كل هذا عند ابن عربي، ولا أجعل منه الروحانية المطلقة؛ لأنه لا شيء اسمه الروحانية المطلقة.
المفكر يحاول باستمرار أن يسمو بالواقع، لكن الواقع أحيانا يجذب المفكر إلى الأرض، نحن الآن في العصر الحديث، المفكر لا بد أن يكون واعيا بهذا البعد بأن قدميه على الأرض وعقله يجذبه إلى السماء، وأن هذا التوتر هو نفس التوتر بين العقل والإيمان. يعني أن ننظر للحياة وللفكر وتاريخ الفكر وتاريخ الثقافة ليس بأنها ذات بعد واحد إنما توتر، وهذا التوتر ينتج نوعا من الغنى يعني دائما الإنسان في هذا التوتر. يعني الإنسان الواضح هو «روبوت» الغموض جزء من نسيج الوعي، ولا بد أحيانا أن نحتفي بالغموض، يعني البحث عن الوضوح واليقين. نعم اليقين مرتبط بالإيمان صحيح، لكنه مرتبط بدرجة عالية بالغموض، ولذلك «الذين يؤمنون بالغيب». الغيب بعض الإخوان الجهابذة يفكرون الغيب هذا مكان أو حاجة في الكون اسمها الغيب، يؤمنون بالغيب يعني يؤمنون بدون ما يكون فيه دليل مادي على إيمانهم. الإيمان بالغيب هذا، هو إيمان بأنه فيه أسئلة ليس عندك إجابة واضحة تماما عليها، فتتركها في الغموض أو تحاول أن تبحث عنها، كونك في هذا الغموض هذا هو الإيمان، الإيمان ليس إيمان العجائز، عمر قال «اللهم إيمان العجائز»؛ لأنه كان في نفس الحالة هذه، حالة الغموض، فكأنه خاف. فكيف تزود المؤمن بقوة ألا يخاف من هذا الغموض بأن يعيشه باعتباره تجربة إنسانية، وليس باعتباره أنه شيء مخيف.
كلنا سنموت، الموت شيء مجهول ومظلم، ولكنك تعيش هذا المجهول، أو تتوقع هذا المجهول، أو تتعايش مع احتمال أن هذا المجهول سيزورك ذات يوم ويطرق بابك. ليس عندك سؤال على هذا. نعم، العلم يحاول، لكن ليس عندك سؤال على هذا. وعظمة الإنسان أنه عائش هذه الحالة. الملحد يريح نفسه حتى يصل إلى الوضوح، فيقطع على نفسه حالة الغنى الغامضة هذه. المؤمن المنغلق أيضا يفتح على نفسه الأسطورة، الأسطورة بمعنى الخرافة. إنما أنا في رأيي أن الإيمان الحقيقي هو الذي يعيش حالة الغموض ويحتفل به باعتباره طبيعة الإنسان وطبيعة الكون. العلم يحاول أن يحل كل هذه المشاكل، لكن يظل العلم كلما يتقدم يترك مساحة المجهول أوسع. هنا الإيمان والمعرفة معا ليسا متناقضين.
هذا على المستوى الشخصي، وهذا ما يجعلني أحتفي جدا بالفن وأستمع إلى «المزيكا» وأزور متاحف؛ لأن هذا جزء من إمكانية الفن أن يجيب لك على بعض الغموض أو يعمق لك بعض أوجهه. وحين أقرأ القرآن أجد الغموض الموجود به ليس أنه متشابه ومحكم ... إلخ، لا؛ فمثلا لما أقرأ:
والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى ، الضمائر مرجعيتها تتداخل تماما بدرجة عالية من الشادية - تداخل الظلال - والغموض والمتعة في نفس الوقت، أو سورة الرحمن (مليانة).
هنا أيضا كيف تستمتع بالخطاب القرآني، وتدخل إلى عوالم يفتحها بشعريته وغموضه، أكثر مما تحاول إنك تفسر هذا الغموض كأنك تفك «حجاب». وكنت في شبابي من المتحمسين إلى إزالة هذا الغموض كما فعل المعتزلة، لكني أقول الآن: لا، لا يمكن إزالة هذا الغموض. وإذا كانت إزالة هذا الغموض ممكنة ستكون بمثابة إفقار للمعنى. مهمتي كمفسر أن أكشف للقارئ غنى هذه الاستعارات أكثر من أن أقول له لا، هذه معناها كذا وليس كذا؛ لأن الحقيقة ليس لها معنى واحد، بل لها أكثر من معنى. مثلا
يد الله فوق أيديهم ، المعتزلة قالوا يد الله تعني قدرة الله، وهذا تبسيط للمعنى فظيع. الآية تقول
إن الذين يبايعونك
هنا مهم تحديد الخطاب، المخاطب هنا محمد، لكن المخاطبين المباشرين الذين بايعوه
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم
وأن البيعة هكذا بوضع يد على يد. فلا تستطيع أن تفصلها باعتبارها القدرة، تكون سخرية من المبايعين. لكن اليد التي تبايع ليست يدا تمارس سلطة بل يد تتعاون. فالاستعارة هنا لا يمكنك أن تحلها بأنها معنى مجرد. الغنى هنا هو غنى الموقف، والمخاطب الأول؛ لأنه كانت أول مرة بعد معاناة الرسول في مكة يجد أنصارا يبايعونه على أن يحموه بحياتهم قبل أن يهاجر. لا يمكن أن تفسر هنا بمعنى القدرة فقط، وإلا يكون معنى فقيرا جدا. - فيه ملاحظة هنا: اختيارك للعنوان «هكذا تكلم ابن عربي»، هنا أنت تتعامل مع ابن عربي كخطاب وليس كنص. - صحيح. - من قراءة الكتاب ذاته، التداخل ما بين صوتك وصوت ابن عربي أحيانا داخل النص . - صحيح. - قلت: لأنك أنت تتكلم عن ابن عربي، لكن ما زلت أنت الذي يتكلم، فأنت موجود. - صحيح. - فهي نفس النقلة التي تكلمنا عنها في انتقالك من مفهوم النص لمفهوم الخطاب في دراستك للقرآن. - أنا أحاول أن أحلل خطاب ابن عربي، لكن في نفس الوقت أنا داخل في جدل مع ابن عربي؛ لأن هذا هو البحث العلمي بالمعنى الإنساني، وهذا غير البحث العلمي في المعمل؛ لأنه ممكن يكون في درجة من التجريد، لكن في العلوم الإنسانية، أنا عندما أقرأ ابن عربي أحاول أن أصل إلى ماذا يقول. فأحيانا يتداخل ما يقوله ابن عربي فيما أريد أن أقوله؛ لأن هذا هو جدل الخطابات، مع كل الحرص أن أرى ابن عربي في سياقه التاريخي كأني أعيش أزمته، وأعتقد أني في هذا الكتاب عشت أزمة ابن عربي، أزمة مفكر يريد أن يخلق عالما مثاليا، لكن العالم لا يعطيه فرصة، يريد أن يخلق عالما من الحب.
مشروع أبو زيد للتفسير - بالنسبة لفكرتك أو مشروعك عن تفسير القرآن، مقارباتك الماضية أصلت فكريا من ناحية المنهج وطريقة التناول، لكن المقاربة للكتاب ككل، للنسيج ككل في عمل متكامل. - أنا أعتقد أن هناك تحديا في المقاربة، أنا متوقع أن أصل للحل من خلال الممارسة نفسها، أنا عندي بنيتان للقرآن؛ البنية التاريخية - حسب النزول في التاريخ؛ وبنية المصحف - ترتيب التلاوة - ولا أستطيع أن أفضل بنية على الأخرى في عمل كبير للتفسير، لماذا؟
لأن القرآن الذي أثر في الحياة والثقافات الإسلامية عبر القرون هو القرآن بالشكل والترتيب المكتوب في المصحف، فلا تستطيع أن تلغي هذا التراكم التاريخي. وتقول إني سأرجع للظاهرة القرآنية - التعبير الذي يستخدمه أركون عن نزول القرآن في الزمن والتاريخ - فقط. الرجوع للظاهرة القرآنية مهم لكن القضية هي: كيف تدرس الظاهرة القرآنية في بعديها؛ التاريخي والآني؟ هذا هو التحدي. أنا أحاول بيان الجزئيات؛ الخطابات بالشكل الذي ذكرته من قبل من هو المتكلم، من هو المخاطب، من هو المخاطب الضمني، ما هو مود الخطاب، ما هو مناط الخطاب إذا استخدمت مصطلحات الفقهاء، ما هو المسكوت عنه في الخطاب ... إلخ؟ كل هذه الأبعاد.
لكن في نفس الوقت لا بد أن أضع هذا الجزء من الخطاب في سياق الكل القرآني، وهذا هو التحدي الذي نظريا لا أستطيع حله، لكن أنا متوقع من خلال عملي في التفسير نفسه أن أصل لحلول فيه. وبهذا الشكل نقارب حل مشكلة التاريخي والكلي، التجزيئي والكلي؛ لأن في النهاية القرآن فيه رؤية للعالم، لكنها رؤية للعالم لا تستطيع أن تصل إليها من خلال بعد واحد من البعدين؛ لازم أن تربط البعدين ببعض. إذا نظرت فقط للبعد التاريخي؛ فلن تصل إلى رؤية العالم، ستصل لرؤى للعالم، وإذا نظرت إلى البعد الكلي فقط ستصل إلى رؤية للعالم إلى حد كبير عامة، وإلى حد كبير أيديولوجيتك متدخلة فيها.
أنا مدرك حجم التحدي، ولا أزعم أني سأحله، لكن على الأقل أكون عملت خطوة، فتحت الباب لنقاشات. أترك جانبا طبعا نقاشات الذي يرفض تماما، وسيقول «هذا كفر»، أو من سيقبل تماما دون تفكير. أنت تحتاج إلى من سيأخذ هذا مأخذ الجد، لا مأخذ القبول المطلق ولا الرفض المطلق، كما أخذ المسلمون الأوائل تحديات المسيحيين الأوائل مدخل الجد. المفكرون العرب الأوائل أخذوا كل ما كان يقال مأخذ الجد، وبالتالي انخرطوا في إنتاج معرفة، فأنت حينما ترفض من البداية أو تقبل من البداية، أنت لست منخرطا في إنتاج معرفة. إما متقبل تماما سلبي، أو رافض تماما سلبي، والموقفان خطأ، موقفان أقرب لأن يكونا الصوت والصدى، حينما أدرس في الجامعة لا يسعدني أبدا الطالب الذي يأخذ ما أقول وهو مقتنع به «وخلاص»، وكنت أقرب إلى الطالب الذي يحب أن يماحك آرائي.
فيه تحديات كثيرة في الدراسات الإسلامية والقرآنية، نحن الباحثين المسلمين خائفون أن نقترب منها، وأنا رأيي أن هذا الخوف تعبير عن انعدام الثقة في النفس، والخوف من الخطأ، وكلاهما لا يجعلك فاعلا. وأنا أرى أنه قد حان الأوان ألا نترك المجال لغيرنا ونظل نتفرج وفقط، نرفض أو نقبل. لقد حان الأوان أن ننخرط في إنتاج معرفة، خاصة بالتراث الذي ننتمي إليه، والذي نعتبره تراثنا، ومن حقنا أن نفهمه وأن نناقشه وننقده ونعدله ... إلخ.
قلت له: لو نظرنا لخطابك كله، وأنا كنت أقف دائما أمام مقدمات كتبك؛ لأنك دائما كنت تصل الكتاب بما سبقه من كتاباتك، كأنك ترسم ملامح صورة كاملة متداخلة مع بعضها، النتف الموجودة في كل هذه الدراسات عن مواقف مثلا في «مفهوم النص» أنت قد حللتها، عن تعارض ليس له أي قيمة بين الفقهاء مثلا، أو شرحك لسورة الإخلاص. هذه الأجزاء حينما تجمع مع بعضها في نسيج تقوي بعضها بعضا. - نعم، لو أحد جمع هذه الأمثلة من كتب مختلفة، ووضعها مع بعضها ممكن يأخذ نوعا من الانطباع عن: ما هي إجراءات التحليل التي يمكن أن أبدأ بها، والتي طبعا ممكن أن أطورها؟ لأن هذه إجراءات جزئية. لما تأخذ سورة أو آية تكون محكوما بالسياق الذي تتكلم فيه، يعني مثلا تحليلي ل «اقرأ» - يعني سورة العلق - في مفهوم النص هو مرتبط ببيان العلاقة الحميمية بين المتكلم وبين المتلقي؛ بدليل وجود ضمائر كاف المخاطب، لكن في هذا السياق لم أسأل: من هو القائل «اقرأ» صوت من هذا؟ لا يمكن أن يكون الصوت الإلهي؛ لأن الصوت يقول له:
اقرأ باسم ربك ، ولو كان الصوت الإلهي كان قال له: اقرأ باسمي. هذا طبعا لم أطرحه؛ لأني كنت مشغولا بقضية أهمية المتلقي الأول. لم أكن طورت فكرة أن المتلقي الأول هو همزة الوصل مع الجماعة، ولم أكن مهتما بتعدد الأصوات. فكان تركيزي على أن «اقرأ» كما قلت كأنها بطاقة تعريف «ربك»، وفيها الحميمية الشخصية. والسورة تستخدم ربك وليس الله، وبما توحي بأنه من رباك ورعاك، ولكنه ليس ربك وحدك ولكن الذي
خلق
و
خلق الإنسان من علق ، وبعد ذلك انتقل
اقرأ وربك الأكرم ، والكرم جزء من الثقافة بمعنى كرم الأصل؛ لأن محمدا كان يتيما.
هنا - يعني في كتابه مفهوم النص - أنا كنت مشغولا بزاوية واحدة، في التفسير سأكون مشغولا بأكثر من زاوية؛ نتيجة غنى الأبعاد التي تدريجيا أصبحت أكثر وعيا بها. قواعد التجويد هي قواعد حريصة جدا. إن القارئ لا يعمل تأويلا، لازم يكون الصمت هنا، لازم يبقى الوصل هنا، لازم يبقى الفصل هنا، «خلي بالك» إن الصمت، والوصل والفصل كل هذه قواعد تأويلية، علم التجويد وضع لنا تأويلا جامدا لا تخرج عنه، باختصار إن قواعد التجويد ليست قواعد لغوية محايدة كما نميل إلى التفكير، إنما هي قواعد متأثرة إلى حد كبير بالمناخ اللاهوتي والجدل اللاهوتي، وفي النهاية القواعد اللاهوتية الحنبلية الأشعرية هي التي سادت.
مشروع التفسير سيكون مركبا جدا، سآخذ القارئ في رحلة قراءة القرآن في سياقه التاريخي وفي بنيته الحالية، في الدلالات التي يشعها، لن ألتزم التزاما حرفيا بالمنهج التاريخي ولا التزاما حرفيا بالمنهج التتابعي. - جهودك النقدية وأنا كقارئ لست متخصصا في علم تحليل الخطاب، هذه الجهود - تمهلت في الكلام - هذه الجهود حتى الآن مجرد مقدمة، لكن التفسير سيجعلك تركز الأفكار. - أنت عندك حق، أنت قلت كلام «مظبوط» وهو: إنه طول الوقت وكأننا نعمل «وصفة» أطبخ «بقى»، نعم أنت - يعني نفسه كنصر أبو زيد - تكلمت عن المنهج، كل المقدمات: نص وخطاب، كلها لا بأس بها، لكن خذ المفهوم الذي وصلت إليه وقدم للقارئ، وأنا حاسس إني أقدر أعمل هذا، لن يكون عملا كاملا، لكن على الأقل أستطيع وضع الخطوط العريضة. عندي إجابات كثيرة لكل الآيات الإشكالية التي وقف عندها المفسرون، أنا أرى لها حلولا لو طبقنا منهج تحليل الخطاب. وهذا ليس تبسيطا، والقرآن ليس كتابا في اللاهوت، اللاهوت في القرآن على درجة من الغموض عالية جدا لذيذة جدا، ولهذا أصبحت أحتفي بالغموض.
كيف لك أن تتخيل إلها لا يتكلم ولا يغضب ولا يحب وليس له يد ترعى ولا تبطش؟ هل يمكن تخيل إله تخيلا مجردا؟ المحرك الأول مثلا عند أرسطو أو العقل الفعال عند الفلاسفة هذا إله لا يصلح للإيمان، إنه إله يصلح للتفكير. القرآن يقدم إلها للتفكير وإلها للإيمان بالطريقة التي أدركها المتصوفة، يعني ابن عربي حينما يقف عند
ليس كمثله شيء
يقول لك: هي آية تنفي التشبيه لكن بها تشبيها، إنه جعله شيئا وليس ككل الأشياء.
إدراك المتصوف إلى هذه الدرجة العالية من الغموض والاختلاط والاحتفاء بها، هو ما يميز المتصوف.
إنه عالم من الغموض «إن قلت عبد فذاك حق، وإن قلت رب فذاك حق».
هذا ما أود أن أعمله، وبلغة سهلة طبعا، ليس بها الأسس النظرية، حاجة تانية، نسخة ثانية من «في ظلال القرآن»، من غير الإطار المعرفي لسيد قطب؛ لأن قطب حين يترك نفسه في ظلال القرآن يكون رائعا، وأكتب من غير عجمة المصطلحات. أصبحت الأمور واضحة في ذهني.
وكان صوت أبو زيد قد تعب جدا، فالتوقيت الآن وكأنه الواحدة صباحا في هولندا، وعليه أن يذهب بعد قليل للقاء بعض الأساتذة من جامعة كولومبيا على العشاء، وبعد هذا الحوار بعامين اتصل بي، وطلب مني أن أشترك معه في العمل على التفسير، وكان الاتفاق أن نلتقي في هولندا في شهر أكتوبر عام ألفين وعشرة، بعد عودته من برنامج زياراته العلمية في إندونيسيا، لكنه آثر أن يرحل عن دنيانا في الخامس من يوليو؛ ليظل الأمل قائما في استمرار العمل على هذا الحلم. (3) من نص المصحف إلى خطابات القرآن (قراءة في خطاب نصر أبو زيد)
1
حالة الركود الفكري والثقافي في حياتنا، تجعل التفكير أشبه بحركة في المحل، تجعلنا نجمد المفكرين، فندرسهم في قوالب ثابتة، لا ندرك حركة التفكير عندهم ولا ندرك انتقالاتهم الفكرية أو تطورهم الذي هو تعبير عن تفاعل بين الفكر والواقع. ونموذج لهذا، دراسة خطاب نصر حامد أبو زيد، وعملية تجميده عند مرحلة كتابه «مفهوم النص» التي يسجنه فيها الدرس «الأكاديمي» العربي؛ مما يجعلنا لا ندرك الانتقالات الفكرية التي قام بها أبو زيد، ومن بينها الانتقال من تصوره للقرآن كنص وككتاب، إلى تصور القرآن كخطاب أو مجموعة من الخطابات، وما لذلك من تأثير على الدرس التأويلي والوعي الديني في وعينا المعاصر، وفي هذا الإطار؛ فإن إلقاء الضوء على التطور الذي شهده فكر أبو زيد وتفاعله مع الواقع ومع الخطابات الأخرى المتباينة.
فقد عاش نصر أبو زيد (1943-2010م) خلال دراسته الجامعية بعد الهزيمة الكبرى في 1967م؛ تجربة تحول المعنى الديني، من: «الناس سواسية كأسنان المشط» إلى: «لقد رفعنا بعضكم فوق بعض درجات»؛ وذلك تبعا لتحول بوصلة النظام السياسي من: العدالة الاجتماعية إلى الانفتاح الاقتصادي، بين نهايات ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. وكانت تجربته في دراسة مناهج المتكلمين التراثيين وتعاملهم مع القرآن، خلال دراسته عن مفهوم المجاز عند المعتزلة في جدالهم مع خصومهم من الأشاعرة، والتي أتبعها بدراسته لكيفية تعامل تيار التصوف وروحانيته مع نصوص المصحف، من خلال دراسة عن «فلسفة التأويل عند محيي الدين بن عربي». فوجد أبو زيد أن النفعية وتوظيف النصوص لتبرير الواقع، التي عايشها في واقعه المعاصر، هي امتداد لممارسات القدماء؛ حيث تحولت الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية إلى صراعات على ساحات النصوص، بين فرق المسلمين ومذاهبهم.
فكان السؤال الذي تولد عند أبو زيد: هل يمكن أن نصل لمعنى موضوعي للنص، لا يخضع للتحيزات الأيديولوجية المسبقة؟ أو بمعنى آخر: هل يمكن أن نصل لمعنى حقيقي صحيح للنص؟ فقام بدراسة علوم القرآن في صورتها الأخيرة التي صاغها الزركشي والسيوطي، للبحث فيها عن مفهوم النص المتداول في علوم اللغة الحديثة وعلوم تحليل النصوص، وهل له وجود أو له بذور مدركة عند القدماء في الثقافة التراثية؟ فمن خلال كتابه «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» حاول أبو زيد ربط الدراسات القرآنية بتحليل النصوص الحديثة، وبعلوم اللغة والبلاغة كما كانت عليه عند المعتزلة وعبد القاهر الجرجاني من القدماء، وكذلك عند محمد عبده والشيخ أمين الخولي من المحدثين. وبنى كل ذلك على التصورات اللاهوتية الاعتزالية، في علاقة القرآن بالتاريخ من خلال مفهوم خلق القرآن وحدوثه في الزمن، في مقابل التصورات اللاهوتية الأشعرية، والتصورات السلفية التراثية حول قدم القرآن وعدم ارتباطه بأحداث الزمان والمكان والأشخاص، فكان أبو زيد يدافع عن فهم صحيح في مواجهة أفهام خاطئة، ويدافع عن فهم واضح قائم على العقل وعلى الدليل في مواجهة أفهام مخادعة منافية للعقل وأدلته.
ومنذ نهايات الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، انتقل أبو زيد من التعامل النقدي مع جهود القدماء والتراثيين إلى مواجهة نقدية مباشرة مع التيار الديني المعاصر ورسالته الإعلامية وخطابه حول الدين وحول التراث. وفي خضم حالة السجال خلال قضية عدم ترقيته للأستاذية بالجامعة ومحنة قضية دعوى التفريق بينه وبين زوجته؛ انخرط أبو زيد في عملية نقدية للذات، أدرك خلالها أنه يقوم خلال عملية الرد على تأويلات خصومه بتأويلات سجالية، وأنه وإن كان يصل إلى نتائج مختلفة عن النتائج التي يصل إليها التيار النقيض، إلا أنها مبنية على مسلمات مشتركة مع خطاب ذلك التيار. وأنه مهما كانت تأويلاته أكثر عقلانية أو أكثر إنسانية وأكثر احتواء إلا أنها هي أيضا تقوم على مبدأ التأويل والتأويل المضاد، فكان نقده لدراساته السابقة عن رؤيته للمعتزلة، ونقد مفهومهم للعقل، ونقد محدودية تصوراتهم عن الحرية، وكونها مفاهيم محدودة بحدود عصورهم وحدود تجربتهم التاريخية وسقفها المعرفي. وكذلك نقده لدراسته لابن عربي، وكيف أنه وقف عند حدود منطوق كلام ابن عربي وليس بكيف يقوله، ولا بالمسكوت عنه في خطابه. ونقد منهج أستاذه حسن حنفي، المنهج القائم على «التلفيق»، وعلى تعبئة مضامين جديدة في قوالب علم أصول الدين القديمة، مما حول جهود حنفي إلى مجرد إعادة طلاء للبيت القديم، وليست إعادة بناء لعلوم القدماء.
وهكذا توصل نصر أبو زيد إلى أنه في سعيه للوصول إلى معنى حقيقي عقلاني، واضح من آيات المصحف، فإنه يقوم بعملية تأويل مؤسسة على نفس المسلمات اللاهوتية للخطاب النقيض، وبرغم من أنها تؤدي لنتائج مضادة لنتائج الخطاب التقليدي، إلا أنها في نهاية المطاف تعمل على ترسيخ ذات المسلمات اللاهوتية. فمثلا حينما يعتمد الخطاب النقيض على استخدام النصوص ويتم الرد عليه بنصوص أخرى؛ فبرغم النتائج المختلفة لقراءة النص، فإن هذا النهج - الذي يعتمده كلا التيارين - يؤدي إلى ترسيخ مبدأ «سلطة النص». وكذلك يرسخ لقاعدة أن كل عمل أو رأي لكي يحظى بالشرعية، فلا بد أن نبحث له عن نص، يمنح العمل أو الرأي شرعية الوجود. وقد أوضح أبو زيد هذا الملمح في دراسته؛ عن كيف همش خطاب أبو حامد الغزالي، خطاب ابن رشد داخل الثقافة؛ لأنه رغم منطلقات ونتائج ابن رشد المختلفة عن منطلقات ونتائج خطاب الغزالي، إلا أنه في سجاله معه تسربت مفاهيم الغزالي إلى خطاب ابن رشد. في ذلك الوقت، بدأ أبو زيد يدرك أنه تعرض لنفس ما حدث لابن رشد، وأن منهج الخطاب النقيض تسرب إلى خطابه أثناء حالة السجال التي عاشها خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. وهكذا شهدت الفترة التي أعقبت خروجه إلى أوروبا مراجعته العميقة لمنهجه في التعامل مع وفهم نصوص القرآن، وأدرك أنه رغم تباين تأويلاته الدينية ونتائجها عن نتائج الخطاب الديني التقليدي بتياراته المختلفة، إلا أنه ما زال داخل نفس البيت اللاهوتي وتحت نفس السقف المعرفي، فكانت عملية إعادة النظر في المفاهيم الأساسية التي ينطلق منها، ومنها بحثه في مفهوم «ما هو القرآن؟» وإعادة النظر في التصورات المرتبطة به في الثقافة، بما فيها إعادة النظر في مفاهيم وتصورات التيار الاعتزالي ذاته عن القرآن.
أيضا كان لمفهوم محمد أركون حول «الظاهرة القرآنية» وتركيزه على عملية تحول القرآن من خطاب شفاهي إلى مصحف مدون، ودور عملية التدوين وشروطها، وتأثيرها على تحديد وتحجيم دلالات القرآن، دور رئيسي في إدراك أبو زيد أن التعامل مع المصحف على أنه كتاب أو على أنه «نص»، حتى لو استخدمنا كلمة «نص» بالمعنى الحديث لها، ليدرك نصر أن النظر للمصحف على أنه نص أو على أنه كتاب، ولا بد أن يكون له معنى مركزي واحد. إن هذا التصور عن المصحف هو الأساس المعرفي وراء كل عمليات التأويل والتأويل المضاد التي جعلت كل تيار يحاول جذب النص لينطق بمنطلقاته الفكرية، ويجعل تأويلات المخالفين له في الهامش، فينطق المصحف بالشيء ونقيضه حسب من المتحدث وحسب من المستشهد، وبأي نصوص آيات يستشهد وكيف يستشهد بها.
ومن هنا بدأت رحلته لإعادة النظر في مفهوم القرآن وفي تعريفنا له، وتوصل أبو زيد إلى أنه برغم استبدال مفهوم خلق القرآن عند المعتزلة بمفهوم قدم القرآن عند الأشاعرة، إلا أننا نظل في أسر تصورات القدماء، التي هي بنت عصرها. فالمعتزلة والأشاعرة، رغم اختلافهم، فإنهم ينتمون إلى نفس البيت المعرفي، المحدود بالسقف المعرفي للزمن الذي ينتمون إليه، وعلينا أن نخرج من أسر البيت المعرفي القديم ونتجاوز سقفه المعرفي المحدود، ولا نكتفي بمجرد الانتقال من غرفة في بيت التراث إلى غرفة أخرى في نفس البيت، فنحن ما زلنا تحت نفس السقف وفي نفس المدينة. من هنا كانت رحلة انتقال أبو زيد من تعريف القرآن ك «نص» إلى تعريف القرآن ك «خطاب» أو كخطابات.
2
رغم أن كلمة «نص» كانت تستخدم قديما بدلالة مختلفة عن استخدامنا لها الآن، فعند القدماء كانت تشير إلى درجة من درجات وضوح المعنى وغموضه، على مقياس الوضوح والغموض لدلالات ومعاني التركيب اللغوي، حيث كان يمكن أن تقسم الدرجات حسب تدرجها من الوضوح الكامل إلى الغموض الكامل هكذا: «النص، الواضح، المؤول، المشكل، المتشابه»، فكانت درجة النص هي: الواضح وضوحا بينا. فكل متحدث باللغة يستطيع أن يدرك المعنى الظاهري للكلام بمجرد معرفته للغة؛ ولذلك كان القدماء يقولون: «لا اجتهاد مع النص»، كانوا يعنون به الواضح دلالته عند الجميع وضوحا أقرب للبديهيات اللغوية. وكذلك كانوا يقولون: «النصوص عزيزة» أي إن وجودها نادر في المصحف. لكن كلمة «نص» أخذت أبعادا أوسع في عصورنا الحديثة، حيث أصبحت تشير إلى نسق لغوي كلي، سواء كبر أو صغر حجم النسق، أو اتسمت فيه الدلالات بالوضوح أو الغموض.
وبرغم أن نظريات الدرس اللغوي والبلاغي عند القدماء، في غالبها كانت تهتم بدراسة التراكيب اللغوية والبلاغية على مستوى الجملة ومستوى العبارة، ونحن في عصورنا الحديثة نتناول التراكيب في أنساق أوسع من الجملة ومن العبارة، حيث يمكننا الآن التعامل مع عمل أدبي ككل أو نتعامل مع كل أعمال أديب ما كنسق كلي واحد، رغم تباعدها ورغم انفصال الوحدات عن بعضها، فإنه يجمعها وحدة المؤلف في نسق. ورغم أن نصر أبو زيد استخدم كلمة نص بدلالتها الحديثة في علوم اللغة وفي تحليل النصوص، وساهم في اتساع نطاق الدلالة من دراسة العلامات اللغوية إلى دراسة الدلالة اللغوية في علاقتها بكل أنساق العلامات الأوسع من دلالات اللغة إلى العلامات بالمعنى «السيميوطيقي - السيميولوجي»، أي في إطار كل ما يصدره الإنسان من علامات دالة. فالطقوس لغة وعلامات، الأزياء علامات، إشارات المرور في الشارع لغة وعلامات دالة. ولكن برغم كل هذا الاتساع، فإن التعامل مع المصحف كنص بالمعنى الحديث لكلمة نص، يولد مجموعة من المشكلات الفكرية واللاهوتية.
فالنص بنية مستقلة، وتكوين قائم بذاته، له عالمه الخاص، ومفهوم النص يستدعي مفهوم «المؤلف»، الذي يقوم بعملية بناء النص، ويمكنه أن يحذف ويراجع ويضيف، ويجعل من معاني النص معنى مركزيا، فتكون هناك قصدية من المؤلف، يسعى لإيصالها عبر طريقة بناء وتركيب النص. ورغم أن المؤلف يكون في ذهنه تصور عن قارئ ما لنصه، عبر تصوره لقارئ ضمني. وعملية «التناص» التي تتداخل فيها النصوص مع بعضها الآخر، وتربطها بما هو خارجها. وللنص سياق يظهر فيه، وتتأثر به معاني النص. وبرغم كل ذلك فإن النص كيان مستقل قائم بذاته، تحركه قصدية مؤلف. والقدماء كانوا على وعي بذلك، فلم يقل أحد إن القرآن أو المصحف من تأليف الله سبحانه عز وجل، بل تحدثوا أن الله «متكلم بالقرآن»، وأن القرآن «كلام الله». رغم ذلك فقد ظل المفهوم والتصور الرابض تحت سطح الممارسات التراثية التأويلية المختلفة قائمة على تصور المصحف كنص كتاب.
التعامل مع المصحف ككتاب تتولد عنه ظاهرة قد تناولتها في مؤلف سابق لي
3
وأسميتها «توتر». فالفهم السائد عن الكتاب أن له مؤلفا، وأن هناك مقصدا أو مقاصد للمؤلف يسعى إلى إيصالها من خلال الكتاب؛ مما يجعلنا نبحث عن مركز للدلالة وعن بؤرة للمعنى في الكتاب أو في النص، وعن معاني ودلالات هامشية في النص. فحين تتعامل مع المصحف ستجد تصورا للذات الإلهية يدور حول التنزيه الكامل لله، عن أي مشابهة للبشر. وستجد أيضا بالمصحف التشبيه والتجسيم الكامل للذات الإلهية في مواضع أخرى، فأيها هو المعنى المركزي، وأيها هو مقصد المتكلم، التنزيه أم التشبيه؟ فيسعى علم الكلام والفلسفة لحل هذا الإشكال عبر ثنائية (المحكم والمتشابه)، أو بلغة عصرنا الواضح والغامض.
وفي مجال توجيهات السلوك التي اهتم بها الفقه وتناولها الفقهاء ستجد في كتاب المصحف أن للخمر منافع وأضرارا، وأضرارها أكثر من منافعها، وستجد توجيها بعدم الاقتراب سكارى للصلاة، وستجد أن الخمر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه. فأيهم مقصد المتكلم؟ فيحاول الفقيه أن يرفع هذا التوتر بمقولات «الناسخ والمنسوخ»، وذلك عبر السعي لتحديد ما نزل متأخرا من القرآن؛ ليكون هو آخر توجيه سلوكي، الذي من شأنه تغيير التوجيه السلوكي الذي جاءت به الآيات التي نزلت في وقت مبكر. ومن هنا تظهر أهمية مفاهيم مثل «العام والخاص» لتعيين ما يكون معناه عاما لكل المسلمين في كل زمان ومكان، وما هو خاص محدود في واقعة أو في شخص. وكذلك تحديد ما هو «المطلق والمقيد» ... إلخ. وسيجد اللغوي إشارات في كتاب المصحف تنسب قدرة الإرادة لجماد، كالجدار الذي أراد أن ينقض، فيحاول اللغوي والبلاغي رفع التوتر عبر مقولتي «الحقيقة والمجاز». وتحاولها التيارات الصوفية والمذاهب الشيعية: بمقولتي «الظاهر والباطن»، أو يحاولها الفقهاء من خلال تحديد مقاصد كلية للشريعة؛ لتكون مبادئ هادية لهم في اختيار وترجيح المعاني المركزية والهامشية في النص.
معظم هذه الجهود، سواء في علم الكلام أو الفقه وأصوله أو التصوف ... إلخ تقوم تقريبا على التعامل مع المصحف كنص كتاب، له متكلم به، هو الله سبحانه وتعالى، وللمتكلم قصدية من كلامه، وكل جهودنا في الفهم تسعى للوصول لتلك القصدية. فبؤرة التركيز خلف هذه الجهود، هي على المتكلم وعلى قصده من كلامه. وهذا القصد يتصور أنه يجب أن يكون مقصدا واحدا مركزيا صحيحا، والمعاني الأخرى هي مقاصد خاطئة أو معان مضللة وهامشية، فتكونت في ثقافة المسلمين نظرية في الفهم وفي التأويل وفي التفسير، تشربت بها علوم الكلام والفلسفة واللغة والبلاغة، وتأثرت بها أصول الفقه إلى علوم، كما طال تأثيرها مدارس التصوف.
فعلماء الكلام والفلاسفة المسلمون سيقفون عند الكلام الإلهي: هل الكلام صفة ذات قديمة قدم الذات الإلهية، أم هو صفة من صفات الفعل؟ فلو الكلام صفة قديمة، إذن فاللغة أصلها إلهي وقديم، ويصبح القرآن كونه كلاما لله، فهو أيضا قديم قدم الذات الإلهية. وإذ أخذ البعض مثل المعتزلة أن الكلام صفة فعل، أي إنه فعل بعد خلق الله للعالم، مستندين في ذلك إلى أن أفعال الله كلها حكمة، وتصور أن الله يكلم العدم هو فعل غير حكيم، ناقص، والله منزه عن النقص؛ لذلك فكلام الله فعل بعد خلق الله للموجودات. فتصبح اللغة حسب تصوراتهم مخلوقة وأنها مواضعة واتفاق بين البشر، ويصبح القرآن مخلوقا وليس قديما؛ لأنه صفة فعل وليس صفة ذات أزلية. فيأتي الأشاعرة ويحاولون رفع التوتر بين الجانبين، بالتفرقة في الكلام بين المعاني وبين الألفاظ؛ ليقولوا إن المعاني قديمة قدم الذات. لكن خروجها في ألفاظ عربية يجعلها مخلوقة، ويفرقون بين اللغة الإلهية القديمة وبين مواضعة البشر بعد ذلك في لغات أخرى كالعربية والإنجليزية. ويصبح القرآن قديما كمعان ومخلوقا كألفاظ باللغة العربية. هذه الاتجاهات الثلاثة رغم الاختلافات الظاهرة بينها فهي حجرات في بيت، وتحت سقف معرفي واحد يجمعها. فبؤرة تركيزها هو الوصول إلى قصدية المتكلم ودلالة كلامه، حتى مع الاختلاف بينها حول كيفية الوصول إلى قصدية المتكلم. وهل هذه القصدية سابقة على الكلام أم لا؟ ورغم الاختلاف بينهم حول هدف الكلام الإلهي، وهل يهدف إلى سعادة الإنسان وإلى خيره أساسا، أم هدفه هو تعريف البشر بالله وبكيفية طاعته وبطريق عبادته اتقاء لعذاب ناره وسعيا إلى دخول جنة نعيمه؟ السقف المعرفي المشترك هنا رغم كل هذه الاختلافات أن نظرية التأويل التراثية القائمة على مفهوم النص يتم بناؤها على المجاز اللغوي، والمجاز اللغوي أداة قاصرة، فهو يرتبط في الغالب بالمجاز على مستوى الجملة اللغوية؛ ولذلك يتم التعامل مع آيات المصحف بشكل منفصل غالبا من سورة الفاتحة إلى سورة الناس. وكذلك تم حصر المجاز في آيات التوجيهات السلوكية التي يتناولها الفقه، ولم ينسحب المجاز عندهم على آيات «المعتقدات»، أو إلى آيات القصص، أو الأخلاق.
ورغم إدراك علوم الفقه للتفاعل بين كلام القرآن وبين الواقع من خلال علوم المكي والمدني والناسخ والمنسوخ ومرويات أسباب النزول ، ثم من خلال تصورات كلية عن مقاصد للشريعة. فرغم ذلك الإدراك فإن جهود الفقهاء تسعى إلى طرح «معنى واحد ثابت» يسري على المسلمين في كل زمان ومكان، وإن اختلف هذا المعنى من مذهب إلى آخر. فإن هذا المعنى الواحد يتم ترسيخه من قبل السلطات الحاكمة، عبر اختيارها لمعنى أو رأي فقهي واحد وتسييده بقوة السلطان، ولا يسود بقوة وسلطة المعرفة وآلياتها الذاتية.
ورغم خروج تيارات التصوف من أسر المجاز اللغوي وضيقه إلى رحابة الرمز في تعاملاتها مع المصحف، وتصورها أن الكون كتاب منثور والقرآن كتاب مرقوم، وأيضا إقامتها علاقة الله مع الإنسان ومع العالم على الحب، وليس على مجرد الطاعة والجبر أو الرغبة في الجنة واتقاء للنار. رغم كل ذلك فقد استغرقت التأويلات الصوفية والعرفانية الشيعية في عوالم من الرمز لم تتقيد بمنطوق الكلام ولا مواضعات اللغة ولا تاريخية الثقافة في كثير من جهودها.
هذه الجهود التي قامت على الطبيعة النصية، وقامت على التركيز على المتكلم وعلى مقصده، ولم تول الرسالة ذاتها ومقاصد الكلام التي قد تكون أوسع من مقصدية المتكلم، ساهمت في تفتيت المعنى عبر تفتيت الوحي وتفتيت القرآن وتفتيت المصحف والتعامل معه بطريقة جزئية؛ ليركز المتكلمون والفلاسفة في سعيهم للوقوف على المعاني اللاهوتية على نوع وعدد معين من آيات المصحف منفصلة عن بقية الآيات. ويركز الفقهاء جهودهم على آيات التوجيهات السلوكية «التشريعية» في معزل عن بقية الآيات. ويركز المتصوفة على آيات ذات بعد أخلاقي وروحي. وفي ظل هذا التفتيت والتجزيء والعزل، تغيب الرؤية القرآنية الكلية للعالم، فكيف نفهم آيات المصحف، وتمييز ما هو توجيهي (تشريعي) منها في ضوء اللاهوتي والأخلاقي والروحي، في سياق ثقافي، من تفاعل الوحي بما هو خارجه. من هنا عجزت نظرية التأويل التي قامت على البنية النصية المتجزئة التي تضع المتكلم ومقصده في بؤرتها، فينتج عن ذلك التأويل والتأويل المضاد، ونحتاج أن نزرع نظرية جديدة لنا في التأويل تستوعب القديم وتقتله فهما، وتبدأ بإعادة تعريف القرآن عبر نقد التصورات السائدة.
3
أدرك نصر أبو زيد ضيق عجزنا الفكري حين ننظر للقرآن على أنه نص كتاب بين دفتي مصحف، حتى ولو استخدمنا كلمة نص بمعناها الحديث في علوم تحليل النصوص وتحليل الخطاب - المفهوم الذي استخدمه ودافع هو عنه - ليبني على جهود محمد أركون (1928-2010م) في دراسته للظاهرة القرآنية. فسعى ليعيد النظر في تعريف القرآن تعريفا جديدا يخرج به من مفهوم قدم القرآن عند التراثيين، وكذلك يخرج به عن ضيق مفهوم خلق القرآن الذي قال به المعتزلة؛ لينتقل إلى النظر إلى المصحف لا كنص، بل كمجموعة من النصوص. ثم وجد أبو زيد أن القرآن في تعريفه الذي يفسر خصائصه هو أقرب لمفهومنا المعاصر للخطاب منه لمفهوم النص؛ حيث إن الخطاب بنية تحاورية ونسق يقوم على التفاعل تأثيرا وتأثرا بين أطراف الخطاب؛ حيث يقوم المخاطب والمخاطب في تشكيل الخطاب. ويحضر سياق كل منهما في جوانب الخطاب بجوانب للسياق متعددة. ومما يميز الخطاب هو أن حضور المتكلم يكون عبر تعدد أصوات داخل بنية سردية وليس صوتا واحدا. كذلك من مميزات الخطاب أن يعمل تحليل الخطاب على دراسة نمط الخطاب أو فحواه. ويتم دراسة تأثير الخطاب على المتلقين وردود أفعالهم على الخطاب. فتعرض نصر أبو زيد لتجلي البنية الخطابية في القرآن وسعى لدراسة مدى إدراك أسلافنا أو عدم إدراكهم للجوانب الخطابية من القرآن؛ ليصل إلى أن بنية القرآن هي أقرب إلى أن تكون مجموعة من الخطابات.
رغم أن القرآن كله كلام الله حسب تصورات المسلمين، وأن الله هو المتكلم بالقرآن، فهناك أصوات متعددة في القرآن، فسنجد الصوت الإلهي المقدس:
إني أنا الله رب العالمين . وسنجد القرآن يصور صوت النبي:
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين . وأصوات أهل قريش؛
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، وأصوات أهل الكتاب؛
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ، كذلك سنجد أصوات الأنبياء السابقين وأصوات أهلهم، سنجد الجدل بين النبي وأزواجه، وبينه وبين قومه، وبينه وبين أهل الكتاب، سنجد القرآن يخاطب النبي كمتلق أول، ويخاطب البشر كمتلقين من خلال خطاب النبي، وسنجد القرآن يخاطب الناس مباشرة أو يخاطب المؤمنين مباشرة. سنجد في القرآن ردا مباشرا على أسئلة من البشر:
ويسألونك عن الروح ،
يسألونك عن الأنفال
ويأمر النبي:
قل . والقصص بالقرآن هو أبنية سردية موظفة لإيصال معنى ديني للمعاصرين للخطابات القرآنية، وليست مجرد سرد لتاريخ أقوام سابقين، وهذا يفسر التغيرات في بعض تفاصيل القصص في مواضع مختلفة من سور المصحف.
كان هناك إدراك في بعض جوانب معارف التراثيين القدماء للطبيعة الخطابية للوحي وللقرآن؛ فالفقه كان يحاول رصد ذلك؛ بدراسة عموم اللفظ وخصوص السبب، وما هو عام وخاص، وما هو مطلق ومقيد، وما هو ناسخ ومنسوخ، وما هو مكي وما هو مدني. فكل هذه العلوم من علوم القرآن هي معارف تدرس تكوين الخطابات القرآنية، وهي تدرك الطبيعة الخطابية التحاورية للقرآن. لكن علوم القرآن التي تدرس بنية القرآن هي علوم تتبنى النظر للقرآن كنص، وتعتمد ترتيب المصحف الحالي كوقف من الله. والعلوم التي تهتم بدراسة المعنى في القرآن عبر دراسة المجاز والاستعارة ... إلخ، فهي تقوم أيضا على تصور القرآن نص مصحف؛ ولذلك فالتفسير في غالبه يتبنى البنية النصية للمصحف، فيفسره تفسيرا خطيا من الفاتحة إلى نهاية المصحف، ويكون تفسير البيان اللغوي والبلاغي حسب ترتيب التلاوة الحالي، فلا يدرك التفسير التطور الدلالي للغة القرآنية، وما يضيفه الوحي من دلالات لغوية إلى كلمات المصحف عبر مراحل تاريخ سنوات الوحي.
إن التعامل مع المصحف على أنه كتاب أو نص، جعل كل جهود فهمه عبر العصور تسعى إلى مقصد مرسل القرآن، وجعلت هذا المقصد يجب أن يكون واحدا، وشاملا، وأبديا، لكل زمان ومكان؛ مما جعل المسلمين يبحثون دائما في المصحف عن حلول لكل مشكلات حياتهم، وليس فقط الهداية الدينية. الظاهرة الأخرى التي تولدت عن ذلك هو اختيار معنى واحد لجعله مقصد مرسل القرآن، ويتم تهميش المقاصد الأخرى من خلال ثنائيات عديدة عبر التاريخ، بأن يكون هناك مقصد ناسخ وآخر منسوخ، مطلق ومقيد ، خاص وعام في مجال الفقه، ظاهر وباطن في مجالي التصوف والمنظومات الفكرية الشيعية، حقيقة ومجاز في مجال بلاغة المصحف، بحيث يكون جانب من كل هذه الثنائيات هو المقصد والآخر يتم تهميشه. وهذا ما حدث من خلال التأويل والتأويل المضاد، وما زال؛ وذلك بسبب الطبيعة النصية للمصحف، حينما يتم التعامل مع المصحف كمجموعة من الخطابات، فكل خطاب منها له وقت وله زمن وله سياق، وله مخاطبون، وليس معنى مطلقا وشاملا وأبديا، لكن الأمر يتطلب جهودا كبيرة للكشف عن بنية الخطابات في المصحف، وهي الجهود التي لم نبدأ فيها بعد.
إن ضعف ثمار الإصلاح الديني بعد قرن ونصف من الجهود تعود إلى أننا ركزنا في جهودنا على التجديد في المسائل العملية وفي الفروع، ولم نتعرض لماكينة التفكير الدينية ذاتها، وفي الأسس التي تقوم عليها من تصورات تجمدت عند زمن بعيد، وأصبحت هذه التصورات عقائد، وأصبحت معلوما من الدين بالضرورة، وأصبحت ثوابت للدين، ولا يمكن إعادة النظر فيها. ومن يفعل فقد جدف في العقائد وهدم الثوابت، وأنكر المعلوم من الدين بالضرورة، في حين أن كل هذه «الثوابت» كانت مجرد تصورات بشرية ضمن تصورات أخرى، وكانت مجرد إجابة ضمن إجابات أخرى، لكنها سادت واستمرت لعوامل اجتماعية وسياسية تاريخية، فأصبحت هي الدين، أو أصبحت هي «صحيح الدين». لذلك لن يفيد «تجديد في الفكري الديني» عبر مجرد إعادة تعبئة القديم في زجاجات جديدة، كما نفعل منذ قرن ونصف.
كان لإدراك نصر أبو زيد لهذه الحقيقة عامل رئيس في اتخاذ قراره بالبدء في رحلة إعادة تعريف القرآن التي أخذت منه، منذ نوفمبر عام 2000م في محاضرته عند جلوسه على كرسي الحريات في جامعة لايدن، فتناول القرآن كعملية تواصل رأسي بين الله والإنسان. وفي احتفالية مئوية الكواكبي في سوريا تناول في محاضرته إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا؛ ليتناول الجانب الأفقي من تعامل البشر مع القرآن عبر الفهم والتفسير والتأويل من قدماء ومحدثين؛ ليقدم في محاضرته لاعتلائه كرسي ابن رشد في كلية الإنسانيات بجامعة أوترخت عام 2004م دعوة إلى السعي نحو منهج إسلامي جديد في التأويل. وسعى في السنوات التالية إلى بناء هذا المنهج الجديد، وقدم عناصر له في محاضرات ومناسبات مختلفة.
وفي السنوات الخمس الأخيرة من حياته، كان أبو زيد مشغولا بالبحث عن سؤال: هل هناك رؤية مترابطة للعالم خلف الأنساق القرآنية؟ فحاول أن يبحث في تراث المسلمين الفكري عن بذور اهتمام ببناء رؤية للعالم متكاملة للأنساق القرآنية. وقدم في محاضرته في افتتاح مؤتمر القرآن في سياقاته التاريخية، الذي عقد بجامعة نوتردام بالولايات المتحدة الأمريكية في إبريل 2009م عناصر هذه الرؤية في مداخلته بالمؤتمر «قصتي مع القرآن». وأشار إلى البذور الموجودة في جهود القدماء للوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، وكذلك الجذور الموجودة في خطاب ابن رشد، والتي يمكن الانتباه لها مع دراسة كتبه بشكل مترابط، مع الوضع في الاعتبار السياقات الزمنية التي صدرت فيها هذه الكتب، وهي: «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«بداية المجتهد ونهاية المقتصد».
كان نصر أبو زيد في العقد الأول من القرن الحالي، وكما كان يردد: «ما زال في مطبخ فكره» ولم يقدم وجبة متكاملة بعد. لكنه شاركنا بعض أطروحاته وأفكاره خلال محاضراته، وكان قد بدأ في العمل على كتاب ليكون مدخلا يجمع فيه الأسس الفكرية التي توصل إليها. فضلا عن ذلك كان قد بدأ في تأويله لسورة الفاتحة باللغة الإنجليزية. وهذه الجهود ما زالت تحتاج إلى الجمع وإلى الترجمة للعربية ورصدها والعمل عليها. وذلك يشمل مرحلة إعادة تعريفه القرآن من نص إلى خطاب ثم إلى خطابات، أو نتائج بحثه عن رؤية للعالم وراء ساحات الخطابات القرآنية؛ سعيا لأن تستفيد ثقافتنا من جهود السابقين، وتقوم بالبناء عليها عبر استيعابها والتعامل معها بشكل نقدي، فنصعد على أكتاف هذه الجهود، فنرى أبعد مما رأت. وهذه دعوة نصر أبو زيد لنا فهل من مجيب؟
4
والله أعلم.
نصر أبو زيد1مشواري من النص إلى الخطاب
(1) التأويل اللاهوتي للقرآن كما قدمه المعتزلة
أيها السيدات والسادة الحضور: أولا أريد أن أتوجه بالشكر إلى مكتبة الإسكندرية؛ فهذا لقاء مرتقب من ناحيتي ومن جهتي؛ أن أتحدث بالعربية مرة أخرى بعد أن طال بي الحديث باللغة الإنجليزية في بلاد الغرب، فكلما دعيت إلى أي بلد عربي أرحب بالدعوة، وألبي الدعوة، وأغير كثيرا من برامجي، وأعتذر عن كثير من ارتباطاتي السابقة لكي ألبي الدعوة. فما بالكم إن كانت الدعوة من مصر، فهنا تأتي جهيزة فتسكت كل خطيب إذا دعت مصر. وأشكر طبعا د. يوسف زيدان؛ فهو محرك هذه الدعوة ومنظمها، وأشكر له تحمله لكل التفاصيل التي كنت أسأله عنها بسبب تعودي لحياتي في الغرب، لكن د. يوسف كان طويل البال، وكان قادرا على أن يمتص كل هذه الأسئلة، ويجيب عنها حتى تمت الدعوة بالشكل الذي أرجوه. وهو يعمل على راحتي وإراحتي بكافة السبل الممكنة، لدرجة مبالغ فيها أحيانا. وهذه مشاكسة مع د. يوسف.
موضوع المحاضرات التي سأقدمها كباحث مقيم هي مجموعة من المحاضرات المترابطة، وإن كانت كل محاضرة منها تستقل بموضوع، فهناك انفصال في الموضوع، لكنه تواصل في المنهج. هذه المحاضرات تقدم السيرة العلمية للباحث الذي يتحدث معكم، نبدأ اليوم بقضية التأويل اللاهوتي للقرآن كما قدمه المعتزلة.
