وجرى ولداي مع المربية إلى الناحية الأخرى من الباخرة حيث السلم ليتمكنا من رؤية أبيهما حين انصرافه، ومكثت أنتظر عودتهما، لكنهما طال غيابهما؛ لأن أباهما وقف يشير إليهما ويناديهما، ويلوح بمنديله الأبيض حتى تحركت الباخرة واستدارت نحو مدخل الميناء إلى فسحة البحر، عند ذلك عادا فقبلتهما وقلبي يدق، وكأنما يقول في دقاته: تستطيعين أن تنفصلي عن هذا الرجل بجسدك، لكنك لن تستطيعي أن تفصلي حياتك عن حياته، وهذان الطفلان يربطان بينكما بأوثق رباط!
وتخطت الباخرة الميناء إلى البحر، وأطلقت لمحركاتها العنان، وأخذت الإسكندرية تتوارى شيئا فشيئا في حجاب الأفق، فلما لم يبق أمام ناظري إلا السماء والماء تمطيت على مقعد طويل، وحاولت أن أخلي خاطري من كل شيء، وأن أدع نفسي تموج مع نسيم البحر العليل في عوالم مبهمة لا يشغل الخيال ولا الذهن شيء مما فيها، وإنني لكذلك إذ مرت صديقتي مستندة إلى ذراع أحد المسافرين وهي ترسل الحين بعد الحين ضحكات ناعمة تشهد بما يملأ قلبها من مرح ومسرة، قلت في نفسي: «ما أسعد هذه الأرملة الطروب بالحياة اليوم! وهي هي التي كانت من سنوات مضت صورة ناطقة لمعاني الهم والشجن، وهمها وشجنها بالأمس هما مصدر مرحها وسعادتها اليوم، فلولاهما ما بذل صديقنا وزوجي ما بذلا من عناية حتى استخلصا ميراثها وميراث أبنائها، وأتاحا لها هذه الحياة الناعمة التي تحياها، ولما شغل صديقنا، ولما شغل زوجي بها إلى اليوم. وهكذا الحياة، مجموعة من المتناقضات يسعد بها قوم ويشقى آخرون: صحة ومرض، فقر وغنى، شقاء وسعادة، وهذه المتناقضات تتداولنا دراكا فنسعد ثم نشقى، ونشقى ثم نسعد، ويتوالى ذلك علينا حتى يدركنا الأجل المحتوم!
لست أدري لم أثار مرور صديقتي هذه المعاني الفلسفية في نفسي، وجعلني أفكر في ضعف الإنسان أمام الحياة حتى لتزعجه أتفه الأشياء كما تسعده أتفهها، قد يكون موج البحر الممتد أمام النظر إلى مدى الأفق، والذي يستر في طياته من الغيب ما لا أعلم، هو الذي أثارها، وقد يكون هواء هذه الساعة برقته وما يهيئ للنفس من استرخاء وسكينة هو مبعثها، على أية حال فقد بقيت بعدها كأنني في حلم متمطية على مقعدي، أفتح عيني وأغمضهما كما أهوى، وأشعر بنوع من تخدير الأعصاب الذي يسبق النوم.
فلما حان موعد العشاء وحان للناس أن يبدلوا ملابسهم ارتديت للسهرة ثوبا بسيطا، ثم صعدت إلى سطح الباخرة تلمع عليه أضواء الكهرباء، وبينما أسير ذهابا وجيئة مرت بي صديقتي من جديد، وقد ارتدت للسهرة ثوبا بارع الجمال، وقد تزينت زينة كلها الإغراء، وقد أمست بجمالها وزينتها وثوبها تلفت نظر كل رجل وكل امرأة مرت به أو مر بها، ونظرت إليها إذ ذاك، وأطلت النظر، وذكرت كلماتها الأخيرة لزوجي: «أرجو أن أراك حين عودتي مستريح البال موفور العافية.»
وتناولنا طعام العشاء، ثم أديرت بعده حفلة رقص شهدتها إلى منتصف الليل، وقد رقصت صديقتي مع كثيرين كانوا يستبقون إليها ويطلبونها للرقص معهم، وكانت لا تأبى أن تلبي من يتقدم إليها لتراقصه، ثم كان جمالها وكانت زينتها حديث الرجال جميعا، وكان مرحها وكانت ابتسامتها أشد إثارة لإعجابهم من ثوبها ومن زينتها، وقد خيل إلي ساعة غادرت هذه الحفلة إلى مخدعي أن الرجال جميعا جنوا بها جنونا، وأنهم لن يدعوا الحفلة تنتهي حتى مطلع الفجر!
