وكان ميدان «العتبة الخضراء» والشوارع المتفرعة منه يفصل بين الأحياء المصرية والأحياء الأجنبية في القاهرة، فما امتد منه غربا إلى النيل كان مستقر الأجانب، وما امتد شرقا متجها إلى جبل المقطم كان مستقر المصريين والشرقيين، وميدان نشاطهم؛ لذلك كان شارع «الموسكي» تختلط فيه العناصر الثلاثة: الشرقيون، والأجانب، والمصريون، يزداد الأجانب في جانبه القريب من العتبة، والمصريون في جانبه المتصل بالسكة الجديدة المؤدية إلى أحياء سيدنا الحسين والأزهر وما وراءها إلى الجبل من أحياء وطنية صميمة، وكان سكان القاهرة يومئذ لا يبلغ عددهم الثلث، بل الربع من سكانها اليوم.
كان طبيعيا - وتلك حال القاهرة في العشرة الأولى من هذا القرن - ألا ترى فيها عمارات شاهقة كالصروح التي تراها اليوم، وأن تتألف منازلها من طابقين أو ثلاثة على الأكثر، وكانت منازل الذوات وأهل اليسار أشبه بالحصون، ترتفع جدرانها الخارجية لتستر كل ما فيها وكل من فيها، ولتستر السيدات المخدرات صاحبات العصمة بنوع خاص، وبين هذه الجدران كان المنزل يتألف من «سلاملك» متصل بالباب الخارجي خاص بالرجال، ومن «حرملك» منفصل عنه هو مستقر السيدات، ويغلب أن تقوم أمام «الحرملك» حديقة صغيرة تتنسم السيدات فيها الهواء، بعيدات عن أعين الرجال.
وكان والدي من المصريين ذوي الجاه واليسار، فكان البيت الذي ولدت به ونشأت فيه من هذا الطراز الذي وصفت، وكان يقع على الميدان الذي يقوم فيه تمثال «لاظوغلي»، وكان سلاملكه يقع إلى يمين الداخل من بوابته الكبيرة، مكونا من غرفة واسعة للجلوس، ومن غرفة أصغر منها، يدخل الإنسان إليهما من بهو فسيح أمامهما، ويرتفع الكل عن الأرض بضع درجات، وكان يفصل بين «السلاملك» و«الحرملك» جدار يزيد ارتفاعه على قامة الرجل، ومن ورائه حديقة غرس فيها الجازون، وقامت على جوانبها أحواض من أشجار الورد والأزهار المختلفة، كما قامت في أحد أركانها «جبلاية» صغيرة تجري فيها المياه.
كنت إبان طفولتي أقضي معظم وقتي في هذه الحديقة ألعب مع اثنتين من بنات الجواري اللاتي يعملن في خدمة المنزل، وكانت والدتي إذا أرادت دعوتي إلى داخل الدار بعثت إلي بإحدى هاتين الطفلتين أو بجارية من الجواري، ولم تكن تناديني مخافة أن يسمع صوتها خادم من الرجال، أو أحد معارف أبي الجالسين معه في «السلاملك»، فصوت المرأة كان يومئذ عورة لا يجوز أن تداعب آذان الرجال.
وكانت والدتي من قريبات أبي، وكان أهلها من الأعيان الذين يرون تعليم البنت القراءة والكتابة أمرا نكرا، ولكنها كانت بارعة في إدارة المنزل، تحذق كل شئونه، وكانت لذلك مدبرة في غير شح، لا ترمي قرشا في غير موضعه، ولا تضن على خادم، رجلا كان أو امرأة، بما يحتاج إليه برغم أنها لم تكن ترى الخدم الرجال أو تخاطبهم.
وكانت والدتي تستقبل السيدات من صديقاتها مساء الثلاثاء من كل أسبوع، وفي هذا اليوم كان الخدم الرجال يتمتعون بإجازة من بعد الظهر، وكان والدي يغادر المنزل فلا يبقى به رجل إلا بوابنا العجوز المتهدم ليستقبل السيدات عند دخولهن من البوابة وخروجهن منها، وكنت أغتبط بمقدم يوم الثلاثاء؛ لأنه كان أشبه بأيام العيد، ولأن بعض المغنيات والراقصات من معارف والدتي كن يحضرن فيحيين هذا الاجتماع النسائي، وكنت قلما أحضر هذه الاجتماعات إلى نهايتها، فقد كانت والدتي تبعث بي إلى الحديقة ألعب فيها، أو إلى صديقة لي من الأطفال كان منزل أهلها قريبا منا؛ لأن هذه الاجتماعات النسائية كان يدور فيها من الحديث ما لا يجوز أن يسمعه الأطفال، ذلك ما تيقنته من بعد حين كبرت، وحين عرفت ما تتبادله النساء من أحاديث تافهة، أساسها الغيبة التي لا تخلو من قصص يألفها النساء، ويرين عيبا أن يسمعها الأطفال، أو يسمعها الفتيان.