فقد بدأت حياتي العلمية بدراسة قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، طبعا ما سأعرضه اليوم ليس هو نفسه ما طرحته في بحثي منذ أكثر من ربع قرن. إن ما سأطرحه اليوم هو تطور وعي وتطور تحليلي لأفكار المعتزلة. فكما تعلمون أننا جميعا نبدأ كباحثين صغار في السن، الحماس لمواضيعنا يجعلنا نتلبس بفكرهم، والمعتزلة لهم تأثيرهم الساحر، خاصة فيما يرتبط بالعقل وأهمية العقل؛ لذلك حين كتبت عن المعتزلة في البداية كنت معتزليا. ود. جابر عصفور نشر مقالة في ذلك الوقت سماها «الاعتزال الجديد»، طبعا لا أعتقد الآن أنني معتزلي،
2
لكن أنا أحاول أن أقدم تطور رؤيتي النقدية للفكر الاعتزالي اليوم.
عبد القاهر الجرجاني هو الذي صاغ نظرية المجاز وربطها بنظرية التأويل، وبالتالي سنجعل المحاضرة حول عبد القاهر وإنجازه اللغوي في المحاضرة الثانية، لكن هذه المحاضرة عن التأويل اللاهوتي في القرآن، وبعدها محاضرة عن عبد القاهر الجرجاني.
من هم المعتزلة؟ وأنا لا أريد أن آخذكم في دراسة تاريخية وتحليلية اشتقاق الاسم، أعتقد أن كل هذه المرويات تفسر الاسم ولا تفسر الظاهرة، وأنا أريد أن أقدم لكم المعتزلة من خلال إضاءات، من خلال مجموعة من الأقوال تكشف لكم من هؤلاء الناس.
المبدأ الأول عند المعتزلة، طبعا بعيدا عن المبادئ الخمسة المشهورة جدا، العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، ولا بد أن نتساءل؛ هذا المبدأ من أهم مبادئ التنوير ومن أهم مبادئ الفلسفة، كيف تأتي للعقل العربي في القرن الثامن والقرن التاسع أن يعلن هذا؟
السياق السوسيو/ثقافي هو الذي سيكشف لنا لماذا كان على المعتزلة الأوائل أن يؤكدوا هذه القسمة أن العقل يوجد في كل البشر؟ ربما لكي أضيء هذه القضية (أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس)، وأن المعتزلة والفكر الإسلامي قد بالغ أحيانا هنا في أهمية العقل؛ لا أقصد ب «بالغ» هنا أنهم رفعوا العقل على النقل؛ لأنه حين يقول البعض إنهم بالغوا في شأن العقل؛ لأن هذا البعض يريد أن يبالغ في شأن النقل. لا أقصد هذا؛ لأن مفهومهم للعقل يتجاوز مفهوم العقل كبنية ثقافية، تتطور مع البنية الثقافية. مفهوم العقل عندهم قد يكون مفهوما مطلقا، وأبرز مثال لهذا المفهوم المطلق لمفهوم العقل نجده في رائعة حي بن يقظان التي كتبها ابن طفيل، ذلك أن حي بن يقظان وحده بعيدا عن اللغة، وبعيدا عن الثقافة وعن المجتمع، توصل إلى أسمى آفاق المعرفة، الإنسان المتوحد. فيه دراسة أنا كتبتها عن هذه القصة الرمزية أسميته - العقل المعتزلي - العقل الخالص، طبعا ليس بالمعنى «الكانطي». العقل الخالص، أي العقل المبرأ من شبهة أنه ينتمي لسياق اجتماعي وسياق لغوي، أو إلى أي سياق. العقل الإنساني هنا يستطيع أن يصل إلى أسمى درجات المعرفة قبل أن يتعرف على الشرع، واللقاء الذي نجده في حي بن يقظان بين حي بن يقظان وبين «اسأل» الشخصية التي جاءت من الجزيرة الأخرى. لقاء مذهل ولا أعتقد في عصر الترقب - عصرنا - الذي تكلم عنه الدكتور يوسف. إن هذا اللقاء يمكن أن يكتب. هذا لقاء العقل الخالص، مع الوحي المؤول؛ لأن «أسال» كان يمثل تأويل الوحي، فقد كان هاربا من جزيرة ترفض التأويل.
المقولة الثانية: «قيل لأحد الحكماء، متى عقلت؟ قال أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها وإذا أعطيها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل.» الجاحظ. هنا تعريف للعقل يضعه في قلب الحاجة وفي قلب المجتمع. ولا بد في دراسة المعتزلة أن نضع هذا التعريف «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، وأن نرى أن الجاحظ لا يورد اسم الحكيم الذي يأخذ منه هذا القول، وإنما يربط العقل بالحاجة. إذا وضعنا هذا في لغة عصرنا الحديث؛ إنه يربط العقل بالسؤال، فإنه من خلال عمل السؤال ينبثق عمل العقل، يتحرك العقل لكي يبحث عن إجابة للسؤال. الطفل يبحث عن الثدي حين يجوع، هذه حاجة لكنها أيضا تعني بدرجة ما وجود بذرة عقلية عند الطفل، ربما يمكن تسميتها أسماء أخرى.
يعني فيه في فكر المعتزلة وفي الفكر الإسلامي بشكل عام، هذا الجانب في الإعلاء من شأن العقل حتى يصل إلى عقل خالص مجرد من قيود الزمان والمكان والمجتمع، وربط العقل بالحاجة الإنسانية، وبالتالي احتمال الإيمان بتطور العقل، العقل كصيرورة وليس معطى نهائيا.
المقولة الثالثة: لإبراهيم بن سيار النظام، وأنا شاب كتبت هذه المقولة فوق مكتبي في حجرتي الصغيرة جدا، في الشقة الصغيرة جدا التي كنت أعيش فيها مع أسرتي: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإن أنت أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر» معرفة ليس لها أفق نهائي، أنت تبذل نفسك في طلب العلم . العلم هنا عند إبراهيم بن سيار النظام ليس هو العلم كما نقرؤه عند المحدثين؛ لأن كلمة «علم» في التراث الإسلامي تأخذ دلالتها ممن ينطقها، إلى ما ينتمي الشخص الذي يتحدث عن العلم، إلى أي جماعة؟ فحين يتحدث المتحدثون عن العلم يتحدثون عن علم الحديث، وهنا كثير من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن العلم التي رواها المحدثون هي تتحدث عن العلم بمعنى نقل الأحاديث، «يحمل هذا العلم من كل قوم عدوله» مثلا، يعني علم الحديث والأحاديث. لكن العلم هنا عند المعتزلة هو المعرفة بمعناها الواسع. العلم لا يعطيك بعضا منه إلا إذا تجردت له تجردا كليا، يعني ترهبنت. وإذا أعطيت نفسك كاملة للعلم فليس هذا ضمانا؛ لأن العلم يعطيك شيئا منه؛ لأن هناك ضمانات أخرى، ضمانات تحدث عنها المفكرون المسلمون هي ضمانات أخلاقية، ما يسمى بأخلاقيات العلم، ولا أريد أن أطيل في هذا.
هؤلاء هم المعتزلة أردت أن أقدمهم من خلال هذه الإضاءات.
ما هو السياق الذي يمكننا من فهم المعتزلة؟
لا بد في هذا السياق أن ننظر إلى البدايات والتطورات والنهايات. في البدء كان القرآن، كان الشعر يسبق القرآن؛ ولهذا قال النقاد؛ الأصمعي: «الشعر ديوان العرب، الشعر علم قوم لم يكن عندهم علم غيره»؛ بمعنى أن الشعر تجمعت فيه الحكمة، وتجمعت فيه عناصر الثقافة العربية، أو الأشكال الشعرية الأخرى مثل أقوال الكهان. وجاء القرآن بنفس الصيغة الشعرية، القرآن ليس شعرا، نعم. أنا أتحدث عن الشعرية وليس عن الشعر الآن، لغة القرآن ولغة كل النصوص المقدسة هي لغة شعرية بامتياز، استخدم القرآن أسلوب الشعر وحل محل الشعر. ومن هنا نرى هذا التوتر أو هذا الرفض؛ لأن العرب حين أدركوا، سواء الذين آمنوا به أو لم يؤمنوا، أدركوا هذه الطاقة، هذه القوة الشعرية، هذه القدرة على التأثير. وكل العبارات التي نسمعها إعجابا بالقرآن، حتى من قبل من لم يؤمنوا بالدعوة المحمدية، هي عبارات تعكس هذا الإحساس بالرهبة وقوة التأثير الشعري.
أصبح القرآن في البدء هو المعطى الأساسي، الذي تكون حول رسالته بعض الناس في مكة. ترابط هؤلاء البشر كونوا ما يشبه قبيلة، لكنها ليست قبيلة على نمط القبائل التي كانت قائمة، لا تربطها علاقات الدم والنسب، ولا تربطها علاقات القحطانية ... إلخ. هؤلاء الناس اجتمعوا حول هذا المفهوم، يعني يمكن أن نقول إنه تكونت قبيلة جديدة لكنها لا تقوم على نفس الأسس التي كانت تقوم عليها القبائل. رحلت هذه القبيلة إلى المدينة؛ لأن القبائل رفضتها، فتكونت بالتدريج دولة المدينة، هنا التحولات من البداوة، القبلية، القبيلة التي يمكن أن نطلق عليها
community
إلى دولة المدينة، كنص مؤسس يتحرك مع هذه الحركة. من هنا العلماء يميزون بين القرآن المكي والقرآن المدني، يميزون بينهما لا فقط على مستوى المضمون وإنما على مستوى الأسلوب، وعلى مستوى درجة الشعرية ودرجة النثرية ... إلخ.
من دولة المدينة، وهذه النقطة الثانية بدأ بناء الإمبراطورية، وقد بدأ بناء الإمبراطورية يتجسد في نقل العاصمة من المدينة إلى دمشق، ثم بعد ذلك من دمشق إلى بغداد، كما نعرف جميعا. لكن هذه النقلة من دولة المدينة إلى بناء المدينة اتسمت بالحروب الأهلية؛ الحروب الأهلية سواء نتحدث عن موقعة الجمل أو موقعة صفين. وفي الحروب الأهلية، بدأ جدل سياسي، وهذا الجدل السياسي أخذ تدريجيا طابعا دينيا.
مثلا علي بن أبي طالب، في موقعة صفين، يقول عن الأمويين وعن بني أمية: «قاتلناهم بالأمس على تنزيله، واليوم نقاتلهم على تأويله»، بمعنى قاتلناهم بالأمس كي يؤمنوا، يقصد بالطبع بني سفيان - بني أمية - قاتلناهم بالأمس على تنزيله، واليوم نقاتلهم على تأويله؛ لأن القضية هنا لم تعد حول الإيمان وإنما القضية هنا حول المعنى، أو هكذا فهمت. وهنا في فترة مبكرة جدا ربط علي بن أبي طالب بين التنزيل والتأويل، التأويل هو الوجه الآخر للتنزيل. في الحروب الأهلية بدأت الأسئلة، بدءا من سؤال الحاكم، من الحاكم ... إلخ من هذه الأسئلة، سنرى من هذه الأسئلة كيف بدأت بذور ما يسمى علم الكلام أو اللاهوت.
من عروبية الأمويين إلى أممية العباسيين، هذه هي النقلة الأخرى. الدولة الأموية دولة عروبية؛ لذلك لم يتحل أي خليفة أموي بأي لقب ديني، ليس عندهم ألقاب دينية، دائما فلان ابن فلان، وهذه سمة عربية. طبعا فيه تأثيرات فارسية، حين أقول عروبية الأمويين لا أعني تلك العروبية القائمة من البداوة. إنما الدولة العباسية قامت بشكل مغاير. قامت على أساس تكاتف قوى مختلفة، على إنهاء قوى من يسمون بالعلويين. في هذا الوقت لا نستطيع أن نتحدث عن الشيعة العلويين خاصة بعد مأساة مقتل الحسين تطورت الأسئلة، ومع تطور الأسئلة، برز علم الكلام وتطور، وهذا أيضا سنأتي إليه.
بعد هذا الحاجة إلى تأسيس العقل، بعد أن كثر الصخب وكثر الجدل، وطرحت إجابات مختلفة لنفس الأسئلة، ودخل النص القرآني كعامل من عوامل دعم هذه الإجابات. وأصبح النزاع أحيانا نزاعا حول معنى هذه الآية أو تلك الآية، هنا تطور الأمر بالحاجة إلى تأسيس معيار يحكم النقاش، وهو الحاجة إلى تأسيس العقل، وهذا ما قام به المعتزلة.
بعد تأسيس العقل كانت الحاجة إلى التأويل؛ ما الذي يفصل بين هذه الاختلافات في الأفهام؟ كل قراءة وكل استشهاد هو نمط من التأويل. وكل استشهاد مغاير هو نمط من تأويل مغاير. ويحدث ذلك في الفضاء الإسلامي الآن بطريقة مزعجة. أصبح القرآن كأنه موضوع في الجيوب تطلع الآية من الجيب، ويقسم فيها وجه (أعني في الحوارات العامة، وليس في الحوارات الأكاديمية). الحاجة إلى تأسيس نظرية في التأويل، هذا يؤدي إلى ابتداع استراتيجيات في التأويل، وهنا وجد المعتزلة وتابعهم في ذلك جميع الفرق، وجد المعتزلة في الآية السابعة من سورة آل عمران، وجدوا فيها مبدأ؛ هناك محكم، وهناك متشابه. هناك واضح، وهناك غامض، وبالتالي لا بد من رد المتشابه إلى المحكم أو الغامض إلى الواضح، وسنرى إلى أي حد اتفقوا على المبدأ واختلفوا في التطبيق.
ثم بعد ذلك إبداع آليات التأويل، وهو المجاز، كيف تطور مفهوم المجاز؟ لأن مفهوم المجاز كمفهوم لغوي لم يكن موجودا في الثقافة العربية. المجاز بالمعنى اللغوي هو المعبر، جاز يجوز أي عبر، المجاز هو المعبر، ويقال المجازة على الطريق الذي يصل بين طريقين. كما يقال المفازة على الصحراء بنوع من الأمل ألا يهلك فيها الإنسان. هي مهلكة لكن اللغة العربية مثل كل لغات الأرض تستخدم التضاد لأسباب كثيرة جدا كما يقال للأعمى بصير، هذا هو الأدب اللغوي أيضا.
هنا آخذكم برحلة إلى تطور هذه المفاهيم، وتبلور هذه المفاهيم؛ لأنه حين ندخل في قضية التأويل دون أن نفهم هذه المقدمات. يمكن ببساطة أن نصدر أحكاما على التأويل، وأهمها طبعا أحكام الانحراف، إنما إذا فهمنا الأساس المعرفي؛ فقد نتفق مع الأساس المعرفي وقد نختلف؛ لأنه لا يمكن الحكم على أي نسق فكري بأخذ النتائج والاتفاق معها والاختلاف معها. ليس هذا هو منهج النقاش العلمي، منهج النقاش العلمي هو الاتفاق والاختلاف مع الأسس التي أفضت إلى الوصول إلى هذه النتائج في هذا البحث أو ذلك. والتكفير كأداة من أدوات الرفض هو يعتمد ليس على مناقشة الأسس الفكرية لأي نسق فكري، وإنما فقط على النتائج التي يمكن اختصارها، ثم يتم إصدار الأحكام عليها.
بعد هذا نتكلم عن الآباء المؤسسين لعلم الكلام، وأنا أخذت وصف الآباء هذا من يوسف زيدان في مناقشة معه من قبل، أنا كنت أسميهم علماء الكلام الأوائل، لكنه وضع هذا المصطلح وأنا أعجبني هذا المصطلح «الآباء المؤسسين لعلم الكلام». سنجد أن معظمهم تم قتلهم، ذبحوا. معبد الجهني، وهو أول القائلين بالقدر كما يقال: القدر بمعنى أن الإنسان قادر، بمعنى نفي القدر، أن الإنسان مسئول على فعله. أعود مرة أخرى إلى مسألة من يستخدم المصطلح. يستخدم المصطلح للدلالة على المعتزلة؛ لأنهم ينفون القدر، ويستخدمه المعتزلة للدلالة على من يؤمنون بالقدر. ففي قراءتنا في النص التراثي لا بد دائما أن نتساءل عن السياق الذي يستخدم فيه المصطلح. كان هناك نوع من محاولة الاستيلاء على المصطلحات، فمن هنا القدرية والقدر والقدرة، سنجد كثيرا من الدلائل على أن المقصود بالقدرية هم الذين ينفون القدر؛ يعني ينفون أن أعمالنا الإنسانية تجري بقدر الله، وإنما هي أعمالنا الإنسانية تجري بقدرنا، بإرادتنا. قتله عبد الملك بن مروان عام ثمانين هجريا.
غيلان الدمشقي، قتله هشام بن عبد الملك، عصر عبد الملك بن مروان، هو عصر بناء الدولة، عصر بناء الدولة هو دائما عصر العواصف؛ إذن لكي تبني الدولة في العصر القديم يجب القضاء على كل أشكال المعارضة.
الحسن البصري لم يقتل، توفي عام 110 هجريا، وهو صاحب أول رسالة في القدر، والرسالة كان هناك تشكيك في نسبتها إلى الحسن. ولكن العلامة «فان إستس» الألماني أثبت أن هذه الرسالة صحيحة النسبة إلى الحسن البصري، أثبت بأدلة كثيرة جدا في كتاب له على درجة عالية من الأهمية لم يترجم إلى اللغة العربية بعد، خمسة مجلدات عن تاريخ علم الكلام.
الجعد بن درهم، أيضا من القدرية، لكنه أول من قال بخلق القرآن، ذبحه خالد القسري عام 120 هجريا.
لماذا لم يذبح الحسن البصري؟ وهذا سؤال على درجة عالية من الأهمية؛ لأن ذبحه كان سيكلف الدولة كثيرا؛ يعني معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، لم يكن لهم هذه الكاريزمية التي كانت للحسن البصري. جهم بن صفوان قتل في ثورة الحارث بن سريج في عصر هشام بن عبد الملك عام 128 هجريا.
من مجمل الأقوال التي نجدها في كتب المقالات عن هؤلاء الآباء المؤسسين لعلم الكلام والاعتزال، سنجد مقولة خلق القرآن، وهي من مقولات المعتزلة التي على أساسها بعد ذلك نعرف أن المأمون سيقيم محاكمات وما يسمى بعصر المحنة، محنة خلق القرآن. معبد الجهني قدريا، غيلان الدمشقي مرجئا. الصراع كان حول أمرين أساسيين؛ الأمر الأول: هو علاقة الفعل الإنساني بالإنسان، وعلاقة الفعل الإنساني بالإرادة الإلهية. وهناك من ضمن هؤلاء الآباء المؤسسين الأوائل أكدوا أن الإنسان مسئول عن عمله، ربما جهم بن صفوان يختلف عنهم في هذا الأمر، آمنوا بقدرة الإنسان ومسئولية الإنسان عن فعله.
القضية الثانية هي قضية طبيعة القرآن. القضية الأولى لا يمكن أن نفهمها إلا في سياق التحليل الاجتماعي الثقافي، حين تنشأ قضية ما في سياق ما ينبغي أن نبحث عن الأسباب التي جعلت هذه القضية تأخذ مركز الصدارة. القضية الخاصة بقدر الإنسان مرتبطة بممارسات النظم السياسية. كان الأمويون - هكذا تروي المراجع - ليس فقط مراجع المعتزلة، وإنما جميع المراجع، كانوا يقتلون ويقولون إنما تجري أعمالنا بقدر الله. الخلفاء العباسيون لم يختلفوا كثيرا، يعني قتل قائد من القواد وألقي برأسه من فوق القصر، وقالوا له لقد قتل صاحبكم بقضاء الله السابق. طبعا فيه زعم في كل النظم السياسية في هذه العصور؛ يعني هنا الإمبراطورية العربية والإسلامية ليست شذوذا عن القاعدة في ادعاء هذا الانتساب إلى قوة عليا؛ يعني أن أعمالها آتية من إلهام إلهي، ونحن عندنا زعماء كثيرون جدا يلهمون، وليس «بوش» وحده، يعني زعماؤنا كلهم يلهمون إلهامات.
يعني كان السؤال قارا في بنية المجتمع سؤالا مرتبطا بمصالح الناس. سؤالا مرتبطا ب: ما هي مسئولية الظلم؟ •••
التسجيل الذي سجل للمحاضرة، لم يضمن فيه كلمة د. يوسف زيدان، ولا النقاش. وترك نصف المحاضرة، في تناول نصر أبو زيد لهذه النقاط التالية من نقاط محاضرته:
تكوين الفكر المعتزلي.
في البدء كان «العدل».
مرتكب الكبيرة بين التكفير والإرجاء: السؤال السياسي.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المسئولية الإنسانية.
الوعد والوعيد: المسئولية الإلهية.
العدل: التوتر بين «مطلق الإرادة الإلهية» وبين «التعالي على الظلم».
التوحيد: تأكيد التعالي.
بنية النسق الفكري الاعتزالي.
التوحيد أولا والعدل ثانيا: القاضي عبد الجبار الأسدآبادي.
تعارض «البنية» مع «النسق»: المضمون المعتزلي في نسق أشعري.
السؤال المعرفي.
العقل الضروري/العلوم الضرورية (الحسيات والبديهيات).
العقل النظري/العلوم النظرية (الاستدلال).
العالم مصدر الدلالة.
أنواع/أنماط الأدلة: (1)
الأدلة العقلية (التوحيد). (2)
الأدلة الاختيارية: ما يدل بالدوافع والاختيار (العدل). (3)
الأدلة اللغوية (الشرع).
الدلالة اللغوية.
المواضعة بين «التوقيف» و«التوفيق».
الدال والمدلول: المواضعة الاجتماعية.
الفرق بين اللغة الطبيعية واللغات الإشارية.
اشتراط القصدية لصحة الدلالة.
التحويل الدلالي: المجاز.
المجاز بين الصدق والكذب.
التعريف والتطور.
ما يندرج تحت مفهوم المجاز.
هل يجوز وجود المجاز في القرآن؟ (1)
الخطاب القرآني ينتمي إلى مجال اللغة (محكوم بموضوعاتها). (2)
الخطاب القرآني أسمى من مجال اللغة (حاكم على موضوعاتها). (2) هذه هي نقاط المحاضرة كاملة
القرآن في تأويله اللاهوتي.
المعتزلة وحل إشكالية العقل والنقل.
من هم المعتزلة.
إضاءات
العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
قيل لأحد الحكماء: متى عقلت؟ قال: أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها وإذا أعطيها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل (الجاحظ).
العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإن أنت أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر (إبراهيم بن سيار النظام).
السياق السوسيو/ثقافي.
من البداوة/القبلية إلى دولة المدينة.
من دولة المدينة إلى بناء الإمبراطورية: الحروب الأهلية.
من «عروبية» الأمويين إلى «أممية» العباسيين.
الحاجة إلى تأسيس العقل.
الحاجة إلى «التأويل».
إبداع استراتيجيات التأويل: المحكم والمتشابه.
إبداع آليات التأويل: المجاز.
الآباء المؤسسون لعلم الكلام: ما قبل الاعتزال.
معبد الجهني: قتله عبد الملك بن مروان عام 80 هجريا.
غيلان الدمشقي: قتله هشام بن عبد الملك عام 99 هجريا.
الحسن البصري (ت 110 هجريا) أول رسالة في «القدر».
الجعد بن درهم ذبحه خالد القسري عام 120 هجريا.
جهم بن صفوان قتل في ثورة الحارث بن سريج في عصر هشام بن عبد الملك عام 128 هجريا.
تكوين الفكر المعتزلي، في البدء كان «العدل».
مرتكب الكبيرة بين التكفير والإرجاء: السؤال السياسي.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المسئولية الإنسانية.
الوعد والوعيد: المسئولية الإلهية.
العدل: التوتر بين «مطلق الإرادة الإلهية» وبين «التعالي على الظلم».
التوحيد: تأكيد التعالي.
بنية النسق الفكري الاعتزالي.
التوحيد أولا والعدل ثانيا: القاضي عبد الجبار الأسدآبادي.
تعارض «البنية» مع «النسق»: المضمون المعتزلي في نسق أشعري.
السؤال المعرفي.
العقل الضروري/العلوم الضرورية (الحسيات والبديهيات).
العقل النظري/العلوم النظرية (الاستدلال).
العالم مصدر الدلالة.
أنواع/أنماط الأدلة: (1)
الأدلة العقلية (التوحيد). (2)
الأدلة الاختيارية: ما يدل بالدواعي والاختيار (العدل). (3)
الأدلة اللغوية (الشرع).
الدلالة اللغوية.
المواضعة بين «التوقيف» و«التوفيق».
الدال والمدلول: المواضعة الاجتماعية.
الفرق بين اللغة الطبيعية واللغات الإشارية.
اشتراط القصدية لصحة الدلالة.
التحويل الدلالي: المجاز.
المجاز بين الصدق والكذب.
التعريف والتطور.
ما يندرج تحت مفهوم المجاز.
هل يجوز وجود المجاز في القرآن ؟ (1)
الخطاب القرآني ينتمي إلى مجال اللغة (محكوم بموضوعاتها). (2)
الخطاب القرآني أسمى من مجال اللغة (حاكم على موضوعاتها).
تأسيس التأويل لغويا وبلاغيا1
(1) تأسيس التأويل لغويا وبلاغيا
أيها الحضور الكريم، أيها السيدات والسادة: شكرا لحضوركم، أتمنى أن تكون هذه المحاضرة مواصلة وتواصلا مع ما قلته في المحاضرة السابقة؛ ففي المحاضرة السابقة تناولت إشكالية التأويل: لماذا كان على بعض أو على المسلمين أن يقوموا بتأويل القرآن وإعادة فهم القرآن؟ ووضعت ذلك في إطار الظروف الموضوعية، التاريخية السياسية/الثقافية، تناولت علاقة العقل بالنقل: لماذا كان لا بد في نظرهم للتأويل على أساس عقلي؟ وربطت ذلك بنظرية المعرفة عند متكلمي المعتزلة.
في هذه المحاضرة: أود أن أواصل تأسيس التأويل لغويا وبلاغيا. مرة أخرى أريد أن أكرر أن كلمة تأويل التي أصبحت محملة بدلالات سلبية في الاستخدام اللغوي المعاصر لأسباب كثيرة ولأسباب معقدة تاريخية. الكلمة لم تكن تحمل هذه الدلالة السلبية حتى هذا العصر، عصر عبد القاهر الجرجاني؛ توفي عام 471 هجريا، أي في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي. حتى هذا العصر عصر عبد القاهر لم تكن كلمة تأويل تحمل هذه الدلالات السلبية التي أصبحت تحملها في لغتنا المعاصرة؛ لأسباب يمكن أن نناقشها، وأنا كتبت في هذا متى حملت كلمة تأويل دلالات سلبية، وما هي الأسباب التي أدت إلى إطفاء الدلالات السلبية على كلمة تأويل؟
كلمة تأويل هي بمعنى التفسير المرتبط بنص ذي طبيعة معقدة، كلمة تفسير ترتبط بشرح المفردات أساسا. التفسير بمعنى التوضيح، توضيح الغامض. أما التأويل فهو الدخول إلى عالم النص وتحليل النص سواء كان هذا النص نصا لغويا أو نصا غير لغوي.
كيف تأسس التأويل لغويا وبلاغيا؟
هذا يجعلني أبدأ بعبد القاهر، فعند عبد القاهر الجرجاني اكتملت النظرية اللغوية عند علماء المسلمين، واكتمل بناء النظرية البلاغية عند علماء المسلمين. بعد عبد القاهر تحول علم البلاغة إلى علم تصنيفات وتفريعات؛ يعني انقسم العلم الذي تعامل معه عبد القاهر بوصفه علما واحدا هو علم البيان إلى علم المعاني وعلم الدلالة، بل انقسمت البلاغة إلى ثلاثة علوم فيما يرتبط بعصر التلخيصات وعصر الشروح. فأنا أعود إلى ما يسمى العصر الذهبي الذي تكون فيه الفكر، واستقام على عوده ونضج.
أبدأ ملاحظات منهجية لقراءة عبد القاهر، وهذا مهم أن نبدأ بالملاحظات المنهجية. هناك القراءة التتابعية؛ أن نقرأ مثلا كتاب أسرار البلاغة، ثم نقرأ بعد ذلك كتاب دلائل الإعجاز؛ لأنه كتب أسرار البلاغة قبل دلائل الإعجاز. لكي نستطيع أن نرى تطور فكر عبد القاهر الجرجاني. وهذه القراءة تميز بين مرحلتين في تفكير عبد القاهر، طبقا لهذه القراءة التتابعية، وطبقا لهذا المنهج، يكون بؤرة التركيز عقل المؤلف، وهذا منهج مفيد في معرفة تطور الفكر.
وهناك منهج القراءة التزامنية، يعني التعامل مع الكتابين - أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز - باعتبارهما نصا واحدا؛ يعني تطور فكر عبد القاهر، لكن الفكر الذي وصلنا هو فكر عبد القاهر. نحتاج أحيانا للقراءة التتابعية، لكني سأركز على القراءة التزامنية بالتعامل مع الكتابين باعتبارهما نصا واحدا. بؤرة التفكير ليست عقل المؤلف، وإنما النص العبد القاهري، إذا صح لنا أن نقول ذلك. الأمر الثالث في الملاحظات المنهجية أن عبد القاهر ينتمي لاهوتيا إلى المدرسة الأشعرية، وهو لغوي بالأساس. يعني حين نقول إن عبد القاهر أشعري يجب أن نميز بين طبيعة النظام النوعي الذي يمارسه عبد القاهر، فلا نصفه بالأوصاف الأشعرية كما لو كان لاهوتيا. معنى أنه أشعري أنه يتبنى اللاهوت الأشعري، لكن في دراساته النوعية لا يكتفي بما أنجزه الأشاعرة، وإنما الأشعرية المفتوحة لغويا وبلاغيا. تأثيرات الفكر الاعتزالي اللغوي والبلاغي على عبد القاهر واضحة. الجاحظ وهو يشير إلى الجاحظ؛ لأن الجاحظ كان لغويا، لكنه لا يشير إلى القاضي عبد الجبار، لماذا؟ لأن القاضي عبد الجبار يحيل إلى المعتزلة، وعبد القاهر لا يريد أن يقول إنه متأثر بالمعتزلة.
البعد الثالث (الرابع) منهجيا هو التمايز التأويلي، توظيف البحث اللغوي والبلاغي لاهوتيا؛ لأن عبد القاهر يمارس نشاطه في إطار علم نوعي هو علم اللغة وعلم البلاغة. لكن علم اللغة والبلاغة كانا قد تأثرا بالفعل بالأفكار اللاهوتية، وبالتالي سنجد أنه يميز حين يؤسس التأويل لغويا وبلاغيا، يميز بين من يسميهم المفرطين وهم الذين ينكرون المجاز، ولا وجود للمجاز في اللغة، وسنأتي إلى هذا. والمفرطون، يعني الذين يبالغون في استخدام المجاز من أجل التأويل. وهذا التمييز عند عبد القاهر ينبغي أن نأخذه مأخذا نقديا، لا نأخذه بأنه يضع قواعد علينا أن نتبعها.
إشكالية المجاز قبل عبد القاهر: أتتبع تاريخيا إشكالية المجاز، بشكل بسيط وإن كنا سنتعرض للتعريفات بعد ذلك. هو استخدام اللغة استخداما لا يؤدي إلى فهمها فهما حرفيا، حين يصبح الفهم الحرفي للعبارة فهما مشكلا، فلا بد من فهم العبارة فهما مجازيا. الأمثلة التي يطرحونها في تاريخ الفكر: سأل سائل، يقال إنه كاتب «للفضل بن ربيع»؛ ومعنى ذلك يحتمل أنه من أصل فارسي وأسلم. هذه ظاهرة وجود مسلمين في المجتمع ليسوا من أصول عربية، فيقرءون القرآن بمنطق لا يتفق مع المنطق اللغوي، بمنطق عقلي غير لغوي. هذا كما تقرأ نصا باللغة الإنجليزية، وأنت لا تعرف اللغة الإنجليزية جيدا، فتحاول أن تفهم النص الإنجليزي فهما منطقيا، يعني مثلا، للترفيه؛ كثير من الشباب الذي يذهب إلى أوروبا لا يعرف التمييز بين
I love you
وبين
I like you ، وهذا تمييز مهم جدا جدا، فإذا أحد من الشباب الذي يريد أن يعمل علاقة مع بنت فيقول لها
I love you
فتهرب. مشكلة عدم معرفة اللغة، وأنا وقعت في هذه المشكلة، ليس طبعا
I love you
و
I like you
وإنما أردت أن أرضي الطالبة، فقلت
I want to satisfy her
وده معناه جنسيا، فأحد الموجدين أشار بيده لي: توقف. طبعا ليست لغتي، شيء من هذا.
يعني مثلا: «طلعها كأنه رءوس الشياطين»، الكلام هنا عن شجرة الزقوم، تشبيه ثمر هذه الشجرة كأنه رءوس الشياطين. فالسائل قال: «فإنما يقع الوعد والوعيد بما عرف مثله، وهذا لم يعرف»، لم نر في حياتنا رأس شيطان فنفهم المعنى، فلماذا يلجأ القرآن إلى هذا التشبيه؟ منطقيا المفروض أن التشبيه هو علاقة بين الغامض من أجل توضيح الغامض. وهذا لم يعرف، لم نر رأس شيطان، فكيف نفهم هذا؟ شرح أبو عبيدة معمر بن المثنى، توفي سنة 207 هجريا، قال: «إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم.» وهذا مبدأ مهم، على درجة عالية من الأهمية: «أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوالي؟»
يعني: امرؤ القيس قال له أحدهم: سيقتلونك. فقال: كيف يقتلني والسيف مضاجعي، ويتكلم عن الرمح ومسنونة زرق كأنياب أغوالي. استخدم امرؤ القيس أنياب الغول كتشبيه و«هم لم يروا الغول قط». الغول مفهوم ذهني، وليس موجودا فيزيقيا «لكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به» (التخييل).
ما يريد معمر بن المثنى أن يقوله هنا: إن المسألة ليست أن يكون المستمع لهذه الآية قد رأى رأس الشيطان، لكن رأس الشيطان في الخيال مزعج. فالقرآن يريد عن طريق التخييل بالتشبيه أن يخلق هذا الأثر. غموض الدلالة جزء من تطور المجتمع، وأصبح النص غامضا يحتاج هذا الغموض إلى شرح، هذا غموض الدلالة على مستوى الاستعارة والتشبيه والكناية، على مستوى بلاغي.
لكن هناك غموضا أيضا لمن يقرأ القرآن، وليس له جذور في اللغة العربية. حينما أقول اللغة العربية يتوهم الناس بما أننا عرب فنحن فاهمون للقرآن. لا، نحن لا نتحدث اللغة العربية لغة القرآن. القرآن بالنسبة لنا إلى حد كبير يحتاج إلى معرفة اللغة التي صيغ بها القرآن
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (2/البقرة: 16). يقول الفراء وهو لغوي آخر في نفس القرن: «كما قال القائل: كيف تربح التجارة»، أي: لماذا أسند الربح إلى التجارة، أي جعلت التجارة فاعلا. فما ربحت تجارتهم مع أن التجارة المربوح فيه. يعني العبارة منطقيا تكون ربح التاجر في تجارته، لكن ربحت تجارتهم. يقول: «لكن يربح الرجل التاجر. ذلك من كلام العرب، ربح بيعك وخسر بيعك فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسارة إنما يكون في التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب»، هذا ربط للقرآن. تحدثنا في المحاضرة السابقة عن: هل القرآن ينتمي إلى مجال الفضاء اللغوي العربي، وإلى أي حد هذا الفضاء اللغوي يتحكم في القرآن، وإلى أي حد يتحكم القرآن فيه، وهي قضية إلى حد كبير قضية مشكلة. في القرن الثالث هناك الحرص على ربط القرآن بقوانين اللغة العربية. «مثله من كلام العرب مثل ليل نائم، والليل لا ينام وإنما ينام فيه»، النوم ظرف ننام فيه ليلا، «ومثله من كتاب الله فإذا عزم الأمر، وإنما العزيمة للرجال» إذا عزم الإنسان الأمر، الأمر نفسه لا يسند إليه. في هذه الأمثلة إسناد الفعل إلى من لا يقع منه الفعل. إسناد الفعل إلى غير فاعله، الفاعل هنا ممكن أن يكون مفعولا به، أو ظرف زمان، أو ظرف مكان، لكن الفاعل ليس فاعلا، بنية الجملة تجعل هذا الاسم فاعلا؛ «فلو قال قائل قد خسر عبدك، لم يجز»، لا يجوز أن يقول القائل: «خسر عبدك»؛ لأن العبد حسب هذا الفضاء الثقافي يمكن أن يكون تاجرا في مال سيده، فيخسر أو يربح فيكون فاعلا. ويمكن أن يكون تجارة أي أن يكون بيع العبد فخسر، في هذه الحالة يكون الإسناد إسنادا غير متجاوز فيه، يعني مجازا. المجاز هنا أخذ بعدين؛ بعدا في الدلالة في إطار التشبيه والاستعارة، وبعدا في التركيب اللغوي.
هذه المشكلات التي جعلت أبا عبيدة معمر بن المثنى يكتب كتاب «مجاز القرآن»، وجعلت «الفراء»، وكلاهما لغوي، يكتب معاني القرآن. الفراء ينتمي إلى المعتزلة لكن لا نستطيع أن نتحدث عن الفراء كلاهوتي، إنما هو أصلا لغوي. أبو عبيدة معمر بن المثنى قيل إنه خارجي، وقيل إنه كذا وكذا، لكن فكره اللغوي باعتباره نشاطا نوعيا لا يعكس بالضرورة هذا الموقف اللاهوتي.
المجاز: المجاز هنا في الجملة العربية يمكن أن يكون على مستوى التركيب، ويمكن أن يكون على مستوى الدلالة، «لكن وجدنا من يطعنون على القرآن بالمجاز»، يعني الطعن. أنا لم أعرف بالضبط من الذين يطعنون على القرآن بالمجاز، لكن دفاع ابن قتيبة يكشف لنا عن وجود جماعة يطعنون في القرآن على أساس أن القرآن يتضمن تعبيرات مجازية. وجود التعبيرات المجازية في القرآن خلق غموضا عند البعض وخلق مبررا للطعن عند البعض الآخر. المهم نعرف أن ابن قتيبة توفي 276 هجريا، ابن قتيبة طبق المجاز على الأناجيل: يعني قال إن مشكلة الأناجيل أنها فهمت فهما حرفيا، وله عبارة يقول فيها: «إن المسيح حين يقول أبي، فهو لا يقصد الأبوة بالمعنى الحقيقي، ولكن كما نقول أب بمعنى الرعاية.»
ابن قتيبة يقول: «وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز، فإنهم زعموا أنه كذب»، وكانت قضية هامة جدا في ربط المجاز بالكذب. تم تقسيم اللغة إلى: إما حقيقة وإما مجاز، ولم تفهم هذه المفاهيم الحقيقة أنها مفاهيم لغوية، وليست مفاهيم فلسفية ولا لاهوتية، فهمت باعتبار أن هذا حقيقة وهذا كذب، يعني حدث هذا النوع من الخلط. «لأن الجدار لا يريد»،
فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه (18/الكهف: 77) في قصة موسى «والقرية لا تسأل»
واسأل القرية التي كنا فيها (12/يوسف: 82). ابن قتيبة يقول: إن من يطعنون على القرآن؛ لأنه يتضمن مثل هذه التعبيرات «هذا من أشنع جهالتهم، وأدلها على سوء نظرهم وعلى قلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا، كان أكثر كلامنا فاسدا». هنا نحن نتكلم في اللغة ولا نتكلم في الواقع «لأنا نقول نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وقام الجبل، ورخص السعر». هذه العبارات تنسب الفعل إلى النبات وإلى الشجرة وإلى الثمرة وإلى الجبل، وهذا في تصور الفكر العربي اللغوي التقليدي أنه لا يجوز أن يسند إليها الفعل. بعد ذلك سنرى كيف تعامل عبد القاهر مع هذه العبارات. «ونقول كان الفعل منك في وقت كذا، والفعل لم يكن وإنما كون»، هذه قضية لاهوتية وهي قضية الفعل، «ونقول كان الله، وكان بمعنى حدث، والله عز وجل قبل كل شيء بلا غاية لم يحدث، فيكون بعد أن لم يكن، ولو قلنا للمنكر لقوله
جدارا يريد أن ينقض - وهذه عبارة مهمة جدا - كيف كنت أنت قائلا في جدار رأيته على شفى الانهيار، ماذا تقول؟ رأيت الجدار، ماذا؟ لم يجد بدا من أن يقول جدارا يريد أن ينقض أو يقارب أن ينقض. وأيا من كان فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم إلا بمثل هذه الألفاظ». هذا إدراك بديهي وإن كان لم يتعمق بعد للفارق بين العالم واللغة. إن اللغة لا تمثل العالم، وإنما اللغة تعبر عن العالم من خلال مفاهيمنا الذهنية عن العالم. طبعا هذا كلام سيدخلنا في الألسنية الحديثة، - وهنا يوجد صديق ألسني، فلا أريد أن أدخل في المجال - لكن فيه وعيا ما بأننا لا نستطيع أن ننظر إلى بنية العالم عقليا، ونتجاهل أن بنية اللغة ليست هي البنية العقلية للعالم، هناك ما يسمى بنية اللغة.
هذا كله ما كان ينتظر عبد القاهر، هذه المشكلات كانت تنتظر مفكرا في قامة عبد القاهر. هذه المشكلات تعامل معها المعتزلة، تعامل معها القاضي عبد الجبار، تعامل معها الجاحظ، لكن عبد القاهر أتاه هذا كله، وعبد القاهر لمن يقرأ كتابه يجده غاضبا من زمانه، وينعى على زمانه غياب العلم وغياب المعرفة وغياب التفحص. (2) تأسيس المجاز لاهوتيا
ماذا يقول عبد القاهر في هذه القضية؟ «ومن قدح في المجاز»، وهو هنا يرد على من يقولون، سواء كانوا منكرين للقرآن أو كانوا مدافعين عن القرآن؛ لأن هناك فريقا مدافعين عن القرآن يقولون إن القرآن ليس فيه مجاز؛ لأن المجاز قرين الكذب. وهذا لا يجوز على الله، فالقرآن ليس فيه مجاز. وهناك المهاجمون للقرآن؛ لأن فيه مجازا: «وهم أن يصفه بغير الصدق، فقد خبط خبطا عظيما، وتهدف لما لا يخفى ولو لم يجد البحث عن حقيقة المجاز العناية به حتى تحصل دروبه وتضبط أقسامه إلا السلامة من هذه القالة، والخلاص ممن نحا نحو هذه الشبهة؛ لكان من حق العاقل أن يتوفر عليه ويصرف العناية إليه.» يعني إذا كانت علاقة البحث ستؤدي إلى كشف هذه الشبهة، وكشف هذا الضلال المعرفي، فهذا يكفي.
لكن الأمر أعقد من ذلك، «فكيف وبطالب الدين حاجة ماسة إليه» إلى معرفة المجاز «من جهات يطول عدها، وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفية يأتيهم منها، فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنوا أنهم يهتدون» يعني إنكار البلاغة كارثة معرفية، وعبد القاهر يضيف: وكارثة دينية؛ لأن طالب الدين في حاجة ماسة إلى معرفة المجاز، ويتكلم على أن الجهل بالمجاز مدخل الشيطان. هنا عبد القاهر الجرجاني في قلب تحويل البحث اللغوي والبلاغي إلى بحث لاهوتي؛ «وقد اقتسمه البلاء - مفهوم المجاز - من جانب الإفراط والتفريط، فمن مغرور مغرم بنفسه دفعة براءة، ويشمئز منه جملة من ذكره وينبو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر - المعنى الظاهري بدون تأويل - لازم، وضرب الخيام حولها حتم واجب. وآخر يغلو فيه ويفرط ويتجاوز حده ويخبط فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق في التأويل ولا سبب يدعو إليه» عبد القاهر غاضب من المفرطين الذين ينكرون وجود المجاز، وهو مفهوم تحتاج المعرفة الدينية إليه، ومن جانب المفرطين في وجهة نظر عبد القاهر الذين يبالغون في التأويل باستخدام المجاز.
طبعا هنا نفهم أن المفرطين هم الظاهرية، والمفرطون في نظر عبد القاهر هم المعتزلة. تكلمنا المرة الماضية عن المفرطين المعتزلة. اليوم سننظر إلى المفرطين: الظاهرية، وأنا هنا ألجأ إلى ابن القيم الجوزية توفي سنة 751 هجريا، فمع ابن القيم تمت صياغة المفاهيم الصياغة اللاهوتية النهائية. ابن القيم الجوزية تلميذ ابن تيمية. وكما نعرف أن ابن تيمية هو الذي صاغ المذهب الحنبلي صياغة لاهوتية وفلسفية ولغوية؛ لأن ابن حنبل لم يصغ هذه المفاهيم، والفقهاء الحنابلة بين ابن حنبل وابن تيمية لم يكونوا متعمقين في علم الكلام ولا في المعرفة، لكن يعود الفضل لابن تيمية وضع فلسفة المذهب الحنبلي في صيغتها النهائية على كل مستويات المعرفة.
ابن القيم تلميذ ابن تيمية. الإشكالية الأولى التي تحدثنا عنها في المحاضرة السابقة إشكالية الكلام الإلهي قدم الكلام الإلهي وحدوث الكلام الإلهي، التي خاض فيها المعتزلة، قال: «قد علم بالاضطرار»، وأنا وضعت لها لونا آخر (بالاضطرار) «من دين الرسول
صلى الله عليه وسلم
أن الله تكلم حقيقة، وأنه تكلم بالكتب التي أنزلها على رسله كالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها، وكلامه لا ابتداء له ولا انتهاء. فهذه الألفاظ التي تكلم بها وفهم عباده مراده منها لم يضعها سبحانه لمعان قصد بها في كلامه»، وهو مسألة نقل المعنى «إلا على أصول الجهمية والمعطلة الذين يقولون كلامه مخلوق من جملة المخلوقات». هنا نظرية اللغة في منشئها لم تستطع التحرر من هذا السياق اللاهوتي حول مشكلة كلام الله، هل كلام الله قديم أم محدث؟ وبالتالي هل اللغة هي وضع إلهي، أم أن اللغة هي وضع إنساني؟ طبعا المعتزلة وكثير من مفكري المسلمين حتى الأشاعرة ومنهم عبد القاهر كما سنرى، لم يكن يمكن لهم أن يتجاهلوا حقيقة تعدد الأوضاع اللغوية. بالتالي كان لا بد أن يفترضوا أن اللغة وضع إنساني وليست وضعا إلهيا. وضع إنساني أسموه «التوفيق»، يعني بتوفيق من الله في النهاية، لكن بجهد الإنسان، والظاهرية وابن القيم يقولون «بالتوقيف». هذا هو الفرق بين التوفيق والتوقيف بما أن اللغة وضع إلهي، إذن ليست اللغة قائمة على المواضعة والاصطلاح، أي إن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة ليس لها علاقة بالبعد الاجتماعي والثقافي.
ابن القيم الجوزية هنا كما رأينا في النص السابق قال «بالاضطرار»، يعني جعل هذه المعرفة التي هي معرفة لاهوتية مرتبطة بكلام الله جعلها معرفة اضطرارية. وهذا يتناقض مع إجماع نظرية المعرفة الإسلامية، وهو التمييز بين المعرفة الاضطرارية والتي هي البديهيات، وبين المعرفة النظرية. وضع ابن القيم كما يضع بعض المعاصرين لنا هذه المعرفة «معرفة اضطرارية» في اللغة المعاصرة يسمونها «المعلوم من الدين بالضرورة»، وبالضرورة والاضطرار شيء واحد.
وقال «إن الله تكلم حقيقة»، وهذه عبارة مخيفة؛ لأن الله تكلم حقيقة معناها أن الله سبحانه وتعالى يمتلك جهازا صوتيا لكي يتكلم حقيقة. يعني نحن نتكلم في القرن الثامن - الهجري - يعني لم يكن حتى الظاهرية والحنابلة القدماء يقولون هذه العبارات بهذا الشكل من البساطة. وأنا أتيت ابن القيم أحيل إلى ما يحدث في الخطاب المعاصر من هذه القضايا والأقوال. ابن القيم اعتراضه على مشكلة الاصطلاح والمواضعة قائم على افتراض ذهني، أنه اجتمع مجموعة من العقلاء؛ يعني كان فيه مجلس حدث، وقرروا أن كلمة طويل تدل على الرجل الطويل، وأن كلمة قصير تدل على الرجل القصير. طبعا هذا لم يحدث في اللغة. علماء اللغة يقولون المواضعة يقصدون أنه ليست هناك علاقة لا عقلية ولا منطقية ولا صوتية، بين الصوت وهو الدال، وبين المعنى وهو المدلول. عبد القاهر بعد هذا سيقول: «ولو كان العرب قالوا بدل قصير طويل»، لو قالوا طويل بدل قصير لأصبحت هذه مواضعة؛ أي إن العلاقة بين الدال والمدلول في اللغة هي علاقة مواضعة اصطلاح اعتباطية. هنا ابن القيم الجوزية وكتابه اسمه «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة»، وهناك كتب أخرى بعنوان «الصارم البتار».
قضية اللغة الآن بصرف النظر عن الظاهرية والحنابلة ارتبطت في الفكر الإسلامي بشكل عام مع هذا الاستثناء، ارتبط بأن الوجود سلسلة من العلامات الدالة. ومن هذه السلسلة من العلامات يصل الإنسان إلى المعرفة، ما يسمى بمعرفة الشاهد. عند المعتزلة وعند الفلاسفة لا بد أن يبدأ الإنسان بمعرفة الشاهد، ثم يعرف الغائب بقياس الغائب على الشاهد. يصبح الوجود هو مناط الفكر، النظر في أدلة العالم توصل إلى المعرفة وهي الفكر. «الاستدلال نظر في الأدلة»، العالم يفضي إلى المعرفة الفكر، العالم الفكر.
اللغة تعبير عن المعرفة، فلا نستطيع أن ننظر إلى نظرية اللغة، دون أن نربطها بنظرية الفكر، دون أن نربط هذا. تصور الوجود عند علماء المسلمين.
النقطة الثانية: أن الفكر اللغوي والفكر البلاغي قبل عبد القاهر اعتمد على ما يسمى ثنائية «اللفظ والمعنى»، يعني هناك كلام كثير في تاريخ البلاغة العربية، أن هناك «من الكلام ما حسن لفظه وساء معناه، وما حسن معناه وساء لفظه، وأن الكلام البليغ هو ما حسن لفظه ومعناه» فيه ثنائية هنا يمكن أن تقول كلاما جميلا حسنا بعبارات غير حسنة، والعكس صحيح.
الجاحظ قال: «المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي والبدوي والحضري، وإنما القصد هو السبك والصياغة»؛ أي الذي يميز بين كلام وكلام هو سبك وصياغة الكلام. استعارة الصياغة وهي استعارة من صناعة الذهب والمعادن، استعارة مهمة جدا، جدا في الفكر اللغوي العربي، السبك والصياغة والسباكة، وحتى الآن نقول: كلام مسبوك، وصياغة حسنة. وهنا يستخدم المجاز في التعبير عن اللغة. (3) من اللغة إلى الكلام من المعجم إلى التركيب
عبد القاهر الجرجاني يستعيد هذه الثنائية، فنجده في كتاب أسرار البلاغة ينطلق من هذه الثنائية، لكنه في دلائل الإعجاز يخترق هذه الثنائية، لكن سيظل سؤال المعنى واللغة، أيهما أسبق، التفكير أم التعبير؟ ونحن نعرف أن هذه المشكلة حتى في اللسانيات المعاصرة ما تزال مشكلة معقدة. عبد القاهر أشعري، وأشعرية عبد القاهر هنا جعلته يعطي أسبقية المعنى على التعبير عن المعنى، وهذا له علاقة بنظرية الأشاعرة حول القرآن. نعرف أن الأشاعرة قالوا إن القرآن قديم من حيث «معاني»، من حيث إنه صفة إلهية في العلم الإلهي؛ لأن العلم الإلهي صفة إلهية، ولا بد أن يكون العلم الإلهي قديما؛ فالقرآن من حيث هو في العلم الإلهي، أي قبل أن يوضع في عبارات وألفاظ قديم، لكن القرآن حين صيغ في اللغة ووضع ألفاظا وعبارات محدث، فهو محدث نطقا قديم معنى.