وخلعت ثيابي، وارتديت ملابس النوم، واستلقيت في سريري وصورة صديقتي - وهي موضع الإعجاب، بل موضع التقديس عند الجميع - لا تبرح خيالي، وأغمضت عيني أحاول النوم، فإذا هذه الصورة تتوارى لتحل محلها صورة صديقتي يوم التقينا بالأقصر بعد عام من وفاة زوجها، لم تكن يومئذ الأرملة الطروب التي يراها الرجال اليوم ويعجبون بها، بل كانت سيدة بادية الحشمة، تؤمن بجمالها من غير أن تعرضه نزهة للناظرين، بل كانت تبدو وكأنها تستحيي منه، وتود لو تستطيع أن تواريه عن الأعين، يومئذ كنت أجلس إليها وأراها شابة جميلة ساذجة لا تجيد أن تتكلم، ولا تجيد إلا أن تنظر بعينيها الساحرتين إلى من يجالسها ومن يمر بها، ويومئذ لم أر بأسا بأن يهتم صديقنا بأمرها، وأن يعنى زوجي بشئونها وشئون أبنائها، أما منذ خلص لها ولأبنائها ميراثهم وحسبت أنها اطمأنت إلى الحياة، تبدلت حالها غير الحال، وأصبحت امرأة وقاحا لا تطاق، ظنت أنها تستطيع أن تنافسني في سلاسة العبارة وجمال اللفظ، وأنها تستطيع أن تسحر بهما الناس فوق سحرها إياهم ببارع جمالها وساحر فتنتها، وقد بلغت من ذلك أن فكر صديقنا في أن يتزوجها، وأن قبضت على ناصية زوجي، واستبقت مودته.
وكانت صورتها تتبدل أمام بصيرتي وأنا مستلقية في مرقدي، كلما تصورت حالا من أحوالها التي أثارتني بها وانتهت إلى القطيعة بيني وبينها، وكنت أزداد حنقا على هذه الصور وعلى صاحبتها كلما هفا إلى مسمعي صوت موسيقى الرقص آتيا من ناحية بهو الباخرة، وهي الليلة في ذروة مجدها وانتصارها.
وأصبحت فتناولت فطوري في غرفة الطعام، وصعدت إلى ظهر الباخرة، ووقفت أستنشق هواء البحر لعله يذهب عني جهد الأرق الذي لازمني معظم ليلتي، وبعد قليل وقفت إلى سيدة حيتني بالفرنسية، ثم أخذنا نتبادل الحديث المألوف في مثل هذه الأسفار عن الجو والبحر، والرجاء أن يظل هادئا إلى نهاية السفرة ، وإنا لفي حديثنا إذ مرت صديقتي مشرقة الوجه باسمة الثغر كأنها نامت كل ليلتها، وسعدت بأجمل أحلامها، وكأنها لم ترقص إلى قرابة الصبح، ونظرت إلي ساعة مرت بنا نظرة تعال وكبرياء وكأنها تقول لي: «أرأيتني ليلة أمس، وهلا تزال الغيرة تأكل صدرك مني ولا تفتئين تطمعين في منافستي؟ إن يكن ذلك فهذا البحر أمامك فاشربي منه، أو ألقي نفسك بين أحضانه لتتخلصي من غيرتك ويأسك.»
وسألتني محدثتي، وكنت قد علمت منها أنها فرنسية، أأعرف هذه السيدة الجميلة؟ قلت: نعم، أعرفها، وإن لم نكن أصدقاء، وهي كثيرة المعارف والأصدقاء، وأصحابها في مصر يسمونها «الأرملة الطروب»، ففيها خفة تقارب الطيش، وتذكرت وأنا أتكلم أن صديقتي مصرية، ويجب لذلك ألا أجرحها، فاستطردت في كلامي: «لكن أصدقاءها يذكرون أنها طيبة القلب، وأن خفتها ومرحها لا يتعديان المجتمع إلى حياتها الخاصة، أما معرفتي بها فقليلة، وليس من حقي أن أحكم لها أو عليها.»
وعلقت محدثتي الفرنسية على كلامي فقالت: «أنت على حق يا سيدتي، فأنا أعرف في باريس نفسها سيدات اشتهرن بالخلاعة، وهن مع ذلك مثال الشرف والسمو عن الابتذال، وتقولين أنت الآن إن أصدقاء هذه السيدة المصرية يقولون ذلك عنها، ولا أحسبني في ريب من ذلك بعد الذي رأيته أمس، لقد تركتنا أمس منتصف الليل والسهرة لم يحم وطيسها، ولو أنك بقيت إلى نهايتها لرأيت عجبا، شرب بعض الشبان حتى ثملوا، وعرضوا على هذه السيدة أن تشرب ولو قليلا من الشمبانيا فأبت إباء مطلقا، معتذرة بأنها لم تشرب في حياتها، وأن دينها يحرم عليها الشراب، وألقى هؤلاء الشبان الثملون أنفسهم على أقدامها، وزعم أحدهم أنه شاعر إنجليزي، وألقى مقطوعة ادعى أنه نظمها لساعته من وحي عينيها الساحرتين، وذهب آخر إلى غرفة الطعام وجاء بما فيها من الأزهار ونثرها عليها، ولم يكن القبطان أقل الحاضرين افتتانا بها، فقد عرض عليها وهو في نشوة شرابه إن لم تكن تعجبها قمرتها، أن تأخذ قمرته وصالونه، وضحكت هي لهذا العرض، وقالت إنها ستفكر فيه متى أصبحت وأصبح القبطان ، والحق أشهد أنها كانت برغم مرحها وطربها شديدة الاعتزاز بنفسها وبكرامتها، وإن لم تكن أقل من ذلك اعتزازا بجمالها وبسحرها»، وسكتت محدثتي قليلا، ثم قالت: «ألا ليتك تستطيعين يا سيدتي أن تحدثي التعارف بيني وبينها.»
अज्ञात पृष्ठ