وكنت أغتبط بالذهاب إلى منزل صديقتي الصغيرة التي تجاورنا؛ لأن والدها كان رجلا رقيقا غاية الرقة، وكان يحبها أعظم الحب، وكان يحبني لأنني صديقتها، وكان ينتظرني يوم الثلاثاء وقد أعد لي هدية من اللعب التي يغتبط بها أمثالي، فكنت لتوقعي الهدية أسارع إلى تلبية والدتي، والذهاب مع خادم من الجواري أقضي مع صديقتي ووالدها سويعات هنيئة سعيدة.
ولما بلغت السابعة بعث بي والدي إلى المدرسة السنية، ولم يكن بينها وبين دارنا ما يدعو إلى ركوب عربتنا؛ لذلك كنت أذهب مع البواب العجوز كل صباح، وأعود معه كل مساء، ومعي كتبي وكراساتي، وكان معلم القرآن والديانة والخط العربي يشغل معظم حصص الدروس معنا، فكنا نراه ثلاث ساعات كل يوم على الأقل، وكان شيخا رقيقا شديد اللطف بنا، يعاملنا معاملة الأب لبناته، فكنا نحبه ونسر بمقدمه، وكنا لذلك نحفظ الدروس التي يلقيها علينا ونحن مغتبطات أشد الاغتباط، ولهذا حفظت من القرآن جزء «عم» في السنة الأولى، وجزء «تبارك» في السنة الثانية، وكنت أشعر بالمسرة حين أتلو منهما أمام والدي ما يزيدهما عطفا علي، واغتباطا بنباهتي، وازداد عطفهما علي وضوحا حين رأياني منذ تخطيت الثامنة من سني لا أترك فرضا إلا صليته لوقته، فكنت أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة، وأصلي الظهر في مصلى المدرسة، وأصلي بقية الفروض لأوقاتها بالمنزل. ولم يكن العطف علي هو وحده مظهر تقدير أبي لهذا الصلاح وهذه التقوى، فقد جاء يوما إلى المدرسة وطلبني، وطلب الشيخ معلم القرآن والديانة والخط، وشكره أمام ناظرة المدرسة - وكانت إنجليزية - على عنايته بتقويم أخلاق التلميذات عن طريق الدين وفرائضه.
ومنذ بدأت السنة الدراسية الثانية بدأنا نتعلم اللغة الإنجليزية، وفي السنة الثالثة كنا ندرس التاريخ والجغرافيا، تاريخ مصر وجغرافيتها باللغة الإنجليزية، ولذلك أسرعنا إلى التقدم فيها، وأمكننا أن نتكلم بها. •••
كان لأبي على حدود مديريتي القليوبية والشرقية عزبة كنا نقضي بها جانبا من الصيف في كل عام، وكانت والدتي تغتبط أشد الاغتباط بهذه الفترة التي نقضيها في الريف، فقد كان حول منزلنا حديقة فسيحة فيها أزهار وفواكه، وكان كثيرون من أهلنا الأعيان يترددون علينا هناك، فيجدون من والدي مودة ولطفا، وتجد والدتي في أحاديث قريباتنا الريفيات عن الزراعة وأحوالها لونا من الحياة غير الذي ألفته في العاصمة، فتتسلى بهاتيك القريبات الودودات وبقصصهن، وكنت أنا أجد في الحديقة وفي الحقول القريبة ما يبعث إلى نفسي المسرة، فلما بلغت الثالثة عشرة من عمري ذكرت لي والدتي أن التقاليد تمنع خروجي نهارا إلى ما وراء أسوار الحديقة، وتمنع نزولي بها ساعة وجود العمال من الرجال فيها، عند ذلك شعرت بأنني بدأت أدخل ميدانا جديدا من ميادين الحياة، وأنني موشكة متى عدت إلى القاهرة أن ألبس ملابس النساء: الحبرة والبرقع، وألا أخرج إلى الطريق وحدي.
अज्ञात पृष्ठ