هنا لا يستطيع المفكر اللغوي أن يتكلم عن المعنى النفسي. إنك تروم المعاني في نفسك ثم تنطق بها، كان لا بد لعبد القاهر أن يحافظ على هذه الثنائية. ليست ثنائية اللفظ والمعنى وإنما ثنائية المعنى والعبارة، يعني انتقل عبد القاهر من اللغة على مستوى المفردات إلى اللغة على مستوى التركيب. في نفس الوقت عبد القاهر يقول: «إن اللغة نظام من العلامات لا توصف بالحسن أو بالقبح»، يعني اللغة ألفاظ وعبارات، لا توصف العبارة بأنها حسنة أو قبيحة؛ «لأن الألفاظ لا تراد لنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني.» يعني تراد للدلالة على المعنى، فلا يوصف اللفظ بالحسن أو القبح.
وله أمثلة، هائلة جدا، إنه يأتي بأمثلة مثل كلمة «شيء» ويقول: إنها خارج السياق لا معنى لها، الكلمات تكتسب معانيها ودلالتها بالدخول في السياق، وفي علاقات تركيبية. بناء على هذا تصبح (الوجود - الفكر - اللغة) مستويات الوجود: الوجود العيني والوجود الذهني (الفكر) - وهذا هو الترتيب - ثم الوجود اللغوي والتعبير. والذي يساوي (الوجود - الفكر - اللغة) في العصر الحديث .
اللغة أصبحت تعبيرا عن الفكر الذي يتم تداوله أو رومه في النفس، وكلمة روم، يروم الفكرة في نفسه ليس معناه أن الفكرة واضحة لغويا، إنما يروم الفكرة في نفسه ثم يعبر عنها. ليس أمامنا بحسب عبد القاهر سبيل إلى الفكرة في عقل المتكلم، سبيلنا إلى الفكرة في عقل المتكلم هي العبارة التي تحدث بها. قد تكون هذه العبارة ناجحة في التعبير عما كان يروم في عقله، وقد لا تكون ناجحة.
عبد القاهر أقام هذه النقلة من الحديث عن اللغة باعتبارها مجموعة من الألفاظ في معجم، إلى الحديث عن اللغة من خلال علم التركيب، علم النحو. وهو
syntax
بالمعنى المعاصر، من النحو المعياري: ما هو النحو المعياري؟ هو معرفة المرفوع والمنصوب، والمجرور والعلامة الإعرابية. هذا هو النحو المعياري، إنما النحو التركيبي عند عبد القاهر يختلف اختلافا كبيرا، يعني مثلا يرد على هؤلاء القائلين - وهذا شيء مسل جدا - أن يقولوا إن النحو في الكلام مثل الملح في الطعام؛ يعني إذا زاد الملح في الطعام لا تستسيغه النفس، وإذا قل لا تستسيغه النفس. عبد القاهر يسخر من هذه العبارة كما لو كان النحو هو زينة أو شيئا مضافا إلى الكلام. لا يقوم كلام بغير النحو، وهنا معنى النحو عند عبد القاهر هو التركيب، وهو توخي معاني النحو فيما بين الكلمات كما سنرى فيما بعد. نقلة في الفكر اللغوي هامة، وطبعا نقلة مستفيد من إنجازات المعتزلة.
جعل مرة أخرى مفهوم الصياغة؛ الكلمات المفردة كلمات متناثرة، إذا أتيح لشخص عنده ذاكرة قوية، - ونحن طبعا ثقافتنا تفخر بالذاكرة - أن يحفظ لسان العرب، لا يستطيع أن يقيم جملة عربية وهو يحفظ لسان العرب. عبد القاهر يقول إن واضع الكلام «مثل الصائغ يأخذ قطعة من الفضة، فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة»، كيف يتم ذلك؟ يتم ذلك بقوانين النحو. تصيغ المفردات؛ المفردات خارج هذا القانون لا قيمة لها «علاقات التفاعل بين المفردات تتم على مستويين، وهما علاقات التجاور وعلاقات الاستبدال».
أمر آخر يميز عبد القاهر تمييزا هاما جدا ليس فقط بين المعنى والعبارة، إنما بين الغرض وهو المعنى الغفل، وهنا فهمت عند عبد القاهر حين يقول: «يروم المعنى في نفسه»، المعنى في النفس ليس معنى واضحا وإنما هو غرض. معنى غفل فكرة غامضة، لا يتحقق فهمها إلا أن يعبر عنها في الجملة. وهنا يعيد تفسير كلمة الجاحظ - المعاني مطروحة في الطريق - يعطي مثالا للفرق بين الغرض وهو المعنى الغفل وبين المعنى، أنت تريد غرضا أن تشبه زيدا بالأسد، هذا غرض. لكن تستطيع التعبير عن هذا الغرض بجمل شتى، لا يمكن القول إن المعنى هنا هو المعنى في هذه الجملة: «زيد كالأسد»، «زيد كأنه الأسد». طبقا لعبد القاهر هاتان جملتان تعكسان معنيين مختلفين، وإن بدا لك أنهما نفس الجملة. لا يمكن إعادة إنتاج نفس المعنى إلا بأن تعيد الجملة ذاتها. «زيد أسد» هذا مستوى ثالث؛ لأنك حذفت الكاف، وحذفت كأن. «إذا لقيته لقيت الأسد» مستوى رابع. إذن هناك فرق في المعنى بين الجملة الأولى والثانية والثالثة. لها غرض واحد أي معنى غفل واحد، وهو إرادة تشبيه زيد بالأسد، لكن ليس هذا هو المعنى. المعنى يتأتى من هذه العلاقات التفاعلية بين استخدام كاف أو استخدام كأن، أو استخدام عبارة أخرى لا يوجد فيها حرف التشبيه أو التقديم والتأخير.
يقول عبد القاهر: إذا قلت: «قتل الخارجي» (الخارجي يعني في الحروب التي كانت قائمة في ذلك العصر)؛ فما معنى أن تقيم الفعل للمجهول؟ لأن من يريد أن يسمع الخبر لا يهتم بمن قتله، إنما يهتم بأن هذا الذي كان يثير الفساد في الأرض قد قتل. إذا أردت أن تقول: أنا كاتب هذا الكتاب. معناها أن الدكتور يوسف - يوسف زيدان - سرقه مني، إذن الدكتور يوسف أخرج كتابا، وأنا قلت أنا كتبت هذا الكتاب. لا يصح تقديم أنا هنا إلا إذا كنت تدعي أن شخصا آخر يدعي تأليف الكتاب. هذا معنى تقديم الأنا. إذا قلت كتبت الكتاب، فأنت تعطي خبرا عاديا، لكن أنا كتبت الكتاب فيه إنكار لأن يكون غيرك هو الذي كتب الكتاب. التقديم والتأخير، هذه هي العلاقات. وهنا عبد القاهر معلم، وأنا تعلمت منه الكثير في تحليل اللغة؛ في النظر إلى الفروق الدقيقة في العبارات اللغوية، سواء نتحدث عن التركيب في التقديم والتأخير، وفي الحذف والوصل، كل هذا يعطي دلالات في الجمل.
هو مثلا يتوقف أمام الاستعارة ويقول: الاستعارة ليس لها معنى حقيقي إلا في تركيب، فحين يقول القرآن
قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا (19/مريم: 4)، الغرض هو تشبيه بياض الشعر وهو الشيب، بالنار. يقول إن هذا ليس صحيحا، لماذا؟ لأنك لا تفهم الاستعارة إلا أن تفهم إسناد الفعل (اشتعل) الرأس وجعل الشيب تمييزا؛ تمييزا نوعيا. اشتعل الرأس شيبا، لو قلت: اشتعل شيب الرأس ليس هو نفس المعنى، اشتعل شيب الرأس أي وجد الشيب في الرأس. اشتعل الرأس شيبا يعني أصبح الشيب يغطي الرأس كلها، ولا يتأتى هذا إلا بالتمييز النوعي. دخول فيما يسمى تحليل العلاقات التركيبية والدلالية.
يتوقف أمام أمثلة كثيرة، وأنا أسف لا بد أن أكثر من الأمثلة؛ لأني لا أريد أن تكون المحاضرة تجريدية، يتكلم على استعارة أخرى، «وسالت بأعناق المطي الأباطح»، يرجعنا للسياق، والسياق الشاعر يقول:
ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على ظهر المطايا رحالنا
ولم يعرف الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح
لا يمكن أن تفهم هذه الاستعارة دون أن تفهم كل هذا السياق، انتهاء الحج، طواف الوداع، وضع الحمولات على الركائب، تحرك الناس، لا يعرف الغادي من هو رائح، أخذنا بالأحاديث بيننا. ثم هذا، تشبيه حركة الإبل في الصحراء كأنها تسيل بأعناق المطي. هنا عبد القاهر يضع قضية المجاز في قلب البحث اللغوي، وإن كان هذا البحث اللغوي لم يتحرر، وليس من الممكن أن يتحرر من التأثير اللاهوتي.
علاقات التجاور، علاقات النحو: عبد القاهر يقول: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له». يقول إذا فهمت ضرب وحدها، وزيد وحده، وعمرو وحده، ويوم وحده، فأنت لم تفهم الجملة . هناك علاقة «ضرب زيد» إسناد فاعلية، تخصيص أول عمرو مفعولية، وقوع الضرب ليس أي ضرب، وقوع الضرب من زيد على عمرو تخصيص ثان، يوم الجمعة ظرفية زمانية توقيت، وقوع الضرب طوال الوقت تحتاج إلى أن تعود إلى الجملة من أولها، توقيت وقوع الضرب من زيد على عمرو تخصيص ثالث، ضربا شديدا: تأكيد بيان لنوع الضرب من زيد على عمرو يوم الجمعة، تأديبا له: تعليل للضرب الشديد الواقع من زيد على عمرو يوم الجمعة. إذن لا تفهم معنى تأديبا له؛ لأنها تعيد تحديد معنى الضرب، تقيم تمييزا بين الضرب للإيذاء والضرب للتأديب، فكلمة «ضرب» لا يكتمل معناها إلا أن نصل إلى آخر كلمة في العبارة. السبك، والصياغة والسبك.
التمييز بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي: هنا نعود باللغة إلى بعدها اللاهوتي، ما هو المجاز اللغوي إذا أسندت الفعل إلى غير فاعله؟ يقول عبد القاهر: هذا مجاز لغوي، طبعا هذا يقوله في أسرار البلاغة، وقد طوره في دلائل الإعجاز، بحيث هذا التمييز بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي. المجاز العقلي، ماذا؟ أن تنسب الفعل إلى غير فاعله، خاصة إذا كان الفعل لله، فتقول أشاب الكبير وأفنى الصغير، دوران الفلك مثلا. يقول لك: إن الذي يشيب ويفني هو الله سبحانه وتعالى. كيف عرفنا ذلك؟ بالعقل، دليلنا بمجازية هذه العبارة الدليل العقلي، أن هناك أفعالا تحت قدرة الإنسان، وأفعالا لا تقع تحت قدرة الإنسان ولا تقع تحت قدرة الأفلاك.
جدارا يريد أن ينقض
أنت تعرف أن الجدار ليست له إرادة. إذن وسيلتنا إلى معرفة المجاز هنا العقل، والتمييز بين المجاز اللغوي هذا كلام عبد القاهر القديم الذي تخلى عنه بعد ذلك، على الأقل لم يعطها اهتماما في نظرية السبك والصياغة. المجاز اللغوي أحيانا يقول إن المجاز ممكن أن يقع في المفرد، وهذا أيضا قد تخلى عنه بعد ذلك.
ماذا يحدث في المجاز: يقول عبد القاهر إن في المجاز معنى، لكن المعنى يشير إلى معنى آخر، إلى معنى المعنى أو المعاني الثواني. والمهم في الاستعارة وفي المجاز بشكل عام هو المعنى الثاني. يعني بمعنى آخر، قد يتحول المعنى الناتج عن العبارة اللغوية على مستوى المعنى، إلى معنى في ذاته يشير إلى معنى آخر. طبعا الأمثلة من التراث حين نقول عن الفتاة أو عن المرأة: إنها «نئوم الضحى»، المعنى في العبارة أنها تنام حتى الضحى. هل هذا هو المراد أن تخبر عن امرأة معينة أنها نئوم الضحى؟ لا المعنى: أن تقول إنها مترفة تخدم، لا تحتاج إلى الصحو في الصباح للشقاء، وتركب المواصلات وتذهب إلى العمل. هنا العبارة اللغوية لها معنى، لكن هذا المعنى يشير إلى معنى آخر، هو معنى المعنى الذي سماه عبد القاهر «المعاني الثواني». هذا إنجاز عبد القاهر، التمييز بين المعنى الناتج عن العلاقات التركيبية، ومعنى المعنى.
التمثيل على سبيل الاستعارة يدخل في المجاز: «أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى» تقوله للرجل المتردد. إذا قلت له أراك مترددا في الأمر، كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى. إذا قلت العبارة بهذا الشكل، فهذه ليست مجازا، هذا تشبيه، تمثيل على سبيل التشبيه. إنما إذا قلت لصديقك: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى. هذا مجاز؛ لأنك حذفت التمثيل. إذا قلت له أراك تضرب أخماسا في أسداس، إذن العبارات المسكوكة يمكن أن تقع في المجاز.
المجاز والتأويل: كل هذا البحث في المجاز، والتمييز بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي، المجاز على مستوى التركيب والمجاز على مستوى الاستبدال. كما رأينا في النص الأول لخدمة قضية التأويل. إن الجهل بالمجاز كما يقول عبد القاهر: إن معرفة المجاز ضرورية للدين، وإن الجهل بالمجاز يجعل مداخل للشيطان، لماذا؟ لأنه يحرمنا من فهم المعنى الديني يجعلنا نتوقف عند لزوم الظواهر، ونقيم حولها الخيام، وأن عبد القاهر حين ميز بين المفرطين والمفرطين ينطلق من موقفه كأشعري. العلاقة بين المجاز والتأويل علاقة حيوية، في الفكر الإسلامي أنا أتحدث، منذ المعتزلة حتى ابن رشد، الاستثناء على ذلك الصوفية والفكر الصوفي، كما سنتحدث في المحاضرة القادمة، والتي تأجل موعدها للخميس بدلا من الأربعاء، وأنا سعيد بهذا؛ وهذا للقاء للدكتور يوسف؛ لأن هذا مجال الشقاق والمحبة بيننا في نفس الوقت؛ لأن الدكتور يوسف متخصص في التصوف وأنا لي في التصوف، فأعتقد أن الندوة تحتاج للدكتور يوسف، أن يكون موجودا كمحاور. فهذا الجدل المحبي والتنازع أيضا.
قام مبدأ التأويل، في مرحلة مبكرة حول قراءة الآية السابعة، سورة آل عمران
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا (3/آل عمران: 7)، قام الخلاف الكبير حول كيف نقرأ الآية، هل نقرؤها بالعطف فنقول: «لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم»، أو نقرؤها على القطع والاستئناف
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به
وهذا خلاف. الذين يقولون لا يعلم تأويله إلا الله يقرءون الآية على القطع والاستئناف. والذين يقولون بإمكانية معرفة المتشابه في قدرة العلماء يقرءون الآية بالعطف. «ونحن» في الشباب نتحمس طبعا، بأنه يجب أن نؤمن بأن البشر يعرفون التأويل، لكن قرأت الآية من منظور الشيخ عبد القاهر. أنا سأطبق فكرة الصياغة والسبك؛ لأن الآية تقول:
في قلوبهم زيغ ،
وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله . اللغة النفي والاستثناء التي نسميها القصر، القصر معناه أن الفعل لا يقع إلا من هذا الفاعل،
وما يعلم تأويله إلا الله . الأمر الثاني لغويا، وأنا هنا تلميذ عبد القاهر. إذا قلنا إنها بالعطف
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
فتصبح جملة
يقولون آمنا به
كأنها جملة منفصلة لا محل لها من الإعراب، هنا تفكك السبك تماما، فيه علاقة بنيوية بين
والراسخون في العلم يقولون آمنا به
وهذه تؤكد أنهم من الخارجين عن الاختصاص. هذا معنى الآية، أحب من أحب وكره من كره.
هل الآية تضع قانونا لتفسير القرآن؟ هذا سؤال ثان، هنا خرجنا من الأزمة الكلاسيكية إلى سؤال أهم. خاصة وأن القرآن في صيغات أخرى يتحدث أن كله محكم وفي صياغات أخرى كله متشابه
كتاب أحكمت آياته . لكن هذه هي المشكلة التي أثيرت، صار التأويل أداة للجمع بين المحكم والمتشابه، فهم المتشابه في ضوء المحكم. إذا تعارض المعنى يصبح التأويل مجالا خصبا لفك هذا التعارض بين المحكم وبين المتشابه، وهذا ما يقوله ابن رشد.
تركز الخلاف في التأويل في هذه القضايا. أما في قضايا التأويل فهناك خلاف بين الأشاعرة وبين المعتزلة في قضايا التوحيد والصفات بشكل عام. هناك اختلاف حول قضية رؤية الله عز وجل مثلا يوم القيامة. يعني
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة (75/القيامة: 22، 23) هذا دليل محكم عند أهل السنة، والأشاعرة على أن الإنسان يوم القيامة يرى الله بنظره بالعين المجردة. عند المعتزلة هذه قضية لاهوتية مستحيلة؛ لأن رؤية الله سبحانه وتعالى تعني أنه في جهة، وبالتالي يفرقون بين النظر والرؤية. يقول نظرت إليك ولم أرك، نظر إلى الهلال ولم يره، فيه خلاف رهيب جدا جدا، لكنه متوقف عن هذه القضايا اللغوية الجزئية. هل نرى الله يوم القيامة أو لا نرى الله يوم القيامة؟ هذا هو السؤال.
لا تدركه الأبصار
عند المعتزلة هو المحكم، وتصبح
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
هي المتشابه الذي يجب أن يؤول لكي تتفق مع المحكم، تجزؤ القرآن هنا طبعا خارج السياق تماما، وكلا الفريقين قد اعتمد على هذا، على انتزاع الآية من السياق، ومحاولة إخضاعها المعنى اللاهوتي المسبق، القناعة اللاهوتية المسبقة.
في قضايا التوحيد الأخرى، هناك المنزهة المعتزلة والأشاعرة، والمشبهة الذين يقولون إن لله يدا ووجها ولكن ليست كأيدينا، والاستواء معروف والكيف مجهول، والحديث عنه بدعة، والإيمان به واجب. وأنا حتى الآن لست فاهما كيف يكون الشيء معروفا أو مجهولا في نفس الوقت، فإذا كانت الكيفية مجهولة فلا تتحقق المعرفة؛ لأنها معرفة بلا كيفية يعني. إنما العبارة أصبحت تستخدم دون تفحص، ليست هذه قضيتنا على أي حال، لكن الخلاف في التوحيد تضاءل. وهنا عبد القاهر حينما يتكلم عن المعتزلة باعتبارهم «مفرطين»؛ لأن الأشاعرة يتفقون مع المعتزلة في تأويل آيات التشبيه ويختلفون معهم في العدل، أي في خلق الأفعال، في نسبة الهدى والضلال إلى الله، وهذه قضية تطول، والمشيئة الإلهية.
ومرة أخرى خضع القرآن إلى هذا التجاذب؛ نتيجة تقسيم القرآن إلى محكم وإلى متشابه، ودون النظر في حتى سياق هذه الآية. على من تتحدث هذه الآية؟ من هم الذين في قلوبهم زيغ ؟ نحن نحتاج إلى دراسة القرآن مرة أخرى بعيدا عن هذه الرؤية اللاهوتية، وبعيدا عن هذه التقسيمات اللاهوتية.
يعني مثلا
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (6/الأنعام: 125) طبعا إرادة الله، المعتزلة يقولون لك يضله يعني أطلق عليه اسم الضلالة، بمعنى أسماه، منحه الاسم. وندخل في: هل الاسم هو المسمى؟ فنعود مرة أخرى إلى قضايا لاهوتية تتزيا بالمصطلحات اللغوية.
مثلا
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (17/الإسراء: 16) لا المعتزلة يعرفون حلها، ولا خصوم المعتزلة يعرفون حلها. الحلول اللاهوتية تفشل تماما؛ لأن هنا الإرادة والقصد، لكنهم يقفون عند «أمرنا»
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها
يعني: هل الله سبحانه وتعالى يأمر الناس بالفسق؟ السؤال هنا يدخل في اللاهوت ويبتعد عن اللغة، يبتعد عن إذا وعن شرطيته، ويبتعد عن أي قرية يتحدث عنها القرآن، ويبتعد عن السياق. كل محاولات المعتزلة: «أمرنا» ليست بمعنى فرضنا، وإنما بمعنى أكثرنا عددهم من «أمر» يعني كثر ومن هنا كلمات مؤتمر. في النهاية أكثرنا عددهم، وهذا هو السبب في الفسق. هذه كلها محاولات أعتقد أنها لاهوتية، وهذه المحاولات تفشل في رد القرآن إلى سياقه؛ سياق التهديد. هذه الآية في التهديد، تهديد القرية التي اضطهدت النبي
صلى الله عليه وسلم ، واضطهدت المسلمين. وهذه هي الإرادة الإلهية تعلن عن نفسها وتعلن عن إرادتها وموقفها إزاء هؤلاء:
وإذا أردنا أن نهلك قرية
هذا كلام موجه لمن؟ موجه لمشركي مكة، وسوف نتكلم في المحاضرة الأخيرة عن هذه المسألة بالتفصيل؛ يعني السياق. ففي هذا الخطاب، من المخاطب؟ نمط الخطاب؟ نوع الخطاب؟ لغة الخطاب ؟ كل هذا غاب بسبب، طبعا، الخلاف اللاهوتي المتجذر في الخلافات السياسية، كما شرحته قبل ذلك في المحاضرة السابقة.
الوعد والوعيد هل يجوز على الله أو لا يجوز على الله ... إلخ. كلها أسئلة من خارج سياق الخطاب، تفرض على الخطاب أن ينطق إجابات بعينها. التحليل الذي أعرضه هنا أنا مستفيد من عبد القاهر الجرجاني؛ لأن عبد القاهر لم يدخل في هذه القضايا؛ لأنه كان مفكرا لغويا وبلاغيا وإن لم يكن بعيدا تماما عن التأثر بالأبعاد اللاهوتية.
عبد القاهر والمدرسة الأدبية الحديثة: محمد عبده هو الذي اكتشف عبد القاهر وهو الذي درس عبد القاهر في مدرسة دار العلوم، ودرس كتب أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز. وأول طبعة للكتابين، طبعة دار المنار التي كان محمد رشيد رضا على رأسها. محمد عبده اكتشف هذا الثراء في تاريخ الفكر اللغوي. من هنا محمد عبده لا يستخدم المصطلحات اللغوية البلاغية المتأخرة في تاريخ الفكر الإسلامي، وإنما يعود مرة أخرى إلى عبد القاهر الجرجاني، كما يعود إلى الفكر الإسلامي فيما يسمى «الفكر الإسلامي في عصره الذهبي». طور محمد عبده مفهوم التمثيل إلى أن القصص القرآني ليس مقصودا به الإخبار بالتاريخ - هذا كلام محمد عبده - وإنما هو تمثيل للعظة والعبرة، وقد توجد الواقعة التاريخية، ولكن القرآن ليس مشغولا بالواقعة التاريخية ذاتها، وإنما مشغول بالعظة والعبرة، وهذا هو معنى التمثيل.
التأويل التمثيلي: يصل محمد عبده إلى استخدام مصطلح الأسلوب، وهو مصطلح معاصر لمحمد عبده، وهو أول من استخدم مصطلح الأسلوب في تفسير المنار في الجزء الذي كتبه رشيد رضا نقلا عن محاضرات (دروس) محمد عبده. وهو الجزء الذي لم تكتمل فيه سورة النساء. ورشيد رضا كان أمينا أمانة قصوى في أن ينقل آراء الإمام، ويميز بين آراء الإمام وآرائه. سنجد تطورا في منهج التفسير. محمد عبده لم يتوقف عند المحكم والمتشابه؛ لكي يجعله أساسا للتأويل، وإنما توقف عند مفهوم عام «القرآن كتاب هداية وليس كتاب تاريخ». فالغرض الأساسي من النص القرآني هو الهداية. إذن كل الأغراض المختلفة تفسر في سياق هذا الغرض الأكبر. لكي نفهم القرآن، يقول محمد عبده «يجب أن نفهم العقل العربي قبل الإسلام؛ لأن القرآن جاء على كلامهم.» يعود محمد عبده إلى هذه؛ على كلام العرب وعلى عقل العرب السياق الاجتماعي، السياق الثقافي، والسياق الديني. هذا بالإضافة إلى تاريخ المجتمع الإسلامي الأول خلال نزول القرآن .
الشيخ أمين الخولي: وهو يتابع خطى محمد عبده في هذا الطريق، صاحب نظرية التفسير الأدبي، وهي مقالة كتبها في الأصل تعليقا على مقال التفسير في دائرة المعارف حين ترجمت في الثلاثينيات من هذا القرن. ترجمت مقالة التفسير في دائرة المعارف وعلق عليها الشيخ أمين الخولي ببحث أكبر من المقالة عدة مرات، وفيه طرح نظرية التفسير الأدبي. قال «الهدي هو غرض القرآن» هدف «لكن القرآن بيان» عمل تمييز بين الغرض، كعبد القاهر، والتعبير. فما اعتبره محمد عبده «قال هو الغرض من القرآن»، أما التحليل البياني للقرآن. وهنا المرحومة عائشة عبد الرحمن التي كتبت التفسير البياني للقرآن، هي تلميذة الشيخ أمين الخولي، قال يوسف زيدان هنا: وزوجته. فأكمل أبو زيد: أهم حاجة عندي تلميذته، أما زوجته هذا أمر أسري. حين يقول الشيخ أمين الخولي نصا أدبيا، فهم الناس في عصره أنه يعني خيالا وروايات ورومانسية وهكذا. النص الأدبي هو عبارة يقصد بها البنية اللغوية، وليس أنه قصة ورواية وحب، وأفلاطون خيال ووهم؛ ذلك لأننا أيضا لا نفهم ما هو الأدب في ثقافتنا المعاصرة. التمييز بين ما هو أدبي وما هو قلة أدب، فيه هنا خلط كثير جدا، والتراث العربي القديم كان قادرا على التمييز بين المعنى الشعري والمعنى الديني. إذن المقصود بأن القرآن نص أدبي أن بنيته بنية أدبية، والبنية الأدبية تمتد من القصيدة والقصة القصيرة إلى ما يسمى البنية السردية. إن بنيته السردية بينة أدبية.
طبعا تلامذة أمين الخولي، عائشة عبد الرحمن، شكري عياد، محمد أحمد خلف الله حاولوا أن يطوروا نظرية الخولي، لكن للأسف الشديد هناك معوقات كثيرة أساسها عدم فهم الظاهرة الأدبية. فهم الظاهرة الأدبية باعتبارها تسلية وترفيها، باعتبار الأدب تسلية . هذا يخلق إحساسا بأن القرآن نص أدبي يعني نصا للتسلية، أو نص فولكلور كما علق أحد الناس، وهذا جهل بالفلكلور قبل أن يكون جهلا بالقرآن.
الشيخ أمين الخولي يقول في هذه النظرية إنه يميز بين علوم ما حول النص ولا يقصد بها علوم القرآن التقليدية فقط، كما نجدها عند السيوطي وعند الزركشي، ولكن يقصد معرفة العصر التي أشار إليها محمد عبده قبل ذلك، ومعرفة تاريخ الأديان. ثم بنية النص ثم ما بعد النص وهو تاريخ التفسير. هذه المدرسة الأدبية تطورت، ولكن تعرضت إلى ما تعرضت له. بين عبد القاهر والمدرسة الأدبية علاقة جدلية وعلاقة هامة جدا في تطوير الفكر حول القرآن.
النقلة من التفسير اللاهوتي، والمجاز والمحكم والمتشابه إلى التفسير الصوفي ستصبح نقلة نوعية، وهذا موعد لقائنا القادم إن شاء الله.
وشكرا لكم. (4) هذه هي النقاط التي استخدمها أبو زيد في إعطاء المحاضرة
تأسيس التأويل لغويا وبلاغيا.
عبد القاهر الجرجاني (ت 471ه).
ملاحظات منهجية قراءة عبد القاهر.
القراءة التتابعية (diachronic) : التمييز بين «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، وتتبع تطور الفكر البلاغي عند المؤلف. بؤرة التركيز «عقل المؤلف».
القراءة المتزامنة (synchronous) : التعامل مع الكتابين باعتبارهما نصا واحدا. بؤرة التركيز «النص العبد القاهري».
الأشعرية المفتوحة لغويا وبلاغيا (تأثيرات المعتزلة: الجاحظ والقاضي عبد الجبار).
التمايز التأويلي: توظيف البحث اللغوي والبلاغي لاهوتيا (نقد المفرطين والمفرطين).
إشكالية المجاز قبل عبد القاهر. (أ)
غموض الدلالة.
سأل سائل عن قوله تعالى في شجرة الزقوم:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
فقال: إنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله، وهذا لم يعرف. شرح أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 207ه): إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟
وهم لم يروا الغول قط، لكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به (مجاز القرآن 1: 100-101). (ب)
التجاوز في التركيب.
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (البقرة: 16) يقول الفراء (ت 209ه): «ربما قال القائل: كيف تربح التجارة، وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسارة إنما يكون في التجارة فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله:
فإذا عزم الأمر ، وإنما العزيمة للرجال. ولا يجوز الضمير إلا في مثل هذا، فلو قال قائل: قد خسر عبدك، لم يجز ذلك إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه ويوضع؛ لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح من معناه إذا كان متجوزا فيه. فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك، ودنانيرك وخسر بزك ورقيقك، كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.» (معاني القرآن: 1: 14-15). (ج)
الطاعنون على القرآن بالمجاز.
دفاع ابن قتيبة (ت 276ه) عن «المجاز»: وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب؛ لأن الجدار لا يريد والقرية لا تسأل، وهذا من أشنع جهالتهم، وأدله على سوء نظرهم وقلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا كان أكثر كلامنا فاسدا؛ لأننا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وقام الجبل، ورخص السعر. ونقول: «كان الفعل منك في وقت كذا وكذا» والفعل لم يكن وإنما كون، ونقول: «كان الله»، وكان بمعنى حدث. والله عز وجل قبل كل شيء بلا غاية لم يحدث فيكون بعد إن لم يكن ... ولو قلنا للمنكر لقوله:
جدارا يريد أن ينقض : كيف كنت أنت قائلا في جدار رأيته على شفا انهيار، رأيت جدارا ماذا؟ لم يجد بدا من أن يقول: جدارا يريد أن ينقض، أو يقارب أن ينقض. وأيا ما كان؛ فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم إلا بمثل هذه الألفاظ. (تأويل مشكل القرآن: 112-115). (5) تأسيس المجاز لاهوتيا «ومن قدح في المجاز وهم أن يصفه بغير الصدق؛ فقد خبط خبطا عظيما وتهدف لما لا يخفى، ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به حتى تحصل ضروبه وتضبط أقسامه إلا السلامة من هذه القالة ، والخلاص مما نحا نحو هذه الشبهة، لكان من حق العاقل أن يتوفر عليه، ويصرف العناية إليه، فكيف وبطالب الدين حاجة ماسة إليه من جهات يطول عدها، وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفية يأتيهم منها، فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنوا أنهم يهتدون؟! وقد اقتسمه البلاء من جانبي الإفراط والتفريط، فمن مغرور مغرى بنفيه دفعة والبراءة منه جملة، يشمئز من ذكره، وينبو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر فرض لازم، وضرب الخيام حولها حتم واجب، وآخر يغلو فيه ويفرط، ويتجاوز حده ويخبط، فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق في التأويل ولا سبب يدعو إليه» (أسرار البلاغة: 312).
المفرطون (الظاهرية): ابن قيم الجوزية (ت 751ه) (1)
إشكالية الكلام الإلهي. «قد علم بالاضطرار من دين الرسول
صلى الله عليه وسلم
أن الله تعالى تكلم حقيقة، وأنه تكلم بالكتب التي أنزلها على رسله كالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها، وكلامه لا ابتداء له ولا انتهاء؛ فهذه الألفاظ التي تكلم بها، وفهم عباده مراده منها، لم يضعها سبحانه لمعان ثم نقلها في كلامه إلا على أصول الجهمية والمعطلة الذين يقولون كلامه مخلوق من جملة المخلوقات» (الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة: 267). (2)
إشكالية المواضعة والاصطلاح.
لا يعقل «أن قوما من العقلاء اجتمعوا فاصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا، ثم استعملوا تلك الألفاظ في تلك المعاني، ثم بعد ذلك اجتمعوا وتواطئوا على أن يستعملوا تلك الألفاظ بعينها في معان أخر غير المعنى الأول لعلاقة بينها وبينها» هكذا يصير القول بالمواضعة في أصل اللغة «مجاهرة بالكذب، وقول بلا علم، والذي يعرفه الناس استعمال هذه الألفاظ في معانيها المفهومة منها ... ولا يعرف تجرد هذه الألفاظ عن الاستعمال، بل تجردها عن الاستعمال محال، وهو متجرد الحركة عن المتحرك. نعم إنما تتجرد في الذهن، وهي حينئذ ليست ألفاظا.» (الصواعق المرسلة: 243-244).
الوجود/الفكر/اللغة
العالم/الوجود سلسلة من العلامات الدالة في فضاء الفكر الإسلامي كله.
الاستدلال نظر في الأدلة/العالم يفضي إلى المعرفة (الفكر ).
اللغة تعبير عن المعرفة. (1)
كسر ثنائية اللفظ والمعنى (تأويل عبارة الجاحظ). (2)
اللغة نظام من العلامات، والعلامة لا توصف بالحسن أو القبح. «الألفاظ لا تراد لأنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني، فإذا عدمت الذي تراد له أو اختل أمرها فيه لم يعتد بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحدا.» (دلائل الإعجاز 522).
مستويات الوجود: العيني - والذهني - واللغوي.
من اللغة/المعجم إلى الكلام/النظم
من النحو المعياري إلى علم التركيب
Syntax .
مفهوم «الصياغة»: مثل واضع الكلام مثل الصائغ «يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة، فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة» (الدلائل: 412).
معاني النحو: علاقات التفاعل بين المفردات على مستويين: التجاور (syntagmatic)
والاستبدال (paradigmatic) .
التمييز بين الغرض (القصد) والمعنى (الدلالة)
الغرض هو المعنى الغفل (المعنى خارج النظم): المعاني مطروحة في الطريق (الجاحظ): تشبيه زيد بالأسد.
المعنى هو حاصل تفاعل علاقات معاني النحو في الكلام (النظم). (1)
زيد كالأسد، كأنه الأسد (مستوى أول). (2)
زيد أسد (مستوى ثان). (3)
إذا لقيته لقيت الأسد (مستوى ثالث).
علاقات التجاور (علاقات النحو)
ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له: (1)
ضرب زيد (إسناد فاعلية الضرب لزيد) تخصيص 1. (2)
عمرا (مفعولية: وقوع الضرب من زيد على عمرو) تخصيص 2. (3)
يوم الجمعة (ظرفية زمانية: توقيت وقوع الضرب من زيد على عمرو) تخصيص 3. (4)
ضربا شديدا (تأكيد بياني لنوع الضرب الواقع من زيد على عمرو يوم الجمعة) تخصيص 4. (5)
تأديبا له (تعليل للضرب الشديد الواقع من عمر على زيد يوم الجمعة) تخصيص 5.
علاقات الاستبدال (المجاز)
التمييز بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي.
المجاز اللغوي: (1)
من «المعنى» إلى «معنى المعنى»: الكناية. (2)
النقل/الاتساع الاستعارة بأنواعها: تصريحية، ومكنية. (3)
التمثيل على سبيل الاستعارة: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
لا مجاز إلا في التركيب: واشتعل الرأس شيبا.
ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على ظهر المطايا رحالنا
ولم يعرف الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح
المجاز والتأويل
المحكم والمتشابه كمبدأ تأويلي (قراءتا العطف والاستئناف).
قضايا التوحيد بين التنزيه والتشبيه والتفويض.
رؤية الله عز وجل يوم القيامة
قضايا العدل: (1)
خلق الأفعال: الخلق والفري «ولأنت تفري ما خلقت». (2)
الهدى والضلال «ومن يشأ الله أن يهديه ... ومن يشأ أن يضله». (3)
الوعد والوعيد «الخلق للعبادة وما ذرأ للنار».
عبد القاهر والتفسير الأدبي الحديث: قراءة قبل لاهوتية
إعادة اكتشاف عبد القاهر: محمد عبده (1849-1905م).
التأويل التمثيلي للقصص القرآني: (1)
كتاب هداية وليس كتاب تاريخ. (2)
السياق الاجتماعي/الثقافي/الديني (الذهن العربي).
الشيخ أمين الخولي: من «الهدي» إلى «البيان»: النص الأدبي. (1)
ما حول النص. (2)
بنية النص.
القرآن في التأويل الصوفي1
(1) القرآن في التأويل الصوفي
أيها السيدات والسادة، أهلا بكم، في هذه المحاضرة الثالثة، في برنامج الباحث المقيم، وأنا أريد أن أستأنف في هذه المحاضرة، بناء على ما طرحته في المحاضرتين السابقتين، أن أستأنف زاوية أخرى في تعامل النص التراثي مع القرآن. في الزاوية الأولى رصدت تعامل المتكلمين المعتزلة وخصوم المعتزلة. ثم رصدت كيف تأسس البحث اللغوي حول مفاهيم التأويل، وحول مفهوم المجاز. وكان هذا السؤال الذي طرحته على نفسي منذ فترة طويلة، ماذا لو غادرنا مجال العقل وقمنا بسياحة في مجال الروح والتجربة الصوفية؟
سأتجنب في هذه المحاضرة قدر الإمكان شيئا لاحظت أنه عسر في المحاضرات السابقة وهو النصوص الكلاسيكية؛ لأن النصوص الكلاسيكية نصوص صعبة في القراءة، وبالتالي سأحاول أن أقدم قرآتي للنصوص دون التعرض للنصوص ذاتها، خاصة نصوص محيي الدين بن عربي الذي يمثل التصوف؛ لأنها نصوص على درجة عالية من التعقيد، وعلى درجة عالية من البناء المركب، بحيث يصعب في الاستماع إلى محاضرة أن يركن الإنسان إلى قراءة نص.
لماذا ابن عربي؟ أعتقد أن القرن السادس، ابن عربي توفي عام (638) هجريا، القرن السادس يمثل في رأيي اكتمال التجربة الحضارية الإسلامية. يعني الإنجازات الأساسية في بنية هذه الحضارة كانت قد تمت بالفعل، إن في مجال الأدب أو في مجال البحث اللغوي، أو في مجال الدراسات المرتبطة بالقرآن أو الحديث النبوي أو الفقه. في جميع المجالات كانت قد اكتملت سواء في مشرق العالم العربي أو في مغرب العالم العربي. ابن رشد يمثل أيضا هذا الاكتمال على المستوى الفلسفي؛ ولذلك أنا قلت ما بعد ابن رشد. ابن عربي التقى ابن رشد في صباه، حين كان صبيا لم يكتمل شاربه بعد ولم تنبت لحيته بعد، وهو لقاء يمكن أن نتعرض له في سياق المحاضرة؛ لأنه لقاء رمزي على درجة عالية من الأهمية.
يمثل ابن عربي حلقة الوصل. وهذه النقطة الثانية بين التراث الإنساني السابق، وبين التراث الإنساني اللاحق، التراث الإنساني السابق، سواء كنا نتحدث عن اللاهوت بمعناه العام، أو اللاهوت في الفكر اليهودي أو اللاهوت في الفكر المسيحي، أو التراث الفلسفي من أرسطو حتى أفلوطين، الزرادشتية، المانوية. يصعب صعوبة حادة أن نتعقب أصول الأفكار عند ابن عربي، ذلك أنه استوعب كل هذا التراث، وتمثل كل هذا التراث، ثم صاغه في نسق فلسفي، جعل من الصعب جدا تتبع هذه المؤثرات. وكل المحاولات التي بذلت كانت محاولات جزئية، أي إنها تأخذ هذه الفكرة. يبلغ ابن عربي درجة من صهر الأفكار - إذا تذكرتم مسألة الصهر اللغوي - إنه صهر هذه الأفكار حتى إنه يوظف مصطلحات تنتمي إلى الفلسفة، تنتمي إلى الإشراق، تنتمي إلى القرآن، كما سنرى. التراث الإنساني السابق استوعبه ابن عربي، التراث الإنساني اللاحق، هناك دراسات قام بها «أسين بلاسيوس» المستشرق الإسباني حول تأثير ابن عربي في «الكوميديا الإلهية» مثلا. هناك دراسة المستشرق الياباني «توشيكو إيزوتسو» حول العلاقة بين ابن عربي والتاوية، والفكر التاوي. طبعا «أوزوتسو» لم يتكلم عن تأثير وتأثر، وإنما قام بعلاقة مقارنة مما يشي ويوحي بأن رصيد ابن عربي رصيد يصعب تتبعه، ويجعل من تتبعه محاولة في معظم الأحيان لا تفسر ابن عربي، يعني هذه عناصر دخلت وصنعت بنية فكر ابن عربي.
استيعاب الخطاب الصوفي السابق: هذه نقطة هامة جدا، استيعاب الخطاب الصوفي السابق تفسيرا وتأويلا. كثير من المتصوفة السابقين على ابن عربي لا نفهمهم فهما تاما إلا إذا قرأنا ابن عربي، وهناك دراسة هامة أيضا قام بها «أسين بلاسيوس» أراد أن يدرس ابن مسرة الجبلي، فلجأ إلى نصوص ابن عربي التي تعكس قراءة ابن عربي لابن مسرة الجبلي. فدرس هذه النصوص وأعاد بناء فكر ابن مسرة الجبلي، ثم تبين تأثر ابن عربي بابن مسرة الجبلي. هذه مسألة معقدة أن تأخذ فكرة من مفكر معين، وترى تأثير هذا المفكر على المفكر الذي أخذت المادة منه. هذه دراسة على درجة عالية من المهارة في التتبع والاستنتاج، ثم في محاولة كشف الأثر الذي تركه ابن مسرة الجبلي في ابن عربي. كثير من المتصوفة السابقين على ابن عربي نحتاج إلى ابن عربي لكي نفهمهم، خاصة إذا كانت كتابتهم غابت.
طبعا تأثير ابن عربي في المتصوفة اللاحقين له، يعني لا أريد أن أذكر جلال الدين الرومي، وشيخ الدكتور يوسف - يعني يوسف زيدان - «الجيلي». ومن هنا أهمية ابن عربي بشكل عام. إنه حلقة الوصل هذه في التراث العربي الإسلامي.
لماذا الآن؟ لأن أي دراسة أو أي محاولة بحثية علمية إنما تنبع من سؤال يقترن باللحظة التي يمارس فيها الباحث بحثه، أنا درست ابن عربي في السبعينيات. تأويل القرآن عند ابن عربي كان موضوع أطروحتي للدكتوراه في السبعينيات، وكتبت كتابا آخر عن ابن عربي في بداية الألفية. لكن سؤال السبعينيات الذي انطلقت منه لدراسة ابن عربي ليس هو بالضبط سؤال الألفية الثانية الذي انطلقت منه لقراءة ابن عربي مرة أخرى. سؤال السبعينيات كان مرتبطا كما قلت، بكيف يمكن تغطية التراث العربي الإسلامي من جميع اتجاهاته المتعددة؛ لأنه لا يمكن أن نقيم أي نسق فكري، إلا إذا نظرنا للتراث العربي الاسلامي في كليته. هذا كان سؤالي في السبعينيات، بعد أن درست المعتزلة ودرست المتكلمين. كان سؤالي: ماذا لو قمنا بسياحة في الفكر الصوفي؟
سؤال الألفية الثانية مختلف: يعني أنا كتبت كتاب هكذا تكلم ابن عربي، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكن من يقرأ المقدمة يدرك أن هناك، لا أقول توقعا إنما هناك، الحادي عشر من سبتمبر اعتبرت نقطة فاصلة في تاريخ العلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، كأنها هي التي صنعت هذا، هي في الواقع نتيجة وليست مقدمة.
حوار الحضارات أم صدام الحضارات: حللت هنا مفهوم نهاية التاريخ من منظور لاهوتي، مفهوم نهاية التاريخ الذي صاغه «فوكوياما»، قبل أن يكتب «هنتجتون» كتاب «صدام الحضارات». هو مفهوم يبدو كما لو كان مفهوما سياسيا، لكن في عمق هذا التحليل السياسي مفهوم ديني؛ لأن نهاية التاريخ هي مفهوم ديني لاهوتي بامتياز. جميع الأديان في بدايتها تنذر بنهاية التاريخ، باقتراب يوم الدينونة، وحللت هذا المفهوم. ونجد هذا في القرآن كما نجده في الكتب المقدسة، من أول
اقتربت الساعة وانشق القمر
إلى آخر السور المكية المبكرة التي تنذر الإنسان، وهنا سمي الرسول
صلى الله عليه وسلم
إنما أنت منذر
الإنذار والتبشير بنهاية العالم، واستقرار العالم، نجده موجودا في جميع الأيديولوجيات. يعني في النظام الماركسي، نهاية التاريخ بأن تحكم البروليتاريا، أن تنتصر البروليتاريا مثلا، هذا هو الجانب اللاهوتي عند كارل ماركس.
لكن اللاهوت المرتبط بنهاية التاريخ، وصدام الحضارات، هو لاهوت فيه إله، وإلهه هو السوق. وهو إله يجب طاعته، طاعة مطلقة. وأي محاولة في العالم المعاصر لمخالفة قوانين السوق تنتهي بالدمار. وكأن السوق صار هو الإله الجديد، طبعا خرجت الحضارات والثقافات الأخرى، وحتى البنية داخل الثقافة، لتحارب هذا الإله الجديد، ولكن هذه الحرب تمت بأسلحة لاهوتية، تقليدية أيضا. العولمة ولاهوت التدمير: يعني رد الفعل على العولمة هو ما يسمى بلاهوت التدمير. يعني عندنا لاهوت العولمة، الإله. اللاهوت المضاد للقضاء على لاهوت العولمة هو لاهوت التدمير، محاربة إله السوق بأسلحة الميثولوجيا.
هذه هي الأسباب العامة التي أعادتني إلى ابن عربي مرة ثانية، الأسباب في العالم الذي نعيش فيه. هناك أسباب خاصة بواقعنا العربي والمصري؛ احتراق الدين، واحتراق التدين، تسيير عربة السياسة؛ وعربة السياسة أنا ألخصها في الاستبداد والاستغلال والفساد. في هذه الرحلة التي بدأ فيها تسيير عربة السياسة - سواء الاستبداد أو الاستغلال أو الفساد، وأنا لا أتكلم عنه كخاص بفئة ولا خاص بنظام، وإنما هو حالة عامة تسربت - استخدام الدين، هذا الاستخدام لتسيير هذه العربة أدى إلى احتراق الدين. تحول الدين إلى وقود، وحين يتحول الدين إلى وقود يحترق. المظاهر الكثيرة للتدين في مجتمعاتنا تعكس تدينا مفتقرا إلى روح الدين. الفقر الروحي واقتناء أشكال التدين، والمبالغة في أشكال التدين. إذن العودة إلى ابن عربي ليست فقط من أجل رؤية الواقع الإنساني، وإنما أيضا من أجل الواقع الآني. «الميكرو» و«الماكرو». الماكرو هو العالم ، والميكرو هو العالم الإسلامي والعالم العربي، ومن هنا يصبح سؤال المعنى، سؤال المعنى الأعمق سؤالا هاما.
مجال المعنى، أين يوجد المعنى؟
أنا الآن أدخل في ابن عربي. حددت لماذا ابن عربي، ولماذا الآن. أين يكمن المعنى؟ في الفكر الفلسفي والفكر الكلامي، المعنى خارج العقل. المعنى في الوجود وعلى العقل أن يكتشف قوانين الوجود ويستنبط المعنى من الوجود. النظر في الوجود، الوجود كعلامات دالة، ويصبح العقل هنا أنه يبحث وليس له دخل في هذه المعرفة، يعني المعنى خارج العقل، وعلى العقل أن يحاول التوصل إلى هذا المعنى الموضوعي المتحيز خارج العقل. العقل يكتشف المعنى، ولا يساهم في صنع المعنى. ممكن أن نلخص هذا الموقف، سواء في علم الكلام أو في الفلسفة بأنه البرهان. هناك منظور آخر، وجود المعنى في الوحي، في اللغة وليس في العقل، وليس في الوجود، وهذا ما أطلق عليه اسم البيان. وأنا هنا أستعير تصنيفات الدكتور محمد عابد الجابري عن البرهان والبيان والعرفان. النقطة الثالثة: وجود المعنى في وعي العارف: يعني أن المعنى ليس مستقلا عن وعي العارف. إن المعنى هنا - أشار إلى قلبه - كاملا، يعني المعنى إما في الخارج وهذا هو البرهان، وإما في الداخل وهذا هو العرفان، ما تسمى بالفلسفة الإشراقية، أفلوطين. وإما في اللغة التي هي وسيط بين الوجود وبين الوعي. عند المتصوفة وعند ابن عربي، هناك إجابة أخرى على هذا السؤال. المعنى هو جدلية الوجود والوعي، المعنى هو التجربة، ليس هناك معنى مستقل خارج وعي الذات العارفة، ووعي الذات العارفة لا يستقل عن تجربة الذات العارفة. وبالتالي المعنى لا يكمن في الخارج تماما، ولا يكمن في الداخل تماما، وإنما يكمن في هذه العلاقة، نسميها الجدلية، نسميها التجادلية. تكمن في هذه العلاقة بين الذات والموضوع، وأصل هذه العلاقة هو التجربة، كأن التجربة هي التي تمثل حافزا للفهم. «كنت كنزا مخفيا، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» سواء كان هذا الحديث صحيحا أم لا، هذه مشكلة، مشكلة استخدام كل الفرق الإسلامية، بما فيهم المتصوفة للحديث. هذه مسألة تحتاج إلى دراسة مستقلة.
التجليات: هنا «فخلقت الخلق» ليس معناها الخلق من عدم، ومشكلة الخلق من عدم مشكلة أيضا، سنرى كيف يتعامل معها التصوف. إنها التجليات، إنها الظهور من الكمون في فلسفة ابن عربي ليس هناك عدم. هناك مستويات من الوجود، وهناك كمون الوجود، وسنأتي إلى ذلك. كل ذلك يتم عبر التجليات، التجليات الإلهية تظهر الكوامن مما يسمى من اللاوجود إلى حالة الوجود. «كنت كنزا مخفيا فخلقت الخلق فبي عرفوني». «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف» وهناك تحليل هائل: لماذا أرادت الذات الإلهية أن تعرف؛ لأن الذات الإلهية تعرف نفسها، أرادت أن تعرف معرفة غيرية. لكن فكرة التجليات فكرة هامة جدا، وهي على مستوى الوجود، وعلى مستوى اللغة، وعلى مستوى النص كما سيأتي.
المقولة الثانية هي: «الإنسان هو عين الوجود وغايته هو المجلى الأكمل» إذا كان العالم، الوجود هو تجليات الألوهة، فالإنسان وإن كان آخر هذه التجليات؛ فهو أكمل هذه التجليات؛ لأنه في الإنسان اجتمعت (هنا تأويل) النفخة الإلهية والطين معا. الإنسان هو عين الوجود وغايته هو «المجلى الأكمل»، يعني هو المؤهل للدخول في التجربة التي تؤسس المعرفة القائمة على هذا الجدل بين الداخل والخارج. «الإنسان من العالم بدأ وإلى العالم يعود»، المعراج الصوفي: التجربة لها درجات، ولها حالات، ولها مقامات ... إلخ. لن ندخل في هذه التفاصيل. لكن خلال هذا المعراج، وهو معراج يتم على نفس نمط ما يسمى بالمعراج النبوي. على مدارج المعراج النبوي، لكن هناك فارقا بين المعراج النبوي ومعراج الإنسان.
كيف نفهم ابن عربي؟ هنا أطرح مجموعة من النصوص التي تضيء الجوانب المعقدة في فلسفة ابن عربي. ما هي التجليات؟ ما هو الظهور ؟ ابن عربي يستخدم الاستعارة، والاستعارة هي استعارة البرق؛ حتى يلغي عن التجليات أي نوع من التتالي الزمني. «الوجود لمحة برق هي الزمن السرمدي»، ليس هناك تتال زمني في عملية التجليات، ليس هناك تتال زمني في عملية الخلق، «حقق يا أخي نظرك في سرعة البرق إذا برق، فإن برق البرق إذا برق، كان سببا لانصباغ الهواء بها، وانصباغ الهواء به سبب ظهور أعيان المحسوسات» الضوء «وظهور أعيان المحسوسات به سبب في تعلق إدراك الأبصار بها»، البرق يبرق، فيستضيء الهواء، فتنكشف الأشياء فيتعلق بها البصر. «والزمان في ذلك واحد» طبعا ربما الفيزياء الحديثة تختلف مع ابن عربي في مسألة التزامنية، في هذه الحركة ربما الفيمتوثانية لها رأي آخر، لكن ابن عربي عاش في القرن السابع. «مع تعقلك» أي أنك تعقل الفرق بين البرق وبين انصباغ الهواء، بين هذه المراحل، هي مرحلة معقولة، بين البرق وبين انصباغ الهواء وبين ظهور المحسوسات وبين إدراكك. هي أربع مراحل معقولة، وليست مراحل زمنية. «وتقدم كل سبب عن مسببه، فزمان إضاءة البرق، عين زمان ظهور المحسوسات به، عين إدراك الإبصار ما ظهر منه». هذه هي التجليات التي أظهرت الوجود، أظهرت الوجود، وليست خلقت الوجود. هذا هو الوجود، ناتج عن التجليات، وسنرى درجات التجليات المختلفة.
بحار الكلمات وأشجار الأقلام: العالم واللغة:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (18/الكهف: 109). نصوص هامة جدا، نصوص محورية في الفكر الصوفي.
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله (31/لقمان: 27) إذن كلمات الله لا نهاية لها. المصحف محدود الكلمات، هنا يتم التمييز بين العالم الذي ظهر للوجود بالتجليات باعتباره كلمات الله المسطورة في الوجود، فيتحول الوجود إلى حروف وإلى كلمات. القرآن كلمات الله المسطورة في المصحف، ولا ينفصل فهم الوجود بالتجربة عن فهم كلمات الله الموجودة في المصحف. هذه رؤية كونية عامة للوجود وللغة بتفاصيلها المختلفة.
ينتقل ابن عربي أو ينتقل التصوف بشكل عام مما أسميته، من فقر المجاز إلى رحابة الرمز: ما هوا فقر المجاز؟ ما هو فقر التحليل المجازي؟ التحليل المجازي يرى العبارة تتضمن معنيين؛ معنى يجب نفيه، وهو المعنى الظاهر. معنى أعمق يكون هو المعنى. إذن في الفكر اللغوي عند المتكلمين وعند الفلاسفة تم وضع المجاز في جدلية الظاهر والباطن، وإن لم يقولوا بالظاهر والباطن. لكن الظاهر في المجاز يجب إلغاؤه، فيجب إلغاء مفهوم اليد الجارحة كما يقول المتكلمون، حين يقول القرآن
يد الله فوق أيديهم . وأنا تعرضت إلى معنى هذه الآية، يد الله فوق أيديهم، يجب دلالة اليد على اليد الجارحة أن تسقط تماما. يعني هناك المعنى الظاهر وهو اليد الجارحة، والمعنى الباطن وهو القدرة. يجب أن يسقط المعنى الظاهر لحساب المعنى الباطن، وهذا إفقار في التحليل اللغوي، ابن عربي ينتقل من فقر المجاز إلى رحابة الرمز، وفي الرمز لا يمكن إسقاط الظاهر لحساب الباطن؛ لأن في الرمز الطريقة الوحيدة للوصول إلى الباطن هو الظاهر، فأنت تحتاج الظاهر طوال الوقت.
حل أزمة فكر الثنائيات
هذا التصور للزمن السرمدي، التجليات، والتصور للغة باعتبار الوجود في جانب منه هو ظهور التجليات الإلهية، نتيجة التجليات الإلهية. وفي جانب منه هو تعبير لغوي، هو كلمات الله. هذا يؤدي إلى ردم الفجوة بين ما يسمى العقل والنقل. وهذه الثنائيات، فكر الثنائيات الذي وصل إلى حتى ابن رشد، يعني الفكر العربي الاسلامي يعتمد على هذه الثنائيات طوال الوقت. ويعتمد على ما يسمى زمن التتالي. كان لا بد لمفهوم الزمن أن يتغير، يحل الزمن السرمدي محل زمن التتالي؛ لكي يتم رد الفجوة بين هذه الثنائيات.
العقل والنقل: اختفى العقل والنقل تماما، باعتبار أن الوجود هو كلمات الله، والقرآن هو كلمات الله. نسقان من الكلام ونسقان من الدلالة، جدلية الظاهر والباطن بدلا من إلغاء الظاهر لحساب الباطن. الحقيقة والشريعة ليست ثنائية عند المتصوفة؛ ذلك لأن الشريعة هي المدخل للحقيقة، رغم كل الاتهامات التي صاغها الناس وصاغها الفقهاء ضد التصوف باعتبار أنه يسقط الشريعة، على الأقل في ابن عربي، يمكن الدكتور يوسف يقول لنا عن «الجيلي»، إسقاط الشريعة هو محض اتهام.
الوجود والعدم ثنائية اخرى تختفي من الفكر، ليس هناك عدم، ولا يمكن أن نسمي عدم الظهور عدما، بما أن كل الموجودات كامنة. أيضا يخرج الفكر الصوفي عن نسق الواجب والممكن، والمحال، هذه الثلاثية يستبدل بالممكن - طبعا ابن عربي أحيانا يستخدم لغة الممكن - الكامن، فالكامن موجود، ولكنه موجود في كمون. وهنا طبعا يستعير ابن عربي أن القرآن حين يتحدث في
كن
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (36/يس: 82) يقول لمن؟ لا بد أن القول «كن» تتوجه على سامع، وهو ما أطلق عليه المعتزلة - وإن كانت هذه الفكرة ليست واضحة في الفكر المعتزلي - الوجود في العدم، الوجود العدمي. هذا مستوى وجود، وجود عدم الظاهر، لهذا الوجود تتجه الكلمة الإلهية، الكلمة الإلهية أيضا «كن» ليست مكونة من حرفين الكاف والنون؛ لأن ابن عربي يريد أن يلغي كل أنواع الثنائيات، إنما هي في الأصل «كون»، الأصل اللغوي «كون»، اختفت الواو لالتقاء الساكنين، فالواو كامنة؛ لأن كل شيء في الوجود يعتمد على هذه الثلاثية في الوجود الذات الإلهية، الموجودات في العدم، وعلاقة الكلمة كن، الذات الإلهية تتجلى بفعل هذه الكلمة، وتتجلى فتظهر الموجودات.
كل شيء يحتاج إلى هذه العلاقة الثلاثية، حتى في اللغة، اللغة يقول ابن عربي: هي علاقة إسناد، فهناك المسند والمسند إليه والعلاقة. المسند يحتاج إلى المسند إليه، والمسند إليه يحتاج إلى المسند، والعلاقة تحتاج إلى كليهما، الظاهر والباطن. ما الذي يربط هذه العلاقة بين الظاهر والباطن؟ الذي يربط هذه العلاقة هو الروح. أحيانا ابن عربي يسميها الروح الساري في الذراري، ويقصد بها الروح الإلهية، النفخة الإلهية، إنها سارية في كل شيء.
القدم والحدوث: هذه المشكلة، هل العالم قديم أم محدث؟ هل العالم قديم في علم الله؟ وكيف ينبثق المحدث عن القديم؟ هذا سؤال الفلاسفة. ابن عربي لجأ إلى مفهوم الخيال، الخيال المتصل، البرزخ الأعلى، برزخ البرازخ. وهو مفهوم على درجة عالية من التعقيد، وعلى درجة عالية من التدقيق أيضا. لا يستوي مفهوم البرزخ بالعلم الإلهي. إنه أكثر تعقيدا من مفهوم العلم الإلهي كما طرح عند المتكلمين، وأحيانا يلخص هذا البرزخ في حديث «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». هذا معناه عند ابن عربي أننا كلنا نعيش في عالم البرزخ. إن كل ما نراه ونشاهده ونقوم به هو أحلام تحتاج إلى التأويل، وإن هذا التأويل يحدث حينما ننتبه، حينما نموت. من هنا يسعى الصوفي إلى الموت، إلى الموت وهو يتنفس، الذي يسمونه الفناء. والدكتور حسن حنفي عامل موسوعة كبيرة جدا اسمها من الفناء إلى البقاء.
المحكم والمتشابه: ثنائية أخرى في الفكر القرآني، هذه الثنائية لا توجد هناك في كل محكم متشابه، وفي كل متشابه إحكام، وابن عربي لغوي دقيق، يأخذ الآية التي أخذها المعتزلة؛ لأنها دليل المحكم
ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير ، يقول إنها تتراوح بين النفي والإثبات، ذلك أن
ليس كمثله شيء ، جعلت كأن الله شيء كالأشياء، لكنه شيء لا يشبهه شيء آخر. هذا هو النفي، نفي الشيئية. لكن نجد
وهو اللطيف الخبير
إثبات الصفة، فهي تشبيه، إذن في هذا الدليل الذي يأخذه المتكلمون على أنه تنزيه، هو يقول: تنزيه في تشبيه، أو تشبيه في تنزيه.
يأخذ نفس الأمر بالنسبة لكل القرائن القرآنية التي اتخذها المعتزلة على حرية الاختيار، والتي أخذها خصوم المعتزلة على الجبر. فيقول هؤلاء نظروا بعين واحدة، وهؤلاء نظروا بالعين الأخرى، ولا بد أن تنظر بالعينين. ويستشهد بنفس الآيات
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، هنا إثبات ونفي.
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، فهناك نفي للرمي وإثبات للرمي
إذ رميت ، هذا النفي والإثبات هو الجدلية التي يتحرك نسق التأويل عند ابن عربي لردم الفجوة بين ما يسمى المحكم وبين ما يسمى المتشابه.
رأى ابن عربي مفهوم الغموض الكوني، وهذا الغموض، التوتر، لكن هذا الغموض، هذا التوتر في حال العارف، وليس في حال العين، هذا التوتر لا يوجد في الخارج. ربما يوجد في الخارج التجليات الدائمة.
بل هم في لبس من خلق جديد
تجليات مستمرة. هذا الاستمرار في التجليات هو الذي يخلق التوتر. عند العارف
كل يوم هو في شأن ، هذه التجليات الدائمة أحيانا يسميها «النكاح الساري في جميع الزراري»، ويستخدم كلمة نكاح باعتبار أن كل شيء يعتمد على مسند ومسند إليه وعلاقة. ذكر وأنثى وعلاقة، هنا يوظف مصطلحات كثيرة جدا تصيب غير العارف بنسق فكر ابن عربي بنوع من الدهشة، وبنوع أحيانا من الرفض. «الغموض الكوني توتر في الحال»، أي في حال العارف لا في عين الكون.
الجبر والاختيار: قلت عين واحدة أم عينان.
الذات والصفات: هذه أيضا ثنائية موجودة في الفكر الكلامي، هو يضع الذات بمعزل عن المعرفة في الغيب المطلق، إنما الألوهة هي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة، أو الذات غيب؛ فكل التجليات هي من صنع هذه الأسماء الإلهية، أما الذات فهي غيب وراء ذلك كله.
هنا يقسم ابن عربي العالم. لا بد ونحن نقرأ هذا ونستمع إلى هذا أن نتذكر دائما مفهوم الزمن السرمدي؛ لأنه يبدو أن هناك تتاليا، وليس في الأمر تتال، هو البرق. لكن هذا التتالي يتعقل، فالتتالي عقلي وليس بعدي، هو من صنع الإنسان المفكر.
برزخ الألوهة: الألوهة هي الذات الإلهية، هي مجمل الأسماء الإلهية، وهي الفاعلة في العالم. واسم الله هو الذي يجمع هذه الأسماء كلها. هذا البرزخ هو ما بين الذات الإلهية وما بعده من الذات الإلهية، وبين العالم. العالم من صنع تجليات الأسماء الإلهية على الموجودات الكامنة. طبعا ربما نقول إن كل هذا في العلم الإلهي، لكن هذا يبسط تعقيد واتساع رؤية ابن عربي.
فعندنا عالم البرزخ الأعلى أو الخيال المطلق وعالم الجبروت يتكون من أربعة مستويات؛ برزخ الألوهة، برزخ العماء ما يسميه الوجود المطلق، والعدم المطلق يبدو كما لو كان عدما مطلقا، وما يساوي عند الفلاسفة العلة الهيولانية، برزخ الألوهة يساوي عند الفلاسفة ... هذا تفسيري، ابن عربي لم يتحدث عن العلة الفاعلة ولا العلة الهيولانية ولا العلة الصورية ولا العلة الغائية، وإنما أنا في محاولتي للفهم يعني وضعتها في هذا النسق . وهذا النسق وجد موافقة من الأستاذ الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني - برزخ العماء هو يساوي العلة الهيولانية. المادة، وكلمة مادة هنا لا تصح، التي وجد فيها العالم، التي يوجد فيها العالم بالكمون.
برزخ حقيقة الحقائق الكلية، لا تتصف بوجود، ولا تتصف بعدم، ولا تتصف بقدم، ولا تتصف بحدوث، تساوي العلة الصورية؛ لأن العلة الهيولانية تحتاج للعلة الصورية لكي تتشكل. يعني يمكن تمثيل العلة الهيولانية بالخشب، والعلة الصورية بصورة الكرسي أو صورة المائدة، التي يصنع منها النجار من الخشب الكرسي يحتاج النجار إلى تصميم، صورة. هذه حقيقة الحقائق الكلية تساوي المقولات الكلية، الصور الكلية. مثل البياض في الأبيض، البياض يوجد في كل أبيض، وهو نفسه لا وجود له متحيز في الخارج، ليس هناك شيء يمكن أن يشار إليه اسمه البياض. ما يسمى أحيانا، إذا استخدمت مصطلحات علم الكلام الأعراض.
برزخ الحقيقة المحمدية: الله والإنسان وهي العلة الغائية؛ العلة الغائية وهي الإنسان، والحقيقة المحمدية هي جذر الظهور الإنساني. هناك تمييز بين الحقيقة المحمدية وبين محمد النبي الذي ظهر في مكة في القرن السابع الهجري، الحقيقة المحمدية حقيقة مطلقة تساوي العلة الغائية. في كل هذا التقسيم، يتم الاستشهاد بالقرآن ولكنه استشهاد تأويلي، واستشهاد بالحديث والتراث، ولكنه استشهاد تأويلي. «اعلم أن الشيء الواحد العين»؛ لأن السؤال دائما: كيف ظهرت الكثرة عن الواحد؟ السؤال الفلسفي: كيف ظهر الكثير عن الواحد؟ ومن هنا جاءت نظرية الفيوضات عند الفارابي وعند ابن سينا: كيف ظهر المحدث من القديم؟ جاءت نظرية قدم العالم في العلم الإلهي وحدوث العالم في الظهور. وهذه الفكرة يؤكدها ابن رشد، كل هذه الثنائيات تجد لها حلولا أخرى عن طريق هذا العالم الذي يسمى عالم الوسائط. «اعلم أن الشيء الواحد، العين، إذا ظهرت عنه الحقائق المختلفة، فإن ذلك من حيث القوابل لا من حيث عينه، ومن هنا إذا حققت هذه المسألة يبطل قول الحكيم - يعني الفيلسوف - لا يصدر عن الواحد إلا واحد.» فكرة التجليات كبديل عن الفيض. وكبديل عن الخلق من عدم، هي من إنجازات الفكر الفلسفي الصوفي.
بعد عالم البرزخ، أو برزخ البرازخ، أو عالم الجبروت، عالم المعقولات: من برزخ الإطلاق إلى عالم الخلق. كنا نتحدث عن عالم مطلقات، أول عالم المعقولات العقل الأول. تأثير طبعا، أفلوطيني، نعم. لكن العقل الأول في القرآن هو القلم. التجلي الثاني النفس الكلية باطنة في العقل الأول، يعني هناك علاقة الباطن والظاهر، هنا من أن التالي - واحذروا من كلمة التالي وابن عربي دائما يحذر؛ لأن التالي يعني تتاليا زمنيا - النفس الكلية تساوي اللوح المحفوظ؛ ذلك لأن القلم يكتب في اللوح المحفوظ. أحيانا يسمي العلاقة بين المؤنث والمذكر، العقل الأول ذكر والنفس الكلية أنثى. وهناك علاقة تنتج الطبيعة الكلية، أو الطبيعة الكل، ومن الطبيعة الكل ينبثق الهباء، وهو أكثر كثافة من العماء الذي وجد في مرحلة برزخ البرازخ.
عالم الخلق والأمر: وهو أربع مراحل؛ الجسم الكل أو العرش - هنا توظيف للقرآن - الكرسي، والعالم والكون يقع من الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، الفلك الأطلس فلك الكواكب الثابت، دخول في جغرافيا مضنية لكي نفهم، لا بد أن نعود إلى الجغرافيا الكلاسيكية حتى نفهم كل هذا. كل هذه عوالم فيها من المعقولية وفيها من الروحانية أكثر مما فيها من الأبعاد الجغرافية كما سيأتي.
عالم الأفلاك وهو العالم الأخير: وهو الأفلاك السبعة السماء الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة، السادسة، السابعة. كوكب زحل، المشتري، المريخ، الشمس، عطارد، وأخيرا كوكب القمر. ثم ما تحت فلك القمر، وهو عالم الكون والفساد، عالم التغيير. مرة أخرى هذا ليس تتاليا في الزمان، وهذه ليست مراحل يتلو بعضها بعضا في الزمان. وإنما هي تجليات، ونعود مرة أخرى لنذكر باستعارة البرق.
كل هذه العوالم ترتبط باللغة، يعني ارتباط هذا النسق من العالم بحروف اللغة، لماذا؟ لأن كل هذا نشأ من التجليات الإلهية، التجليات الإلهية في العماء هي أقرب، يمكن أن تشبه بالنفس الإلهي، حروف اللغة تتكون في النفس الإنساني. هنا المقارنة والموازاة بين الموجودات وبين حروف اللغة؛ ثمانية وعشرون موجودا، وثمانية وعشرون من حروف اللغة وبينهما اسم إلهي. طبعا يرجع للعقل الأول، الهمزة، والهمزة في الصوتيات الحديثة هي ألف المد وليست الهمزة؛ لأن ألف المد هي حرية إطلاق النفس، وأنا نطقت آه، فنطقت الهمزة، لأنه لا يمكن النطق بها، وإنما هي ألف المد إذا قلت كلمة مثل «قضاء». هذه ألف لا يمكن أن تنطق، فحرية النفس في اللغة تساوي العقل الأول، ليس هناك مماثلات لغوية ولا صوتية في عالم البرازخ أو العالم المطلق.
وبعد الألف، والهاء، حسب المخارج، هنا يوظف كل المعرفة اللغوية من أجل أن يقيم النسق أن اللغة هي نمط آخر من أنماط الوجود، بل إن الوجود يتجلى فيما يسمى المحسوسات، ويتجلى في اللغة، العين، الحاء، الخاء، كلها يعتمد على المخارج. توظف اللغة طبقا للمخارج، لا أريد أن أطيل في هذا الأمر.
اللغة الإلهية واللغة الإنسانية: اللغة هي أحد تجليات الذات الإلهية، كما أن ما يسمى بالوجود هو أحد التجليات الإلهية. يتعرض ابن عربي لتفاصيل الخلق؛ هي تفاعل هذه الموجودات الكلية التي حددها في حروف اللغة، فيما يسمى عالم الكون والفساد، كل شيء يتحقق في عالم الكون والفساد يحتاج إلى هذه العلاقة الثلاثية. اللغة الإلهية هنا هي التي تعمل، فيما يسمى الكون والفساد. لماذا؟ لأن اللغة أصوات، كل ما تحدثت به الآن اختفى في الهواء - طبعا سجل - لكن الصوت وهو مخرج الكلام يختفي في الهواء. فاللغة الإلهية واللغة الإنسانية جانبا حقيقة واحدة. وبهذا حل ابن عربي مشكلة المواضعة - الذين حضروا المحاضرات السابقة عن مشكلة المواضعة، ما هي العلاقة بين الدال والمدلول؟ هل المواضعة إلهية توقيفية أم المواضعة إلهية توفيقية؟ كل هذه أسئلة لا معنى لها في نسق ابن عربي، هناك اللغة الإلهية لغة الوجود والموجودات، ومنها تشتق اللغة الإنسانية. فإذا قلت المواضعة توقيفية، فهذا صحيح بالمعنى الصوفي. وإذا قلت إن المواضعة توفيقية فهذا صحيح بالنظر إلى الجانب الإنساني في اللغة. كما أن الإنسان يمكن أن تنظر إليه فلا ترى إلا الجانب الفيزيقي، ويمكن أن تنظر إليه فلا ترى إلا الجانب الروحي والنفخة الروحية، والإنسان ليس هذا تماما وليس هذا تماما. كذلك اللغة لها جانبها الإلهي ولها جانبها الإنساني. إذا نظرت من جهة، فاللغة إلهية وإذا نظرت من جهة أخرى، فاللغة إنسانية.
مشكلة القرآن، قديم أم محدث أم مخلوق: كل هذا سؤال لا معنى له عند ابن عربي. محدث قديم، ممكن أن يقول ابن عربي: قديم محدث، لا قديم ولا حادث، إذا نظرت إلى القرآن الذي تتلوه، فتلاوتك هذه تجعله محدثا، لكن انتماء القرآن إلى أفق العالم، إلى أفق الوجود، إلى أفق الكون، يدخله في إطار التجليات التي ليست قديمة وليست محدثة.
ما الذي يعطي ابن عربي كل هذه الحرية؟ هناك مشكلة حول ما يسمى ختم النبوة، التي تعني انقطاع العلاقة بين السماء والأرض، لا وحي بعد ذلك، طبعا فيه تفسيرات كثيرة لختم النبوة، ربما أبرزها أن ختم النبوة معناها أن الإنسان قد أصبح قادرا على التعامل بالعالم، يعني أعطي الدليل وعليه بعد ذلك أن يستخدم عقله. هذا كلام يقوله بعض الفلاسفة، يقوله محمد إقبال، يقوله بشكل فلسفي عميق، وليس بشكل خطابي، كخطبة جمعة. بالنسبة للمتصوفة، وكذلك بالنسبة للشيعة: ختمت النبوة، لكن الوحي لم ينقطع، لا وحي يأتي بشرع جديد، لكن الوحي يأتي بإلهام يؤدي إلى فهم جديد، وهنا يتم التمييز معرفيا بين فلك النبوة وفلك الولاية: الولي والنبي. فلك النبوة ينتهي بخاتم النبوة محمد عليه السلام، فلك الولاية لا نهاية له، لماذا؟ لأن فلك الولاية مستمد من الاسم الإلهي الولي، وكل ما هو مستمد من اسم إلهي لا نهاية له، طبعا هناك خاتم الولاية المحمدية، وهناك خاتم الولاية العامة. وفي أحيان نصوص ابن عربي تضعه هل هو خاتم الولاية - لأن خاتم الولاية العامة هو عيسى عليه السلام، حين يعود إلى الأرض حسب المعتقد - أحيانا ابن عربي يضع نفسه بوصفه خاتم الولاية المحمدية. وهذا الذي يسمح لي أن أقول اكتملت الحضارة العربية الإسلامية في القرن السادس، اكتملت، وكل اكتمال لا يليه إلا النقصان.
فأعتقد كونه يحدد نفسه باعتباره ختم الولاية المحمدية كأنه على وعي ما بهذا الاكتمال الحضاري. اكتمال كما نعلم عمل انشقاقا، يعني ابن عربي وابن رشد كلاهما من الأندلس، وابن رشد تعرض لاضطهاد ما، لكن فكر ابن رشد رحل عبر إسبانيا وعبر الترجمة اللاتينية رحل إلى الغرب، لكن ابن عربي نفسه ترك الأندلس وجاء إلى الشرق، حيث كتب الفتوحات المكية في فترة طويلة قضاها في مكة، مر في هذه الرحلات على مصر ، لكن مصر لم تحبه كثيرا - كان فيه مؤتمر عن ابن عربي في مصر منذ أسبوعين في دار الكتب، للأسف الشديد كنت هنا فلم أتمكن من الحضور - ثم إلى قونية، وهناك تلميذه الأساسي صدر الدين القونوي، الشارح الأساسي لأفكار ابن عربي، وهناك تعرف إلى جلال الدين الرومي، وأثر فيه.
أعود مرة أخرى إلى التوتر، الخلق الدائم
بل هم في لبس من خلق جديد
التجلي السرمدي، استبدال زمان التتالي بالزمان السرمدي، انفتاح المعنى في الزمان والمكان؛ لأن أي معنى يطرحه ابن عربي لا يقول أبدا إنه معنى نهائي، ذلك أن المعنى نابع من التجربة، وتتعدد التجارب بتعدد السالكين، الطرق إلى الله تتعدد بتعدد السالكين، انفتاح المعنى في الزمان والمكان، هذا هو الدرس الذي نأخذه من هذه السياحة في فكر ابن عربي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (2) نقاط المحاضرة التي استخدمها نصر أبو زيد في عرضه
القرآن في التأويل الصوفي.
انفتاح المعنى من خلال التجربة.
لماذا ابن عربي؟
القرن السادس واكتمال التجربة الحضارية الإسلامية (ما بعد ابن رشد).
حلقة الوصل بين التراث الإنساني السابق واللاحق.
استيعاب الخطاب الصوفي السابق تفسيرا وتأويلا: (1)
الحكيم الترمذي (ت 280ه). (2)
سهل بن عبد الله التستري (ت 283ه). (3)
الحسين بن منصور الحلاج (ت 309ه). (4)
ابن مسرة الجبلي (ت 319ه). (5)
محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري (ت 319ه).
لماذا الآن؟
بين سؤال السبعينيات وسؤال الألفية الثانية.
حوار الحضارات أم صدام الحضارات.
العولمة ولاهوت التدمير.
محاربة إله السوق بأسلحة الميثولوجيا.
احتراق الدين تسيير عربة الاستبداد والاستغلال والفساد.
الفقر الروحي واقتناء أشكال التدين.
سؤال المعنى الأعمق.
مجال المعنى.
أين يوجد المعنى؟
استقلال المعنى خارج العقل، العقل يكتشف المعنى، البرهان.
وجود المعنى في اللغة/الوحي: البيان.
وجود المعنى في وعي العارف: العرفان.
جدلية الوجود والوعي: التجربة. (1)
كنت كنزا مخفيا، فخلقت الخلق فبي عرفوني: التجليات. (2)
الإنسان عين الوجود وغايته: المجلى الأكمل. (3)
من العالم بدأ وإلى العالم يعود: المعراج المعرفي.
الوجود لمحة برق: الزمن السرمدي.
حقق يا أخي نظرك في سرعة البرق إذا برق، فإن برق البرق إذا برق كان سببا لانصباغ الهواء به. وانصباغ الهواء به سبب ظهور أعيان المحسسوسات، وظهور أعيان المحسوسات به سبب في تعلق إدراك الأبصار بها، والزمان في ذلك واحد مع تعقلك، وتقدم كل سبب عن مسببه.
فزمان إضاءة البرق عين زمان ظهور المحسوسات به، عين إدراك الأبصار ما ظهر منه.
بحار الكلمات وأشجار الأقلام.
العالم واللغة.
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (الكهف: 109).
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله (لقمان: 27).
العالم كلمات الله المسطورة في الوجود، والقرآن كلماته المسطورة في المصحف.
من فقر «المجاز» إلى رحابة «الرمز».
حل أزمة فكر الثنائيات: زمن التتالي.
العقل والنقل: جدلية الظاهر والباطن (الحقيقة والشريعة).
الوجود والعدم: سر «كن».
القدم والحدوث: الخيال المتصل/البرزخ الأعلى (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا).
المحكم والمتشابه (التشابه في الإحكام والإحكام في التشابه) الغموض الكوني: التوتر في الحال لا في العين.
الجبر والاختيار: عين واحدة أم عينان؟
الذات والصفات: الألوهة مجموع الأسماء الفاعلة، والذات غيب.
عالم البرزخ الأعلى/الخيال المطلق.
عالم الجبروت.
برزخ الألوهة (الذات الإلهية والعالم/مجموع الأسماء الإلهية) = العلة الفاعلة.
برزخ العماء (الوجود المطلق والعدم المطلق) = العلة الهيولانية.
برزخ حقيقة الحقائق الكلية (القدم والحدوث) = العلة الصورية.
الحقيقة المحمدية (الله والإنسان) = العلة الغائية.
اعلم أن الشيء الواحد العين إذا ظهرت عنه الآثار المختلفة، فإن ذلك من حيث القوابل، لا من حيث عينه. ومن هنا إذا حققت هذه المسألة يبطل قول الحكيم «لا يصدر عن الواحد إلا واحد ».
عالم المعقولات: (1)
من برزخ الإطلاق إلى عالم الخلق.
العقل الأول/القلم.
النفس الكلية/اللوح المحفوظ.
الطبيعة الكلية.
الهباء. (2)
عالم الخلق/والأمر.
الجسم الكل/العرش.
الكرسي.
الفلك الأطلس.
فلك الكواكب الثابتة. (3)
عالم الأفلاك.
السماء الأولى (كوكب زحل).
السماء الثانية (كوكب المشتري).
السماء الثالثة (كوكب المريخ).
السماء الرابعة (كوكب الشمس).
السماء الخامسة (كوكب الزهرة).
السماء السادسة (كوكب عطارد).
السماء السابعة/الدنيا (كوكب القمر). (4)
عالم الأمر. (5)
عالم الخلق. (6)
عالم الشهادة الكون والاستحالة.
الأفلاك السبعة أ. (7)
عالم الشهادة.
الأفلاك السبعة ب.
العناصر.
الموجودات الأصلية.
الأحياء.
ختام.
اللغة الإلهية واللغة الإنسانية: حل مشكل «المواضعة».
القرآن قديم حادث، لا قديم ولا حادث.
ختمت النبوة، لكن الوحي لم ينقطع: فلك النبوة وفلك الولاية.
خاتم الولاية المحمدية، وخاتم الولاية العامة.
الخلق الدائم (بل هم في لبس من خلق جديد) = التجلي السرمدي.
انفتاح المعنى في الزمان والمكان.
إعادة تعريف القرآن1
(1) إعادة تعريف القرآن
هذه هي المحاضرة الختامية في هذا البرنامج، أرجو ألا تكون الأخيرة، وهي بعنوان: إعادة تعريف القرآن. وأرجو أن أوضح أن هناك دائما لبسا. إعادة تعريف القرآن ليست إعادة كتابة القرآن، وليست إعادة ترتيب القرآن. وإنما التعريف ينصب على المفهوم، ماهية القرآن، وهو المفهوم الذي تنبني عليه كل نظريات التفسير والتأويل، وعملي كما رأيتم في المحاضرات السابقة هو محاولة الوصول إلى كنه هذا التعريف المختبئ وراء الممارسات التأويلية والتفسيرية التي قامت بها كل الجماعات والفرق في تاريخ الفكر الإسلامي حتى العصر الحديث. هناك محاضرة غائبة وهو اشتغالي على مناهج التفسير في العصر الحديث. بدءا من تفسير المنار لمحمد عبده، وتفسير السيد أحمد خان في الهند، حتى ننتهي إلى ليس فقط في ظلال القرآن لسيد قطب، وإنما التفسيرات الأخيرة التي طرحت سواء في الفضاء الثقافي الشيعي، أو الفضاء الثقافي السني. هذه محاضرة لم تلق، لكن اليوم سوف أتعرض إلى بعض هذه الجوانب.
من النص إلى الخطاب: وهذه نقلة في التعريف، القرآن تم التعامل معه تاريخيا، وأنا تعاملت معه لفترة طويلة باعتباره نصا. وأنا الآن أكثر اقتناعا - وهذا هو موضوع هذه المحاضرة - بأن التعامل مع القرآن من منظور أنه نص. فهذا التعامل أفضى إلى مجموعة من النتائج السلبية. في تاريخ التفسير قديما وحديثا لا أستثني نفسي من هذا؛ لأني أنا جزء من الخطاب الثقافي.
قبل ما أبدأ هذه الرحلة، وهي رحلة أصطحبكم معي فيها إلى ما أسميه مع طلابي «المطبخ»؛ مطبخ عقلي. الباحث يعمل في المطبخ، يجمع المادة، يحلل المادة ، يستنبط من المادة، ثم يطرح نتيجة هذا البحث في مقال أو في كتاب صغير أو كذا، يطرحه في شكل وجبة. وهناك فارق شديد، كلكم تعلمون، وخاصة السيدات، الفارق بين الوجبة وبكل ما تتضمنه من شهية، وبين المطبخ وروائح البصل والثوم ... وإلخ. أنا أريد قليلا، أن آخذكم معي إلى المطبخ، وليس أن أعطيكم وجبة. السبب وراء ذلك أنني ما أزال في المطبخ. في مسألة الانتقال من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب لم تكتمل بعد بشكل أستطيع أن أقدم لكم وجبة. فمضطر أن آخذكم معي إلى المطبخ الذي أنا غارق فيه في هذه النقلة من النص إلى الخطاب.
قبل ذلك، أما قبل، عادة عبارة أما بعد. أما قبل هذه عبارة أنا مدين بها للمرحوم عز الدين إسماعيل، كان رئيس تحرير مجلة فصول، وكان يكتب مقدمة كل عدد من أعداد المجلة، وكل عدد مخصص لموضوع معين، يكتب مقالة بعنوان «أما قبل»؛ ذلك أن مقدمة أي مجلة أو أي كتاب تكتب بعد أن ينتهي الباحث من الكتاب، وليس قبل أن ينتهي الباحث من الكتاب. فهنا «أما قبل» هي في الواقع «أما بعد»، ولكني أريد أن أطرحها قبلا. وفيها أيضا بلاغيا ما يسمى كسر التوقع. وأريد أن أتوقف دقيقة عند كسر التوقع، كسر التوقع إحدى الأدوات البلاغية الهامة جدا جدا في اللغة، والتي تبين في لغة الشعر وتبين في لغة السرد، وتبين في لغة القرآن، كسر التوقع. كسر التوقع مهمته إحداث الدهشة، ربما الصدمة، ذلك أن الشاعر أو الكاتب لا يخوض في المألوف والمعتاد، ولا يطرق الطرق المطروقة، وإنما يريد أن يقوم بمغامرة؛ الفن مغامرة، الكتابة مغامرة، البحث مغامرة. وحين نفقد مفهوم المغامرة يموت ما يسمى قوة البحث العلمي، ويموت ما يسمى قوة الإبداع الفني. الخطاب العام للأسف الشديد يجنح إلى النفور من المغامرة؛ لأن المغامرة قرينة إمكانية الوقوع في الخطأ. والوقوع في الخطأ لم يعد كما كان في التراث العربي، وكما هو في كل الفكر الإنساني الوسيلة الوحيدة إلى الصواب، وإنما الخطأ في تصورنا هو الوسيلة إلى الهلاك. وننسى هنا أن اليقين يقع بين شكين؛ شك يؤدي إلى اليقين، ثم يقين لا بد من الشك فيه أيضا، وهكذا تطور المعرفة. النظرية العلمية تقول إن النظرية العلمية هي النظرية القابلة للدحض، كل إثبات يقابله دحض.
أما قبل فأنا أحاول أن أستخدم هذا التكنيك، أما قبل فسأتكلم فيما بعد: أنا باحث ولست صاحب مشروع فكري، ليس هذا تواضعا وإنما هو وصف لما أقوم به. مع احترام وتبجيل لكل أصحاب المشروعات الفكرية. باحث مشغول بالأسئلة، ينقله سؤال إلى سؤال آخر، وحين تتوقف الأسئلة في ذهني أعتبر أن هذه شهادة موت. حين يتوقف العقل عن التساؤل، يختفي العقل. لست صاحب مشروع فكري، ليس عندي مشروع فكري منظم، وله بداية، وله نهاية، وله أهداف، واستراتيجيات، وبالتالي له تكتيكات للوصول إلى الاستراتيجية. ومن هنا كما ترون أنني انتقلت من مفهوم النص الذي كنت أحد الذين تبنوا هذا المفهوم ودافعوا عن هذا المفهوم. أنتقل الآن إلى مفهوم الخطاب كنوع من النقد الذاتي، ونوع أيضا من النقد المعرفي للمفاهيم. وليس معنى ذلك أن ما أنتقل إليه هو الصواب الكامل، الصواب الكامل سنصل إليه، تلامذتي يصححون، وأنا أومن بالمستقبل؛ لذلك أنا فخور جدا أني معلم أكثر مني باحثا، كان لنا أستاذ عليه رحمة الله يقول: «نحن معلمو صبية.» وأنا فخور جدا بهذا الشعار، إنني معلم صبية.
لكن أعلم الصبية كيف يفكرون، لا كيف يتلقون المعرفة الجاهزة، حتى مني. إذا لم يكن بين طلابي من هو قادر على تجاوز أفكاري، فهذا فشل مروع من جانبي. وهذا هو الفشل الذي تعيشه المؤسسات الأكاديمية في مجتمعاتنا. لست صاحب مشروع فكري، إنما أنا باحث، ربما بعد أن أنتقل إلى ملكوت الله يجد البعض فيما كتبته من أبحاث مشروعا فكريا. ربما، لكن ليس عندي مشروع فكري، من البداية، أريد أن أصنع كذا وكذا وكذا. لست نبيا، أصحاب المشاريع الفكرية أحيانا يكون عندهم مهمة رسولية، وأنا لا أدعي هذا.
كما طرحت في المحاضرات السابقة، انطلقت أبحاثي من السؤال. السؤال الأول ومن نتائج البحث الأول يتولد سؤال آخر، فيتم الدخول في منطقة ثانية من البحث وهكذا. من نتائج البحث الأول تتولد أسئلة جديدة هي التي يمكن أن تتبع في الأبحاث الأخرى؛ لذلك من الصعب أن يقرأ شخص آخر بحثا لي، دون أن يدرك هذا التتالي في الأسئلة، والتوالد من الأسئلة. يمكن جدا أن يصدر أحكاما على النتائج التي جاءت في البحث.
السؤال الأول كان حول المعنى الديني، بؤرة المعنى الديني. كما طرحت لكم؛ السؤال الأول كان: عن مفهوم المجاز في القرآن عند المعتزلة، يعني لماذا حاولت هذه الفرقة الإسلامية أن تعيد النظر في المعنى الديني، وهي تعيد النظر في المعنى الديني بلورت مفاهيم، وبلورت وسائل. وهذه الوسائل وسيلة مهمة جدا عند المعتزلة وعند الفلاسفة، بعد ذلك كان هو مفهوم المجاز. المجاز هو أداة التأويل، لكن كان على المعتزلة أن يخوضوا في الحاجة إلى التأويل، هذا هو السؤال الأول. انتهيت من بحث المعتزلة فتساءلت هؤلاء هم المعتزلة وهؤلاء هم الأشاعرة، وقد تنازعوا حول المعنى الديني؛ نزاعا وصل إلى حتى المبنى حين يقسم القرآن إلى محكم ومتشابه حسب نظرية المتكلمين، وحين يكون المحكم في نظر المعتزلة هو المتشابه في نظر غير المعتزلة. إذن دخلنا في اختلاف في المبنى وليس اختلافا في المعنى. وكانت النتيجة هذا السؤال. هذا النزاع حول المعنى ما أسبابه، وما نتائجه؟ نزاع حول بؤرة المعنى الديني الإسلامي - وأنا أقول الإسلامي؛ لأن أحد الأصدقاء قال إنه لازم حين تذكر الديني تقول الإسلامي لأن فيه ديني مسيحي لذلك عملت التخصيص المعنى الديني الإسلامي - لماذا يكون النزاع حول المعنى، يتمركز هذا النزاع حول المعنى في النص القرآن/الوحي. بؤرة المعنى الديني؛ لأن القرآن/الوحي.
وهنا لن أدخل في مشكلة ما إذا كانت السنة وحيا يساوي القرآن أو لا، هذه مشكلة أخرى. لذلك أنا أستخدم القرآن واستخدم الوحي من أجل ألا أدخل في هذا الخلاف الآن. القرآن/الوحي معطى أولي في الثقافة العربية الإسلامية، وبالتالي لا يمكن لأي صياغة للمعنى، حول معنى الحياة أن يتجاهل هذا المعطى الأولي. بطريقة أخرى أريد أن أقول، إنني مشغول بمعنى الحياة وليس فقط بمعنى النص الديني، لكن معنى الحياة شديد الترابط، ولا يمكن فصله عن المعنى الديني، لكني مشغول بمعنى الحياة؛ لأني وأنا أدرس المعتزلة كنت أنظر إلى معنى الحياة الذي يعاد تشكيله في مصر، وطننا الحبيب، معنى الحياة كان يعاد تشكيله بين الستينيات والسبعينيات، ثم أعيد تشكيله مرة أخرى في الجمهورية الثالثة. أنا عندي ثلاث جمهوريات في تاريخ مصر المعاصر؛ الجمهورية الأولى والجمهورية الثانية والجمهورية الثالثة. وربما نشهد الجمهورية الرابعة إذا طال العمر، في كل جمهورية تم تغيير المعنى. سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودينيا، فإذن النزاع حول المعنى هو نزاع في التراث، وهو أيضا الآن يصل إلى نزاع عنيف حول المعنى.
القرآن معطى أولي، لا يمكن لأي بحث حول معنى الحياة في أي مجتمع من المجتمعات التي تسكنها أغلبية مسلمة أن يصوغ معنى خارج هذه البؤرة المركزية للمعنى.
الدراسات القرآنية هذا تخصصي، مع سؤال المعنى أصبحت متخصصا في الدراسات القرآنية كنوع من التركيز. الدراسات القرآنية علوم بينية، يعني إذا قرأت فقط الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، أو البرهان في علوم القرآن للزركشي، أو قرأت كل التفاسير، أو قرأت كل التراث، هذا لا يجعلك متخصصا في الدراسات القرآنية؛ لأن الدراسات القرآنية تتطلب دراسة ما قبل القرآن، التاريخ، المجتمع، المجتمع الواسع جدا جدا، مجتمع الجزيرة العربية، علاقة مجتمع الجزيرة العربية بالعالم؛ قريش، مكة، المدينة. وهذه تحتاج إلى علوم كثيرة جدا. أنا هنا لا أقوم بهذه العلوم، هذا ادعاء أعوذ بالله منه، إنما أنا أعتمد على نتائج الدراسات التي تقام على هذا السبيل، ما قبل القرآن.
الفضاء الدلالي للقرآن: وهو دخول في عالم النص، وفي بنية النص، وفي تركيب النص دون إغفال ما قبل القرآن، ثم ما بعد القرآن: وما بعد القرآن؛ كيف صاغ علماء الإسلام بعد القرآن نظريات وفلسفات منشؤها القرآن كفضاء للمعنى، ومنشؤها الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه كفضاء للنزاع حول المعنى. كل النزاع حول المعنى كان لا بد لكل الفرق أن ترتد إلى القرآن.
وهذا يؤدي إلى تأسيس نظرية في التأويل حدثت كما أشرت عند المعتزلة وعند الصوفية وعند الفلاسفة. ونحن بحاجة الآن لتأسيس نظرية للتأويل قائمة على هذه الدراسات القرآنية في علاقتها بالعلوم البينية، ليست فقط علوم اللغة والبلاغة، وإنما علم الاجتماع والأنثروبولوجي، وتاريخ الثقافات ... إلخ. ليست عندنا دراسات قرآنية بالمعنى الذي أتمناه في مؤسستنا.
مفهوم النص
هناك ما أسميها المخاتلة الدلالية، الخداع الدلالي، والمخاتلة ليست خداعا مقصودا، وإنما هي بين الخداع المقصود وبين اضطراب الفهم. من أجل هذا أسميتها المخاتلة الدلالية. معنى كلمة نص في التراث غير مفهوم النص في الدراسات الحديثة، أو في الفكر الحديث. كلمة نص في التراث تدخل في متتالية من الكلمات الدلالية، تبدأ بالنص، الواضح، المؤول، الغامض، المتشابه. فالنص أحد الأبعاد الدلالية. «النصوص عزيزة» هكذا يقول القدماء جميعا، علماء الكلام والتصوف وعلماء أصول الفقه، النصوص بهذا المعنى، النص هو الواضح وضوحا جليا يفهم بمجرد أنك تعلم اللغة، يعني جميع الناس تفهمه، تفهم المعنى المباشر لمجرد أنهم يتحدثون اللغة. هذا هو النص. «النصوص عزيزة» أي نادرة. هناك تقسيم للنصوص إلى قطعي وظني. القطعي والظني يتراوح بين بعدين. قطعي الثبوت أو ظني الثبوت، هذا بعد. وقطعي الدلالة وظني الدلالة. قطعي الدلالة وهو النص، ولا أريد أن أدخل في التعريفات الكثيرة جدا لمعنى القطعي ومعنى الظني، ومعنى الثبوت ومعنى الدلالة. هذا التمييز الرباعي، هذا تقسيم رباعي وليس تقسيما ثنائيا؛ لأن النص قد يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة، لا يمكن أن يكون ظني الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه لو كان ظني الثبوت، يعني وصلنا من طريق ظني؛ فلا يمكن أن تكون الدلالة على هذا المستوى من الثبوت. قطعي الثبوت قطعي الدلالة هو النادر جدا، حتى إن السيوطي - القرآن طبعا كله في منظومة الفكر الإسلامي قطعي الثبوت، لكن ليس كله قطعي الدلالة - السيوطي وهو في القرن الحادي عشر يقول:
حرمت عليكم أمهاتكم
ليس قطعي الدلالة، لماذا؟ لأنك لا بد أن تفترض محذوفا في الكلام
حرمت عليكم أمهاتكم
وما دام هناك محذوف في الكلام تنتفي قطعية الدلالة.
كما قلت كلمة «نص» تقع في هذا المحور، النص، الواضح، المؤول، الغامض أو المشكل، المتشابه. يعني بين قطبين؛ الوضوح التام والغموض التام، بينهما درجات من الوضوح والغموض. من هنا عبارة «لا اجتهاد لما فيه نص»، هذه عبارة تراثية لا يمكن أن تفهم إلا من خلال كلمة النص في التراث، لكن تقال أحيانا ويقصد بها القرآن كله، ويقصد بها السنة كلها. هذا هو الذي أسميه التلاعب الدلالي، المخاتلة الدلالية. هي عبارة صحيحة في سياق الدلالة التراثية، ولا بد أن يوضع أيضا جانبها «النصوص عزيزة». لا تطلق وحدها هكذا في الفضاء، فيتوهم المستمع أو يتوهم المتكلم أن كل القرآن ليس فيه اجتهاد، وأن الاجتهاد إنما يكون في الفقه وفي آراء الفقهاء ... إلخ. هذه مخاتلة دلالية وخداع دلالي ناتج عن عدم التمييز بين مجال الدلالة اللغوية لهذه الجملة، وبين مجال فهمنا الحديث حين نقول النص. نحن نطلق النص على كتاب كامل؛ النص القصصي، النص الشعري، النص القرآني. حين نقول النص القرآني نتحدث عن مجمل القرآن.
وأنا أقترح الانتقال من النص إلى الخطاب؛ لا بد أن أضع تعريفات أولية للفرق بين النص وبين الخطاب. النص بنية مستقلة بذاتها، بنية كاملة مستقلة بذاتها، تتضمن مفهوم المؤلف، القصد، والقارئ الضمني. ولا يجب أن تستبعد مفهوم الفضاء الثقافي اللغوي الذي يسمى السياق. لكن هناك مؤلف وهناك قصد. نفترض أن المؤلف يمتلك قصدية ما من تأليف هذا النص ومن إذاعة هذا النص ومن نشر هذا النص. لكن المؤلف، وقصدية المؤلف لا تعمل في فراغ، تعمل في الفضاء الثقافي اللغوي الذي ينتمي إليه المؤلف، وتخيل كاتب النص للقارئ الذي سيقرأ الكتاب. هذا يسمى القارئ الضمني؛ لأن كلا منا، وهو يكتب، في ذهنه القارئ الضمني، سواء اعترف بذلك أم أنكر.
النص يتضمن مفهوم التناص (intertextuality)
ليس هناك نص ينبع من فراغ كامل، وفراغ تام. إذا طبقنا هذا المفهوم على القرآن، سنجد أنفسنا في مشكلات لاهوتية، في مشكلات لغوية كثيرة جدا. لا نستطيع أن نقول إن الله هو مؤلف القرآن. الله متكلم بالقرآن، القرآن كلام، قول، وحي، تنزيل، هدى، بيان، يعني في تعريف القرآن بنفسه هناك تعريفات كلية، وهناك تعريفات وظيفية. وكلها تحولت إلى أسماء، التعريف الوظيفي أنه هدى وأنه بيان. التعريف الكلي أنه قرآن، أنه كلام، أنه وحي. مفهوم التناص معناه أن هذا النص له علاقة بالنصوص السابقة عليه، سواء على مستوى البنية أو على مستوى التناص. في القرآن؛ القصص القرآني، في معظمها، هذه القصص القرآنية توجد في العهد القديم. ومشكلة التناص هي التي دفعت الباحثين الغربيين إلى أن ينشغلوا بهذه المشكلة منذ القرن السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر والتاسع عشر. ماذا أخذ القرآن من العهد القديم؟ وما هي الأخطاء - هكذا يقول المستشرقون - التي وقع فيها القرآن أو محمد حين ربط بين أحداث تاريخية لا رابط بينها وفقا لنظريتهم؟ هذا البحث كله قائم على أن القرآن نص أيضا. وفهم القرآن باعتباره نصا لا يدرك مثلا أن القصص القرآني، في النص القرآني باستثناء سورة يوسف مشتت في السور. القرآن لا يسرد القصة، قصة موسى وفرعون، أو قصة نوح، لا يسردها سردا كليا في سياق كلي واحد. لم يتنبه الفكر، حتى المستشرقون لهذا، ولم يتنبه الكثير من المفكرين المسلمين الكلاسيكيين لهذا. وحاولوا أن يعيدوا ترتيب القص القرآني بجمع هذه المتناثرات مع بعضها لكي يروا أو يقوموا بمقارنة بين القصص القرآني وبين القصص التوراتي. لم تدرس هذه الظاهرة إلا مع تلميذ أمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله في «الفن القصصي في القرآن». وفي «الفن القصصي في القرآن» يقف محمد أحمد خلف الله متأثرا ، ضد هذا الموقف الاستشرافي، ويقول: إن كل وحدة سردية وردت في سورة هي وحدة سردية مستقلة قائمة بذاتها، وإن محاولة أن تجمع هذه الوحدات السردية لتبني منها وحدة سردية متكاملة، أنت تحاول أن ترد القرآن إلى التوراة. وهذا يطرح سؤالا مهما جدا، ليس عندي إجابة عنه، ونخاف من طرحه. سيأتي هذا السؤال في سياقه. •••
الخطاب: بنية تحاورية، تجادلية، سجالية، تستدعي سياقات وليس سياقا واحدا، تتضمن المتكلم: والمتكلم في الخطاب متعدد الأصوات، كلمة صوت لا تعني المتكلم بالمعنى اللاهوتي، المتكلم بالمعنى اللاهوتي هو الله بالقرآن، لكن تعدد الأصوات داخل النص القرآني، ليس معناها تعدد الآلهة التي قال القرآن. مفهوم الصوت هنا هو مفهوم لغوي سيميولوجي يتحدث عن تعدد الأصوات داخل أي بنية سردية، وسنرى إلى أي حد ينطبق على القرآن أنه بنية سردية. فهنا تعدد الأصوات، وسأطرح أمثلة لتعدد الأصوات، هناك لا بد لدراسة الأصوات دراسة المخاطب أو المخاطبين، نمط الخطاب: هل الخطاب تهديد، هل الخطاب بشرى، هل الخطاب تقرير، هل الخطاب اعتراض، هل الخطاب نفي، هل الخطاب إزاحة؟ كل هذه آليات الخطاب، فحوى الخطاب يدخل فيها مستويات كثيرة جدا، ما يقوله الخطاب، وما المسكوت عنه في الخطاب ويستنبط بالفحوى، ثم تأثير الخطاب على المتلقي ورد فعل المتلقي.
مثال لتعدد الأصوات: سورة اقرأ (العلق)
اقرأ باسم ربك
الكاف طبعا هي كاف المخاطب الأول محمد
ربك
الخطاب هنا يقدم رب محمد لمحمد
الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
المقدس في صيغة الغائب، المخاطب في صيغة المخاطب والصوت الذي يتحدث هو صوت ثالث، أحذر من الدخول في المناطق اللاهوتية، صوت ثالث يعني من؟ ممكن يكون جبريل. حين يقول القرآن
إنني أنا الله لا إله إلا أنا
هذا هو الصوت المقدس، لكن حين يكون المقدس مشارا إليه بضمير الغياب، فيكون صوت المقدس حاضرا من خلال أصوات أخرى. •••
سورة الفاتحة: صوت المتكلم هو الإنسان، في كل نصوص الابتهالات والأدعية في القرآن، صوت المتكلم هو صوت الإنسان. والمقدس مخاطب، يمكن أن يكون في صيغة الخطاب، ويمكن أن يكون في صيغة الغياب. الغائب
الحمد لله رب العالمين
أنا المتكلم والمقدس غائب
الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك
انتقلنا من الغياب إلى المخاطب، طبعا القرآن كله كلام الله، لا أريد أن أؤكد هذه المسألة، وكأني أدافع عن التحليل العلمي الذي أقوله، تحليل الأصوات هنا من داخل الخطاب، تعدد الأصوات داخل النص اسمه في البلاغة شيء آخر، اسمه الالتفات. والالتفات هو أن يكون نفس الشخص، لكن يتغير الضمير فجأة. النص السردي، والقرآن نص سردي بامتياز، نص يتميز بتعدد الأصوات، أصوات الكافرين موجودة في القرآن، قالوا، أصوات المنافقين موجودة في القرآن. وهنا تأتي خاصية الجدل وخاصية السجال، وهي خاصية من خصائص الخطاب.
المخاطبون في القرآن كثيرون، المشركون، أهل مكة، بنو إسرائيل، أهل الكتاب، اليهود. يعني ممكن أن يكون أهل الكتاب بصفة عامة، يمكن أن يكون اليهود، النصارى. تعدد المخاطبين، وتعدد أصوات المتكلم يؤدي إلى نوع من التعقد في بنية الخطاب.
نمط الخطاب كما قلت، وفحوى الخطاب. أضرب مثالا على مسألة خلافية:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (17/الإسراء: 16) كل الخلاف اللاهوتي حول «أمر»، وهل هي من الثلاثي أم من الرباعي، لم يتأمل الخطاب، الخطاب تهديد لأهل مكة. وفي خطاب التهديد لا يمكن أن تحول الخطاب إلى مقولات لاهوتية.
ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
هذا خطاب واضح قوي. فحوى الخطاب وتأثير الخطاب. الذين آمنوا واتبعوا محمدا عليه السلام، لم تصعقهم صاعقة من السماء فآمنوا، دخلوا في حوار، وفي جدل، وفي صخب. وصياغة الخطاب القرآني كان لها هذا التأثير اللغوي طبعا، كان لها هذا التأثير. فالإيمان هنا ليس اختيارا قائما على غير نمط من أنماط التعقل، إنما في شكل من أشكال التعقل.
هذا كله مقروء في القرآن، في القرآن المكي، وفي القرآن المدني على السواء. تعدد الأصوات قائم من أن القرآن يقوم بنقل الأصوات، الأصوات الأخرى، من أجل الدخول معها في علاقة تحاورية - وهذا هو الخطاب - سجالية، إزاحة، نفي. كل هذه هي آليات الخطاب في التعامل، وسنأتي بعد ذلك إلى كيف تعامل القرآن مع المؤمنين مثلا، هناك جدل مع المؤمنين، مثلا:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ،
يسألونك عن الأهلة ،
يسألونك عن ذي القرنين ، كل ما هو تحت يسألونك،
يسألونك عن المحيض
السؤال يدخل في أي مناطق، من المحيض ، إلى ذي القرنين، إلى الأهلة. إذن هناك خطاب في الواقع، الخطاب القرآني يتعامل معه، ويتحاور معه، أو يلغي السؤال، مثل:
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج .
كل هذا يرشح في تقديري مفهوم الخطاب وليس مفهوم النص. في الجدل مع أهل الكتاب، في الجدل مع المشركين. قضية الإعجاز نشأت مما يسمى آيات التحدي، وهي اتهام مشركي قريش، اتهامات عدة؛ إنك ساحر، شاعر، فينفي القرآن،
وما هو بقول شاعر ،
وما علمناه الشعر وما ينبغي له
ولا نأخذ هذا، نظرية في الشعر من القرآن، هذا هو المجال الخصب أن هؤلاء العرب يعرفون الشعر، يعرفون سجع الكهان. وقد سمعوا خطابا لم يقولوا لمحمد ليس من الأفق الأعلى، وإنما كما يقولون: لا بأس، أنت شاعر آخر، أنت كاهن آخر. ولما تأثير الخطاب وصل أقصاه قالوا «ساحر». والرواية التي تروى معروفة ومشهورة، عن سحر لغة القرآن، تأثير اللغة، ونحن نسمع هذه المرويات ونعجب بها، ولكن لا ندخل في تحليل هذه المرويات.
الخطاب مع اليهود، مع أهل الكتاب، ومع اليهود، وهو خطاب يتضمن نقل قول اليهود، طوال الوقت، الخطاب مع أهل مكة كان خطابا يقوم على هذه المجادلة، حتى وصلوا أن قالوا
لو نشاء لقلنا مثل هذا ، فرد فعل القرآن، محاجة القرآن تحدي،
فأتوا بسورة من مثله ،
فأتوا بعشر سور مثله مفتريات
هو التحدي. سألني طالب يوما، وهذا سؤال لم أجب عنه حتى الآن: «يعني إيه يا أستاذ مثله؟»
فأتوا بسورة من مثله ، كيف يأتون بمثل القرآن إلا القرآن نفسه؟ ليس هناك مماثلة، لا تستطيع أن تقلد أسلوبا. وأصارحكم القول، الحل الذي توصلت له أن القرآن يتحداهم كنوع من التحدي الملزم، لا يمكن لأحد أن يأتي بمثل أي شيء. لو شاعر كتب قصيدة عبقرية، تحدى بها الشعراء، وقال اكتبوا قصيدة مثلها، كيف يكتب قصيدة مثلها؟ لازم يكتب قصيدة ثانية، ربما تكون على نفس المستوى، لكن مثلها لا يمكن. هذا مستحيل لغويا، هنا التحدي تتصاعد نغمته في القرآن، إذا رتبنا آيات التحدي حسب ترتيب السور، تتصاعد نغمته كأن النص أو الخطاب يحاول أن يفرض هيمنته. العرب حاولوا، لكن قالوا كلاما آخر ليس له علاقة بالقرآن. لا يمكن إنتاج خطاب مثل خطاب. من علمنا هذا؟ الشيخ عبد القاهر الجرجاني: «لا نظم يشابه النظم إلا أن يكون تكرارا له.» لو أخذت تركيب الجملة، ورفعت كلمة، ووضعت كلمة «فهو نظم آخر». فحين يقول بمثله، بمثله تأثيرا، بمثله تقبلا، مفتوح المعنى على «بمثله». وهذه من بركات أن يكون الإنسان معلما، ويجد طلبة يسألونه أسئلة لا يعرف إجاباتها. هذا السؤال سئلته منذ أكثر من عشرين عاما، لكنه لم يفارق ذهني، وأنا أذكر هذا الطالب، لا أذكر اسمه، ولكن أذكر شكله وملامحه، وهو يسأل ببراءة شديدة جدا: «يعني إيه يأتون بمثله يا أستاذ؟» فقلت له «يا بني لا أعرف.»
الخطاب مع أهل الكتاب أكثر تعقيدا. من هذا، كل خطاب نص وليس كل نص خطابا، لكي أميز الخطاب أميز علامات الخطاب، المتكلم المتكلمين، الأصوات المخاطب المخاطبين، فحوى الخطاب، نمط الخطاب، تقسيم القرآن إلى خطابات، هذا عمل مطلوب. لكن حين يتحدد الخطاب، وتتحدد عناصره يكون التحليل تحليلا نصيا؛ لأنه في النهاية خطاب في اللغة، لكن ليست بنية القرآن كله بنية نصية.
مصادر صياغة مفهوم النص
علم الكلام: سأمر على هذه المسائل بسرعة؛ لأن مصادر صياغة مفهوم النص هي المصادر التي تحدثت معكم عنها في المحاضرتين السابقتين؛ علم الكلام والفلسفة يقفان عند المتكلم. ومفهوم الكلام الإلهي، هل هو من صفات الذات أم من صفات الفعل؟ يعني يقف عند مفهوم مؤلف، لكن المتكلم القديم أوعى من أن يستخدم كلمة مؤلف؛ لأن كلمة تأليف في اللغة العربية تعني أن يأتي بشيء من هنا وشيء من هنا ويؤلفه. لكنه وقف عند المتكلم كبؤرة الدلالة، وليس عند الخطاب كبؤرة الدلالة. من هنا فإن علم اللاهوت كله دخل في هذه المسألة، صفات الذات، هل الصفات عين الذات، أم غير الذات، وهل الكلام فعل أم صفة ذاتية، والخلاف بين المعتزلة وخصومهم حول هذه القضية؛ لأن الكلام لو هو صفة إلهية فهو قديم؛ لأن الصفات الذاتية الإلهية قديمة. وإذا قال قديمة، فهذا يدخلنا في مفهوم اللغة القديمة ... إلخ.
القصدية: مادام هناك مؤلف لا بد أن نبحث عن القصدية، هل نصل إلى قصدية الكلام مسبقا؟ بفهم المتكلم، هكذا قال المعتزلة، وهكذا يقول الفلاسفة. لكي تحكم على الكلام بأنه صادق أو بأنه كاذب، لا بد أن تعرف المتكلم. لاحظوا أن المعيار هنا يخالف أشياء أخرى في التراث الإسلامي، فأنت تعرف الشخص، القصد، المتكلم، فإذا وثقت في قصد المتكلم فيكون أي كلام يصدر عن المتكلم صادقا، القصدية معرفة عقلية مسبقة، في فكر المعتزلة وفي فكر الفلاسفة. ولكن في فكر خصوم المعتزلة والفلاسفة أن القصدية تعرف من الكلام، أن القصد لا يمكن الوصول إليه إلا من تحليل الكلام. والفكر الحديث كله يقول هذا، أنا لا أعرف قصد المؤلف ماذا، أنا أحلل الكلام فيمكن أن أصل إلى ما يسمى القصدية، ولكن القصدية لا تتماثل تماثلا كليا مع القصدية الذهنية في عقل المؤلف، قبل أن يكتب. أنا أحاول طرح الخلافات القديمة في صيغة حديثة، وهذا ما قلت عنه في الأول: «إنني سآخذكم معي إلى المطبخ».
اللغة: هل هي وضعية اصطلاحية أو توقيفية إلهية، فإذا قلت إن الكلام من صفات الذات، فالكلام لا يفارق الذات، والكلام لغة، فاللغة مصدرها القدم، ليست وضعية اصطلاحية. طبعا كل علماء المسلمين قالوا، لكن البشر تواضعوا بعد ذلك، ولكن بناء على هذه اللغة الأصلية التوقيفية؛ لأن ظاهرة تعدد اللغات، وتعدد مستويات العلاقة بين الدال والمدلول، لم يكن لأي مفكر لغوي أن يتجاهل هذا التعدد. فقالوا إن هناك لغة قديمة هي اللغة الإلهية، وبناء على اللغة الإلهية يسهل استنباط أخرى، كأن تعلم طالبا تقول له
Man
في الإنجليزي تعني رجلا في العربي، فأنت لا تحتاج إلى إشارة، ولا أن تحضر له الرجل أمامه كي يتعرف عليه.
مبدأ التأويل: عند المعتزلة وعند الفلاسفة قائم على جدلية الوضوح (المحكم)، وعلى جدلية الغموض (المتشابه). وهذا أسميته ليس نزاعا فقط حول المعنى بل نزاع حول المبنى، ما وصلت إليه في دراسة هذا الجزء. فهذا الخطاب، وهو الآية السابعة من سورة آل عمران، وهي خطاب مستقل. إنها سجال مع النصارى، ذلك أن القرآن يتحدث عن عيسى ابن مريم بوصفه كلمة الله وروح الله، وهذا من منظور اللاهوت المسيحي - الدكتور يوسف خبير في اللاهوت الآن - يعني أبو زيد؛ يوسف زيدان - من منظور اللاهوت المسيحي اتفاق مع الأرثوذكسية. لكن أن يقال إن عيسى مخلوق، هذا يتناقض مع المسيحية الأرثوذكسية في هذا العصر. وفيه جدل حدث بين نصارى نجران، الذين أتوا إلى الرسول في المدينة، وجادلوه في هذا الأمر. هنا الطبيعة السجالية والجدلية في القرآن تتجلى،
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ، فما هي مشكلتكم؟
خلقه من تراب . لكن في نفس الوقت نعرف أن القرآن أفاض في الميلاد المعجزي لعيسى عليه السلام. وهذا يجعلنا نعطي أهمية بالغة لسياق السجالية والجدالية. ويأتي موقف ثان يرويه ابن إسحاق، وأنا هنا آخذ الرواية فيما يسمى جوهر الحدث وليس تفاصيل الحدث؛ لأن ابن إسحاق يصف هؤلاء الرهبان الذين أتوا إلى محمد أنهم كانوا يعرفون تماما بأن محمدا على حق، وأن القرآن على حق، لكن مصالحهم لم تكن تمكنهم من الاعتراف بهذا الحق، هذا ابن إسحاق. إنما الجدل يبدو أنه وصل إلى أن القرآن يمارس سلطته النصية في أن يقول:
فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم (3/آل عمران: 61) إلى آخره
ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، أنا لو قسيس، الحقيقة؛ أخاف، سأرعب، هذا تحد مرعب. تحليل الخطاب هنا يضع المخاطب؛ لأن الخطاب هنا يتوجه لمخاطب. وانسحبوا وأعطوا الجزية، فكيف يمارس الخطاب هذا في الجدل؟ بعد هذا، أو في وسط ذلك، خطاب آخر يقول إن هذا الفهم الذي فهمه نصارى نجران أو غيرهم.
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله (3/آل عمران: 7)، الآية ببساطة تقول إن هؤلاء الناس من نصارى نجران، فهموا كلمة «كلمة»، وكلمة «روح» فهما غبيا؛ لأنهم في قلوبهم مرض، «زيغ»، هذا متشابه. إذن، تعميم المتشابه والمحكم على عموم القرآن، هو ناتج من تصور القرآن كنص وليس كخطاب. الطبيعة الخطابية. الآية في سورة آل عمران، وسورة آل عمران طبعا في معظمها تركز على النصارى.
صديقة وأستاذة ألمانية - أظن الدكتور يوسف يعرفها - «أنجليكا نويفرت» تقول لي: «لأ يا نصر، هذه الآية هي رد على المجمع المسكوني.» المجمع المسكوني في القرن الرابع. فأقول لها: يا أنجليكا، كيف وصلت قرارات المجمع المسكوني إلى الجزيرة العربية؟ هذا هو السؤال؛ لأنها مشغولة ب
intertextuality
خاصة
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
رد على المجمع المسكوني، عليك أن تثبتي أن قرار المجمع المسكوني كنص وجد في الجزيرة العربية. مسألة التناص معناها أن القرآن كتب، القرآن مجموعة من النصوص، ودخل فيه مجموعة من النصوص، التناص على مستوى آخر موجود، ولكنه التناص على مستوى الخطابات، وليس على مستوى النصوص. في مفهوم النص أداة التأويل هي المجاز في التعامل مع القرآن. والمجاز أداة قاصرة؛ لأنها أداة ترتبط في الغالب بالجملة، ومن هنا قلت عن انفتاح المعنى عند المتصوفة؛ لأنهم انتقلوا من المجاز إلى الرمز، ونظروا إلى القرآن كسياق سردي.
علم أصول الفقه - مرة أخرى نحن في المطبخ - البحث عن المقاصد، لكن المقاصد التشريعية؛ لأن مفهوم المقاصد الكلية كيف تجرد معطيات هذا النص الغنية، والمليئة بالاحتمالات، كيف تجردها في النهاية للمقاصد الكلية التي تحددت في خمسة مقاصد كلية عند علماء الأصول. لكن علم أصول الفقه خلافا لعلم الكلام والفلسفة، كان مدركا لطبيعة الخطاب، مدركا؛ لأن هناك أسبابا للنزول لا يمكن أن يتجاهلها في الدراسة التشريعية للنص القرآني. في أسباب النزول كان هناك سؤال: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ أي هل نراعي في فهم الآية السياق الذي نزلت فيه، ويتحدد المعنى على هذا، أم السياق مجرد مناسبة، وننظر إلى اللفظ نفسه؟ ألفاظ اللغة بشكل عام هي ألفاظ تميل إلى التعميم، اللغة بشكل عام محدودة الألفاظ، يعني إذا أنت قلت: «أنا رأيت في الشارع سيارة حمراء قتلت طفلا» تصلح هذه الجملة في آلاف الشوارع وآلاف السيارات تقتل طفلا. ولا يمكن للغة أن تصل إلى التخصيص التام، إلا بما يسمى اللغة الرثة. اللغة عموما تعتمد على هذه الجدلية بين أن تخصص وتعمم، فكان السؤال: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ وانتصر مفهوم عموم اللفظ على خصوص السبب. وإن كان الشافعي يعطي بخصوص السبب في بعض الحالات أهمية، في بعض الحالات لو أخذت بعموم اللفظ تقع في مشكلة.
المكي والمدني، إدراك لما يسمى ترتيب النزول.
العام والخاص، الناسخ والمنسوخ: هنا العام والخاص يخرج من سياق الخطاب ويدخل في سياق النص؛ لأن علماء الأصول يرون أن ما هو عام في سياق، خصص في سياق آخر. يرون مثلا أن إباحة الزواج من كتابيات؛ هنا خلاف: هل هو عام أم خاص؟ لأن هناك نصا آخر يقول
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ،
ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ،
ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم
وهنا علم أصول الفقه من العلوم التالية على القرآن، عمم مفهوم المشركين على أهل الكتاب. والبعض اعتبر أن هذه الآية عامة، لكن خصصت بإباحة الزواج من الكتابيات. فالعام في سورة والمخصص في سورة أخرى، ما هي مشكلة هذا العام والخاص؟ مشكلة هذا العام والخاص في القرآن الآية التي بها الإباحة تبدأ ب
اليوم أحل لكم الطيبات
وليس هناك عموم أكثر من هذا:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم . وأهم مظاهر التعايش في الحياة الاجتماعية هي المشاركة في الطعام والتزاوج، وأنا أرى هذه الافتتاحية:
اليوم أحل لكم الطيبات
لا أستطيع أن أقبل التخصيص والتعميم؛ لأن مفاهيم العام والخاص تقع في الجملة، بالاستثناء والنفي الذي يؤدي إلى القص ... إلخ.
الناسخ والمنسوخ: إحدى أدوات التأويل عند علماء الأصول، سأعطي مؤشرا، الكتب الأولى في الناسخ والمنسوخ تكاثرت مع الخلافات الفقهية، ومع الخلافات بين الفقهاء حتى ذهب البعض أن آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة التوبة. آيات كثيرة جدا، وهذا قول وارد، بل أحيانا يصل إلى أن «عجز الآية قد نسخ صدرها» بالاستثناء. مفهوم الناسخ والمنسوخ قائم على مفهوم النص، لماذا؟ لأن عالم أصول الفقه نظر للقرآن باعتباره كتابا قانونيا، ولأن هؤلاء العلماء كانوا علماء قانون، وفي القانون يتم البحث في الحكم، ما قالته محكمة الاستئناف سنة ألفين وثمانية يجب ما قالته محكمة الاستئناف سنة ألفين وخمسة. هذا يسجل في القانون، انبنت مسألة الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام على هذا الأساس؛ لأن مهمة عالم الأصول أن يصل إلى استنباط التشريعات من النص القرآني. فمنهجه منهج كاف للغاية من دراسته، لكن لا يمكن أخذ هذا المنهج باعتباره منهجا عاما، طبعا في علم أصول الفقه كان لا بد من إضافة النص الشارح الحديث النبوي. النص الشارح أصبح جزءا من عملية التشريعات واستنباط الفروع من الأصول، لكن كل هذا يقوم على مفهوم نص، ومع إدراك ما بأن القرآن خطاب، يخاطب الناس.
التصوف
هو الذي انتقل أو عمل النقلة، من المتكلم/القصد/اللغة، إلى المتلقي. هذه نقلة حدثت في الفكر الإسلامي، مفهوم النبي هو نموذج العارف في الفلسفة الإشراقية. في الفلسفة الإشراقية النبي يمثل عارفا فيلسوفا، لكنه فيلسوف لا يتصل بالعقل الفعال، أو بالعقل الأول بالتأمل الفكري كما هو الفيلسوف، وإنما يصل إليه بالمخيلة الإبداعية. ففي الأنبياء طاقة تستطيع أن تنشط في اليقظة كما تنشط في النوم، ويستدلون على ذلك بأنه في بداية النبوة، كان النبي عليه السلام تأتيه الرؤى، فتأتيه كفلق الصبح. بدأت النبوة بالرؤى.
التصوف أخذ من الفلسفة الإشراقية مفهوم النبي والعارف، وركز على مفهوم التلقي؛ لأن تجربة النبوة هي نموذج لتجربة التصوف، هي النموذج الأول. فيسعى الصوفي إلى السير على خطى تجربة النبوة. أشرت إليها أن النص القرآني لم يصبح فقط نصا في اللغة، بل هناك النص الكوني. «كلمات الله المسطورة في الوجود، وكلمات الله المكتوبة في المصحف» بما أن كلمات الله المسطورة في الوجود لا تنفد،
هم في لبس من خلق جديد . إن خلق العالم ليس عملية انتهت، بل هي عملية متجددة. إذن هناك توتر في النص الكوني، هذا التوتر في النص الكوني ينعكس على النص القرآني. وهذا لا يمكن حله إلا بالتجربة. تجربة الصوفي أيضا متوترة، ينتقل من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، وينتقل من مستوى إلى المعنى إلى مستوى آخر، وهنا يصبح انفتاح المعنى هو نقل بؤرة التركيز إلى القارئ، وهو انفتاح المعنى.
مستويات المعنى: الظاهر والباطن والحد والمطلع. تعريفات، تختلف لهذه المستويات لكن أذكركم بما قلته عن أربعة عوالم هي وجود الكون، وعند ابن عربي هي برزخ البرازخ، عالم الأمر أو عالم المعقولات، عالم الخلق، وبعد ذلك عالم الكون والفساد. أربعة عوالم، فعالم الكون والفساد الذي نعيش فيه يقابله المعنى الظاهر في القرآن. عالم الباطن هو عالم العقلي، عالم الحد هو عالم الخلق، والمطلع هو برزخ البرازخ الذي لا يمكن الوصول إليه. مستويات المعنى مرتبطة بمستويات الكون، سواء نحب هذا التصور أو نكرهه، لكننا ندرسه، ليس معنى أنني أدرسه أنني أتبنى هذا المنظور. إنما أنا أحاول أن أرى التراث الإسلامي في تعدديته وفي تشعبه كيف تعامل مع الظاهرة القرآنية، مع الفضاء القرآني من منظور النص، لكن كان هنا إدراك لمفهوم الخطاب.
أيضا علوم القرآن والتفسير: مثلا علوم القرآن عند السيوطي أنواع، وهي كذلك عند الزركشي، ويمكن تقسيمها إلى علوم تتراوح بين أن تؤكد مفهوم النص وبعض العلوم ترشح مفهوم الخطاب. علوم التكوين: تعرضنا لأسباب النزول الناسخ والمنسوخ، المكي والمدني، بل هناك أنواع الحضري والسفري، الشتوي والصيفي، ما نزل على لسان عمر، وما نزل على لسان الصحابة ما نزل على لسان الكافرين. هناك إدراك ما أن علوم التكوين قائمة على بنية خطابية. علوم البنية ترشح مفهوم النص، ترتيب التلاوة هو الأساس في علوم البنية. علوم المعنى: المجاز والاستعارة والكناية ... إلخ. وهي كلها ترشح مفهوم النص؛ لأنها كلها مرتبطة بمعنى الجملة، ولا تثريب على التراث أن وقف بحث التراث في اللغة عند مستوى الجملة، وبالتالي عند الصورة. تاريخ التفسير من جامع البيان للطبري إلى «في ظلال القرآن» يقوم على البنية النصية؛ لأنه تفسير خط بياني، يقوم من سورة الفاتحة، وينتهي بسورة الناس. هنا يمكن للمفسر أن يقع في بعض الأخطاء الناتجة؛ لأنه لا يدرك تطور اللغة القرآنية، أي تطور مفاهيم المفردات القرآنية، من البداية إلى النهاية، مثل تطور كلمة «زكاة» وكلمة «صلاة» من معناها اللغوي إلى معناها الاصطلاحي.
سأرجعكم في التاريخ إلى ما يسمى الوعي المبكر بالطبيعة الخطابية للقرآن، القرآن الناطق والمصحف الصامت. الإمام علي في واقعة صفين وفي الصراع السياسي الذي نعرف تاريخه جيدا، حين قال البعض (المحكمة): نحتكم إلى القرآن. قال علي: «القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال.» المصحف في ذلك الوقت لم يكن نصا مقروءا؛ لأن في ذلك الوقت كانت اللغة العربية لم تطور بعد، أدوات الكتابة لم يكن هناك نقط، ولم يكن هناك علامات للحركات، سواء الحركات القصيرة أو الحركات الطويلة، وبالتالي كان نصا مصمتا يسمونه الرسم. وأي أحد أتيح له أن يرى نسخة من المصحف العثماني، سيرى رسما لا يقرأ، إلا إذا كنت حافظا للقرآن أصلا. يستطيع الرسم أن يذكرك بما تحفظه. المصحف صامت والقرآن ناطق وهذا يتم بنطق الرجال، إدراك مبكر جدا لمسألة الخطاب.
النقطة الثانية: في المجادلة مع المحكمة، أرسل البعض قال: «لا تحاجهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه.» وهذه العبارات فهمت دائما «حمال أوجه» على اعتبارات المعنى؛ لأنه لكي تحاج بالقرآن تحتاج إلى معرفة السياق، وتحتاج إلى كل هذه المعرفة (الخطاب، نمط الخطاب، سياق الخطاب، المخاطب، الأصوات ... إلخ)، «ولكن حاجهم بالسنة». ولا نعرف أن كلمة السنة إذا عدنا إلى الوثائق مثل كتاب نصر بن مزاحم عن صفين، فالمقصود بالسنة هي التقاليد. وكان التمييز بين السنة مطلقا يعني التقاليد والأعراف، وسنة النبي. بعد ذلك مع الشافعي أصبحت كلمة سنة مطلقا يراد بها سنة النبي؛ لذلك فإن صرخة المحكمة كانت أنهم يريدون أن يعود الأمر للمسلمين حتى «لا يحكمنا مضري حتى قيام الساعة». وفي نفس الوقت أنهم أرادوا الاحتكام إلى القرآن و«السنة العادلة المرضية». وهذا معناه أنه كانت هناك سنة ظالمة ولا يرضى الناس عنها. وربما تكون هذه السنة الظالمة هي العصبية، التي كان الصراع كله يدور على أساسها؛ لأن الصراع كان صراعا بين طرفين في قريش؛ بين البيت الهاشمي والبيت الأموي، في قريش. «لا تحاجهم بالقرآن، فإن القرآن حمال أوجه ولكن حاجهم بالسنة» وفي غمرة نوع من الأسى والشجن الإمام علي يقول، يقصد بني أمية «بالأمس حاربناهم على تنزيله» باعتبار أن أبا سفيان لم يؤمن إلا مع فتح مكة، وإن كان معاوية قد آمن قبل ذلك. «بالأمس حاربناهم على تنزيله، واليوم نحاربهم على تأويله»؛ على المعنى، نزاع على المعنى. كل هذه الحروب، كل هذه النزاعات هي نزاعات حول المعنى، نزاعات حول التأويل.
الملامح الخطابية
أنا أشرت إلى بعضها؛ ترتيب النزول، خطابات، وترتيب التلاوة. هناك ترتيب النزول، هناك الظاهرة القرآنية في حيويتها، وهذا كان خطابا شفاهيا، في مدة البضع والعشرين سنة، بعضها في مكة والآخر في المدينة. خطاب يأتي فيكون هناك رد فعل للناس؛ للمتلقين. فهذا رد الفعل ينعكس في الخطاب التالي تأييدا أو نفيا أو إزاحة أو جدلا أو سجالا ... إلخ. هذه هي الظاهرة القرآنية الحية.
لأمر ما رتب القرآن على غير هذا الترتيب، أقول لأمر ما؛ لأن السؤال في هذه المنطقة، طبعا الإجابة جاهزة أن الله سبحانه وتعالى الذي رتبه على هذا الترتيب، وأن جبريل استعرض القرآن عدة مرات مع النبي، ورتبه على هذا الترتيب. وأنا لا أعترض على هذا، ولكن السؤال يظل مشروعا لمعرفة حكمة الله من هذا الترتيب؛ السؤال البحثي أحيانا هو ليس سؤال هرطقة، هو سؤال معرفة. ترتيب التلاوة أزاح بشكل أو بآخر إمكانية ألا نعود إلى الظاهرة القرآنية، إلا بالبحث والتدقيق وإعادة النظر ... إلخ. وهذا ليس مستحيلا، هذا ممكن، وأنا طرحت بعض الاجتهادات في التراث للنظر للقرآن كخطاب. يحتاج إلى عمل - مكتبة الإسكندرية مثلا - لا ينفع أن يعمله واحد إذا الواحد عمل على سورة، أكثر الله خيره. هناك علم في علوم القرآن اسمه علم المناسبة بين الآيات والسور، وهذا علم يحاول إدراك ما العلاقة بين سورة الفاتحة وسورة البقرة، لماذا جاءت سورة البقرة بعد سورة الفاتحة؟ السؤال يتضمن وعيا بأنه لا بد أن يشرح هذا الأمر. وفي علم المناسبة بين الآيات والسور، هناك أبحاث وكتب للأسف كلها ضاعت، وأرجو أن يكون بعض هذه الكتب أو المخطوطات قد تم العثور عليها - الدكتور يوسف هو الذي يفتيني في هذا الأمر - علم المناسبة علم عظيم؛ لأنه افترض وحدة القرآن، ويدرك أن القرآن وترتيبه حسب هذا الترتيب، ترتيب التلاوة، يحتاج إلى شرح للوحدة. فمثلا نجد محاولات مهمة جدا ورائعة جدا، أنه في نهاية
اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين - ولكن خذوا بالكم هذا تأويل ما بعد القرآن - حصل تفسير للمغضوب عليهم، وتفسير للضالين. القرآن لم يقل من هم. قالوا: المغضوب عليهم اليهود، غضب الله عليهم ولعنهم، الضالين حسب التفسير، النصارى. سورة البقرة تتعامل بشكل كلي مع اليهود، وسورة آل عمران تتعامل مع النصارى، فالمفسر قال إذن هناك مفتاح في سورة الفاتحة يؤكد لنا العلاقة بين سورة الفاتحة والسور التي تلتها. حتى إن في
إيلاف قريش
ربط اللام بالسورة التي قبلها؛ حتى يستخدم اللام التي تبدأ بها السورة. فيه جهد، لكن الجهد كله قائم على أساس مفهوم ضمني، أنه لا بد من إيجاد تفسير لهذا الترتيب. حين نصل إلى الغزالي - أبو حامد الغزالي - يرى أن الفاتحة هي كبسولة للقرآن كله، تتضمن كلاما عن الذات، تتضمن كلاما عن الصفات، تتضمن كلاما عن التشريعات، تتضمن كلاما عن أصحاب التشريعات الأخرى، وهذا هو القرآن كله، في كتابه «جواهر القرآن».
كما قلت إن ظاهرة تعدد الملامح الخطابية، هي: تعدد الأصوات، الجدلية، المشركين، اليهود، النصارى، أعطيت هذه الأمثلة، وهناك أمثلة أخرى: التحدي والتحدي المضاد وانبثاق مفهوم الإعجاز، من تحدي المشركين ضد محمد، وما عمله القرآن كتحد مضاد ضد المشركين. هناك تحديات كثيرة؛ تساؤل اليهود، طلب المشركين من محمد أن يأتي لهم بكتاب من السماء، وطلب اليهود؛ لأن اليهود أهل كتاب . وهو في هذا الوقت ليس معه كتاب، معه قرآن، خطابي. القرآن يستجيب أحيانا بتجاهل التحدي
فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ، لكن في بعض الأحيان يقول:
ذلك الكتاب ، والمفسرون وقفوا طويلا أمام
الم * ذلك الكتاب
لماذا قال ذلك؟ ولم يقل هذا؟ ولأنه لم يكن هناك كتاب كمصحف، لكن الخطابات في ترتيب التلاوة حصل لها نوع من هذا التشتت، فيمكن أن ننظر إلى التحدي والاستجابة للتحدي
ذلك الكتاب
تحدي المشركين وتحدي اليهود؛ لأن محمدا لم يكن معه كتاب.
التساوي والتوازي، كلمة «إسلام» مثلا في القرآن مفهوم مفارق لجماعة مؤمنة بعينها، من هنا كل الأنبياء مسلمون، آدم مسلم، وأن القرآن في كثير من الخطابات يقول: إن هذا هو الذي أنزل على إسماعيل وإسحاق ... إلخ. طبعا التمييز هنا بين مفهوم الإسلام ومفهوم الإيمان. هنا نفهم مثلا أنه يدخل اليهود والنصارى، والصابئة والمجوس مع المؤمنين، أن الله يحكم بينهم يوم القيامة. حين يقول القرآن المؤمنون أو الذين آمنوا هم أتباع محمد. هنا يحدث خطأ أحيانا حين تقرأ كلمة إسلام، وكأنها تدل على أتباع محمد فقط؛ لأن هذا تطور متأخر، حتى القرن الثامن. يحيى الدمشقي يتحدث عن المسلمين باعتبارهم أبناء إسماعيل. الإيمان مفهوم محايد في القرآن للدلالة على أتباع محمد، كيف نصل إلى هذا؟ بتحليل القرآن بوصفه خطابا، وليس بوصفه نصا. أنا أشرت إلى الهيمنة وقوة الخطاب بوصفه المخيف
قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ... ... إلخ. وحين وصف القرآن نفسه بأنه فرقان، وكان هذا بداية للتمييز بعد التساوي والتوازي، أصبح هناك التمييز. وهذه لغة الهيمنة وقوة الخطاب، ولا تأخذوا الهيمنة بالمعنى السياسي. أنا أتكلم عن الخطاب، وليس الهيمنة بمعنى نظام الحكم ... إلخ.
أما بعد:
فنحن قلنا «أما قبل» في الأول. أما بعد الآن، فالنظرة إلى القرآن بوصفه نصا، تشجع التأويل والتأويل المضاد قديما وحديثا، «مجاز، لا حقيقة»، «اختيار، لا جبر»، لماذا؟ لأننا نظرنا للقرآن بوصفه نصا. وأنا كتبت دراسة عن إشكالية التأويل قديما وحديثا، ودخلت في التفسيرات الحديثة. تأويلات تختلف من النقيض إلى النقيض. الذي يشجع هذا التأويل والتأويل المضاد، أنك أين تحدد المحكم، وأين تحدد المتشابه؟ وهذا يخضع لأيديولوجيا المفسر. التعامل مع القرآن كنص، سواء في علم الكلام أو الفلسفة أو في الفقه، يؤدي إلى تثبيت لفضاء معنى ما، وإلغاء للفضاءات الأخرى. معنى هل الزواج من الكتابيات محرم أم مكروه أم محلل. الفقه يحاول أن يطرح معنى نهائيا ومعنى ثابتا، بينما القرآن يطرح فضاءات للمعنى. طبعا فضاءات المعنى لا تقف عند حدود الفقه، عند حدود التشبيه والتنزيه، تتسع لتشمل التشبيه والتنزيه. كل محاولات التأويل والتأويل المضاد قائمة على مفهوم النص، تسعى إلى تثبيت معنى، وإلغاء معان أخرى إما باعتبارها متشابها، أو باعتبارها أن تؤول تأويلا مجازيا.
ما المعنى الذي يسود في هذه الحالة؟ معنى منطق القوة وليس منطق المعرفة. معنى السلطة، أين تقف السلطة من المعنى؟ السلطة السياسية. وهنا لما المأمون وقف مع خلق القرآن، فرض عقيدة خلق القرآن، قوة الدولة هنا. بعد ذلك المتوكل، تغير انحياز الدولة تغير المعنى الديني، لماذا؟ لأنه لا يقوم الفهم على منطق الجدل والحوار بين الأفكار، وإنما يقوم على منطق القوة، القوة غالبا سياسية، القوة السياسية غالبا، ومن ثم القوة الاجتماعية والقوة الاقتصادية، ومن ثم ليس منطق المعرفة.
تجزؤ المعنى القرآني بين مجالات المعرفة، المعنى اللاهوتي أصبح يناقش عند المتكلمين والفلاسفة، المعنى التشريعي القانوني يناقش عند الفقهاء، المعنى الروحي والأخلاقي يناقش عند المتصوفة. وحصل هذا التجزؤ، هذا التشتت، وهنا غاب أن نبحث عن الرؤية القرآنية للعالم، يعني عن الروحي في التشريعي، وعن الأخلاقي في التشريعي. هذا كله صار غائبا، بينما في منطوق الآيات نجد هذا الترابط بين الروحي والأخلاقي من جهة، والتشريعي من جهة أخرى.
لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم (22/الحج: 37) لا يمكن فصل الأخلاقي هنا والروحي عن التشريعي، لكن علم الفقه كله قام على التشريعي (طبعا لما أقول علم الفقه كله قام ليس معناه أني لا أستبعد تماما أن بعض الفقهاء تعاملوا مع الأخلاقي، وإنما الغالب بشكل عام). الرؤية القرآنية للعالم، كيف يمكن الوصول إليها؟ يمكن الوصول إليها بتحليل القرآن كخطاب، لا يميز بين التشريعي وبين اللاهوتي والروحي والأخلاقي. ثنائية العقل والنقل كلها قائمة على أن القرآن نص وليس خطابا.
هذا المطبخ كما قلت ما زلت أعمل فيه، وشكرا لكم والى اللقاء. (2) النقاط التي اعتمد عليها نصر أبو زيد في إلقاء محاضرته
إعادة تعريف القرآن: من «النص» إلى «الخطاب»
أما قبل.
باحث ولست صاحب مشروع فكري.
ينطلق البحث من السؤال، ومن نتائجه تتولد أسئلة جديدة.
السؤال الأول، وتوالد الأسئلة حول بؤرة المعنى الديني الإسلامي.
القرآن/الوحي بوصفه معطى أوليا لإنتاج المعنى الديني.
الدراسات القرآنية والعلوم البينية: ما قبل القرآن، الفضاء الدلالي للقرآن، ما بعد القرآن، تأسيس نظرية في التأويل.
مفهوم النص: المخاتلة الدلالية.
كلمة «نص» في التراث ومفهوم «النص» في الفكر الحديث.
النصوص «عزيزة» (نادرة): (1)
القطعي والظني ثبوتا ودلالة. (2)
النص - الواضح - المؤول - الغامض/المشكل - المتشابه. «لا اجتهاد فيما فيه نص» قول تراثي صحيح. المعنى الذي يراد منه الآن - كل القرآن وكل السنة الصحيحة (الوحي) - تلاعب الدلالي.
الفارق بين «النص» و«الخطاب».
النص بنية مستقلة بذاتها تتضمن مفهوم «المؤلف» و«القصد» و«القارئ الضمني»، ولا تستبعد مفهوم الفضاء الثقافي اللغوي (السياق) = مفهوم التناص
intertextuality .
الخطاب بنية تحاورية، تجادلية، سجالية، تستدعي سياقات تتضمن: المتكلم (تعدد الأصوات) - المخاطب (المخاطبين) - نمط الخطاب - وفحوى الخطاب - تأثير الخطاب.
كل خطاب نص، وليس كل نص خطابا.
مصادر صياغة مفهوم «النص» (1)
علم الكلام والفلسفة.
المتكلم ومفهوم الكلام الإلهي: من صفات الذات، أم من صفات الفعل؟
القصدية: هل تعرف مسبقا (معرفة عقلية)، أم تعرف من الكلام؟
اللغة: هل هي وضعية اصطلاحية، أم توقيفية إلهية؟
مبدأ التأويل: جدلية الوضوح (المحكم) والغموض (المتشابه).
أداة التأويل: المجاز. (2)
علم أصول الفقه.
البحث عن «المقاصد» التشريعية: مفهوم المقاصد الكلية.
بذور علوم القرآن: أسباب النزول (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) - المكي والمدني - العام والخاص والناسخ والمنسوخ.
النص الشارح: السنة النبوية. (3)
التصوف.
مفهوم «النبي» ونموذج «العارف» في الفلسفة الإشراقية.
تجربة «النبوة» ونموذج التجربة الصوفية.
النص الكوني والنص القرآني: توتر الخلق المستمر.
نقل بؤرة التركيز إلى «القارئ»: انفتاح المعنى.
مستويات المعنى: الظاهر والباطن والحد والمطلع. (4)
علوم القرآن والتفسير.
علوم القرآن تتراوح بين «النص» و«الخطاب». (1)
علوم التكوين. (2)
علوم البنية. (3)
علوم المعنى.
التفسير من «جامع البيان» إلى «في ظلال القرآن» يفترض البنية النصية.
الوعي المبكر بالطبيعة الخطابية.
القرآن الناطق والمصحف الصامت (الإمام علي في صفين).
لا تحاجهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمال أوجه، ولكن حاججهم بالسنة.
بالأمس حاربناهم على «تنزيله»، واليوم نحاربهم على «تأويله».
الملامح الخطابية.
ترتيب النزول (خطابات/نصوص) وترتيب التلاوة (نص).
علم المناسبة بين الآيات والسور.
تعدد الأصوات.
الجدلية: المشركون، اليهود والنصارى.
السجالية: التحدي والتحدي المضاد، انبثاق مفهوم «الإعجاز».
التساوي والتوازي: الإسلام مفهوم مفارق، والإيمان مفهوم محايد.
الهيمنة وقوة الخطاب.
أما بعد.
النصية تشجع التأويل والتأويل المضاد قديما وحديثا.
تثبيت لفضاء «معنى» ما وإلغاء للفضاءات الأخرى.
امتلاك فضاء المعنى الثابت وفق منطق «القوة» لا منطق «المعرفة».
تجزؤ مجال المعنى القرآني بين مجالات المعرفة، وغياب مفهوم «الرؤية القرآنية للعالم».
تحليل الخطاب لا يميز بين اللاهوتي والتشريعي، ولا بين العقلي والروحي/والأخلاقي.
هموم كتابة
«أنا نصر أبو زيد»
1
في جلسة، جمعنا فيها فكري أندراوس على عشاء، مع نصر أبو زيد، في مطعم بالقرب من منطقة وول ستريت، بنيويورك، في نوفمبر عام 2007م، وبعد محاضرة أبو زيد، بجمعية ألوان الثقافية، عن عمليات الإصلاح الديني في بلاد المسلمين في القرون الثلاثة الماضية، احتفاء وترحيبا بأبي زيد، الذي كان تحت تأثير التعب من السفر ومن فرق التوقيت بين شرق المحيط الأطلنطي وبين غربه، حيث جيء به مباشرة من مطار كينيدي بنيويورك إلى المحاضرة. كنت لم ألتقه منذ أن صعدت على منصة ندوة، كان يشارك بها في معرض كتاب، بعد حكم المحكمة الابتدائية برفض الدعوى ضده؛ للتفريق بينه وبين زوجته، وذكرت له أنه عندي بعض الأسئلة التي أود أن أناقشه فيها. ابتسم وبحميمية قروي مزارع، وكأنه يعرفني من قبل أن نلتقي، قال بدفء: «تعال لي الجامعة» وبالفعل ذهبت إلى الجامعة. وفي المبنى الأثري الآن مبنى كلية الآداب، وفي حجرة الأساتذة المزدحمة بمكاتب تكاتف بعضها البعض، كان يجلس، ممتلئ البدن، قصير القامة، صوته يصلك عن بعد، ويلتف حوله طلبة للدراسات العليا، يماحكون أفكاره، وهو يرد عليهم بأسئلة. ذكرته بنفسي، قال: هنا نناقش كل ما يشغلك من أسئلة. جلست أسمع، عالم جديد علي لم أعشه في جامعتي أو مراحل تعليمي المختلفة، تأكد لي صدق حدسي؛ حينما قرأت كتابه «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» في بداية سنة واحد وتسعين، وحينما قرأت حواره مع محمد حربي المنشور في الصفحة الثقافية بجريدة الأهرام في الواحد والثلاثين من مايو في نفس العام؛ بقيمة هذا الإنسان كإنسان وكمفكر وكباحث، حي، متواضع، صادق في نقده. ففتحت ملفا وكتبت عليه اسمه، ووضعت فيه ورقتي الجريدة، ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أجمع كل كلمة كتبها نصر أبو زيد ونشرها، أو سجلت.
قامت موقعة حجب ترقيته للأستاذية، وتلتها واقعة قضية التفريق بينه وبين زوجته، ورحيله نحو الشمال، وبعد رحيله بعام ونصف العام رحلت أنا الآخر، وانقطع التواصل. وبعد رحيلي بعشر سنوات ها نحن نلتقي مرة أخرى، لكن في نيويورك. سأله سامح إسكندر: «هو أنت مواليد سنة كام يا دكتور نصر؟» فأجبت أنا: «عشرة يوليو 1943م». فابتسم، نصر، وقال على طريقة تقاليد المشايخ القدماء، «أجزتك أن تتكلم عني». فضحكنا، فقلت له: «هديتي لعيد ميلادك السبعين - كان عليها خمس سنوات - هيكون كتاب لي عنك.»
جلست ظهر الأحد الرابع من يوليو 2010م للبدء في كتابة كتاب «أنا نصر أبو زيد»، وفي اليوم التالي كتب لي الصديق محمد شعير باكيا: إن نصر أبو زيد قد رحل عن دنيانا. عشت أسبوعا من حزن لم أمر به من قبل، حتى عند رحيل والدي. أفكر في هذا الألم العميق الذي شعرت به، وأحاول أن أعرف سببا أو أسبابا له، لماذا ألمي لفراق نصر أبو زيد؟ رغم أننا لم نلتق سوى مرات معدودة، ولم أجلس أنا وهو وحدنا سوى مرة واحدة. لم أكن طالبا من طلابه في الجامعة، لم أنتظم في عملية تعليمية مباشرة معه، فما وراء هذه الصلة العميقة به التي أشعر بها؟
فأتذكر شعوري حين قرأت كتابه «مفهوم النص» نصر حي، حي في تساؤله، حي في نقاشه وتفكيره، حياة تفيض في تمهيد الكتاب. نفس الحيوية النقدية التي لمستها في حواره بجريدة الأهرام، حيوية نقده الذاتي المستمر، وقلق السؤال الدائم. وحين قرأت كتابيه «نقد الخطاب الديني» و«الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، حينما نشرا بداية عام اثنين وتسعين، ودراساته في مجلة القاهرة ومجلة إبداع. حينها، أدركت أنه وضع يده في فم الخطر، لمست هذه الجسارة المزروعة في أرض التراث، وليس فقط في التراث الغربي. لكن أتصور أن الخيط العميق الذي وصلني بخطاب نصر أبو زيد هو إيمانه بالناس، وفي القلب منهم الشباب، الخيط الذي لم ألمسه فيمن قرأت لهم من قبله من مفكرين ومن أسماء مصرية وعربية كبيرة. كان حضور الناس في خطاباتهم وما زال حضورا كديكور في مشهد، مجاميع في الخلفية، لكن في خطاب نصر أبو زيد الناس، وفي القلب منهم الشباب، هم الهدف، وهم الغاية، بل هم الوسيلة، لا يعترف خطابه بثنائية خاصة وعامة، ولا بسلطة، ولا أن يكونا هما الطريق وهما الغاية من الحياة الفكرية في المجتمع؛ لأن بأيديهم سلطة المعرفة، وبأيديهم سلطة الفرض بالقوة، بل خطاب نصر يعول على ديموقراطية المعرفة وعلى الشعوب وعلى البشر في تغيير واقعها. شعرت بأن هذا الخيط هو الخيط الأعمق الذي يشدني لخطابه بجوار حيوية الخطاب وطاقته النقدية العميقة الصادقة.
2
لمسني من داخلي إيمان نصر أبو زيد بالناس، وبالشباب تحديدا، فكان مؤلما ما حدث داخل لجنة الترقيات ضد ترقيته للأستاذية ، وما حدث من صراع المتصارعين بقضيته في أروقة المحاكم، لكتم وقطع لسانه داخل الجامعة، باسم القانون وبسيف الحسبة. لكن الألم الأكبر كان حين قرأت في الصحف خبر سحب مكتبة الجامعة لكتبه من رفوفها. الجامعة التي كانت حلم جيل في بدايات القرن العشرين أن تكون قاطرة للحداثة تجر مشروع التحديث من سقوطه، تصبح هي بنهاية القرن، قاطرة تجر المجتمع إلى الخلف، وتكبح حركته نحو الأمام ، سعيا نحو الاستقرار. فشعرت بالثقة التي أولانا بها خطاب نصر أبو زيد، وبمسئولية ثقته فينا. كشاب، شعرت أني أقول لهذه المؤسسة: إن كان صوت أبو زيد قد تم إسكاته داخل قاعاتها، وكتبه قد تم سحبها من رفوف مكتباتها، فسيأتي من هم خارج هذه القاعات وخارج تلك الأسوار، من سيجمع هذا التراث ويحيي هذا الصوت، وشعرت أن هذه هي مهمتي، أن أقوم بما قصرت فيه مؤسسة الجامعة الحديثة في ثقافتنا بقدر طاقتي.
فجمعت نسخا من كل ما كتب ونشر نصر أبو زيد من كتب وأبحاث ومقالات، وكل ما نشر من حوارات صحفية معه، ووصلت إليها. جمعت كل الحوارات التليفزيونية التي عملت معه واستطعت الحصول على نسخ منها. وفي لقائنا هذا في المطعم بنيويورك بجوار وول ستريت لم أثقل عليه، لكن في اليوم التالي كانت عنده محاضرة بجامعة كولومبيا بشمال جزيرة منهاتن، حيث كان يدرس إدوارد سعيد عليه رحمة الله، واتفقنا أن نلتقي بعد محاضرته، فأخبرته أني سأعمل مدونة على النت تكون رواقا لخطابه، واقترحت عليه أن يأخذ تسجيل صوت ديجيتال، ويسجل به كل حواراته الصحفية، ومحاضراته بالعربي والإنجليزي؛ لكي نكون أرشيفا صوتيا له؛ لأني ألاحظ أنه في العقد والنصف الأخير يحاضر أكثر من كتابة نصوص. فوجدته وكأن فني اللاسلكي داخله، والذي عمل لمدة اثني عشر عاما بوزارة الداخلية، حي فوجدته يرسل لي بالبريد نسخا من تسجيلات أجراها معه «نفيد كرماني»، حين كان يكتب كتابا بالألمانية عن حياته في نهايات القرن الماضي. وطلبت منه نسخا من تسجيلات مناقشاته لرسالتيه للماجستير وللدكتوراه وبالفعل أرسلها لي. وأصبح بالفعل يسجل كل حوار صحفي يتم معه، أو محاضرة يلقيها ويرسله لي على النت؛ ليتجمع في السنتين الأخيرتين من عمره، ما يزيد على مائة ساعة تسجيلات بصوته عربي وإنجليزي، لتكون أرشيفا لآخر ما كان يفكر فيه نصر أبو زيد، ولتصبح مدونة «رواق نصر أبو زيد» هي المصدر الأساسي لكل من قاموا بتغطيات صحفية لرحيل نصر أبو زيد عن دنيانا، خمسة يوليو عام 2010م، خمسة أيام قبل عيد ميلاده السابع والستين.
3
فكيف أكتب عن نصر أبو زيد؟ ظل السؤال يحيرني، فقد قرأت كل كلمة كتبها ونشرها، وقد سمعت كل التسجيلات التي تحصلت عليها بصوته (عربي وإنجليزي)، وقرأت كل حواراته الصحفية المنشورة بالعربية والإنجليزية التي تحصلت عليها، وشاهدت كل الفيديوهات سواء لمحاضرات له أو لقاءات تليفزيونية، قرأت كل مرافعات المحامين في قضية التفرقة بينه وبين زوجته، وحيثيات الأحكام في درجات التقاضي الثلاث، وكل التقارير التي قدمت في عملية ترقيته إلى أستاذ بالجامعة، وكل ما دار حولها حينها في الصحف والمجلات المصرية. وقد سمعت ما سجله معه نافيد كرماني لكتابه عنه بالألمانية، وقرأت ما كتبت إيستر نيلسون عنه في كتابها معه وعنه بالإنجليزية، والمقال الطويل بمجلة النيويوركر الذي كتبته ماري آن ويفر. فهل أقوم بعمل دراسة أكاديمية، تكشف عروق الدم الحية داخل خطاب نصر أبو زيد الفكري والأكاديمي؛ لكي يعرفه وربما يفهمه من لم يفهموه من أهل الفكر والثقافة، سواء من دافعوا عنه أو من هاجموه؟ أم أكتب عن حياته وكفاحه مع أسرته بعد وفاة والده، وهو في سن الرابعة عشرة مع أمه؛ ليصل بأسرته إلى بر أمان، ونضاله في الجامعة وفي حياته الخاصة بمراحلها المختلفة، ليرى القارئ العام نصر أبو زيد الإنسان؟
حالة الاحتقان المكتومة التي كان يعيشها المجتمع المصري بين أهل الثبات والتقليد وأهل الدعوة للتجديد والتغيير، والصراع بين هوية ثابتة جامدة أصلية وبين هوية حية متعددة المشارب وتحتوي الاختلافات، هذا الصراع الذي لم يكن له قنوات ولا ساحات لكي تتم مناقشته والتعامل معه. ما إن ظهرت قضية ترقية نصر أبو زيد على السطح ، حتى تحولت إلى ساحة، بل إلى كرة يلاعب بها كل منهما خصومه، لتدخل العملية في ظل المواجهة الأمنية مع خطر الإرهاب والإرهابيين حينها، إلى ساحة واسعة لتخليص الحسابات، باستخدام كرة قضية نصر أبو زيد، مما جعل من يدافعون عن نصر وعن خطابه، في غالبهم لم يقرءوا خطابه، ومن هاجموه وحاربوه لم يقرءوا، ليتحول الأمر إلى ثقافة تحارب أعداء وتحارب معارك متوهمة، ثقافة معاركها لا تبني خطوة للأمام، ولا تضع درجة سلم لعلو، بل مجرد اجترار المعارك وأحيانا بنفس مكوناتها وبنفس توجهاتها، مهما اختلفت العصور ومهما اختلفت وسائل الصراع من عصر إلى آخر.
فثقافتنا تحتاج إلى تقديم خطاب نصر أبو زيد وتقديم مكوناته وعناصره للطرفين المتصارعين؛ حتى يبني من سانده مساندته على معرفة؛ وليبني من عارضه ونقضه معارضته ونقده على معرفة، فاخترت أن أقدم خطاب نصر أبو زيد للقارئ العام، اخترت أن أعطي من عمري ما يمد في عمر خطاب نصر الحي. اخترت أن تختفي الأنا عندي، خلف «أنا نصر أبو زيد»، عن طيب خاطر، لكن ليس لتحويل نصر إلى شيخ له مقام وقبة عالية نتبرك بها، بل لتقديم خطاب أبو زيد، لكي نستوعبه كثقافة ونهضمه، ثم نتجاوزه بأن ننظر أبعد مما نظر أبو زيد، ونسير أبعد مما وصل هو، لكن نفعل ذلك بناء عن معرفة بخطابه، وليس عبر عصبية قبيلة فكرية دفاعا عنه أو هجوما عليه بمنطق: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، ولا بمنطق: «عدو عدوي صديقي»، بل تقديم شبه خريطة لخطاب نصر لكل من يريد أن يدخل عالمه معرفيا، تقديم يكون مساعدا لمن سيدخل عالم مؤلفاته ونصوصه، ليعرف كيف يتحرك بين جوانب خطاب نصر أبو زيد، لكنه ليس عرضا يغنيك عن قراءة مؤلفاته، بل يأخذك إليها، ويسير بك في طرقاتها. ثم تقرر أنت كقارئ وتقرري كقارئة: أين وكيف تتعاملون مع جوانب الخطاب؟
الأمر الثاني: إن حياة نصر أبو زيد الشخصية، وما بها من كفاح، ومن صراع مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري، هي قصة موحية ، بجانب التصور العميق الذي جمعني بخطاب نصر أبو زيد منذ أطروحته للماجستير، عبر سعيه للربط بين الفكر والواقع؛ الربط بين جدل المفكر وبين واقعه بمكوناته، فلا الفكر ولا المفكر يتحركان في فراغ ولا يصدران عن فراغ. والعلاقة هنا ليست بين المفكر وبين واقعه الاجتماعي العام فقط، بل مع واقعه الشخصي المباشر أيضا. فثقافتنا تميز بين النظر والعمل وأحيانا تفضل العمل على النظر كما في فكر جماعات التمرد والعنف الساعية لتديين الحياة العامة، أو تقديم النظر على العمل مثل خطابات تأييد السلطة، وتأييد الواقع، بصورها المختلفة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحياة نصر لم تنفصل عن حياة التفكير عنده، فما يقوله وينادي به يؤمن به ويمارسه في حياته الشخصية.
4
سأكتب عن حياة نصر أبو زيد، وعن حياة التفكير عنده، لكن: كيف سأكتبها؟ شعرت أنني أريد أن أقرب خطابه للناس، وللقارئ العام، ولكن ليس بعرض حدوتة، بل أن تكون الكتابة من العمق أيضا ما يستفيد منها الباحثون المهتمون بخطابه أكاديميا. فكيف أفعل كل ذلك؟ فاخترت أن أتصور لو أن نصر أبو زيد جلس ليكتب عن حياته وعن حياة التفكير عنده، فكيف كان سيكتبها؟ ففكرت أن أكتب الكتاب بصيغة الأنا، كأن الشخصية هي التي تروي عن حياتها وعن حياة التفكير عندها. فرغم كل ادعاء بالدراسة «الموضوعية الأكاديمية» فهي موضوعية إنسانية، بمعنى أنها موضوعية تخضع لجوانب الباحث الإنسانية، القائمة على التحيز، فلا توجد موضوعية بدون تحيز إلا وهما، فلماذا اخترت هذا الموضوع ولم أختر ذاك الموضوع؟ هو تحيز في حد ذاته. لماذا استخدمت هذا المنهج ولم أستخدم ذاك المنهج؟ تحيز آخر. لماذا اخترت هذا الآن وفي ذلك التوقيت، وبهذه الطريقة؟ هو تحيز في ذاته. فلا مجال لنفي التحيز من أعمالنا، لكن الصراع هو في أن أدرك تحيزاتي، وأن أحاول أن أحيدها بقدر الإمكان. لكن الادعاء بأنها غير موجودة لا ينفي وجودها، بل يجعلها موجودة وتعمل من تحت سطح الخطاب سواء وعيت بها أم لم أع بعملها. ففي النهاية حتى في الدراسة «الأكاديمية الموضوعية» سيكون هو خطاب نصر أبو زيد كما أدركته أنا وكما وعيته، ومن خلال ما طرحته على خطابه من أسئلة كانت تشغلني. فلو أتى من بعدي من يطرح أسئلة أخرى على الخطاب، فستتطور المعاني والدلالات باختلاف الأسئلة التي يطرحها الباحث وباختلاف همومه الفكرية. فسأكتب الكتاب كأن نصر أبو زيد ذاته يتحدث عن حياته وعن حياة التفكير عنده بصوت الأنا. فالرابط بيني وبين نصر أبو زيد في الكتاب هو كلمة «أنا» فأنا نصر أبو زيد، وأيضا أنا أكتب عن «أنا» نصر أبو زيد، كما أدركتها مما توفر إلي من مادة، كما كانت همومي وأسئلتي التي أطرحها على خطابه، وحسب وسائلي ومدركاتي المعرفية الإنسانية بنت الزمان والمكان.
لكن بهذه الطريقة سوف أعرض وجهة نظر نصر أبو زيد الشخصية عن الأمور وعن نفسه فقط؟ وماذا عن الأمور التي أثرت في حياته وفي وقائع حياته، ولم يدركها هو ذاته، بل ورحل عن دنيانا وهو لا يعرفها، وقد تكشفت بعد ذلك، أو أنا عرفت بها؟ فلا أستطيع أن أكتبها بصوت الأنا، مما دفع أن يكون هناك صوتان في الكتاب؛ صوت الأنا الفرد، وصوت آخر عام يذكر جوانب عامة سواء كان نصر على علم بها أو تلك التي لم يكن على علم بها، وأثرت في الوقائع والأحداث. الجانب الآخر أنني سأقوم بعملية تحقيق في الأحداث وفي الوقائع، عبر لقاءات مع أشخاص كان لهم دور في حياته، وفي الوقائع؛ لكي أكون صورة لا تعتمد فقط على ما قال أو كتب نصر أبو زيد فقط، بل من خلال روايات الآخرين أيضا. بل سيكون هناك ملفات عامة مثل التقارير التي قدمت في اللجنة العلمية لترقيات الأساتذة، وكذلك في داخل أجهزة الجامعة سواء من قسم اللغة العربية لمجلس الكلية، أو من مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة.
فقمت بعمل لقاءات مسجلة مع د. ابتهال يونس، رفيقة دربه منذ بدايات التسعينيات، والتي رافقته خلال محنتي الترقية وقضية التفريق، وألم ابتعاده عن الجامعة وعن البلاد في هولندا. والتقيت د. جابر عصفور في يناير 2011م رفيقه منذ كانوا في الثامنة عشرة، من نادي الأدب بمدينة المحلة، في لقاء طويل، وبعض المكالمات الأخرى عبر التليفون التي سجلتها معه. وجلسة طويلة بالتليفون مسجلة مع د. علي مبروك عن علاقته بنصر أبو زيد. وسجلت مع الشاعر زين العابدين فؤاد عن علاقته بنصر، وعلاقتهما بجابر عصفور في الجامعة وصداقاتهم منذ نهايات الستينيات. وكنت أتمنى أن أسجل مع د. حسن حنفي عن علاقته به رغم أن كتابه «حوار الأجيال» ثلثه عن خطاب نصر أبو زيد، وكذلك كنت أتمنى أن أسجل مع د. محمود علي مكي، لكني لم أتمكن.
5
بدأت الكتابة عن حياة نصر وكأنه هو الذي يقصها، وأجمع أجزاءها وأربطها ببعضها، كنتف متفرقة وأنا أنسجها في سياق سردي. حاولت أن يكون حيا، كان في مخيلتي أمي حين يقرءون لها، كيف ستتعامل مع قصة نصر أبو زيد، أريد لها أن تفهم خطابه وتعيش تجربته من خلال النص، فجمعت أجزاء متناثرة. فمثلا واقعة لم يذكرها سوى إبراهيم عيسى في تغطيته الصحفية للقضية كصحفي، وقد قصها عليه نصر أبو زيد؛ عن موقف له مع مواطن في سوبر ماركت بمدينة ستة أكتوبر التي كان يقيم بها نصر وزوجته، ونقاش هذا المواطن معه. حدث آخر لم يذكره نصر في أي من تسجيلاته عن حياته أو فيما كتب، لكنه ذكره مع محمود سعد في لقاء تليفزيوني معه بالتليفزيون الحكومي المصري. وكان الذي أثار الموضوع هو محمود سعد: وهو عملية حرمان نصر أبو زيد من التعيين كمعيد، رغم أنه الأول على الكلية، وشكواه لرئيس الجامعة، وجلوسه أمام بابه مفترشا الأرض متظلما، وكاتبا في شكواه بلغة الدواوين المصرية «متظلم بالباب». حتى حصل على حقه، بل وحقوق آخرين في نفس الدفعة من أقسام أخرى في التعيين. معلومة أخرى لم يذكرها نصر أبدا إلا في حوار له قبل رحيله بثلاثة أشهر في لقاء له في لبنان مع برنامج على قناة الحرة، ذكر فيه اسم والدته. وعرضت الصورة التي رسمها سعيد الكفراوي في مقالين في ذكرى نصر أبو زيد عن يوم حدوث هزيمة سبعة وستين، وهما معا في مدينة المحلة.
وبالنسبة لتفكيره فقد رتبت كتاباته منذ أول مقال منشور له، وهو في سن التاسعة عشرة بمجلة الأدب التي كان يحررها الشيخ أمين الخولي، وكتب فيها أبو زيد عن أدب العمال والفلاحين حتى آخر ما نشر له بعد رحيله عنا، في ترتيب تاريخي حسب تواريخ أول مرة نشرت، وعرضت مضمون كل منها في سياق حياته وسياق أحداث حياته. بل وضمنت في النص السردي توثيقا في المتن؛ ماذا نشر، وأين نشر، وما هو المحتوى الفكري؟ وكانت عملية في غاية الصعوبة، كيف أكتب عن رسالة ماجستير نصر أبو زيد، أو رسالة الدكتوراه في ثلاث أو أربع صفحات؟ دون أن تكون كتابة سطحية أو مخلة، وأيضا كيف يتم التعرض لأفكار فلسفية ولاهوتية بأسلوب يقربها من القارئ العام، بدون عجمة لغة الاصطلاح، وبدون تسطيح لها أيضا؟ عرض للفكر في سياق حياة الكاتب وتفاعله مع أحداث ووقائع حياته الشخصية، والأحداث العامة التي انخرط فيها.
الجانب الآخر في أحداث ووقائع عمليتي حرمانه من الترقية إلى أستاذ، ووقائع قضية التفريق بينه وبين زوجته في المحاكم المصرية، ووقائع كل منها منذ تقدم أبو زيد بعد شهر من إتمام زواجه، بدكتورة ابتهال يونس في ربيع سنة اثنين وتسعين، تقدم للجنة ترقيات الأساتذة، ورصد الوقائع يوما بيوم من واقع التقارير، وتلميح فهمي هويدي للأمر بجريدة الأهرام في نوفمبر من نفس العام، حتى صدور قرار مجلس الجامعة في منتصف مارس برفض الترقية. ثم رصدت الجانب العام من القضية في الصحف منذ مقالة لطفي الخولي بجريدة الأهرام حول الأمر، وبداية طرح القضية للنقاش العام، ثم وقائع بداية الدعوى القضائية في مايو سنة ثلاثة وتسعين، والإجراءات التي تمت حتى صدور قرار ترقية نصر أبو زيد إلى أستاذ في بداية يونيو ستة وتسعين، وبعدها بأسبوعين يصدر حكم محكمة النقض دائرة الأحوال الشخصية بالتصديق بصحة إجراءات حكم محكمة الاستئناف في حكمها الذي تم إيقافه إجرائيا، بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته. فقد رصدت هذا الجانب بدقة ليكون جزءا من التأريخ الفكري لحياتنا الفكرية. وفي هذا الجزء كان صوت الراوي هو صوت باحث موضوعي يرصد من الأحداث ما لم يدركه نصر أبو زيد ذاته، ورحل عنا دون أن يعلمه. وقد تكشف بعد ذلك فيما نشره جابر عصفور عن محنة أبو زيد في جريدة الحياة، عن دور شوقي ضيف في الأمر، وعن المفاوضات التي تمت بين جابر عصفور كرئيس لقسم اللغة العربية في ذلك الوقت، وبين شوقي ضيف كرئيس للجنة الترقيات، عن طريق وساطة دكتور محمود مكي.
كانت هناك مجموعة من المقالات كان قد نشرها دكتور جابر عصفور عن وقائع القضية في عام ثمانية وتسعين، لم أكن قد اطلعت عليها، وقد جمعها في كتابه «ضد التعصب» وقد اطلعت عليها عام ألفين وسبعة عشر، الجانب الفكري منها هو محتوى تقرير مجلس قسم اللغة العربية لمجلس كلية الآداب ردا على تقرير اللجنة العلمية. وهو التقرير الذي شارك في كتابته جابر عصفور، لكن كانت هناك بعض التفاصيل والوقائع التي كان جابر على علم بها كونه طرفا في الأحداث كرئيس للقسم، وكصديق حميم لنصر أبو زيد في هذه المقالات. وقد تعرضت لهذا الأمر في دراسة عن «مدرسة القاهرة لنقد التراث والأشعرية».
في زيارة نصر أبو زيد لنيويورك في نوفمبر عام ألفين وسبعة، وفي الجلسة الوحيدة التي جلست فيها أنا وهو فقط، سجلت حواري معه، ثم كتبته في نص، نشرته جريدة أخبار الأدب، وحدث عندي إشكال في جهاز الكمبيوتر، فضاع هذا التسجيل الصوتي مع غيره من تسجيلات هذا العام، لكن بقي النص، فضمنت نص هذا الحوار في متن الكتاب؛ لكي يظهر الفرق بين صوت نصر أبو زيد في النص وبين صوت جمال عمر، لمن يدقق. ثم في نهاية الكتاب وضعت «رحيق» عبارة عن سجل مرتب تاريخيا في شكل متتابع، سجل بكل ما كتب ونشر نصر أبو زيد لمن أراد أن يدرسه، لكن بشكل مختلف عن طريقة كتابة المصادر والمراجع في الدراسات الأكاديمية.
6
صدر الكتاب في مارس عام ألفين وثلاثة عشر، في العام الذي في العاشر من يوليو منه يكون عيد الميلاد السبعين لنصر أبو زيد كما وعدته قبلها بست سنوات، وبعد ثلاث سنوات من رحيله، وبعد عامين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وفي ظل وصول تنظيم الإخوان المسلمين لحكم مصر. فشعرت بأن نفس الصراع الأيديولوجي ونفس التوظيف النفعي بين التيارات، بدأ يستخدم ويوظف الكتاب، ويستخدم اسم نصر أبو زيد والكلام عنه نفعيا.
فمن دار نشر الكتاب ذاتها؛ فمن تصميم الغلاف، حيث تم تصغير حجم كلمة «أنا» في الغلاف وتكبير كلمة «نصر أبو زيد»، فاسمه كبير ومشهور، وسينشر الكتاب ويجعله يبيع نسخا.
حضر حفل توقيع الكتاب في دار النشر بالقاهرة، أستاذ مخطوطات في جامعة لايدن بهولندا وزوجته، وكان يقوم بعمل مع دار الكتب المصرية، وأخبرني أنه التقط الكتاب منذ أسبوع، وأنه مستمتع به، وأنه كان يعرف نصر أبو زيد في لايدن، بل وأخبرني أنه سيكتب مقالا لمطبوعة هولندية عن الكتاب بالهولندية. وبالفعل فعل، وأرسل لي المقال الذي قمت بترجمته إلى الإنجليزية. ونقطته المحورية في التناول، هو كيف أن في ظل وصول جماعة الإخوان لسطح الحياة السياسية في مصر، يخرج كتاب كهذا عن نصر أبو زيد، الذي رحل عن مصر من قبل، وكيف أن إعطاء الفرصة لهذه الجماعات ممكن أن يبشر بتغيرها وبالحرية، وبالديمقراطية.
على الجانب الآخر، من يقاومون وصول المتدينين إلى السلطة يستخدمون الكتاب في استعادة قصة نصر أبو زيد، والاضطهاد الديني له والتفريق بينه وبين زوجته، وقوى الظلام التي فردت أجنحتها على الحياة بمصر، ويكون وخطابه حلقة مواجهة بين النور والظلام. ولأن الكتاب مكتوب من ضمير الأنا، تمت الكتابة عنه على أنه كتاب لنصر أبو زيد، عبارة عن حوار سجله معه جمال عمر، وحول التسجيلات إلى كلمات مكتوبة، فالكتاب هو سيرة ذاتية لنصر.
حين ينظر الصحفي الذي يقلب الكتاب فيرى أنه ليس به هوامش، ولا يرى صفحة بها مراجع ومصادر مرتبة بالطريقة التي تعود عليها، فيقرر أن النص سيرة ذاتية. فكان هذا هو الاختبار الذي يكشف لي من قرأ الكتاب ومن لم يقرأ، وأنه مجرد مر مرور الكرام على الكتاب، مهما طال أو قصر النص الذي كتبه عن الكتاب. وكثير من محرري صفحاتنا الثقافية بارعون في الكتابة عن كتب، كتابة العالم الخبير، من مجرد اطلاعهم على مقدمة الكتاب وعلى فقرة الجلد والفهرست، والبراعة الأكبر هي في النقل عن بعضهم البعض دون الإحالة.
7
كتاب «أنا نصر أبو زيد» مقدمة لدخول مدينة خطاب نصر أبو زيد لمن أراد. لكن هناك جهودا أخرى كثيرة تحتاج إلى أن تستكمل؛ فبعد ما يقرب من عقد من الزمان على رحيل نصر بجسده عن دنيانا، فلم يتم جمع نصوصه المنشورة بالعربي ولا ترجمة الإنجليزي منها إلى العربية وهو كثير؛ مما يحتاج إلى عمل منظم لإنجازه. وأنا هنا أتناول خطاب نصر أبو زيد كمثال، نحتاج أن نفعله في خطابنا الفكري والثقافي العام، على الأقل خلال القرنين الماضيين؛ لكي نكون أكثر إحاطة بواقعنا وبحياتنا، فليس هذا الجهد لشخص نصر أبو زيد، كفرد، بل هو نموذج ومثال أضربه، لعل أحدا يفعل مثله مع الكثير والكثير من مفكرينا ومع تياراتنا الفكرية ومعاركنا الفكرية والثقافية؛ لنكون على وعي بواقعنا به شيء من الشمول، وأن يكون مبنيا على المعرفة، وليس فقط على تركيبات أيديولوجية مختصرة ضيقة الأفق، نتائجها محددة قبل البدء في تركيبها. بل مهم حين نكون أيديولوجية لنتعامل بها مع واقعنا. والأيديولوجية هي نوع من التفكير المنظم، والمتحيز المتوجه نحو هدف مسبق، لكن الفارق بين أيديولوجية بمعنى سلبي وأيديولوجية بمعنى إيجابي، هو: هل تبنى الأيديولوجية على معرفة وعلى إدراك لحقائق ووعي بشروط الواقع وقوانين عمله، أم هي أيديولوجية مبنية على تمنيات وأحلام متوهمة وقدرات غير واقعية وغير فعلية؟ فتصبح أنساقا فكرية مخدرة للوعي، وينتج عنها إهدار للواقع ذاته؛ لأنه يظل على حاله، لعدم إدراك شروط وقوانين عمله وكيفية التعامل معها.
أقول إننا نحتاج لجهد كبير، والكتاب هو مقدمة له. فها هي خريطة لخطاب نصر أبو زيد، ما أطمح إليه في المستقبل أن تكون القائمة بكل ما كتب أبو زيد، وبحواراته الصحفية، وتسجيلاته الفيديو وتسجيلاته الصوتية، الخاص منها والعام مرتبة ترتيبا تاريخيا في قائمة، وموضوعة في سياقها في حياته وفي حياة خطابه، وتكون على موقع على النت، والباحثون في خطابه وعن خطابه يدخلون على الموقع، فيضغط القارئ على عنوان المقالة فيصل إليها، يضغط على عنوان تسجيل مناقشة رسالة الماجستير لنصر، فيصل إلى التسجيل ويستطيع أن يسمعه. فيستطيع المؤيد لخطابه ويستطيع المناقض لخطابه أن يصلا إلى الخطاب ذاته ويطلعا عليه، فيكون تأييدهم أو نقدهم مبنيا على معرفة، وليس فقط عبر نقل كلام آخرين يثقون فيهم، حيث تحولت حياتنا الثقافية إلى صراعات قبلية، قائمة على العصبية الثقافية، وأصبحت معاركنا الثقافية والفكرية مجرد سجالات كر وفر، وغنائم وأسرى فكريين.
أحاول أن أواجه حالة الأطلقة، وظاهرة اللاتاريخية، في فكرنا؛ سواء في تجربتنا التراثية أو في تجربتنا الحداثوية في القرنين الماضيين. أطلقة ولا تاريخية تتخفى وراءهما رؤية للعالم، تجعل من العالم مكونات متناثرة في الكون لا رابط خلفها، إلا قوة قاهرة جبارة نافذة لا راد لقضائها، يمكنها أن تتدخل في أي وقت وفي أي لحظة، ضاربة بأي قوانين عرض الحائط، وملقية بأي شروط للواقع، أو قوانينه الاجتماعية، أو السياسية أو الاقتصادية في طي النسيان. ونتيجة لذلك التصور عن الذات الإلهية وتصور علاقتها بالعالم، فلا وجود لقدرة البشر ولا دور للإنسان، ولا فاعلية حقيقية لقوانين يسير عليها الكون فيزيقيا أو تحكم حياة الطبيعة. وتصبح هذه القوانين ما هي إلا مناسبات لحدوث الفعل، لكنها ليست السبب أو حتى علة لحدوث الأفعال، وإن الفاعل الرئيسي وراء «الأسباب» هو قوة أكبر وأوسع من الأسباب ومن العلل، هذه الرؤية للعالم هي التي على مثالها قامت نظمنا السياسية في الحكم، التي تدور حول فرد أو مؤسسة، في قمة هرم السلطة، تتمركز في يديها كل السلطات. وتمثلت في أنساقنا الاجتماعية والاقتصادية، بل والثقافية، وفي القلب منها الدين. ولقد حاولت الإشارة إلى هذه المنظومة في دراسة لي «مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية دراسة علائقية».
أقول إنني أحاول أن أواجه ظاهرتي الأطلقة واللاتاريخية السائدتين في وعينا، والمبنيتين على رؤية للعالم ترى العالم نتفا متناثرة، لا يحكمها قانون حتمي، وترى الإنسان لا فعلية له. أحاول أن أواجهها بعلائقية؛ تربط بين الظواهر في نسق، علائقية، تربط بين الظواهر في علاقات تقوم فيها الظواهر في وجودها، وفي شروط هذا الوجود على بعضها البعض. وهذا الكتاب هو محاولة تطبيقية لها بشكل عام على ظاهرة خطاب نصر أبو زيد. وقد حاولت تطبيقها على ظاهرة كيفية التعامل مع المصحف في تجربتنا التراثية، وفي تجربتنا الحداثوية من خلال كتابي «مقدمة عن توتر القرآن». لكن الأمر يحتاج إلى التعرض للظاهرة بشكل أكثر عمقا في نص مباشر لها، بتناول العلائقية كمنهج وكفلسفة في مواجهة الرؤية الأشعرية للعالم، وفي مواجهة رؤيتها للعالم، بعد فشل اتجاهات الاعتزال والتشيع بتياراتهما، وتيارات الإباضية؛ فقد فشلوا في تكوين رؤى تستطيع أن تقدم بديلا. وأتصور أنه لا فائدة من اجترار أنساق من الماضي للمواجهة؛ كمحاولة إحياء اعتزال قديم، لمواجهة الرؤية الأشعرية للعالم في عصرنا، فالاعتزال القديم سقفه المعرفي هو الآخر محدود بعصوره التي تختلف عن عصورنا. ربما الفقرتان السابقتان تحتاجان إلى تفصيل وشرح أكبر، لكن ليس مكانه هنا، لعل في المستقبل أن يكون في موضع آخر.
8
من عاداتي في الكتابة أن أدرس الموضوع أولا وأعايشه زمنا؛ حتى يستوي في ذهني، فيحدثني الموضوع أو تحدثني الظاهرة ذاتها، وتكشف نفسها لي، حين أشعر بهذا الامتلاء وذلك الامتلاك. حينها أفكر في الكتابة، فتكون الكتابة دفقة، دفعة، قذفة، حية، متماسكة، أحاول أن تكون نابضة، حتى وهي كتابة «علمية» «موضوعية»، فهي كتابة من ذات إنسانية بنت الاجتماع والسياسة والثقافة، ونتاج التجربة الحياتية المحدودة بحدود الزمان والمكان، وبقدرة الإنسان وأدواته على الفهم والإدراك وعلى قدرة وسائله. كذلك فإن الكتابة عبر لغة؛ واللغة بتكوينها حين نستخدمها كأفراد، أو كجماعات تكون متحيزة تحمل حمولات تاريخية. ويكون الصراع كبيرا بين أن تستخدمك اللغة ذاتها، وبين أن تستخدمها أنت وتوظفها، وتجعلها تقول كلاما، وتوظفها بطرق لم يطرقها غيرك، وهو صراع دائم ومستمر لا نهاية له، فكل نهاية منه هي بداية لرحلة أخرى.
أكرر نفسي مرة أخرى : مهم أن نعايش الظاهرة التي ندرسها، مفكرا كان أو تيارا أو مذهبا فكريا ... إلخ. فالمعايشة تنسج خيوط التآلف، والحميمية التي تجعل الظاهرة تفصح وتقول وتعبر وتتجلى. وتكون مهمتي بعد ذلك هي محاولة الإمساك بهذا الظهور وذلك الإفصاح، من خلال كلمات حية بقدر الإمكان، وفي دفقة. فتكون الكتابة هي آخر مرحلة من الدرس ومن البحث.
إضاءات
(1) لماذا أبو زيد؟
1
منذ بدايات محاولات دخولنا العصور الحديثة، ومحاولات الخروج من عصورنا ما قبل الحديثة، وعوالمها وتصوراتها، ولطبيعة شروط عملية تحديثنا ذاتها، ومن كونها عملية يحدد أهدافها وتوجهاتها الحاكم، رجل السياسة؛ كل هذا جعل عملية التحديث تحديثا بلا حداثة، جعلها عملية نقل نماذج جاهزة وفرضها بالقوة على الواقع. عملية يحكمها منطق القوة وليس منطق الإقناع، أو الفهم أو الاستيعاب والتجاوز. مما صبغ أنساقنا الفكرية ومنظومات مفكرينا في الغالب بصبغة عمليات تفكير هي في لبها عمليات ممارسة التفكير، ولكن بآليات السياسة. عمليات تفكير أقرب لفرض سلطة، ليس سلطة معرفية بآليات المعرفة، بل بفرض سلطة معرفية باستخدام قوة خارجة عن المعرفة، قوة خارجية لفرض هذا السلطان، جبرا؛ ليصبح الأمر ليس سلطة معرفة بل سلطوية معرفية. سواء كان المفكر مؤيدا للسلطة الحاكمة أو كان معارضا لها. فهذا النهج حول أفكارنا في أغلبها إلى مجرد تركيبات أيديولوجية؛ أي تركيبات نتائج تفكيرها محددة مسبقا، قبل البدء في عمليات التفكير، ويصبح التفكير مجرد عملية تبرير التحيزات المفكر المحددة سلفا. تركيبات لا تبدأ من واقعنا ومحاولة فهمه والتعامل معه حسب شروطه، بل عمليات تفكير في الغالب، تبدأ من تبني نموذج كامل سابق التجهيز، سواء أكان نموذجا سابقا جاهزا عند أسلافنا، أو كان نموذجا جاهزا سابقا ونجح عند الآخر المتقدم علينا. ويصبح الدور على واقعنا أن يخضع قهرا لهذا النموذج وبالقوة. مما جعل المفكر طوال الوقت يفكر وعينه على راية السياسة في أي اتجاه هي، ويصبح كل حلمه أن يصل إلى هذه السلطة؛ ليستخدم عصاها في فرض نموذجه السابق التجهيز على الواقع بالقوة، أو يصل إلى أذنها؛ ليهمس ويوحي لها بأن تتبنى تصوراته وتفرضها بالقوة أيضا على «قوم وادعين جهلاء».
فالمثقف؛ معارضا كان أو مؤيدا للسلطة، تقليديا أم تجديديا، سلفيا أو حداثيا، ليبراليا أم يساريا، قوميا أم إسلامويا، أفنديا أو شيخا معمما؛ كلهم تقريبا متفقون على شيء واحد هو أن دور الناس مجرد جماهير في المشهد، مجاميع في خلفية الأحداث، كديكور في المشهد التحديثي. السلطة والمثقف كلاهما متفقان على أن الناس لا تعرف مصالحها وليست مستعدة بعد، الجميع تقريبا اتفق على أن الناس تربط بحبل وتسحب منه، والصراع بين المتصارعين على ساحاتنا الثقافية والفكرية والسياسية، هو على «من يجب أن يمسك بطرف حبل سحب الجماهير لسحبها». ونصر أبو زيد بعد مرحلة القراءة الأيديولوجية للتراث التي مر بها والتي تلتها مرحلة نقد الذات، تصور أن الدور الحقيقي للمثقف هو قطع هذا الحبل الذي تجر منه وبه الجماهير، وأن دور المثقف دائما يكون على يسار السلطة، أي سلطة، حتى وهي تتبنى أفكاره أو تحاول تطبيقها، فالمثقف «حارس قيم لا كلب حراسة».
من هنا الحاجة للاحتفاء بنموذج هذا المثقف، كجزء من التعامل مع السؤال الذي طرحته هبة 25 يناير: هل سنعيد النظر في عملية التحديث المسيسة والتي تتم عبر نقل نماذج جاهزة، والتي نمر بها منذ قرنين، وأفضت في نصف القرن الأخير إلى سلسلة من التشظي والانشطار على مستوى الأديان، مسلمين ومسيحيين والطوائف والمذاهب سنة وشيعة وبين الوديان والصحراء حتى أصبحت الآن مدنا وأحياء؟ والسؤال هو: هل سنؤسس لتحديث على أسس جديدة أم سنكتفي بمحاولة استعادة معادلة التحديث عبر التلفيق، المعادلة التي سقطت عام 1967م؟ (2) سؤال القرون العشر
2
منذ وفاة النبي محمد عليه السلام، ومنذ جمع القرآن بين دفتي مصحف، وعملية محاولة فهم وتأويل وتفسير القرآن يقوم بها المسلمون؛ لاستخراج المعاني التي يضبطون بها مجريات حياتهم. وعملية الفهم احتاجت إلى إيجاد أسس فكرية ومعرفية، يقوم عليها فهم القرآن واستنباط أحكام ودلالات منه. ومع اتساع عدد ورقعة المسلمين، واختلاف الثقافات والأعراق. والفرق؛ سياسية وفكرية. فكان السؤال عن طبيعة القرآن، وكيف نفهمه؟ ومع تحديات الجدل بين الدين الجديد وبين الديانة المسيحية، ذات التراث اللاهوتي الطويل المستقر في بلاد العراق والشام ومصر ... إلخ. وبين لاهوت المسلمين الأوائل الذي ما زال يتشكل. ففي نصوص القرآن توتر حول طبيعة الذات الإلهية، فالقرآن يعطي صورة منزهة، تنزيها كاملا عن ذات الله، سبحانه وتعالى بأنه:
ليس كمثله شيء ، وأنه سبحانه:
الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد . وفي جانب آخر يعطي المصحف صورة مجسدة عن الله ، ذات لها يد:
يد الله فوق أيديهما ، وبأنه سبحانه ملك ذو عرش
عرشه على الماء ، فبين التنزيه الكامل، والتشبيه والتجسيد الكامل، هناك توتر في المصحف.
فحاول المسلمون أن يرفعوا هذا التوتر من خلال أسس فكرية، فأخذ المتكلمون المسلمون من الآية السابعة من سورة آل عمران التي أشارت إلى أن القرآن منه
آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، واستنادا إلى ذلك فإن هناك آيات هي الأصول التي تؤول على أساسها الآيات المتشابهة. فرق المسلمين اتفقت تقريبا، على هذه التفرقة، لكنهم اختلفوا فيما بينهم: ما هي الآيات التي تعد محكمة، وتلك التي تعد من المتشابهات؟ فأخذت كل فرقة ما توافق مع أصولها الفكرية وجعلته من المحكم، وما يختلف مع هذه الأصول؛ هو ما يحتاج إلى التأويل، وكان الصراع بين فرقة المعتزلة وخصومها حول مثل هذا الأمر، ومنها قضية التعبيرات المجازية التي لا تفهم فهما حرفيا، وقضية هل القرآن قديم قدم الذات الإلهية، أم أنه محدث مخلوق، مرتبط بالزمن.
وكذلك الفقهاء المسلمون الذين سعوا لاستخراج الأحكام الفقهية، التي تعد تشريعا قانونيا من القرآن، فوضعوا قواعد للفهم؛ للتفرقة بين الآيات التي جاءت «تنسخ» آيات، وتلغي أحكام آيات أخرى، مما تطلب محاولة التفرقة بين الآيات التي نزلت على النبي عليه السلام بمكة عن تلك التي نزلت بالمدينة، ولتحديد القبلي والبعدي، الحضري والسفري ... إلخ. ولم يقصر البلاغيون في محاولة رفع التوترات الظاهرة بين آيات القرآن، في محاولة دراساتهم عن مصادر إعجاز القرآن، وبنائها على أسس بلاغية ولغوية، حتى إن العرب المشركين بدعوة الإسلام يشهدون ببلاغته، فنجد عبد القاهر الجرجاني يجعل مصدر الإعجاز في القرآن ليس في ألفاظ القرآن المفردة، بل في طريقة نظم الكلمات في نسق، والمدخل لدراسة إعجاز القرآن هو إدراك قوانين الكلام البليغ؛ من خلال دراسة الشعر كمدخل لفهم القرآن واستنباط أحكام ومعان منه، وإن كانت جهود عبد القاهر قد وقفت حسب الدرس البلاغي في عصره عند البلاغة على مستوى بلاغة الجملة.
والمتصوفة من المسلمين وتفريقهم بين الظاهر من معاني القرآن، المدرك بقواعد اللغة وآليات الدرس السائدة في الفقه وفي علوم القرآن، وبين الباطن الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عبر المرور بالظاهر ودراسته، وفرقوا بين الشريعة التي تدرك من علوم الظاهر، وبين الحقيقة التي تصل إليها علوم الباطن. وكان للفلاسفة المسلمين، دورهم. فنجد ابن رشد، يضع أساس العلاقة بين مقولات الحكمة التي نصل إليها بالبرهان العقلي، وعدم تناقضها مع الشرع. واعتمد استخدام المجاز لرفع التناقض البادي بين مقولات البرهان وظاهر الشرع؛ لأنهما يخرجان من مصدر واحد.
ففي خلال قرون الحيوية الفكرية عند المسلمين، كانت كل هذه الرؤى تغذي بعضها بعضا، وحتى حين تحيزت السلطة لرأي فرقة على حساب آراء فرق أخرى، إلا أنه مع الدخول في فترات الضعف، اختفى هذا الثراء الفكري؛ لتسود رؤية واحدة، بسبب عوامل سياسية واجتماعية، تاريخية، وليس بسبب الكفاءة والقدرة الفكرية، فساد تعريف واحد لسؤال: ما هو القرآن؟ منذ زمن المتوكل يدور حول أنه: «كلام الله القديم المحفوظ بين دفتي المصحف». وحددت مصادر الشرع عند الفقهاء في القرآن والسنة والإجماع والقياس أساسا. وفي عصور تالية حاول المسلمون الوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، صاغها الشاطبي في خمسة: حفظ النفس، المال، الدين، العقل، العرض. ودخل الفكر عند المسلمين في قرون التقليد والحواشي والاجترار، والترديد.
أتى التحدي الغربي على العالم العربي سياسيا وعسكريا، وأيضا تحديا فكريا من خلال جهود الاستشراق التي رأى فيها البعض ذراعا فكرية للاستعمار الغربي، فجاءت جهود مفكرين مسلمين لمحاولة تحديث الفكر «الإسلامي»، وتركزت الجهود للعودة لمصادر من التراث بدل الشروح والحواشي، لكن كل الجهود باستثناء محاولة محمد عبده المتواضعة في طبعة كتابه الأولى «رسالة التوحيد»، للتعرض لمسألة الخلاف بين المعتزلة وخصومهم في مسألة: هل القرآن قديم قدم الذات الإلهية، أم مخلوق؟ وانحاز محمد عبده لمفهوم المعتزلة؛ إلا أن الطبعة الثانية من الكتاب حذف منها هذا الانحياز. ودارت كل الجهود في محاولة توسيع المعنى المفهوم من القرآن؛ ليتناسب مع نتائج العلم الحديث، والتوفيق بين المذاهب الفقهية، وعملية نقد للسنة. وحتى مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم التي مثلها الشيخ أمين الخولي وتلامذته، والتي اعتمدت على جهود محمد عبده الجزئية، وانطلقت إلى أنه قبل استخراج أحكام فقهية أو قانونية أو فكرية من القرآن، لا بد من دراسته دراسة أدبية وافية، قبل كل شيء، فهو «كتاب العربية الأكبر»، والمدخل إليه هو اللغة والبلاغة. وعلينا الاستعانة بآخر ما وصلت إليه علوم البلاغة واللغة، في دراسته وعدم الوقوف عند المستوى الذي كانت عليه علوم البلاغة عند أسلافنا.
لكن كل هذه الجهود ظلت تدور في إطار الأسس اللاهوتية، والتصورات العقيدية، الفقهية الحنبلية، التي استمرت طوال القرون العشرة الأخيرة. وكل المحاولات الحديثة تقريبا دارت في محاولة فتح المعنى، داخل هذا الإطار الكلامي/العقيدي/اللاهوتي، وكان نصر أبو زيد الذي عانى ليدخل الجامعة وهو في الخامسة والعشرين من عمره لظروف عائلية، وكان يعمل فني لاسلكي، أن اختاره قسم اللغة العربية ليكون هو المعيد بالقسم الذي يتخصص في الدراسات الإسلامية، رغما عن اعتراضه لمعرفته بتفاصيل ما حدث في نفس القسم من عقدين سابقين، مع الشيخ أمين الخولي وتلامذته، والتنكيل بهم.
فتناول أبو زيد موضوع دور المفكر الاعتزالي في نشأة مفهوم المجاز في الدرس البلاغي العربي، وكانت قد ظهرت بعض كتبهم منذ سنوات قليلة، حين بدأ في دراسته. وانبهر أبو زيد بأسسهم اللاهوتية، التي تختلف عن الأصول الأشعرية والحنابلة السائدة. وكانت حالة استخدام الدين لتبرير المواقف السياسية التي كانت تمر بها مصر، من اشتراكية الإسلام، وأعدوا ما استطعتم من قوة لمواجهة العدو الصهيوني، في زمن عبد الناصر، إلى السلام:
وإن جنحوا للسلم فاجنح ، والدعوة لدعم الإسلام للمشروع الخاص، والملكية الفردية. وكيف أن تقسيم البشر إلى درجات، هو سنة قرآنية:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات . وفسرت الدرجات على أنها المستويات الاقتصادية، لكن أبو زيد أدرك أن مثل هذه التأويلات الأيديولوجية قام بها أسلافنا أيضا من خلال منهجه في الدراسة؛ للربط بين المفسر والنص من خلال علاقة الفكر بالواقع.
فسعى إلى دراسة جانب آخر من تراثنا الديني في تعامله مع القرآن، فكانت رسالته للدكتوراه عن فلسفة التأويل عند محيي الدين بن عربي، فاتسعت عدسة الرؤية من مفهوم جزئي هو «المجاز» إلى دراسة «فلسفة التأويل». لكنه استغرق متن الرسالة في عرض فلسفة ابن عربي، وتتبع فلسفة ابن عربي ذاته في التأويل في الباب الأخير، لكنه أدرك أيضا أن الفكر عند المتصوفة لا ينفصل عن صراعات الواقع، وأخضع هو الآخر القرآن للتأويلات الأيديولوجية. وأدرك أبو زيد تأثير القرآن في تكوين فلسفة ابن عربي، فكان التساؤل عنده بعد ذلك هو: هل هناك مفهوم موضوعي للنص القرآني بعيد عن التحيزات المذهبية والفكرية، فقام بدراسة موسوعتي الزركشي والسيوطي في علوم القرآن. وفتح الباب الذي ظل موصدا تقريبا لعشرة قرون خلال الدراسة لأسئلة مثل: ما هو الوحي؟ وما هي طرقه؟ وهل للقرآن علاقة بالتاريخ، والثقافة العربية في القرن السابع؟ فخصص بابا في الكتاب للقرآن منتج ثقافي، بوضع النص في سياق الثقافة المعاصرة لظهوره تشكلا وتشكيلا، تظهر خصائصه في علاقته مع الواقع، وأحداثه من خلال مفهوم الوحي، والمكي والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ. والباب الثاني للقرآن منتج ثقافي، لدراسة تشكيل النص القرآني للثقافة الإسلامية، من خلال آليات النص. وتعلم الكثير من جهود عبد القاهر الجرجاني، وجهود المستعرب الياباني «توشيكوا أوذوتسو»، وكان نصر أبو زيد من أوائل من أعادوا فتح الحوار حول ماهية القرآن، وما معنى الوحي وعلاقة القرآن بالتاريخ؛ الباب الذي لم يطرق خلال عشرة قرون. من هنا كان التحدي، ومن هنا كانت معارضة جهوده؛ لأن القديم من طول استمراره أصبح عقيدة، ومن يخرج عليه يعد خارجا عن العقيدة والدين.
لكن الطامة الكبرى، كانت عندما توجه نصر أبو زيد لدراسة تعامل المعاصرين وتأويلاتهم للنص القرآني من خلال دراسته في نقد الخطاب الديني، وتأويلات الخطاب الديني للقرآن وإهدارها للسياق، ودراسته عن الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، التي كانت بمثابة فصل أول في كتاب عن مفهوم النص دراسة في علوم السنة، ونقده الشديد لفكر مشروع النهضة، ونقده للاستبداد السياسي، وأن الإرهاب والعنف نتيجة لغياب الحريات، وغياب الديمقراطية، مما جعل خطاب أبو زيد مستهدفا من الجانبين؛ من جانب السلطة، ومن جانب التيار الديني بكل فصائله، فلم يترك خطاب أبو زيد فرصة لأي منهما أن يدافع عنه، في ظل حالة الاحتقان التي كانت تمر بها مصر في بداية التسعينيات، والمواجهة المسلحة بين الدولة وجماعات العنف الدينية. أتت مسألة ترقية أبو زيد إلى أستاذ مساعد؛ لتصبح مجال التيارين، عبر مبدأ «عدو عدوي صديقي»، و«من معنا ومن علينا». وكان دور السلطة مثل عسكري المرور الذي فتح كل إشارات المرور في كل الاتجاهات.
كانت تجربة محنة قضية التفريق بينه وبين زوجته، وخروجه من مصر، وعدم اعتقاده أنه ضحية، وأن الأمر لم يكن شخصيا، بل هو نفس الصراع، يأخذ جولات. فمنذ معركة في الشعر الجاهلي لطه حسين، ومعركة الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، ورسالة محمد أحمد خلف الله عن الفن القصصي في القرآن الكريم، ومدرسة الشيخ أمين الخولي، ركز نصر أبو زيد جهوده على دراسة: ما هي المعوقات الفكرية التي تجعل دائما خطاب التقليد، وتجعل أهل الثبات يفوزون في كل هذه الصراعات؟ فركز جهده على الدراسات القرآنية، وليس الخطاب الديني بصورة عامة. وفي عام ألفين وفي محاضرته لاعتلائه كرسي الحريات بجامعة «لايدن»، باللغة الإنجليزية، عن التواصل بين الله والإنسان، تعمق فيها في تحليل عملية التواصل الرأسي بين الله والإنسان، وثناها بمحاضرة بدمشق في الاحتفال بمئوية عبد الرحمن الكواكبي، عام ألفين واثنين، بعنوان «إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا». بدأ يدرك أن الأزمة في قلة ثمار التجديد في ثقافتنا يعود إلى أننا نحاول التجديد من داخل نفس الإطار اللاهوتي الحنبلي القديم، ومن هنا تفشل كل محاولات فتح المعنى الديني؛ لأنها قائمة على النوايا الحسنة، وليس على نظرية ورؤية مؤسسة تأسيسا معرفيا وفلسفيا.
وقد حاول أبو زيد في ندوة بباريس عام ألفين وثلاثة أن يقدم الإشكالية من خلال محاضرته، «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، وبدأ يدرك أن الإشكالية هي في النظر إلى القرآن على أنه نص، واختصاره في ذلك، وأن ماهية القرآن، أقرب إلى الخطاب منها للنص، ونحتاج في تحليله أن نستخدم تحليل الخطاب، ثم بعد ذلك نستخدم تحليل النص، مع كل وحدة سردية. وظلت هذه القضية من النص إلى الخطاب، هي مجال دراساته ومحاضراته، خلال الأعوام التالية. وقد وصل إلى نتائج مهمة، ترفع كل التوترات التي حاول المتكلمون والفقهاء والبلاغيون والفلاسفة، وحتى المستشرقون في دراساتهم للقرآن، حاول تجاوزها، وكيف أن لها إجابات. وكانت محاضراته الأربع في ديسمبر سنة ثمانية بمكتبة الإسكندرية استعراضا لجهوده، وكان ينقصها محاضرة أخرى عن جهوده في دراسة التأويلات الحديثة والمعاصرة في العالم الإسلامي للقرآن، والتي كتب عنها دراسة مهمة باللغة الإنجليزية، عن حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، من الهند وماليزيا وإندونيسيا وإيران إلى العالم العربي، وجهود المفكرين المسلمين في أوروبا وأمريكا. فنحتاج إلى ترجمة جهود نصر أبو زيد خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة والتي ترجمت إلى كل لغات المسلمين غير لغة العرب. نحتاج إلى ترجمتها إلى العربية وكذلك الموسوعة القرآنية في ستة أجزاء التي أخرجتها جامعة لايدن، وكان أبو زيد أحد المستشارين المشرفين عليها وأحد المشاركين فيها؛ لندرك كيف يمكن الخروج من ماهية القرآن كنص إلى القرآن كخطاب، ودور ذلك في حل الكثير من التوترات المتصورة داخل القرآن عند القدماء والمحدثين مسلمين ومستشرقين. (3) آفة النسيان
3
في مقدمة عمله الكبير «أولاد حارتنا»، أشار عمنا نجيب محفوظ إلى أن «آفة حارتنا النسيان». فرغم تاريخنا الطويل والتدوين بكل أشكاله، ونحن مشغولون بالماضي والتراث صباح مساء، حتى إننا أصبحنا نمشي للأمام وعيوننا للخلف، فرغم كل ذلك فنحن في وضع حركة تشبه حركة «محلك سر»، نتحرك في أماكننا فكريا. فبعد قرن فات، مات فيه من مات، ما زلنا نتناقش تقريبا فيما تناقش فيه محمد عبده في بدايات القرن الماضي إن لم نكن قد تراجعنا في بعض الجوانب، كأننا نعيش بلا ذاكرة. فرغم كل كلامنا عن الماضي فلا نخطو داخل وعينا وننتقل، لا يكمل التالي ما أنجزه سابقوه، ويتجاوز جهودهم نحو مرحلة أخرى، بل تقريبا نبدأ من جديد، وكأننا نولد كل يوم لا ندري ماذا كان بالأمس، فرغم ما تلوكه ألسنتنا من لبان التاريخ، فنحن نعيش فكريا تقريبا يوما بيوم بلا ذاكرة.
وهذه الحالة لها أسباب بعيدة في معتقداتنا وتصوراتنا الثقافية عن الزمن، ولكن هذا موضوع لحديث آخر، لكن من الأسباب القريبة في نظري هو أننا نفكر بآليات السياسة، لا بآليات الفكر. وحالة التفكير بآليات السياسة تجعل حركة الفكر تبدأ من سؤال: «أنت معنا أم ضدنا؟» والإجابة عن هذا السؤال تحدد صدق ما تقول أو كذبه، وتحدد أهمية ما تقول أو هامشيته. فإذا كنت معنا ومنا، فكلامك صادق وآراؤك مهمة، وإن لم تكن، فمهما قلت ومهما فعلت فأنت مرفوض. هذا النهج في لبه هو نهج تراثي قائم على أن أثق في الراوي قبل الرواية وفي السند قبل المتن، مما جعل كل معاركنا الفكرية تقريبا في العصر الحديث هي عبارة عن غزو قبلي، قبيلة تغزو قبيلة وتسلبها عزيزها وتستبيح حرماتها، فتقوم المعارك ويخفت ترابها، ولم نعلم ما هي القضايا ولا ما هو لب النقاش، وكل اهتمامنا يكون: من قتل من، ومن سلب درع من؟ وكل فترة تتجدد الغزوات؛ الغزوات الفكرية، وتكون أياما كأيام العرب القديمة، تفاخر بالأنساب الفكرية والأحساب الثقافية، ويظل الفكر، وتظل الثقافة «محلك سر يا عسكري».
فهذه غزوة أحزاب المتدينين في يوم وموقعة ترقية نصر أبو زيد بتسعينيات القرن الماضي، ما زال غبارها في ساحة الحياة الثقافية، ولكن من دافعوا عن نصر، وعن التنوير، وعن العلمانية، وعن حرية الرأي، تقريبا لم يقرءوا إنتاجه. ومن هاجموه دفاعا عن الدين وعن الهوية وعن حياض الإسلام من غارات أهل «الكفر» و«التغريب» و«الحداثة»، لم يقرءوا. وتداعت القبائل لساحات النزال على صفحات الجرائد، وعدو عدوي صديقي؛ ليصبح حصاد الغزوات الفكرية هزيلا ومجرد سير في المحل، ويتجدد القتال كل حين بمنطق «وإن عدتم عدنا».
فها هو خطاب نصر أبو زيد، نتصارع عليه، ويتاجر به من يتاجر، مرة باسم الدفاع عنه وتبجيل صاحبه واستخدامه كشعار في معارك وهمية، ومن يتاجر في نفس الخطاب باسم مهاجمته أيضا. الطرفان يتاجران دفاعا وهجوما؛ فخطاب نصر أبو زيد ذاته لم يتم جمعه، فقريبا سيمر عقد من الزمان على رحيل نصر أبو زيد، وله دراسات، نعم دراسات مهمة مكتوبة بالعربي ومنشورة في مجلات ولم تجمع في كتب، مثل «الرؤية في النص السردي العربي»، يحلل فيها تفسير وتأويل الرؤية في الثقافة العربية ودورها من خلال الجزء الأول من سيرة ابن هشام في عرضه لرؤيا جد النبي «عبد المطلب» وتأويلها. ورؤيا يوسف وتأويلها في سورة يوسف، ليقارن أبو زيد بين تعامل ثقافة العرب قبل الوحي مع الرؤيا وكيف تعامل الوحي مع هذه التصورات في الثقافة. دراسة كتبها في منتصف التسعينيات ونشرها، ولم تجمع في كتاب من كتبه حتى الآن.
وهناك دراسات بالإنجليزية كتبها نصر ونشرها ولم تترجم إلى العربية، ففي سنواته الخمس عشرة بعد رحيله عن مصر كان يكتب وينشر بالإنجليزية، بل له دراسات بالإنجليزية في جامعة أوساكا في اليابان في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي لم تترجم ولم تجمع في كتب. فقد كتب «السيرة النبوية سيرة شعبية»، حلل فيها السيرة النبوية، وكيف أن تداولها شفهيا على مدى ما يزيد على قرن ونصف قبل أن يتم تدوينها كتابة، وكيف شكل هذا التداول الشفاهي في مضمونها ووجود أشعار كثيرة في كتب السيرة. وقد حدثت ترجمة لها في بدايات التسعينيات، ونشرت بمجلة فنون شعبية من مطبوعات وزارة الثقافة، ولكن الدراسة لم تجمع في أي من كتبه.
ومساهمته بالكتابة وكعضو في اللجنة الاستشارية التي عملت على واحد من أهم الأعمال الفكرية والبحثية حول القرآن وعلومه وهي «الموسوعة القرآنية» التي أنتجتها جامعة لايدن بهولندا في ستة مجلدات، واشترك فيها باحثات وباحثون متخصصون في الدراسات العربية والإسلامية على مستوى العالم، ونشرت بداية من عام 2000م حتى 2006م. وتم العمل عليها أكثر من عقد من الزمان، ولنصر بها أربع مشاركات، بخلاف محاضراته بالعربي وبالإنجليزية التي بتحويلها إلى نصوص مكتوبة هي رصيد فكري لأبحاثه حول القرآن. بل إنني حين أضع أمامي أكثر من أربعين حوارا صحفيا منشورا مع نصر منذ مايو سنة واحد وتسعين حتى عام ألفين وعشرة، أرى تطور أفكاره من خلال قراءة هذه الحوارات ووضعها في سياقها الزمني. وحتى المؤسسة الفكرية التي أعلنت أنها نشرت الأعمال الكاملة لنصر أبو زيد، فهي لم تفعل سوى أنها أعادت نشر كتب نصر المنشورة أصلا، وليس فعلا جمع أعماله الكاملة.
بل إنك لو دخلت دار الكتب المصرية تبحث عن كتب نصر أبو زيد من أرشيف الدار، فلن تجد سوى كتاب واحد هو: «مفهوم النص» إن وجدته، وكتاب «القول المفيد في قضية أبو زيد»؛ لأن معظم كتب نصر منشورة في دور نشر لبنانية. وهي لا تضع نسخ إيداع بدار الكتب المصرية، بل إنك لو دخلت مكتبة جامعة القاهرة، التي نشرت الصحف سنة 1996م أنها قد سحبت كتب نصر تحت تأثير القضية، لدرجة أن باحث ماجستير كان يعد دراسته في أصول الفقه في «الجامعة الأم» عام 2012م كان يبحث عن نسخة من كتاب «مفهوم النص» واضطررنا لتوفيرها له كملف بي دي إف على النت.
نصر أبو زيد قام بعمل أربع ترجمات لنصوص في علم العلامات وفي الدرس اللغوي الحديث من الإنجليزية للعربية في النصف الأول من الثمانينيات، هذه الترجمات لم تجمع في كتاب، بل له ترجمة كاملة لكتاب عن ثقافة «البوشيدو» في اليابان، ترجمه عن الإنجليزية ولم يعد نشره ولا نشر مقدمة نصر الجميلة للترجمة، كتبها نصر ليزرع الكتاب في همومنا الثقافية والفكرية، بخلاف مقالاته في الصحف بالعربي ومقالاته وعروض كتب له بالإنجليزية، بخلاف تسجيلات صوتية لنصر تزيد على مائة ساعة بالعربي والإنجليزي، تعكس حياته وحياة التفكير عنده.
فحتى لا يأتي أحفاد لنا في بدايات القرن القادم، يمضغون لباننا الثقافي الذي نلوكه في معاركنا الآن مما مضغه أسلاف لنا في بدايات القرن الماضي، ولكي تتغلب حارتنا على آفة النسيان، مهم أن نرمم ذاكرتنا الثقافية، ونخرج من ثقافة الغارات القبلية، ثقافة الغزو والغنائم والسبايا الفكرية وسلب القتيل درعه وسيفه وملابسه كغنيمة. فعلينا أن نرمم ذاكرتنا بأن نجمع جنبات الخطاب ونوفره، فيقرؤه القراء ويبحث فيه الباحثون ويفكر المهتمون بالفكر، لا لكي نجعل من نصر أبو زيد أو غيره شيخا له مقام وله قبة خضراء ندور حولها تقديسا، ولا لكي نجعل منه أيضا «خيال مآته» نخيف منه الطيور، ونخيف به العصافير. بل مهم لنا ولحارتنا أن نحول خطابه وخطابات غيره إلى موضوع للدرس العلمي والتفكير والبحث النقدي، فنقف على ما أنجز؛ لكي نبني عليه بتجاوزه من داخله نقديا، وليس عبر غارات الكر والفر وثقافة الغنايم. (4) أبو زيد الذي فقدناه
خلال سنوات المواجهة بين الجماعات الدينية المسلحة والسلطة، منذ بداية التسعينيات، دخلت مسألة ترقية نصر أبو زيد إلى الأستاذية في حبالها، في ظل حالة الانشطار الفكرية والثقافية داخل المجتمع المصري، مما حول الترقية إلى ساحة للمواجهة ووسيلة للضغط على إدارة الجامعة، التي رضخت للضغوط، مضحية بحرية التفكير واستقلالية أحد أساتذتها، فقد نظرت إدارة الجامعة إلى أن المسألة مسألة ترقية أستاذ يمكن أن يتقدم بعد عدة أشهر للترقية مرة أخرى، ولا داعي لوجع الدماغ. رفض أبو زيد طريقة المواءمات والانحناء للريح، فتجددت عملية الوأد لمدرسة جادة للدراسات الإسلامية، كما حدث مع مدرسة الشيخ أمين الخولي وتلامذته في نفس الكلية قبل أربعة عقود. فقد أدرك أبو زيد أن الاستمرار في هذا المناخ سيؤدي في النهاية إلى انتهاء الباحث داخله، فلم يعد هناك مكان لمفكر وباحث مستقل، فعليك أن ترتمي في حضن أي من الجبهتين؛ لكي تستمر في داخل مصر.
ودفاعا عن جامعة طه حسين التي حلم بها أبو زيد، واجتهد في سبيل دخولها والانتماء إليها، متحديا عقبات الفقر ومتحديا تحمله مسئولية رعاية أسرة كبيرة بعد وفاة أبيه وهو في الرابعة عشرة، متحديا العمل كفني لاسلكي ليدرس ويدخل الجامعة، ويتخرج الأول على دفعته، بل ويحارب من أجل تعيينه بالجامعة أمام محاولة منعه من التعيين. فقرر أبو زيد أن يقبل دعوة جامعة «لايدن» للتدريس بها. خرج أبو زيد الذي قد بلغ الخمسين حينها ولم يملك شيئا، لم يملك غير العلم الذي جاب شرق الأرض ومغربها من أجله، يعلم أبناء الوطن، سعيا إلى مجتمع العدل والحرية. ظل يحمل المرارة بداخله والحزن الآسي على بستان زهور تلاميذه ومدرسته الفكرية التي كان يرعاها، وانقطع عن العودة إلى مصر.
لكن فعل التفكير عند أبو زيد الباحث لم يذبل أو يشيخ، وبدأت جهوده الفكرية تأخذ منحى إنسانيا واسعا، يكتب بالعربية والإنجليزية، وبدأ بستان زهور جديد من طلابه يزهر، هذه المرة طلاب من كل مكان في العالم الإسلامي وخصوصا إندونيسيا، وكتب عن حقوق المرأة والإنسان في الإسلام، وأصبح يحاضر في أكبر الجامعات في العالم. وأخرج مؤلفه الماتع هكذا تكلم ابن عربي، وساهم في تحرير الموسوعة القرآنية (ستة مجلدات باللغة الإنجليزية)، اشترك في تحريرها خيرة متخصصي الدراسات الإسلامية في جامعات العالم.
وكان أبو زيد قد درس تأويل المتكلمين وعلماء اللاهوت المسلمين للقرآن في رسالته للماجستير عن المعتزلة، ودرس تأويل المتصوفة للقرآن في دراساته عن ابن عربي، وتناول تأويل البلاغيين للقرآن في دراساته عن إمام البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني. ففي جامعة «لايدن» و«أوترخت» استكمل الضلع الرابع بدراساته عن تأويل القرآن في العالم الإسلامي في العصر الحديث في القرون الثلاثة الأخيرة في الهند وإيران وتركيا والعالم العربي، وإندونيسيا التي تكونت فيها مدرسة كبيرة من طلاب نصر أبو زيد. فأخرج دراسته المهمة باللغة الإنجليزية عن حركة الإصلاح في الفكر الإسلامي، وفي خلال السنوات القليلة الماضية حدثت انتقالة مهمة في فكر أبو زيد بانفتاحه على تجارب تحديث الفكر الإسلامي في العالم الإسلامي وليس العالم العربي فقط. وضاقت عدسة الباحث لتركز على الدراسات القرآنية، وكذلك الموقف النقدي من جوانب التعصب في العالم الغربي. لكن الجانب الأهم هو الانتقال في تعريف مفهوم القرآن من كونه نصا إلى العودة إلى الظاهرة القرآنية قبل جمعها بين دفتي مصحف كمجموعة من الخطابات. وسعى نصر أبو زيد في دراساته الأخيرة للبحث في رؤية العالم الكامنة في القرآن الكريم. ولقد ألقى أربع محاضرات كباحث مقيم بمكتبة الإسكندرية في ديسمبر 2008م، لخص فيها جهوده في الدراسات القرآنية، وفي محاضرة مهمة بجامعة نوتردام الأمريكية التي ألقى أبو زيد محاضرة افتتاح المؤتمر، تحدث عن الرؤية اللاهوتية للعالم في القرآن التي اهتم بها علماء الكلام واللاهوتيون المسلمون، وكذلك الرؤية الصوفية المثالية، وتحدث عن الرؤية الفقهية للعالم التي تبناها الفقهاء، والرؤية الفلسفية للعالم في القرآن التي اهتم بها الفلاسفة المسلمون. وكانت دراسات أبو زيد الأخيرة وكتابه الذي كان على وشك الانتهاء منه عن الرؤية التكاملية في التعامل مع القرآن، وعدم إهمال أي من هذه الأبعاد أو إهمال بعضها لحساب البعض الآخر.
إن حلم أبو زيد الذي تمثل في معهد دولي للدراسات القرآنية، المعهد الذي يحتاج إليه العالم «الإسلامي» الذي لا توجد فيه تقريبا سوى معاهد لتدريس الدين والوعظ، وليس للدراسة العلمية للقرآن. لكن لم يمهله القدر لكي يتم خروج حلمه الذي يحتاج إلى مراكز بحثية لكي تقوم به، وأصيب وهو على وشك الانتهاء من الدورة التدريبية الثانية في المعهد الدولي للدراسات القرآنية في إندونيسيا. فهل سيحدث مع خطاب أبو زيد ما حدث مع خطاب ابن رشد الذي أهمل فكره في الشرق واحتفى به الغرب؟ وهل سيحدث نفس الشيء مع فكر أبو زيد الذي أصبح تلامذته في إندونيسيا وتركيا والهند وإيران؟ نحتاج إلى تجميع كل هذا العمل الذي فقدناه من نصر أبو زيد خلال العقد والنصف الماضيين. وهذا جهد أنا متأكد من عزم رفيقة حياته التي لولا وجودها في حياته خلال العقدين الماضيين لخسرنا الباحث نصر أبو زيد أيضا. إن رحل جسد أبو زيد فسيظل فكره وتجربة حياته آية على القيم النبيلة في حياتنا مهما طفا على سطحها من غث. (5) استعادة عقل أبو زيد الذي هاجرنا
دخل جامعة القاهرة الحلم، وهو في الخامسة والعشرين، موظفا كفني لاسلكي، مستعيدا حلم الجامعة الذي حرمه منه يتمه، وهو في الرابعة عشرة، وعبء الإخوة والأخوات الصغار، إلا أن مجانية التعليم الجامعي في بدايات الستينيات جددت الأمل، فذاكر الثانوية العامة منازل. وها هو اليوم، يدخلها، لكنها تموج بالتظاهرات على أثر هزيمة يونيو التي مني بها الوطن. وشهد تغير الخطاب الديني الذي كان خطاب اشتراكية الإسلام، وخطاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، و
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ؛ لتتحول بوصلة الخطاب الديني وتصبح:
وإن جنحوا للسلم فاجنح ، وأخماس الرزق التي تأتي من التجارة، والملكية الخاصة، ويفسر قول الله تعالى:
ورفع بعضكم فوق بعض درجات
على أن الدرجات هي درجات التفاوت في المال وفي الرزق. وكانت المرة الأولى التي يختار القسم للمعيد الجديد تخصصه، وكان على دراية بما حدث من ربع قرن في نفس القسم، مع الشيخ أمين الخولي وتلامذته.
واستطاع أبو زيد أن يتواصل مع ما أصله الشيخ أمين الخولي، الذي كان أول من نشر لنصر مقالا، وهو بعد في التاسعة عشرة من عمره، ويعمل فني لاسلكي بشرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى وتلاميذه، من أنه قبل أن نستخرج من القرآن أحكاما فقهية، وقوانين، وأخلاقا، وفلسفات، لا بد من دراسته دراسة أدبية لغوية بلاغية، مستخدمين فيها كل علوم البلاغة الحديثة، واستطاع في دراساته التالية أن يؤصل للتفسير الأدبي للقرآن، معرفيا بتراث المعتزلة، والفلاسفة المسلمين، حتى التجديد الجزئي عند محمد عبده، والشيخ الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله، وشكري عياد، وعائشة عبد الرحمن.
ومع عودته من اليابان في بداية التسعينيات، كانت دراسته عن الخطاب الديني المعاصر، وعن فشل مشروع النهضة الفكرية ومعادلته التي تشكلت في القرن التاسع عشر، لكن نصر أبو زيد المتسق مع قناعاته، ومع دور المفكر، المواطن، الذي واجه الاستبداد سواء كان باسم الدين، أو من خلال السلطة القمعية، في ظل حالة الاحتقان في المجتمع فكريا، وحالة المواجهة العسكرية التي وصلت إلى القاهرة، كانت مسألة الترقية، التي استخدمت غطاء للصراع، فمن دافعوا عن أبو زيد لم يقرءوا ما كتب، بل لأن خصومهم يهاجمونه، ومن يهاجمونه؛ لأن خصومهم «الشياطين» يدافعون عنه. وأمسكت السلطة الحاكمة العصا من المنتصف، فهي تضع حراسة أمنية على أبو زيد، وتفتح المساجد لتكفيره من على منابرها التي تديرها وزارة الأوقاف، ومن ناحية أخرى السلطة تتفاوض مع التيار الديني، وأيضا تمول سلسلة كتب المواجهة والتنوير ضد فكر أهل التقليد. فالسلطة كعسكري المرور الذي أضاء إشارات باللون الأخضر في كل الاتجاهات، وأصبح الهدف ممن يعارضونه هو إخراس صوته داخل الجامعة، وهدف من يدافعون عنه إلا من ندر منهم، هو هزيمة خصومهم، حتى ولو بالارتماء في أحضان سلطة الاستبداد في مواجهة الظلامية.
لم يشعر أبو زيد يوما أنه ضحية، أو أن الأمر مسألة شخصية، فوجد أن دوره كمعلم بالجامعة سيتوقف، فلا يستطيع التدريس في حراسة الأمن، وكان خائفا أن يتوقف الباحث داخله أيضا. وأدرك أنه قد انخرط في سجال، وفي مبارزة ستقتل نصر أبو زيد الباحث، فكان الرحيل للمحافظة على هذا الباحث، ولم يبك إلا على تلاميذه وعلى حديقة الزهور التي غرسها، فخرج من البلاد في سن الثانية والخمسين، لم يكن يملك شيئا تقريبا، فقد أنفق عمره موظفا وأستاذا بالجامعة، وجاب الغرب والشرق بحثا عن المعرفة وعن التعلم، علم ومعرفة ليبني مجتمع العدالة الاجتماعية، مجتمع الحرية والكرامة والإنتاج. وشغله سؤال: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا التجديد يصل دائما إلى ثمار ضعيفة، بالية؟ أكد نصر أبو زيد على أن محاولة المفكر التجديدي الدائمة؛ للمواءمة مع الظروف، بالإضافة إلى أن التجديد عندنا قام في نفس الإطار اللاهوتي والعقيدي، الأشعري، والحنبلي الذي ساد؛ لذلك تفشل كل محاولات فتح المعنى داخل الإطار.
وفي مناخ البحث العلمي بجامعة «لايدن» استطاع أن يواصل الباحث أبحاثه، بل يستعيد المعلم دوره أيضا، وانفتح على ثقافات المسلمين، وأصبح له تلاميذ من إندونيسيا وتركيا وماليزيا، وإيران ومن العالم العربي. وأنتج أبو زيد رصيدا من العلم خلال العقد والنصف الأخير. ترجم المسلمون غير العرب الذين يمثلون ثمانين بالمائة من المسلمين دراساته إلى لغاتهم. وقد استطاع أبو زيد أن يكون نظرية في التأويل تبنى على ما توصل إليه أسلافنا من المتكلمين من التفرقة بين المحكم والمتشابه، وجدودنا من الفقهاء في استنباط الأحكام بالتفرقة بين الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني ... إلخ، والبلاغيون المسلمون في أن بلاغة القرآن ليست في مفردات ألفاظه بل في طريقة نظمه، وأهمية دراسة قوانين الكلام من خلال دراسة قوانين البلاغة في الشعر، كأساس لا سبيل عنه لدراسة بلاغة القرآن الكريم، وسابقون من المتصوفة، في التفرقة بين الظاهر والباطن، وبين الحقيقة والشريعة، وفلاسفتنا المسلمون في محاولة رفع التناقض الظاهر بين الشرع والبرهان العقلي.
وبنى أبو زيد على جهود التأويل في العالم الإسلامي منذ القرن السابع عشر إلى الواحد والعشرين، من الهند إلى العالم العربي، وإندونيسيا وإيران. وأصل فكريا لمدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم، التي تعود بذورها الحديثة إلى محمد عبده. •••
حوار مع جريدة الصباح الكويتية الإلكترونية أجراه د. رياض محمد الأخرس، عن كتابي «أنا نصر أبو زيد»: - من هو جمال عمر بداية؟ ما دراسته وتخصصه؟ والأهم: ما سبب اهتمامه بنصر حامد في وقت ابتعد عنه الكثيرون باعتباره مدانا ومبتدعا وطريدا إذا صح التعبير؟ وما هو منهج جمال عمر في تتبع وتدوين سيرة نصر حامد في الكتاب المشهور: «أنا نصر»؟ وما النتائج التي وصل إليها كحقائق
Facts ؟ وكيف سيكون الطريق مستقبلا على نهج نصر؟ - «من أنا؟» سؤال محير، هل أنا هو ما يشهد به آخرون عني من خلال شهادات دراسية، حصلت عليها، أو جوائز أو تكريم؟ لكن في سياق حوار مثل هذا، أتصورك تريد أن يعرف القارئ مقدار تعليمي الرسمي وشهاداتي؛ لكي يقرر لنفسه إذا كان يثق في شخص المتحدث؛ من كونه يحق له الحديث، ونأخذ كلامه على محمل الثقة والجد. وهذا هو الشكل المعاصر للممارسة التراثية، حول صحة سلاسل السند للمرويات؛ فالتراثيون اجتهدوا للثقة في الراوي أولا، من خلال شروط جرح وتعديل، حتى نثق في صحة رواياته، لذلك فثقافتنا تقوم على ثبوت صحة الرواية بالثقة بمن قالها، فالحكم بالصحة يأتي من خارج الرواية، وليس من داخلها. مما يتجسد في أن صحة رأي ما في ثقافتنا المعاصرة تتوقف على من قال به، وما هي سلطته، وما هو منصبه، وليست صحة الرأي بحجته أو بأدلته، وبمدى قدرته على تفسير الظواهر أو باستطاعة الرأي على الإقناع. ورغم ذلك؛ فجمال عمر قد درس في التعليم الحكومي المصري، بمراحله، حتى الدراسة الجامعية بكلية التربية، ليكون معلما. وعمل مدرسا لمدة عام، وكان قد انتسب لكلية الآداب، لدراسة الفلسفة عاما واحدا، ورحل عن مصر عام 97، ويقيم بمنطقة بروكلين بولاية نيويورك خلال العقدين الماضيين. لي عدة أعمال منشورة هي «مهاجر غير شرعي» 2007م، «تغريبة» 2012م، «أنا نصر أبو زيد» 2013م، «مقدمة عن توتر القرآن» 2017م.
كنت مهتما بأزمة الفكر العربي في مرحلة المراهقة والشباب المبكر، في نهايات الثمانينيات، وكنت منخرطا في قراءة المشروعات الحضارية بمجلداتها التي تصدر؛ مجلدات محمد عابد الجابري، التي كنت أعاني في الوصول إليها لارتفاع أثمانها، لكن مكتبة كلية الآداب المجاورة في مبنى منفصل كانت عامرة بالكتب الحديثة التي أريد أن أقرأ فيها، فكنت أذهب لمكتبتها وأجلس بالساعات للقراءة، وكنت كطالب في التربية يضايقني عسكري الأمن في الدخول. فكنت أتحايل بأن أدعي أني أفكر في الانتقال لكلية الآداب من كلية التربية، وأني داخل لشئون الطلاب، فكان العسكري يسمح لي بالدخول. وفي يوم كان الضابط واقفا بجوار العسكري، واستوقفني، وتقريبا تذكر ملامحي من ندوة سابقة كانت ضمن أنشطة الجامعة، ونقدت فيها الضيف وقتها. فما إن حكيت للضابط ادعائي بالنقل لكلية الآداب، حتى أرسل معي العسكري لشئون الطلاب؛ ليتحقق من صدق ادعائي، فعلمت أني داخل في مصيبة، لمجرد إني عايز أستكمل قراءة كتاب «بنية العقل العربي وتكوينه» للجابري. فبينما العسكري كان مشغولا، سرت بهدوء في طريقي للخروج من الباب الآخر للكلية، وبينما أنا على وشك الخروج، إذ بالعسكري في أعقابي، وينادي علي: «إنت يا فندي». فلم ألتفت إليه وخرجت من الباب في الشارع، وإذا به يجري ورائي، وأنا أجري في الشارع بمدينة بنها بين العربات، وكله من أجل قراءة كتابات الجابري. وقرأت كتابات لحسن حنفي وعن جهود أدونيس وطيب تيزيني وحسين مروة وجلال العظم، وقرأت كل ما كتب زكي نجيب محمود.
حتى صدر كتاب «مفهوم النص؛ دراسة في علوم القرآن» لنصر أبو زيد، عام تسعين. وحين اطلعت عليه، وجدت عالما آخر في التعامل مع الظاهرة الدينية، يخرج بها من كونها مجرد دروشة، أو أنها مجرد سلم للوصول للسلطة. وجدت فيه كيف يمكن تناول الظاهرة الدينية تناولا علميا، وكان حواره بجريدة الأهرام 31 مايو سنة واحد وتسعين على أسبوعين، حوارا أدركت منه قيمة هذا الإنسان كإنسان مفكر، وكمفكر إنسان. وفي نفس اليوم عملت ملفا، وكتبت عليه «نصر أبو زيد»، ووضعت فيه ورقتي الجريدة التي بهما الحوار. ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أجمع كل ما كتب ونشر نصر أبو زيد، وفي إحدى ندوات معرض كتاب القاهرة التي كان مشاركا بها، صعدت إلى المنصة بعد الندوة وسلمت عليه. ورغم زحمة الناس، فإن نصر يشعرك بحميمية الريفي، وكأنه يعرفك من سنين، فذكرت له أني قرأت كتابه وعندي تساؤلات حوله، فرد بابتسامة عريضة وبلهجة مصرية «تعال لي الجامعة». وبالفعل ذهبت إليه بجامعة القاهرة، وفي المبنى التاريخي القديم، فوجدته في حجرة الأساتذة الضيقة بمكاتبها المتكاتفة يجلس وحوله طلبة الدراسات العليا، فقال لي: «هنا نتناقش في كل هذه الأسئلة.» وشاهدت فعل التفكير النقدي، الطلبة يماحكون أفكاره وينتقدونه، وهو يبتسم ويطرح عليهم مزيدا من الأسئلة، وينقد ما تم طرحه. شعرت بلذة غريبة، من الحياة والحيوية الفكرية، الروح التي كنت أبحث عنها.
وحدثت مشكلة ترقيته وما تبعها من قضية الحسبة، والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته، ثم رحيله عن مصر. وبعد رحيله بعام ونصف رحلت أنا أيضا، وانقطعت الصلة المباشرة، لكن استمرت صلة الفكر، حتى التقينا بنيويورك نوفمبر 2007م عن طريق صديقنا المشترك فكري أندراوس، وليلتها قلت له «هديتي لعيد ميلادك السبعين، يا دكتور نصر، سيكون كتابا لي عنك» فابتسم، وقال على طريقة المشايخ بالأزهر «وأنا أجزتك للكتابة عن حياتي.» واقترحت عليه أن يأخذ تسجيل «ديجيتال» وأن يسجل كل محاضرة يلقيها، أو حوار صحفي يتم معه، وأن يرسله لي على النت. وبالفعل في سنواته الثلاث الأخيرة استطعنا تسجيل ما يقرب من مائة وخمسين ساعة بصوته بالعربي وبالإنجليزي، وأرسل لي نسخا من تسجيلات مناقشات رسالته للماجستير ورسالته للدكتوراه. وجمعت كل ما أمكنني الحصول عليه من تسجيلات برامج تليفزيونية تمت معه. وكل الحوارات الصحفية المنشورة معه التي استطعت الحصول عليها. وعملت قائمة مرتبة تاريخيا بكل هذا، تبدأ من أول مقال نشره في مجلة الأدب عام 1962م وهو في سن التاسعة عشرة، ويعمل فني لاسلكي في شرطة النجدة بالمحلة، حتى النصوص التي نشرت بعد رحيله.
وفي يوم 4 يوليو 2010م بدأت في كتابة كتاب «أنا نصر»، وفي اليوم التالي تركنا نصر أبو زيد ورحل عن عالمنا بجسده، وبالفعل أخرجت الكتاب في عام 2013م؛ احتفالا بعيد ميلاده السبعين كما وعدته قبلها بست سنوات. وحين فكرت في كتابة الكتاب كنت حائرا، هل أعمل دراسة أكاديمية علمية، أبرز فيها ذاتي وقدراتي على التحليل، دراسة تكون للخاصة من المهتمين، أم أكتب عن نصر الإنسان ودلالات تجربته الشخصية الثرية والعميقة والموحية لتقرب نصر للناس؟ فاخترت أن أسير على خط رفيع ودقيق بين نصر الإنسان وأبو زيد المفكر، الخط الرفيع الذي حاولت أن أسير عليه أيضا في عملي الأول «مهاجر غير شرعي» عبر التعامل مع الواقع المعاش واليومي، تعاملا يكشف جوانبه المترعة بخيال أرحب من عوالم الخيال التي يمكن أن يصطنعها كاتب. فتخيلت بكل هذه السنوات وهذه المعايشة مع خطاب نصر وحياته، لو أن نصر أبو زيد فكر أن يكتب عن حياته وحياة تفكيره، فكيف كان سيكتب؟ وبالفعل كتبت النص بصيغة الأنا، وكأنه يروي. وبذلت ما أمكنني من جهد للكشف عن بواطن القيمة في حياته كإنسان يجسد حلم وطن كان يحاول أن يواجه الفقر والجهل والمرض. حاولت أن أجسد مشواره الفكري، وبقدر الإمكان تقريب الأفكار المركبة والمجردة للقارئ العام. وستجد توثيقا لكل جوانب حياته وكتاباته في روح فنية أدبية، وكذلك ستجد صوتا آخر في الكتاب؛ صوتا يرصد جوانب عن حياة نصر أبو زيد، رحل عن دنيانا، وهو نفسه لا يعرفها.
بل سعيت للتنقيب والاستقصاء عن جوانب من حياته عبر حوارات أجريتها مع زوجته ورفيقة مشواره منذ بداية التسعينيات في القرن الماضي د. ابتهال يونس، وصديقه منذ الستينيات في المحلة جابر عصفور، وصديقه في الجامعة علي مبروك عليه رحمة الله، وصديقه منذ الجامعة الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد. وكنت أتمنى التسجيل مع حسن حنفي، ومحمود علي مكي عليه رحمة الله، وأحمد مرسي الأستاذ بجامعة القاهرة ورفيق رحلة أبو زيد لأمريكا، لكني لم أتمكن. فقد حاولت أن يكون الكتاب نصا حيا يكشف جوانب الحياة في فكر أبو زيد وفي حياته الخاصة، فالمفكر لا ينفصل فكره عن سياقات حياته، يتشكل بها ويشكلها.
الكتاب والبحث كشف عن أن قيمة نصر أبو زيد ليست في كونه مفكرا صاحب أفكار كبيرة وعظيمة فقط، وليس إنسانا نبيلا كافح من أجل أسرة توفي عنها أبوه وأبو زيد في الرابعة عشرة، واستطاع بمساعدة والدته، أن يعبرا بهذه الأسرة لشواطئ الأمان، بل القيمة الحقيقة في نصر كونه مفكرا حيا، دائم النقد لفكره ولتصوراته، في حركة بندولية بين منهج الباحث وأدواته البحثية من جانب، وبين موضوع البحث ونتائجه من ناحية أخرى، فنصر يبدأ من سؤال وفي محاولة الإجابة على السؤال تتولد أسئلة أخرى، نتائجها تطرح تساؤلات على المنهج وأسسه النظرية مما يضيف إليه ويحذف منه ويطور فيه، ليرتد المنهج الجديد في التعامل مع الأسئلة. لذلك فنصر أبو زيد مر من وجهة نظري بثلاثة انتقالات في فكره، وللأسف الدارسون لخطابه لا يدركون هذه الانتقالات، فخطاب أبو زيد طوال الوقت مهتم بحالة الجدل الدائمة بين الوعي والتاريخ، بين المفكر وسياقاته، بين الفكر والواقع، في عملية جدل مستمر لم تتوقف إلا برحيله عنا. - أستاذ جمال، هل لك أن تعطينا نظرة سريعة عن تكوين الكتاب، لمن لم يتمكن من الاطلاع عليه من القراء، ليواكب حديثنا بسهولة أكثر؟ - كتاب «أنا نصر» يصور حياة نصر أبو زيد الصبي في قرية قحافة مركز طنطا في غرب دلتا النيل بمصر، كيف مر بمراحل حياته الشخصية والفكرية، وكيف حرمه أبوه من دخول الثانوية العامة لطول مشوار الجامعة . وكانت الجامعة وقتها أيضا تعليمها ليس مجانيا، فأرغمه أبوه الذي أحس بقرب أجله أن يدخل تعليما فنيا متوسطا، وبالفعل توفي أبوه ونصر في سن الرابعة عشرة، وكان طالبا في مدرسة الصنائع، لتجد أمه نفسها مسئولة عن أسرة كبيرة فقيرة. وبالفعل تخرج نصر سنة ستين، وكافح يعمل كفني لاسلكي في وزارة المواصلات، منتدب مدني للعمل في قسم شرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى، يعمل ليساعد أمه على تربية أسرتهم الكبيرة، وتجدد حلم الجامعة مرة أخرى، وذاكر من المنزل ليحصل على الثانوية العامة ، ويدخل الجامعة وهو في سن الخامسة والعشرين، ويدرس بالجامعة وهو يعمل، ويتفوق في دراسته ويحارب ليصبح معيدا، وينجز رسالتيه للماجستير والدكتوراه ويتخصص في الدراسات الإسلامية. ويصور الكتاب مراحله الفكرية، فالكتاب بمثابة خريطة معرفية لحياة نصر وحياة التفكير عنده، مدخل لكل من يريد أن يعرف مدينة أبو زيد الفكرية، الكتاب يفتح لك هذا العالم، لكنه لا يغنيك عن التواصل مع خطاب نصر في كتاباته، بل هو مقدمة لك للدخول لخطاب نصر أبو زيد. - إنك، في مقابلة تليفزيونية سابقة، ألمحت، والآن تفضلت، بأن «نصر أبو زيد مر بثلاثة انتقالات في فكره»، ما هي هذه النقلات؟ وما السياقات التي اقتضتها؟ وهل هي في مسير معرفي تكاملي أم إنها انفعالات مع الواقع وقضاياه وإحباطاته؟ - أنت تشير إلى لقاء برنامج «عصير الكتب» مع بلال فضل، نعم نصر أبو زيد دخل الجامعة عام ثمانية وستين، عام بعد هزيمة 67، وفي سنوات دراسته في الجامعة شاهد تحول بوصلة النظام السياسي في فترة حكم عبد الناصر وفترة حكم السادات، وكيف تحول المعنى الديني الرسمي والسائد بين الحكمين، والاستخدام النفعي للنصوص الدينية لتبرير التوجهات السياسية، فمن «اشتراكية الإسلام» واشتراكية أبي ذر الغفاري، ومن «الناس سواسية كأسنان المشط» كمعان دينية للتوجه السياسي بأن الأرض لمن يزرعها، تتحول البوصلة ويتم تصدير الآية الكريمة
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ، وأن تسعة أعشار الرزق في التجارة؛ لتبرر الانفتاح والرأسمالية الوطنية، ومن مواجهة العدو بمنطق
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
لتتماشى مع توجه النظام السياسي، تصبح «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، وفي السبعينيات مع فض الاشتباك ومفاوضات السلام، فيتم تصدير:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله .
فكان السؤال الذي عانى منه نصر أبو زيد، هو: لماذا هذا التحول في المعنى الديني؟ ولماذا هذا الاستخدام النفعي للنصوص؟ وفي دراسته لتراث المعتزلة وخصومهم والمتصوفة في تعاملهم مع تأويل نصوص المصحف، في أطروحتيه للماجستير والدكتوراه، وجد أن القدماء أيضا حولوا نصوص المصحف لساحة للعراك، كل فريق يستخدم النصوص ليجعلها تنطق بمبادئه الفكرية. فكان السؤال الذي طرحه نصر أبو زيد على نفسه هو: هل يمكن الوصول إلى مفهوم للنص خارج هذه التحيزات الأيديولوجية؟ فكانت دراسته «مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن» محاولة للإجابة عن هذا السؤال وغيره. وهذان العقدان: السبعينيات والثمانينيات، هي مرحلة أسميها القراءة الأيديولوجية للتراث عند نصر أبو زيد، فتحت تأثير أستاذه حسن حنفي فلسفيا، وتأثير عبد العزيز الأهواني منهجيا، وتواصله مع دراسات تحليل الخطاب وتحليل النصوص والهرمنيوطيقا التي تواصل معها بعمق خلال منحة له عامين بأمريكا في نهايات السبعينيات. نصر كان يحاول نقد الخطاب الأشعري في تصوراته حول القرآن وقدمه من ناحية، ويواجه الهجمة الحنبلية الحرفية في قراءة النصوص، الهابة من الصحراء تغذيها أموال البترول، ويغذيها أيضا نجاح الثورة الإيرانية، فنصر كان يواجه التوجهين مستخدما تصورات المعتزلة.
وفي فترة نهاية الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، دخل خطاب أبو زيد في مرحلة نقد ذاتي تمثلت في نقده لخطاب حسن حنفي، وفي نقده للخطاب المعتزلي، وفي نقده لمنهجه في تناول ابن عربي في رسالته للدكتوراه، ونقده لخطاب النهضة في الفكر العربي الحديث، ونقده للخطاب الديني السائد في الإعلام. ودخل في أزمة الترقية التي تحولت إلى كرة يتصارع بها وحولها المتصارعون ضد بعضهم البعض على ساحة قضية نصر أبو زيد. وتم هدم بستان الزهور الذي كان يزرعه أبو زيد من باحثين في جامعة القاهرة، ثم رحيله من مصر شمالا، إلى أوروبا.
الرحيل إلى الشمال ربما قد عطل المعلم في خطاب نصر أبو زيد، لكن أبو زيد الباحث ظل حيا، وكانت معاناته أنه في أوروبا بجسمه وعقله، لكن الروح والهموم كانت في البلاد، فكان النهار للجامعة والليل وأحلامه لهموم الوطن. أصبح أبو زيد مركزا على الدراسات القرآنية وليس الدراسات الإسلامية بشكل عام. وبدأت رحلته لنقده لتصور المصحف على أنه نص، بالمعنى الحديث للكلمة، نص في الدراسات اللغوية الحديثة، المفهوم الذي أصل له هو ودافع عنه في كتابه «مفهوم النص» بدأ ينقده، وفي محاضرته لكرسي الحريات بالجامعة عام ألفين باللغة الإنجليزية بدأت عملية الانتقال من تصور المصحف على أنه نص إلى النظر إليه على أنه خطاب، وكان نصر متأثرا بإنجازات محمد النظرية حول «الظاهرة القرآنية»؛ إلا أنه تدارك «الترضيات» التي دائما كان يقدمها حتى لا يتصادم مع البنية الأرثوذكسية الدينية في دراساته. وفي محاضرة لنصر بدمشق في مئوية الكواكبي، ثم مداخلة في مؤتمر بباريس 2003م. تتجسد الانتقالة في محاضرته عند توليه كرسي ابن رشد بكلية الإنسانيات بجامعة أوترخت 2004م، ليتحدث عن القرآن كخطاب، ويسعى إلى نظرية تأويلية إسلامية جديدة للقرآن. وفي سنواته الخمس الأخيرة كان مشغولا بالبحث عن «رؤية العالم في القرآن». ومعظم جهوده في 15 عاما منذ رحل عن مصر حتى رحيله عنا. كانت كتاباته ومحاضراته في غالبها بالإنجليزية، وللأسف معظم باحثينا وحتى باحثي ماجستير ودكتوراه حين يدرسون خطاب نصر أبو زيد ما زالوا واقفين عند أبو زيد في منتصف التسعينيات، وعند قضية التفرقة بينه وبين زوجته، وخصوصا في «مفهوم النص»، في حين أن أفكاره تطورت إلى القرآن كخطابات، وإلى البحث عن رؤية العالم.
انتقالات نصر أبو زيد هي فعل تراكم معرفي، حركة بندول الساعة ذهابا وإيابا بين المنهج والموضوع، بين النظرية والتطبيق، بين الباحث وأدواته البحثية، بين السؤال ومحاولات الإجابة التي تولد أسئلة أخرى. إنها البحث والفكر في حالة صيرورة مستمرة، فالبحث العلمي رحلة ومشوار وليس مجرد محطة وصول، والباحث الذي يتصور أنه قد وصل وامتلك الحقيقة فقد بدأت نهايته كباحث.
الشق الآخر من السؤال هو: لماذا لم ينتبه الدارسون إلى المراحل الثلاث في تطور فكر نصر أبو زيد؟ وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر، وهو: هل هناك من درس نصر أبو زيد موضوعيا أصلا، غير أولئك الذين تمترسوا معه أو ضده، وغالبا دون أن يقرءوه، كما أشرت لذلك حضرتك مرارا، وكما حصل مع الشخصيات المشابهة غالبا؟
واقعنا الفكري بالجامعة به حالة من الرتابة، حالة من الركود، فنحن نحاول دائما مواجهة التغيرات المتسارعة في العالم حولنا بنوع من تثبيت المتغيرات، ومحافظة على العالم الذي نعرفه ونألفه خوفا من خطر المجهول. بل إن الثبات - قرين الجمود - نعلي من قيمته في حياتنا، فنحن ثقافة تعبد الأصول وتمجد الاستقرار؛ استقرار اللاحركة، كذلك باحثونا حينما يدرسون مفكرا، فهم يتعاملون معه على أنه ظاهرة ثابتة. فمن لا يدرس خطاب نصر أبو زيد في تطوره؛ فمن الصعب عليه أن يمسك بهذه الانتقالات. السبب الثاني في نظري هو أنهم يتعاملون فقط مع بعض نصوصه، بخلاف باحثة من نيوزيلاندا، في جامعة ألمانية مثلا؛ كانت تقوم بدراسة مقارنة في إحدى الجامعات الأوروبية بين فضل الرحمن ومحمد أركون ونصر أبو زيد، فأخذت عربتها «الفان» إلى هولندا لتقابل نصر، وتقضي أسبوعا تبيت في عربتها لتسجل معه حوارا على مدار الأسبوع، وتصاحبه في الجامعة لتدرس أفكاره لأطروحتها الجامعية، وعندي هذه التسجيلات، شيء بديع. وكذلك باحث من جامعة بأمريكا كان يعد رسالة له عن تصورات نصر أبو زيد عن القرآن، هو أيضا سافر من أمريكا لهولندا ليقضي عدة أيام يناقش فيها أبو زيد عن تصوراته عن وحدة القرآن. للأسف في الكتابات العربية معظم من ينطلق لدراسة خطاب تكون نقطة البداية عنده أو عندها هو قضية التفرقة بين نصر أبو زيد وزوجته والضجة حولها. وحسب موقف الشخص المسبق من القضية تتحدد طريقته في دراسة الخطاب. فإما مدافع عن نصر يبحث عن مبررات يدافع بها عنه، وإما مهاجم يبحث في نصوصه عما يؤكد الادعاءات التي اقتنع بها مسبقا. وما زلنا في انتظار باحثين لا يسعون لإصدار أحكام، بقدر ما أن يسعوا إلى فهم واستيعاب خطاب نصر أبو زيد حسب منطقه هو وتصوراته، ثم بعد ذلك يأخذون منها موقفا بعكس عملية اتخاذ موقف من الخطاب أولا ثم دراسته. وللأسف هذا ما حدث في التسعينيات أيضا؛ ففي مباراة قضية أبو زيد من يدافعون عنه لم يقرءوا مؤلفاته ومن يهاجمونه لم يقرءوا، ومن قرأ من الجانبين كان فقط ليثبت موقفه المسبق، وتداعت القبائل. - تشير، حضرتك، إلى أن أبو زيد قد تحول في أوائل العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى النظر إلى القرآن الكريم (كخطاب)، هل يمكن أن تعطينا ولو بإيجاز مفهوم نصر للقرآن كخطاب؟ - النظر للقرآن على أنه نص، والمصحف على أنه كتاب، طرح العديد من الإشكاليات، ما زال المسلمون ودارسو المصحف يتعاملون معها منذ جمعه بين دفتي كتاب. وقد حاولت في كتابي «مقدمة عن توتر القرآن» أن أطرح جوانب من هذه الإشكالات. ونصر أبو زيد ذاته وقع في هذا في دراساته القرآنية منذ رسالته للماجستير حتى نهايات التسعينيات، في النظر للمصحف على أنه نص، والتعامل معه على أنه كتاب، يجب أن يكون له مركز دلالة وبؤرة معنى، فيصبح السؤال مثلا: هل المصحف مع تنزيه الذات الإلهية أم هو مع التجسيم؟ فالمفكر الدارس للمصحف على أنه كتاب يحاول أن يجعل معنى واحدا من هذه المعاني هو المعنى المركزي ويجعل المعاني الأخرى هي الهامش؛ فعلها المعتزلة بأن جعلوا التنزيه هو المعنى المحكم، وأن كل الآيات التي تشير إلى جسم عند الحديث عن الذات الإلهية، جعلوها هي آيات متشابهة، يتم تأويلها طبقا للتنزيه. ويصبح الصراع بين المتصارعين على ما هو المعنى المركزي، وما هو المعنى الهامشي أو التاريخي المرتبط بواقعه ولا يتجاوزنه، وتاريخ تأويلات المسلمين يدور حول إيجاد حلول لما هو معنى مركزي وما هو هامشي، حتى الآن.
فنصر أبو زيد بناء على جهود محمد أركون في دراسة الظاهرة القرآنية، وجد أن النظر للقرآن على أنه نص - المفهوم الذي دافع هو عنه - هو لب الإشكال، فالنبي عليه السلام لم يخرج من الغار حاملا نصا، بل خرج ونطق بكلام. وظل تبادل هذا الكلام منطوقا حتى مع التدوين الذي وصلتنا أخباره، لم تكن وسيلة تداول لكلام الله، الكتابة كانت وسيلة تدوين لحفاظ، لكن تداول القرآن ظل شفاهيا، بل أبالغ وأقول ظل شفاهيا حتى عصرنا الحديث - لكن هذا موضوع آخر - النبي ينطق بمجموعة من الخطابات منفصلة، في أزمان مختلفة على مدار أكثر من اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر، ومات النبي عليه السلام، ولم يكن هناك مصحف واحد على وجه الأرض، حتى جمع لجنة عثمان بن عفان، نحن نتحدث عما يقرب من سبعة وثلاثين عاما . الوحي يتم تبادله بدون شكل معين لمصحف حتى جمع عثمان بن عفان، هنا بدأ التعامل مع كتاب بين دفتين له ترتيب وشكل معين.
هذه الوحدات الخطابية التي نطق بها النبي، كل وحدة منها لها سياق، وقد تم إعادة ترتيب وجمع وحدات بجوار بعضها في السور، وظللنا نتعامل معها بالترتيب الذي تم جمعها في المصحف عليه، بل تعاملنا معها آية آية من أول الفاتحة حتى سورة الناس، وهذا جهد أنا أوليه اهتماما كبيرا. لكن عودة إلى جهد أبو زيد، فمنذ منتصف التسعينيات وهو يتعامل مع هذا الجانب الحواري في المصحف، لكنه كان ما زال يتعامل معها من منطلق القرآن نصا، لكن حين بدأ ينظر للمصحف على أنه مجموعة من الخطابات تفتحت أمامه عوالم أخرى.
أعطي مثلا عاما مأخوذا عن أبو زيد ذاته حتى يقترب ما أعني، فمثلا إذا قرأت عبارة مكتوبة تقول: «قال له إزيك يا راجل.» قراءة هذه العبارة نفهم منها معنى لغويا معينا، يتسع معنى العبارة أو يضيق بسياق النص التي هي جزء منه. نفس هذه العبارة منطوقة، معناها يتوقف على «تون» النطق، وعلى «مود» الخطاب. فلو قالها غاضبا لها معنى، لو قالتها فتاة متقطعة بدلال أنثوي لها معنى مختلف. ولو قيلت بشعور خائف ... إلخ هي نفس العبارة، لكن طريقة نطقها تجعل المعنى مختلفا، وحين نكتبها تفقد كل هذا الزخم من المعاني، ويتم اختصار المعنى حين نحول المنطوق إلى نص. وبالطبع في حالة القرآن، لن نستطيع أن نصل إلى مود كيف نطق نبينا الكريم الكلمات حينما نطق بها أول مرة. لكن لو عدنا إلى العبارة التي أخذناها كمثال: «إزيك يا راجل» لو سألنا سؤالا مثل: من المخاطب وهو من المخاطب؟ فلو عرفنا أن قائل العبارة طالب في جامعة يخاطب بها أستاذا في الجامعة، تأخذ العبارة معاني مختلفة تماما. ولو عرفنا أنه قالها في قاعة محاضرات، تأخذ معنى أوسع، ولو عرفنا أنه قالها في حضور لفيف من الأساتذة ... إلخ. تحليل الخطاب يهتم بالمتكلم وبالمخاطب، ويهتم بمود الخطاب. ففي المصحف حين نسأل من المخاطب، سنجد مجموعات من المخاطبين. هناك خطاب لأهل الكتاب، وخطاب للمؤمنين، وخطاب لأهل قريش ... إلخ. فنحن نحتاج لتحليل القرآن تحليلا خطابيا، ثم بعد ذلك نحلله تحليل نصوص. وقد حاول نصر أبو زيد في محاضرات مختلفة، منها محاضرته الأخيرة بمكتبة الإسكندرية ديسمبر 2008م تقديم نماذج لذلك. وتوفي وهو يبدأ في تأويل سورة الفاتحة بالإنجليزية. - تفضلت أيضا بأن نصر في السنوات الأخيرة من عمره تحول إلى (رؤية العالم في القرآن)، فهل يمكن أن توضح لنا المقصود من هذا؟ - المصحف بترتيبه الحالي هو ليس ترتيب نزول الوحي على النبي، وأيضا المصحف بترتيبه الحالي هو الترتيب الذي أثر في فكر وحياة المسلمين عبر التاريخ، فلا يمكن إهمال أي من الترتيبين. فلو ركزنا على المصحف في ترتيب نزول الوحي فقط، سيتحول المصحف إلى مجرد شبه سرد تاريخي لسيرة النبي عليه السلام والمسلمين الأوائل وصراعاتهم مع أهل قريش وأهل الكتاب. وكان سؤال أبو زيد في سنواته الأخيرة: هل المصحف بترتيبه الحالي وراءه رؤية أو رؤى للعالم؟ فكان سعي أبو زيد بحثا في جهود السابقين من المسلمين، وهل سعوا إلى ذلك؟ وهل في دراساتهم عن القرآن توجد بذور لرؤى للعالم في القرآن؟ فنحن نعرف سعي الفقهاء لمحاولة الوصول إلى مقاصد كلية للنصوص الدينية، تكون مجردة عن الأحكام الفقهية التفصيلية. وبالفعل قدم أبو زيد محاضرة الافتتاح في مؤتمر «السياقات التاريخية للقرآن» بجامعة نوتردام بأمريكا إبريل 2009م حول الأمر، وعقب عليه المفكر الإيراني عبد الكريم سروش. - من بعيد، قد لا يبدو كتاب «أنا نصر أبو زيد» أكثر من تجميع «ميكانيكي» لمقتطفات تعبر عن سيرة موضوعة، لكن التأمل الموضوعي المنصف فيها يكشف عن شيء أبعد وأعمق بكثير، هل يمكن أن تحدثنا عن المنهج الذي اتبعته في تأليف هذا الكتاب، وعن الجهد الذي بذلته فيه؟ - كما ذكرت سابقا، هو عصارة معايشة لخطاب نصر أبو زيد لربع قرن، لكن كتابته بضمير الأنا جعل الجميع تقريبا يتصور أنها تسجيلات حوارات لي مع نصر أبو زيد، وأنا مجرد حولت المنطوق لنصوص. وهذا الفهم يسعدني ؛ لأنه يثبت أن حبكة السرد نجحت في إقناع القارئ. لكن الكتاب هو قراءة جمال عمر لخطاب نصر أبو زيد، ليس فقط في نصوص نصر المنشورة، بل في محاضراته المسجلة، وفيما نشر عنه، والحوارات الصحفية التي أجريت معه، والحوارات التليفزيونية والإذاعية عربي وإنجليزي؛ كي أمسك بتفاصيل حياته وحياة التفكير عنده، بجانب الحوارات التي أجريتها مع زوجته وأصدقاء له كنوع من البحث الاستقصائي، بجانب ما هو شخصي في علاقتي معه. فأنا لم أجلس أنا ونصر أبو زيد وحدنا في حوار
4
سوى مرة واحدة كانت في نوفمبر 2007م، ونشرت تفاصيلها في أخبار الأدب، ووضعت نصها في الحلقة 65 من الكتاب؛ لكي يستطيع القارئ المدقق في القراءة أن يدرك صوت جمال عمر، وصوت نصر أبو زيد في الكتاب. بل هناك صوت ثالث للمهتم هو صوت موضوعي يصف وقائع المحاكمات؛ لأن منها ما لم يعلمه نصر ومات ولم يعلمه، مثل موقف المرحوم شوقي ضيف مثلا داخل لجنة الترقيات، والكتاب قائم بذاته يتحدث عن نفسه. - هل رصدت الأثر الذي تركه كتابك؟ وهل وصل إلى النخب المتخصصة والأكاديمية، وتفاعلت معه سلبا أو إيجابا؟ وهل تمت ترجمة الكتاب إلى اللغات الأخرى مثلا كنوع من التفاعل معه ومع قضية موضوعه؟ - لا أظن أن «كتاب نصر أبو زيد» أخذ الذي يستحقه من التغطية، لكن في النهاية أنا شهادتي بلغة أهل القانون «مجروحة»؛ لأني صاحب مصلحة، لكن تمت تغطيات صحفية عند صدوره، لكنها للأسف دارت معظمها كما دارت قضية نصر أبو زيد في التسعينيات، في إطار سجال نصر أبو زيد وصراع التنوير والإظلام، ولم يقرأ المتصارعون من أي الطرفين خطاب نصر لا المؤيدين له ولا المعادين. لكن جاءني أستاذ من جامعة لايدن كان بالقاهرة يعمل في المخطوطات، وحضر ندوة قراءة للكتاب بالقاهرة، وكتب بالهولندية عن الكتاب، وطلب نسخة من الكتاب آخر تلامذة نصر أبو زيد الهولنديين في لايدن، حينما قرأ المقالة الهولندية.
الغريب أنني في حدود بحثي لم أر إشادة تدل على قراءة الكتاب فعلا سوى ما وجدته منقولا عن الدكتور علي مبروك بأن «الكتاب يتمتع بدرجة كبيرة من المصداقية». لماذا هذا الوضع؟ طبعا ربما يكون هناك بعض الإشارات الصحفية العابرة التي لا تدل على رؤية الكتاب فضلا عن تورقه أو قراءته بتأمل!
بالفعل علي مبروك عليه رحمة الله قرأ الكتاب، بل قرأ المخطوطة، فعلي كان ممن سجلت معهم عن علاقته بنصر في وقت إعدادي للكتاب كجزء من التقصي والتحقيق. وعقدت قراءة للكتاب حضرها مبروك، بل ودعاني لكي أحاضر طلبته في الجامعة عن نصر أبو زيد، وفكره وأجيب على أسئلتهم كجزء من تدريسه لمادة الفكر العربي الحديث. ومبروك بالفعل أدرك الجانب الإنساني من حياة نصر أبو زيد في الكتاب، بل وقال «إنه سيموت قبل جمال، وإنه متأكد أن جمال سيكتب أنا علي مبروك» عليه رحمة الله. - أستاذ جمال، حضرتك كخبير ومتخصص في منهج أبو زيد وفكره، هل يمكنك الحديث عن ملامح منهج خاص نهائي ومكتمل خاص بنصر أبو زيد؟ - هناك نظرية في التأويل تشكلت عبر مراحل دراسة نصر أبو زيد لعمليات التأويل للقرآن قديما وحديثا، وكنا سنلتقي في أكتوبر 2010م بعد عودته من إندونيسيا للعمل على كتاب يجمع الأصول النظرية التي توصل إليها هو، نحو نظرية لتأويل القرآن الكريم، لكنه آثر أن يتركنا ويرحل عن دنيانا. هذه النظرية متصلة الجذور بجهود القدماء والسابقين من معتزلة ومن بلاغيين ومتصوفة وفلاسفة وجهود الفقهاء القدماء في المقاصد الكلية. ومن المحدثين جهود الشيخ محمد عبده حول القرآن، وجهود مدرسة الشيخ أمين الخولي وتلامذته محمد أحمد خلف الله وشكري عياد، وإلى حد قليل بنت الشاطئ. كل هذا مربوط بما وصلت إليه منهجيات تحليل الخطاب وتحليل النصوص والهرمنيوطيقا والسيميولوجيا الغربية في جوانبها الإنسانية. فنصر نتاج جذور وبذور كثيرة، التراثي منها والحديث والمعاصر، الشرقي منها مثل جهود تشيكو أذوتسو في اليابان، والغربي مثل جهود جادمير وبول ريكور في الغرب، أو جهود مثل جهود أبونا متى المسكين في مصر في تعامله مع الكتاب المقدس، فنصر قد قابل أبونا متى وتناقش معه في جهوده سنة تسعين، وعندي نسخة من تسجيل الحوار.
لكن الخصيصة في تفاعل نصر أنه لم ينقل نظرية كاملة من أحد أو من اتجاه، سواء من القدماء أو المعاصرين. نصر دائما تعامله نقدي، مما يجعله يأخذ أدوات تحليل ومفاهيم ولا ينقل نظريات. وسيطول الكلام في تناول كل اتجاه ممن ذكرت، وماذا أخذ منهم وترك ولماذا؟ لكن يمكن أن أشير إلى جوانب عامة:
نصر أبو زيد ينطلق من إيمانه بأن القرآن كلام الله، أوحي به إلى النبي محمد عليه السلام، والمصحف يقول:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه . فهذه طرق ثلاثة حددها الخطاب القرآني لتواصل الله مع البشر، الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي. والخطاب القرآني يقع في الطريقة الثالثة أن الله أرسل رسولا ليوحي بكلام الله. وقد دخل المسلمون القدماء في نقاش: هل الوحي بالقرآن لفظ ومعنى أم أنها معان نزلت على قلب النبي:
فإنه نزله على قلبك بإذن الله . ونطق هو بالألفاظ؟ واختلفوا في: هل كلام الله صفة ذات مما يجعل القرآن قديما، أم أن كلام الله حادث بعد خلق الله للعالم، فيكون القرآن مخلوقا؟
أبو زيد في دراساته في السبعينيات والثمانينيات، كان ينطلق من لاهوت المعتزلة، وخصوصا مفهوم خلق القرآن الاعتزالي في مواجهة مفهوم الحنابلة حول تصورهم أن القرآن هو كلام الله القديم قدم ذات الله، وفي مواجهة التصور الأشعري حول قدم كلام الله وقدم القرآن ككلام نفسي قديم . وهو التصور الذي ساد في تصورات المسلمين عن القرآن في العقائد، فأبو زيد كان يبني على تراث الاعتزال؛ لربط القرآن بالتاريخ والزمن والبشر في القرن السابع الميلادي وتصوراتهم، وما أنتجه فكر المعتزلة من تصورات في البلاغة العربية. لكن في النهاية تصورات المعتزلة هي أيضا تصورات بنت عصرها، وهي إجابة عن تساؤلات عصورهم.
ويصبح السؤال هو: ما هي تساؤلات عصورنا نحن؟ فركز أبو زيد على مفهوم «كلام الله» وعلى مفهوم «الوحي» كصلة بين السماء والأرض. فماذا يعني حين نقول إن الله يتكلم؟ يعني أن هناك مخاطبا يوجه الله إليه هذا الخطاب عبر وسيط، ويصبح السؤال هو: هل طبيعة من يخاطبهم الخطاب الإلهي وطبيعة مستوى وعيهم وتصوراتهم عن الوجود وعن الحياة وطبيعة لغتهم ستلعب دورا في شكل ونوع الخطاب الإلهي إليهم؟ فهل يمكن أن نقول إن اللغة العربية، وطرائق العرب في الفهم هي محددات للتواصل الإلهي مع هذه الشعوب؟ بما لا يحصر معاني الخطابات القرآنية في الحجاز في القرن السابع الميلادي فقط، فكل خطاب هناك ما يجذبه للحظة ظهوره التاريخية، لكن لكل خطاب أيضا جانب متعد للحظته الأولى إلى لحظات تالية في التاريخ. فهذا الجانب الرأسي من التواصل يحتاج إلى تفاصيل كثيرة حول مفهوم الكلام ومفهوم الوحي.
الجانب الثاني هو ما يمكن أن نسميه الجانب الأفقي، المتمثل في خطابات القرآن للمجموعات التي كانت في حالة حوار مع النبي ومع ظاهرة المسلمين في لحظة الوحي. الخطاب لأهل مكة، والخطاب لأهل الكتاب، والخطاب لليهود، والخطاب للنصارى، والخطاب للمسلمين الأوائل، والخطاب للنبي وزوجاته. الشق الثاني وهو تعامل البشر منذ النبي محمد والمسلمين الأوائل حتى وقتنا مع الخطاب القرآني، وهذا التعامل ظل تعاملا على مستوى دلالات الألفاظ، واستنباط توجيهات سلوكية وضوابط من الخطاب القرآني لحياة المسلمين في الجهود الفقهية. وانتقلنا للتعامل مع القرآن على مستوى الجملة، فقهيا، وبلاغيا مثل جهود عبد القاهر الجرجاني. والمقاصد الكلية، والمتصوفة والشيعة تعاملوا مع القرآن بعلامات وإشارات ورموز بالمعنى السيميولوجي، وأنها لها ظاهر ولها باطن. ثم مع العصر الحديث دخلنا في التعامل مع أنساق أكبر من الجملة، ودخلنا في التعامل الموضوعاتي بأن نأخذ موضوعا في كل آيات القرآن كما فعلت مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم.
فمنهج نصر أبو زيد - وأنا هنا جمال عمر يقرأ خطاب نصر ويبني عليه فستجد بعض ما أخذ به من داخل خطاب أبو زيد وأمده إلى مراميه الأبعد، وليست مجرد تصورات أبو زيد وحدها؛ لأن جهود أبو زيد كانت ما زالت في التبلور حتى وفاته وحتى آخر حوار بيننا. الخطوة الأولى هي تناول الخطابات القرآنية في بنية المصحف الحالية؛ لأنها البنية التي أثرت وشكلت وعي المسلمين عبر التاريخ. كذلك التعامل مع بنية الوحي القرآني حسب ترتيب نزولها. الخطوة الثانية هي أن نبدأ بتحليل الخطابات القرآنية تحليلا خطابيا، نسأل مثلا: من المخاطب في هذه الآيات؟ ونسأل: من المتكلم؟ طبعا القرآن كله كلام الله، لكن في تحليل الخطاب نسأل عن صوت المتكلم. فالقرآن به عدة أصوات، فقد عرض كلام المشركين عن محمد، فهذا صوت المشركين ... إلخ. ونسأل عن «مود الخطاب»، فهل الخطاب هنا خطاب بشارة وتطمين أم خطاب نهى وزجر، أم خطاب وعيد وتهديد؛ فمعاني الكلمات يشكلها مود الخطاب وليس مجرد السياق اللغوي ... إلخ. ثم بعد ذلك يتم التحليل كتحليل نصي. الفارق في نظري أن المتلقي حاضر حضورا بارزا في الخطاب. أما في النص فمفهوم «القارئ الضمني» موجود لكنه ليس بنفس حضور المتلقي في الخطاب. فالمتلقي أكثر حضورا في تشكيل الخطاب، لكن طبعا كل هذا يحتاج إلى تفصيلات كثيرة ونماذج توضح المعنى. - ما الإضافة النوعية التي قدمها أبو زيد في مجال الدراسات الإسلامية والقرآنية، الإضافة، أو اللمسة الخاصة به والتي تميزه مستقبلا عند الباحثين من مدرسة الأمناء؟ - الشيخ محمد عبده في دروسه عن تفسير القرآن في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ركز على أن القرآن لم يأت ليعلمنا تاريخا أو طبا أو هندسة أو زراعة أو تجارة. هو كتاب «هدى»، وكل الكلام عن الجوانب الأخرى هي تمثيلات لتقريب المعاني للمؤمن. هذا الأساس بنى عليه الشيخ أمين الخولي. نعم مقصد القرآن هو «الهدى»، لكن قبل أن نحاول استخراج هدى، أو استخراج قيم وأحكام وأخلاق ... إلخ من القرآن، فإنه «بيان باللغة العربية»؛ فلا بد أن ندرس القرآن ككتاب العربية الأكبر دراسة بيانية أولا قبل أن نستخرج منه أي غرض آخر، وأن ندرسه بأحدث ما وصلت إليه دراستنا البلاغية من أدوات. ونتيجة لاطلاع الشيخ الخولي على الدراسات الحديثة حول الأسلوبية، حينما كان مستشارا دينيا للسفارة المصرية في إيطاليا وفي ألمانيا، وتعلمه لغات أوروبية، وكان على وعي بدراسات المستشرقين حول القرآن في النصف الأول من القرن العشرين. لكن الجانب الآخر الذي أثر في منهج الشيخ الخولي هو كونه ابن مدرسة القضاء الشرعي، فتجاوزت عنده النظرة الفقهية في تعاملها مع النصوص والنظرة القانونية بجانب دراسات البلاغة الحديثة رابطا إياها بتطور البلاغة العربية القديمة، فدعا لمناهج في التجديد للتفسير والنحو والبلاغة.
فقد تجاوز الشيخ أمين الخولي التعامل مع القرآن آية آية إلى المطالبة بجمع الآيات التي تخص موضوعا واحدا في كل القرآن، وندرسها كموضوع واحد في ترتيبها التاريخي، منطلقا من النظريات اللغوية الحديثة بمفاهيم بدايات القرن العشرين حول الأسلوب. وحين انتقل إلى الجامعة المصرية حاول أن يطبق هذا في تصوراته عن إقليمية الأدب وفي الدراسات القرآنية، فقام تلميذه محمد أحمد خلف الله بدراسة آيات الجدل في القرآن في الماجستير، ودرس في الدكتوراه الفن القصصي في القرآن، ودرس شكري عياد في الماجستير تصوير يوم الحساب في القرآن، وقدمت بنت الشاطئ فيما بعد التفسير البياني للقرآن. لكن كل هذه الجهود ظلت محصورة في حدود الإنجاز اللغوي والبلاغي في بدايات القرن العشرين من خلال الأسلوبية، ودور البيئة في تشكيل النصوص. الجانب الثاني هو وقوفها عند التعامل مع القرآن كموضوعات، وليس دراسة النص ككل في وحدته.
من هنا إضافة نصر أبو زيد، فقد طرح إعادة التفكير في ماهية القرآن التي تم قفل الحديث فيها منذ عشرة قرون، وفي التصورات اللاهوتية حول الوحي والاتصال بين الله والبشر. وأيضا نصر تواصل مع الدراسات اللغوية الحديثة، ومع علوم العلامات وعلوم تحليل النصوص وتحليل الخطابات التي لم يتعرض لها الخولي ولا تلاميذه في النصف الأول من القرن العشرين. كذلك دخلت علوم تحليل النصوص في تحليل النصوص الأدبية، لكن نصر هو الذي أدخلها وطبقها في الدراسات الإسلامية والقرآنية، وانتقل من التعامل مع القرآن كموضوعات إلى التعامل معه على مستوى النسق ككل. وهناك جهود كبيرة في غير العربية قام بها فضل الرحمن في باكستان بالإنجليزية، وشبستري وسروش في إيران بالفارسية، وجهود تنظيرية من محمد أركون بالفرنسية. ونصر قدم بعض الدراسات التطبيقية في بحثه القرآني «العالم بوصفه علامة» و «الرؤية في النص السردي العربي»، وتحليله للآيات الخاصة بحقوق المرأة تحليلا سياقيا، رغم أنه قد قدم كل ذلك في مرحلته التي كان يرى القرآن فيها نصا، لكن إجراءات التحليل فيه ما زالت قائمة وموحية، حتى تطبيقاته التي قدمها في مفهوم النص. وهو الأمر الذي يحتاج إلى باحثين جادين لرصده والبناء عليه. - ختاما، هل تعتقد أن هناك من يسير حقا على نهج نصر، أو يكمل منهجه أو يعمل على بلورته أكثر من تلامذته أو من باحثين آخرين، سواء في مصر أم خارجها؟ - للأسف، خطاب نصر أبو زيد ونتيجة للسجال في بدايات التسعينيات والقضية، أصبح خطابه يتم الدخول إليه من خلال هذا السجال، إما دفاعا عن نصر؛ فيذهب الباحث لقراءة الخطاب ليبحث عن أدوات للدفاع عنه، أو هجوما على نصر؛ فيقرأ خطابه بحثا عن أدلة الاتهام والإدانة. في الحالتين هي عملية سجال أيديولوجي، ونحن نحتاج للخروج من هذا السجال إلى دائرة الفهم والاستيعاب، وليس مجرد إصدار أحكام؛ لذلك فمدرسة نصر أبو زيد داخل جامعة القاهرة قد تم هدمها، لكن الخطاب اتسع خارج الجامعة، وتجلى ذلك في العقد الأخير. فخطاب نصر مقروء بشكل كبير زاد منها ممارسات الجماعات الدينية على الساحات العامة خلال العقد الماضي. وأيضا خطاب نصر في إندونيسيا وفي ساحات الأكاديمية الغربية حول القرآن، لكن يظل الأمر في إطار أفراد، وليس مؤسسية؛ لذلك حاولت خلال العقد الماضي توفير خطاب نصر أبو زيد وإتاحته للباحثين والدارسين في كل مكان، ليستوعبه القارئ، ثم ننقده ونبني من داخله تجاوزه، بتعبير نصر أن نصعد على أكتافه فنرى أبعد مما رأى. - ماذا عن المعهد العالمي للدراسات القرآنية الذي تحدث عنه نصر، هل رأى النور أم أن الفكرة انتهت برحيل أبو زيد؟ - وضع نصر أبو زيد بمساعدة علي مبروك وهولاند تايلور الأسس الفكرية للمعهد، وكانت زيارته إلى إندونيسيا صيف 2010م، التي مرض فيها، بداية للعمل الفعلي على الأرض. لكن رحيل نصر أبو زيد كان ضربة كبيرة للمشروع. وقد حاول علي مبروك الاستمرار في الجهد بعد رحيل أبو زيد، لكن رحيل زخم أبو زيد أثر على الروح العامة، وكذلك رحيل علي مبروك ذاته 2016م. ولا أعرف ماذا حدث منذ ذلك في الفكرة. - هل هناك طبعة كاملة لجميع كتابات ومقالات ومقابلات نصر، وإذا لم تكن موجودة، فهل هناك من ينوي القيام بمثل هذا؟ - كل ما نشر هو إعادة نشر لكتب نصر أبو زيد التي قد نشرت من قبل، تحت اسم الأعمال الكاملة، لكنها ليست الأعمال الكاملة لأبي زيد، فهناك العديد من الدراسات المهمة المنشورة والمقالات العربية التي لم يتم جمعها، بخلاف نصوص كثيرة باللغة الإنجليزية لم يتم جمعها سواء بالإنجليزية، أو ترجمتها إلى العربية. ليس عندي خبر أو علم أن هناك من يعمل على جمع هذه النصوص المهمة والعديدة في كتب.
ثبت بكتابات نصر أبو زيد
(1) 1962-1988م
أدب العمال والفلاحين، مجلة الأدب، 1962م.
أزمة الأغنية المصرية، مجلة الأدب، مج 9، ع 7 / 12 / 1964م. (كتاب) الاتجاه العقلي في التفسير «دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، الطبعة الأولى: دار التنوير بيروت، 1982م، من رسالته للماجستير 1976م.
ابن خلدون بين النظرية والتطبيق مجلة «الكاتب»، ع 195، يونيو 1977م.
الثابت والمتحول في رؤية أدونيس، فصول، مج1، أكتوبر 1980م.
الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص، فصول، مج1، ع3، إبريل 1981م. (كتاب) فلسفة التأويل «دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي»، رسالته للدكتوراه، الطبعة الأولى، دار التنوير، بيروت، 1982م. نوقشت مساء 27 رمضان 1981م. (ترجمة) هيرش اتجاهات في التقييم الأدبي، مجلة «ألف»، ع2 ، 1982م. (ترجمة) أندريه جبسون، ملاحظات عن القصة والفكاهة، مجلة «فصول»، مج2، ع2، 1982م.
الأساس الكلامي لمبحث المجاز في البلاغة العربية، نشرت بكتاب تذكاري في ذكرى مرور عام على رحيل عبد العزيز الأهواني. وأعيد نشره بكتاب نصر أبو زيد «إشكاليات القراءة وآليات التأويل»، 1982م. (ترجمة) نظرية القصة القصيرة أيكيا نوم أو هنري، مجلة «فصول»، مج3، ع3، 1983م.
مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في ضوء الأسلوبية «إشكاليات القراءة»، مجلة «فصول»، مج5، ع1، ديسمبر 1984م.
الذاكرة المفقودة والبحث عن النص «إشكاليات القراءة»، فصول، مج4، ع1، ديسمبر 1984م.
السيرة النبوية سيرة شعبية «بالإنجليزية»، مجلة «جامعة أوساكا الخارجية باليابان»، ع71، 1986م. ونشرت ترجمة بمجلة الفنون الشعبية ع33، ديسمبر1991م.
نظرية التأويل عند الغزالي «بالإنجليزية»، مجلة «جامعة أوساكا للدراسات الخارجية باليابان»، ع72، 1986م.
علم العلامات في التراث دراسة استكشافية، نشر ضمن كتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة مدخل إلى علم السيميوطيقا»، تحرير: نصر أبو زيد وسيزا قاسم، دار إلياس، القاهرة 1986م، وأعاد نصر نشر الدراسة في كتابه «إشكاليات القراءة»، 1986م. (ترجمة) «نظريات حول الدراسة السيميوطيقية للثقافات»، يوري لوتمان وآخرون، نشرت ضمن كتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة مدخل إلى علم السيميوطيقا»، 1986م. (ترجمة) «مشكلة اللقطة»، يوري لوتمان، نشرت ضمن كتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة مدخل إلى علم السيميوطيقا»، 1986م.
كتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى علم السيميوطيقا»، تحرير: نصر أبو زيد وسيزا قاسم، دار إلياس، القاهرة 1986م. وأعاد نصر نشر الدراسة في كتابه «إشكاليات القراءة». الطبعة الثانية من كتاب «أنظمة العلامات»، صدرت عن دار التنوير، 2014م بمقدمة عرض الدكتور شكري عياد، 1986م.
الفوازير وظيفتها وبناؤها اللغوي، مجلة الفنون الشعبية، عدد 18، مارس 1987م.
الإنسان الكامل في القرآن «تحليل نصي» «بالإنجليزية»، مجلة «جامعة أوساكا الخارجية باليابان»، ص111-133، ع77، 1988م.
آليات التأويل في كتاب سيبويه «إشكاليات القراءة»، مجلة «ألف»، ع8، 1988م. (2) 1989-1995م
الخطاب الديني المعاصر آلياته ومنطلقاته الفكرية «نقد الخطاب الديني»، الكتاب السنوي «قضايا فكرية»، الكتاب الثامن «الإسلام السياسي، الأسس الفكرية والأهداف»، 1989م. (ترجمة) كتاب «البوشيدو روح اليابان»، تأليف أينازو نيتوبي، مع مقدمة من نصر أبو زيد دائرة الشئون الثقافية العامة بغداد، 1990 م. وطبعة ثانية عن دار سعاد الصباح 1993م، 1990م. (كتاب) مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990م.
التراث بين التأويل والتلوين «قراءة في مشروع اليسار الإسلامي»، «نقد الخطاب الديني»، مجلة «ألف» بالجامعة، عدد 10، 1990م.
قراءة النصوص الدينية دراسة استكشافية لأنماط الدلالة، «نقد الخطاب الديني»، محاضرة ألقيت في الذكرى العاشرة لعبد العزيز الأهواني، مارس 1990م. وقد نشر بعنوان «النصوص الدينية والواقع التاريخي»، بمجلة المعهد المصري بمدريد، 1990م.
الكشف عن أقنعة الإرهاب، مجلة أدب ونقد، ع58، يونيو 1990م.
ثقافة التنمية وتنمية الثقافة «الخطاب والتأويل»، وقد حذف منها القسم، ونشرت تحت عنوان «العقل العربي بين سلطتين: الدين والسياسة»، مجلة القاهرة، ع111، 15 ديسمبر 1990م.
مفهوم النص (1) الدلالة اللغوية «النص السلطة الحقيقة»، نشر المقال مجلة «إبداع»، إبريل 1991م.
مفهوم النص (2) التأويل: مفهوم الثقافة للنصوص «النص السلطة الحقيقة»، إبداع ، مايو 1991م.
لماذا طغت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام، ضمنت أفكارها في فصلين بكتاب «النص السلطة الحقيقة» في التمهيد، وفي فصل «النص ومشكلات السياق»، مجلة «الهلال»، أكتوبر 1991م.
إعطاء العيش لخبازه، أو العودة إلى محاكم التفتيش، مجلة «أدب ونقد»، عدد 75، نوفمبر 1991م.
قراءة نقدية في كتاب «حصاد السنين وأمثلة التنوير المكبوت»، «الخطاب والتأويل»، مجلة «العربي» الكويتية، ع أكتوبر 1991م. (كتاب) إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ط1، سلسلة كتابات نقدية، عدد 10 أغسطس 1991م. (محاورة) مع الأب متى المسكين. محاورة قام بها د. جابر عصفور ود. هدى وصفي، نشرت بمجلة «ألف»، العدد 11، سنة 1991م، وأعيد نشرها في أخبار الأدب 25 يونيو 2006م. (كتاب) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، الجزء الأول من هذا الكتاب الخاص ب «أولا: الكتاب»، نشر في مجلة الاجتهاد، 1990م، ط1، دار سينا للنشر، 1992م.
الرد على «رد محمد شحرور» الذي نشر يناير 1992م، بمجلة الهلال، مارس 1992م.
محاولة قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي، مجلة الهلال، مايو 1992م.
التراث بين الاستخدام النفعي والقراءة والعلمية. تقريبا هذه المقالة ضمت إلى مقالة: «مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق» المنشور بمجلة القاهرة، ع أكتوبر 1992م، معا ليتكون منهما الفصل التمهيدي من كتاب «النص السلطة الحقيقة». مجلة أدب ونقد، ع79، مارس 1992م.
مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق، نشرت ضمن تمهيد كتاب «النص السلطة الحقيقة». وقد حذف منه جملة: «لم يتقبل أحد أن الإسلام هو سر التخلف والانحطاط»، مجلة القاهرة ع119، أكتوبر 1992م.
مركبة المجاز من يقودها وإلى أين؟ «النص السلطة الحقيقة»، مجلة «ألف»، ع12، 1992م.
قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد، مجلة أدب ونقد، ع87، نوفمبر 1992م.
ثقافة التنمية وتنمية الثقافة، كتاب «الخطاب والتأويل» بالقسم الثاني، الفصل الأول العقل العربي بين سلطتين: الدين والسياسة، مجلة القاهرة، ع111 تقريبا، 1992م.
الإسلام السياسي في المغرب نظرة محايدة، عرض كتاب فرانسوا بورجا، كان تقديما لترجمة كتاب «الإسلام السياسي في المغرب»، مجلة العربي الكويتية، ع406، سبتمبر 1992م.
كتاب «نقد الخطاب الديني»، طبع بدار الثقافة الجديدة طبعة غير مشهورة، وطبع بعد ذلك بدار سينا للطباعة والنشر، 1992م.
خطاب الإسلام السياسي والعنف المستتر «في الرد على مقال فهمي هويدي»، لم ينشر في كتاب، لكن أشير إلى مضمونه في مقالة: «أبو زيد والخطاب الديني»، جريدة الأهرام، 24 يناير 1993م.
إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني «النص السلطة الحقيقة»، تحت عنوان: النص ومشكلات السياق، مجلة القاهرة، ع122، يناير 1992م.
المرأة، البعد المفقود في الخطاب الديني المعاصر «دوائر الخوف»، نشر ضمن كتاب: المرأة في فكر الأزمة، الذي نشر بعد ذلك ضمن كتاب دوائر الخوف، بعنوان: الواقع الاجتماعي بعد مفقود في الخطاب الديني، مجلة القاهرة، ع123، فبراير 1993م.
الجامعة بين الحفاظ على الثوابت وتحقيق الإبداع «التفكير في زمن التكفير»، تحت: «عنوان الجامعة بين الإبداع والحفاظ على الثوابت»، جريدة الأهرام، 8 مارس 1993م.
من العنف المستتر إلى العنف العلني «رد على فهمي هويدي، لم ينشر في الأهرام»، مجلة القاهرة، ع إبريل، 1993م.
قراءة التراث النقدي وعدسة الناقد الحداثي، مجلة القاهرة، ع126، مايو 1993م.
ابن رشد: التأويل والتعددية «الخطاب والتأويل» بعنوان: «التعددية ودلالة الاختلاف»، مجلة العربي الكويتية، عدد 444، مايو 1993م.
أبو زيد يرد على البدراوي «التفكير في زمن التكفير»، جريدة الأخبار، 25 يونيو 1993م.
قراءة نقدية في كتاب تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها للأنصاري، مجلة العربي الكويتية، ع 415، يونيو 1993م.
الإسلام بين الفهم العلمي والاستخدام النفعي «تعقيب على ملف الأهرام» «التفكير في زمن التكفير»، جريدة الأهرام، ع 4، أغسطس 1993م.
المعقول واللامعقول في حياتنا السياسية الأحزاب والحريات والحوار، جريدة الأهالي.
اللامعقول: كيف يصير معقولا في حياتنا جريدة الأهالي، 1 سبتمبر 1993م.
زكي نجيب محمود، غربة الروح بين أهلها، مجلة المصور، 24 سبتمبر 1993م.
المعقول واللامعقول في حياتنا السياسية المصرية، جريدة الأهالي، 6 أكتوبر 1993م.
أبو زيد والخطاب الديني «التفكير في زمن التكفير»، بعنوان: «تعليق على ما حدث» و«القول المفيد في قضية أبو زيد»، «قضايا فكرية»: «الأصوليات الإسلامية»، ع13، 14، أكتوبر 1993م.
مات الرجل وبدأت محاكمته «الخطاب والتأويل»، أدب ونقد، ع أكتوبر 1993م.
قانون الأحوال الشخصية في تونس بين العلمانية المفترضة وجذور التراث الإسلامي «دوائر الخوف»، نشر ضمن كتاب «المرأة في فكر الأزمة» الذي نشر بعد ذلك ضمن كتاب «دوائر الخوف» بعنوان «الواقع الاجتماعي، بعد مفقود في الخطاب الديني» ضمن كتاب هاجر: كتاب المرأة، 1993م.
المثقف العربي والسلطة، هي مضمون محاضرة نصر بالأردن، 31 أغسطس 1993م، جريدة الحياة لندن، 17 أكتوبر 1993م.
الإسلام السياسي في المغرب، فرانسوا بورجا، وهو إعادة نشر لتقديم أبو زيد لترجمة كتاب «صوت الجنوب»، مجلة العربي، ديسمبر 1993م.
ضد الكتابة المذعنة «التفكير في زمن التكفير»، مجلة أدب ونقد، عدد ديسمبر 1993م.
الرجال والحق وما بينهما «التفكير في زمن التكفير»، جريدة الأهالي، 1 ديسمبر 1993م.
الإمام الشافعي بين البشرية والقداسة «التفكير في زمن التكفير»، وأصبحت جزءا من كل الطبعات التالية من كتاب «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، أدب ونقد، ع102، فبراير 1994م.
قضية المرأة بين الخطاب النهضة والخطاب الطائفي «دوائر الخوف» و«المرأة في فكر الأزمة»، مجلة «مواقف»، لبنان، يناير 1994م.
مشكلات البحث في التراث «التفكير في زمن التكفير»، أدب ونقد، ع103، مارس 1994م.
الإمام الشافعي بين البشرية والقداسة، إعادة نشر لوقوع جزء فيما نشر في عدد فبراير من أدب ونقد، أدب ونقد، ع104، إبريل 1994م.
مفهوم التاريخية المفترى عليه (1) «النص السلطة الحقيقة» و«التفكير في زمن التكفير»، أدب ونقد، ع105، مايو 1994م.
مفهوم التاريخية المفترى عليه (2) «النص السلطة الحقيقة» و«التفكير في زمن التكفير»، مجلة أدب ونقد، عدد 106، يونيو 1994م.
الاستقطاب الفكري بين الإسلام العصري وأسلمة العصر في مصر، «التفكير في زمن التكفير». وضمنت الفكرة في «الخطاب والتأويل» في فصل: «إشكالية التأويل عند الحركات الإسلامية المعاصرة»، مجلة الطريق، ع3، 23 مايو 1994م.
المقاصد الكلية للشريعة قراءة جديدة، «الخطاب والتأويل»، مجلة العربي الكويتية، ع426، مايو 1994م.
بلاغ إلى من يهمه الأمر، روز اليوسف، 23 مايو 1994م.
اللغة والعالم ومعضلة القرآن والتاريخ، «النص السلطة الحقيقة»، «التفكير في زمن التكفير»، مفهوم التاريخية الملتبسة، مجلة أدب ونقد، ع107، يوليو 1994م.
انتصار الجهل بملكوت الله، «التفكير في زمن التكفير»، جريدة الأهالي، ع 8، يونيو 1994م.
عصيان الدين أم عصيان الدولة، وهو عرض نقدي مهم لمسألة السنة من خلال كتاب «تدوين السنة»، مجلة الناقد، عدد 73، يوليو 1994م.
أرثوذوكسية معممة «الخطاب والتأويل»، تحت عنوان: «اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة قراءة في فكر محمد»، مجلة الناقد، عدد 74، أغسطس 1994م.
الرؤية في النص السردي العربي، «قصة يوسف وابن هشا»، مجلة فصول، مج13، ع3، 1994م.
كتاب «المرأة في خطاب الأزمة»، نشر هذا الكتاب في كتاب دوائر الخوف بعد ذلك عام 1999م، دار نصوص، 1994م.
اللغة والثقافة والمنتج الثقافي «النص السلطة الحقيقة »، و«التفكير في زمن التكفير»، التاريخية المفهوم الملتبس. مجلة أدب ونقد، ع107، سبتمبر 1994م. (حوار) مع محمود أمين العالم، مجلة العربي، الكويت، سبتمبر 1994م.
البعد المفقود في الدراسات الدينية، مجلة العربي، الكويت، أكتوبر 1994م. (كتاب) التفكير في زمن التكفير، وزعت مكونات هذا الكتاب على كتب نصر أبو زيد، كل كتاب ما يخصه، نشرت الطبعة الأولى منه دار سينا للنشر، 1994م.
العالم بوصفه علامة، «النص السلطة الحقيقة»، مجلة ألف، عدد 15، 1995م. (تحقيق) الخلافة وسلطة الأمة، «الخطاب والتأويل»، مقدمة نصر قسمت على فصلين، 1995م.
كلام ليس جديدا تماما عن الإسلام والشعر، مجلة «أدب ونقد»، ع113، يناير1995م.
الدفاع عن الشعر من أجل تأسيس علم البيان، هناك مقال نوه عنه في نهاية مقال أدب ونقد شهر فبراير، ولم ينشر ولم أحصل عليه. يرد فيه الجرجاني على من يتخذون من النصوص الدينية تكأة لتحريم الشعر، مجلة أدب ونقد، عدد 114، فبراير 1995م.
البعد المفقود في الدراسات الدينية، مجلة العربي، الكويت، ع مارس 1995م.
بحث مقاربة منهجية، رفعت السعيد وعادل حسين خطاب أو خطابا المواجهة بين رفعت السعيد وعادل حسين، كتاب الأهالي، رقم 52، عام 1995م.
تجديد الفكر الإسلامي، أسئلة واقتراحات، جريدة الحياة، لندن، 1995م.
التنوير الإسلامي جذوره وآفاقه من المعتزلة وابن رشد إلى محمد عبده، مجلة القاهرة، ع150، مايو 1995م. (كتاب) القول المفيد في قضية أبو زيد، نشر كعدد خاص بجريدة الأهالي، ط1، دار مدبولي 1996م، جريدة الأهالي، يونيو 1995م.
رد على حيثيات حكم الردة، «مأساة القراءة الحرفية للنص»، مجلة أدب ونقد، ع121، سبتمبر 1995م. (كتاب) النص السلطة الحقيقة، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت/المغرب، 1995م. (3) 1996-2000م
مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد «الخطاب والتأويل»، مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية، عدد 16، 1996م.
مشروع الإصلاح الديني بين التحدي الأوروبي والتخلف الداخلي، أدب ونقد، سبتمبر 1996م.
أنا أفكر فأنا مسلم، روز اليوسف، 12 أغسطس 1996م.
القراءة الأدبية للقرآن إشكالياتها قديما وحديثا، نشرت ترجمة إنجليزية لها بمجلة ... ع23، 2003م، 1996م.
مكوناتها تقريبا هي التي قالها في محاضرته بسوريا، في مئوية الكواكبي يونيو 2002م، ونشرت في مطبوعة المعهد الفرنسي للشرق الأوسط فرع الدراسات العربية، دمشق 2003م، ص71-106، وكانت تحت عنوان «إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا»، والتي نشرت بكتاب «التجديد والتحريم والتأويل» عام 2010م. (كتاب) القول المفيد في قضية أبو زيد، ط1، مدبولي، 1996م.
Islam and Human Rights
لم أطلع على النص الإنجليزي، وأعتقد أن ترجمته العربية هي «المسلمون والخطاب الإلهي، حقوق الإنسان بين المثال والواقع» كتاب «دوائر الخوف».
Kas Auslands-Informationen Konrad Adenauer Stiftung, 5, 1996, pp. 51-59.
The Case of Abu-Zaid Index on Censorship, London, 4, 1996, pp. 30-39.
Linguistic Exposition of God in Qur’an Evangelische Akademie, Loccum, Germany, 75/94, 1996. pp. 97-110.
من علمانية بداية القرن إلى أصولية نهايته «حرية»، لجنة الدفاع عن حرية الفكر والاعتقاد، 1997م.
الإسلام والديمقراطية والمرأة دوائر الخوف عند فاطمة المرنيسى، الخوف من التحديث والحداثة «دوائر الخوف»، مجلة نور، ع12، خريف 1997م.
The Textuality of The Koran “
in Islam and Europe in Past and Present
NIAS” (Netherlands Institute for Advanced Study in The Humanities and Social Sciences), 1997, pp. 43-52.
مرتد، كلمة لن أنساها أبدا، الأهالي، 30 يوليو 1997م.
Islam and Christianity: two different Historical Expression of the same essential Divinity, 1997.
Inquisition Trial in Egypt Human Rights in Islam 15, RIMO, Maastricht 1998, pp. 47-55.
الثقافة بين التجانس والتهجين، مجلة «سطور»، 1998م.
Book Review “Muslim, Jews and
Michael Lecker Bibliotheca Orientalis LV No. 1/2, January-April 1998, Column 275-8.
حقوق المرأة في الإسلام، دراسة في تاريخ النصوص، «دوائر الخوف»، مجلة «ألف»، عدد 1998م.
Islam, Muslims and Democracy
Religion und
, Konrad-Adenauer-Stiftung, intere Studie Nr. 151/1998, pp. 103-12.
Literature and Heresy-Literature and Justice: The Critical Potential of Enlightened religion Literatur, Menschenrechte in Islamischen Gesellschaften und Staaten, Evangelische Akademie Loccum 22/96, 1998, pp. 18-32.
The Concept of Human Rights, the
Western Domination in Politik und Gesellschaft: International Politics and Society, Herausgegeben von der Friedrich-Ebert-Stiftung, 4/1998, pp. 434-437.
إشكالية التراث: التأويل العلمي والقراءة النفعية، «الخطاب والتأويل»، تقريبا مجلة سطور، ديسمبر 1998م.
The Modernization of Islam or the Islamization of Modernity in
Cosmopolitanism, identity and Authenticity in the Middle East , ed. Roel Meijer, Curzon Press, England 1999, pp. 71-86.
اللغة - الوجود - القرآن في الفكر الصوفي، مجلة الكرمل، عدد 62، شتاء 1999م.
Book Review “Paradise Lost, Reflections on the Struggle for Authenticity in the Middle East” by C.A.O. can Nieuwenhuijze Bibliotheca Orientalis LVI No. 3/4, May-August 1999, Column 510-513.
Book Review, “Image of the Prophet Muhammad in the West, A Study of Muir, Margoliouth and Watt Bibliotheca Orientalis LVI No. 3/4, May-August 1999, Column 518-522.
ألفت الروبي وثقافة الاستبعاد، مؤامرة ضد فن القص.
Ein Leben mit dem Islam
الترجمة الذاتية بالألمانية، إعداد نافيد كرماني، دار هردر
edited by Navid Kermani, translated by Sharifa Magdi, Herder 1999 .
الفكر الإسلامي وحقوق الإنسان بين الواقع والمثال «دوائر الخوف». (هو النص العربي لدراسة إنجليزية نشرت عام 1996م) 1999م.
الرقابة وتوابعها في البحث العلمي جريدة المدى. عندي نسخة من المقال، وليس عندي متى نشرت.
Islamic Cosmology and Qur’anic Exegesis in Religion Wandel der Kosmologien, edited by Dieter Zeller, Sonderdruck 1999, pp. 217-230. (كتاب) دوائر الخوف المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء، بيروت)، 1999م.
محاضرة القرآن: التواصل بين الله والإنسان
The Qur’an: God and Man in Communication . كأستاذ كرسي بجامعة ليدن، 27 نوفمبر 2000م.
The Image of Europe in Modern Egyptian Narrative In
Colonizer and Colonized , Eds. Theo D’haen and Patricia Krüs, Rodopi, Amsterdam-Atlanta 2000, vol. 2, pp. 627-643. Book Review, “Reforming the Muslim World Bibliotheca Orientalis, LV11 No. 1/2, January-April 2000, Column 221-224.
هل هناك مفهوم للحكم والسلطة في الفكر الإسلامي؟ مجلة «الثقافة الجديدة»، العراق، عدد 295، عام 2000م. (كتاب) الخطاب والتأويل المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء، بيروت)، 2000م.
Egypt’s Intellectual Crisis: Religious censorship on literature and Academic Research, Qur’an in Muslim’s everyday life, 2000.
and Ideology, 2000. (4) 2001-2005م
The Qur’an: historicity, meaning and significance, 2001.
سقوط التنوير الحكومي، جريدة أخبار الأدب، ع397، يناير 2001م.
الفزع من الإسلام بين الحقيقة والأيديولوجيا، مؤتمر حقوق الإنسان، 19 يوليو 2001م.
The Qur’anic Concept of Justice
2001).
النقد والنقض في حرب الكراهية بين الإسلام والغرب، السفير، 13 يناير 2002م.
تجديد الخطاب الديني ملاحظات واقتراحات، «التجديد والتحريم والتأويل»، جريدة الأهرام، 24 فبراير 2002م.
Arrogance
مقالة أبو زيد الأولى في الموسوعة القرآنية بجامعة ليدن، ج1، مطبعة بريل، 2001م. (كتاب) هكذا تكلم ابن عربي، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2002م. (محاضرة) إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا «التجديد والتحريم والتأويل»، دمشق، المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، مئوية رحيل الكواكبي، مايو 2002م.
Heaven, Which way
الأهرام، ويكلي، ع603. 12-18 سبتمبر 2002م.
تجديد الخطاب الديني ملاحظات واقتراحات، «التجديد والتحريم والتأويل»، وقد نشرت ترجمة له بجريدة الأهرام، ويكلي، 12سبتمبر 2002م. جريدة الزمان، 11 نوفمبر 2002م.
الجدل اللاهوتي المسيحي الإسلامي في القرنين السابع والثامن، بالإنجليزية ، وهناك نص لها بالعربية 2002م.
تقديم أبو زيد لمؤتمر المؤسسة العربية للتحديث الفكري، نشر بعد ذلك بعامين في «الأحداث» المغربية، 8 أغسطس 2004م، 2002م.
Everyday life
مقالة أبو زيد في الموسوعة القرآنية بجامعة ليدن، ج2، مطبعة بريل، 2002م.
Illness and Health
مقالة أبو زيد في الموسوعة القرآنية بجامعة ليدن، ج2، مطبعة بريل، 2002م.
Intention
مقالة أبو زيد في الموسوعة القرآنية بجامعة ليدن، ج2، مطبعة بريل، 2002م.
تفكيك الاستبداد، هل ممكن، ليس عندي معلومة أين ومتى نشرت.
The Dilemma of the Literary Approach to the Qur’an
هي الترجمة الإنجليزية لمحاضرته بالعربية في مئوية الكواكبي التي ألقاها تحت عنوان «إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا»، وهي منشورة بكتاب «التجديد والتحريم والتأويل»، نشر في مجلة «الكرمل»، عدد 50، تحت عنوان آخر.
ALIF, Journal of Comparative Poetics, the American University Cairo (AUC), No. 23, Literature and the Sacred, 2003, pp. 47-8.
نحو منهج إسلامي جديد للتأويل، ندوة باريس، 12-13 أغسطس 2003م.
Oppression ، مقالة أبو زيد في الموسوعة القرآنية بجامعة ليدن، ج3، مطبعة بريل، 2003م.
The Islamic Concept of Utopia, 2003.
اليسار الإسلامي إطلالة عامة، معهد إبراهيم أبو اللغد للدراسات الدولية، جامعة بيرزيت، فلسطين، 95 صفحة. (تقديم) لكتاب قراءات نقدية في الفكر المعاصر لعاطف أحمد طبعة، دار مصر المحروسة، 2004م.
Rethinking the Qur’an: Towards a Humanistic Hermeneutics the Humanistic University Press Publication 2004.
محاضرة كرسي ابن رشد في أوترخت، 2004م.
Voice of an Exile (coauthor: Esther R. Nelson) Praeger Publisher, Greenwood
The Feminist Qur’anic Hermeneutics: critical view, 2004.
Islam, Muslims and the West: the Entrapped and the Entrapper, 2004.
Creating space for cultural diversity in Europe, 2004.
The Foundation of modernizing Arabic Thoughts: The Challenge and
The Arab Renaissance: the Challenge and possibilities, 2004.
Reformation of Islamic Thoughts: Shari’a, Democracy and Human Rights, 2005.
The Modern Muslim Discourse on the concept of Freedom of Religion or Belief, 2005.
The Image of the West in Modern Egyptian Narration, 2005.
The Doctrine of I’jaz and Abdel Al Qahir Al-Jurjani Poetics, 2005. (5) 2006-2012م
من النص إلى الخطاب: مؤتمر حقوق الإنسان، «التجديد والتحريم والتأويل» الإسكندرية، 18 إبريل 2006م.
العقلانية العمياء والليبرالية العرجاء، جريدة المصري اليوم، 30 يوليو 2006م.
عن لبنان والمقاومة، جريدة المصري اليوم، 7 أغسطس 2006م.
الصراع العربي الإسرائيلي، هل هو صراع ديني؟ جريدة المصري اليوم، 21 أغسطس 2006م.
أمل دنقل يغني في الجامعة، متى تستعيد الجامعة «أمل»، جريدة المصري اليوم، 28 أغسطس 2006م.
رسالة إلى عم نجيب، جريدة المصري اليوم، 1 سبتمبر 2006م.
درس نجيب محفوظ الأدب مقاومة فكرية، جريدة المصري اليوم، 12 سبتمبر 2006م.
العقلانية والليبرالية ثانيا، جريدة المصري اليوم، 19 سبتمبر 2006م.
ملاحظات حول محاضرة البابا بنديكت السادس عشر، جريدة المصري اليوم، 1 أكتوبر 2006م.
تجريف التدين وخصاء العقل (1)، جريدة المصري اليوم، 11 أكتوبر 2006م.
تجريف التدين وخصاء العقل (2)، جريدة المصري اليوم، 17 أكتوبر 2006م.
Reformation of Islamic Thought ، موقع جامعة لايدن على النت، 2006م.
increase of tensions, 2006.
The role of Islam in Secular Europe, 2006.
The Qur’an Self Image, 2006.
Text, Context and Hermeneutics: the Human dimension of Revelation, 2006.
The simple task: the complicated theory. Comment on Mohammad Shahrour project, 2006.
Islam and Human Rights, 2006.
Religion in Postmodernism Age. Religion and secularism: Reconciliation rather than confrontation, 2006.
Rationalism: its history and problems, 2007.
Islamic Sources of Toleration, 2007.
Transformation Process of Religion in Modern Times: The Case of Islam, 2007.
Toward a Humanistic Hermeneutics of the Qur’an. In a more rationalized World Order, 2007.
The Exegesis of the Qur’an in our Modern Context. From Interpretation to Hermeneutics, 2007.
Islam, Muslims and the West: Religion and Secularism. From Polarization to Negotiation, 2007.
أوراق شاهندة مقلد وأسئلة ما يحدث في مصر الآن، جريدة المصري اليوم، 2 يناير 2007م.
Liberal and/or Moderate Islam does exist, 2007.
Islam, Muslims and the present debate in the Netherlands and Europe: Terrorism, 2007.
Islam, Muslims and the present debate in Europe: the burning issue of terrorism, 2007.
2007.
Secularization and Islamic Reformation, 2007.
Rationalism: its history and problems, 2007.
Islam and Modernity, 2007.
Islam and Democracy, 2007.
Islam in Context: the Dynamic Islam and the Textual Dogmas, 2007.
The Modern Muslim Discourse on the concept of Freedom of Religion or Belief, 2007.
Being a Muslim in Diaspora, 2007.
The Qur’anic concept of “Justice”, 2007.
Textuality of the Qur’an. Some poetic aspects, 2007.
Semantic manipulation of the Qur’an, 2007.
Apologetics: a question of Interpretation or/and a Religious Doctrine, 2008.
Demythologization of the Qur’an, 2008.
Qur’anic Studies in the Contemporary World, 2008.
The dilemma of the Literary Approach of the Qur’an, 2008.
The vital Role of Qur’anic Studies in the Contemporary World, 2008.
الفزع من التأويل العصري للإسلام، «التجديد والتحريم والتأويل»، مجلة «الديمقراطية»، شتاء 2008م.
Is a Humanistic Hermeneutics of the Qur’an possible?, 2008.
Qur’anic Hermeneutics to Muslim Resistance. Three Comments on “Global Ethics” Declaration, 2008.
What is “Islamism”?, 2008.
Taliban law is not Koranic law.
John of Damascus challenge and the emergence of 'Ilm al-Kalam, 2008.
The Others: who are they and what to do with them?, 2009.
The Others in the Qur’an, 2009. Reset Doc Monday, 25 May 2009. (حوار طويل) الدراسات الإسلامية في الجامعة مجلة «ألف»، ع29، 2009م.
Contradiction or open possibilities: the structure of the Qur’an and its interpretation, 2009.
Terrorism: the Face and the Mask, 2009.
The Future of Islam: the Future of International Politics, 2009.
Transformation Process of Religion in Modern Times. The case of Islam, 2009.
من البدايات إلى تحليل الخطاب (1)، مجلة الأوان، 25 أكتوبر 2009م.
من العقل إلى النقل (2)، مجلة الأوان، 1 نوفمبر 2009م.
تعليق على ما حدث، مجلة الأوان، 21 ديسمبر 2009م.
شعار النهضة وشعارات الأزمة، مجلة الأوان، 29 ديسمبر 2009م.
يا محمد مش أنت لوحدك اللي تعبت، جريدة اليوم السابع، 30 ديسمبر 2009م.
Islam and Modernity: Islam, Muslims and the West, 2009.
The Qur’anic Foundation for Human Rights, 2009.
Enlightenment and Modernization in Islamic Thought, 2009.
The translation of the Qur’an. The classical lingo-theological roots of the debate, 2009.
The Crisis of Contemporary Islamic Discourse in the Middle East, 2009.
Religion and Modernization: The quest of Islamophobia, 2010.
علاقة المثقف والسلطة، مجلة الأوان، 3 يناير 2010م.
خواطر بين عامين، جريدة المصري اليوم، 10 يناير 2010م.
أزمة الفكر الإسلامي المعاصر (1)، جريدة الأوان، 6 إبريل 2010م.
أزمة الفكر الإسلامي المعاصر (2)، الخوف على الثوابت والقطعيات، جريدة الأوان، 13 إبريل 2010م.
أزمة الفكر الإسلامي المعاصر (3)، من الحجاب إلى النقاب، جريدة الأوان 20 إبريل 2010م.
أزمة الفكر الإسلامي المعاصر (4)، الفزع من العلمانية فصل الدين عن الدولة، جريدة الأوان، 27 إبريل 2010م.
The 'others’ in the Qur’an: A hermeneutical approach Philosophy & Social Criticism, March 2010; vol. 36, 3-4: pp. 281-294.
Islam From Phobia to understanding Revue of Casa Arabe in collaboration of Human Architecture, Journal of the Sociology of Self-Knowledge, Fall 2010. (كتاب) التجديد والتحريم والتأويل، «بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير». المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء، بيروت)، 2010م.
Religions: From Phobia to Understanding, 2010.
Islam: From Phobia to Understanding, 2010.
The Qur’an, Islam and Muhammad Reset Doc. JULY 26-AUGUST 2, 2012.
अज्ञात पृष्ठ