كانت والدتي تذكر للأطباء الثلاثة، في أثناء الفحص، ما ينتابها الوقت بعد الوقت من آلام مبرحة، وتنظر إليهم نظرة رجاء واستعطاف لعلهم يخففون آلامها ويبرئونها من علتها، وكان الأطباء ينظر بعضهم إلى بعض لدى سماع حديثها، ثم يقول كبيرهم العبارات المطمئنة المألوفة، وكأنه يتلو وردا من الأوراد أو دعاء من الأدعية التي تتلوها عمتي الحاجة، فلا يفر ثغره عن ابتسامة، ولا يلمع في عينيه معنى الرجاء الذي طمعت والدتي في أن ترى بريقه، فلما انصرفوا وودعهم والدي وعاد إلى غرفة المريضة نظرت إليه نظرة استفهام، فقال: إنهم يستحسنون نقلك إلى المستشفى زيادة في العناية بك، وأجابته والدتي منزعجة: المستشفى؟! كلا، كل شيء إلا المستشفى، وإذا كان قد كتب لي أن أموت، فخير لي أن أموت على فراشي هذا، أما إن كان الله قد كتب لي الشفاء، فلن يكون في المستشفى شفائي.
ولبست حبرتي وبرقعي وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي.
ورأيت في عينيها دمعة تترقرق، فأخذ والدي يسكن من روعها، ويذكر لها أنه كان على يقين من أنها لن تقبل الذهاب إلى المستشفى، وأنه ذكر ذلك للأطباء، ولقد رأى أن يعيد على مسمعها ما قالوا، وأنهم يرون الخير في أن تكون في عناية ممرضة ورقابة طبيب، ثم إن والدي أضاف: وقد ذكرت لهم أننا نستطيع أن ندعو الممرضة لتكون إلى جانبك هنا، وأن طبيبك يستطيع أن يعودك كل يوم في الصباح وفي المساء.
وجف الدمع في عين والدتي، ونظرت إلى والدي نظرة عرفان، وبدت على ثغرها المتألم شبه ابتسامة، لكنها قالت: لا ضرورة لممرضة، فأنا لا أريد أن تطلع أجنبية على دخائل بيتنا، وإذا أمكن أن تحضر عمتي الحاجة إلى هنا ففيها البركة، وفي يدها الشفاء.
وكانت والدتي تحب عمتي حقا، وتبادلها عمتي هذا الحب الصادق، وقد رأيتها تحضر صبح الغد من هذا الحديث، وتدخل على والدتي تقبلها وتكرر لها الدعوات بالشفاء، وفي لحظات خلعت ملابس السفر، وجاءت وعلى رأسها طرحتها البيضاء، وجلست إلى جانب والدتي، وأخذت تتلو من الأدعية ما اطمأنت له المريضة وشعرت لسماعه براحة نفسية، لعل سببها أنه أزال ما تبدى لناظرها من شبح المستشفى ومنظر الممرضة.
وقد قامت عمتي بمهمة التمريض بإخلاص وإتقان، لما بينها وبين والدتي من الود الصادق والمحبة الخالصة، فلم تكن المريضة ترغب في شيء إلا سبقت إلى تنفيذ إرادتها بهمة لا تعرف الكلال، وكم من ليلة باتت إلى جانبها ساهرة تقص عليها من أخبار القرية أو من أخبار الحجاز ما تتسلى به المريضة عن آلام كانت مبرحة في بعض الأحيان، وكثيرا ما سمعت العمة العزيزة تمنيها بعد أن يمن الله عليها بالشفاء أن تؤدي فريضة الحج، وتزور القبر النبوي وتتمتع بلمس شباكه ولثمه، ووالدتي تسمع لذلك فيعاود نظراتها أمل يرد إليها الحياة بعد ذبولها، ولا أحسب ممرضة كانت تستطيع - وإن بلغت من الدقة في عملها أعظم مبلغ - أن تخدم المريضة بخير مما كانت تخدمها الصديقة الوفية الصادقة الود.
وكان الطبيب يعود والدتي كل يوم، بل كان يعودها مرتين أحيانا، وكان والدي يقف إلى جانبه في أثناء هذه العيادة، فإذا فرغ منها وطمأن المريضة بأن صحتها في تقدم، خرج مع والدي ووقفا برهة يتحدثان، وقد لاحظت غيرة مرة أن أسارير والدي خلال هذا الحديث كانت أدنى إلى الانقباض، وأنه كان يودع الطبيب إلى الباب، ثم لا يعود إلا بعد زمن لعله كان يحاول فيه أن يدخل غرفة المريضة بوجه تبدو عليه ملامح الطمأنينة، ولا ينم عن شيء من اليأس والألم!
ولم يكن شيء يبعث الطمأنينة إلى نفس والدتي ما تبعثها إليها صلوات عمتي الحاجة ودعواتها الصادرة من القلب، فقد كانت تؤدي الفرائض لأوقاتها على مقربة من سرير والدتي، وكنت كثيرا ما أأتم بها، فإذا ما قضيت الصلاة رفعت كفيها ضارعة إلى الله أن يشفي المريضة لتتمتع بشبابها وتفرح بابنتها، وكانت نجواها في أثناء هذه الدعوات تخالطها حرارة الإيمان الصادق والرجاء العميق في وجه الله أن يستجيب لها.
برغم هذه الدعوات، وبرغم العناية الصادقة، شعرت والدتي في إحدى الليالي بألم ممض لا قبل لها به، وأسرعت عمتي فأيقظت أخاها من نومه، وجاء والدي مسرعا يحسب أنه يستطيع أن يخفف من هذا الألم بما يضفيه على زوجه من محبة وعطف وحنان، لكن الألم قد بلغ بالمريضة، فكانت تتأوه وترسل من أعماق صدرها أنات تذيب الجماد. وأسرع والدي إلى الطبيب في منزله، فكان كل ما استطاعه أن حقن المريضة بالمورفين تسكينا لحدة الألم، وأن أشار بضرورة استدعاء زميليه اللذين شاركاه في «الكونسلتو» وفي تقرير العلاج. وهدأت حقنة المورفين من شدة الألم، وأغمضت والدتي عينيها في غفوة ذكرت لي عمتي من بعد أنهم كانوا يرجون أن تنام بعدها نوما هادئا، لكن الصباح تنفس عن معاودة الألم للمريضة، ولما جاء الأطباء وفحصوا المريضة كانت سيماهم تنطق بمعاني اليأس، ولا يبدو في نظرات بعضهم لبعض شيء من الأمل أو الرجاء، وكتبوا تذكرة دواء جديدة، وودعهم والدي منصرفين.
أفأستطيع اليوم أن أصف حالي في أثناء مرض والدتي؟ لقد انقضى الآن على ذلك الزمن ما يزيد على ثلاثين سنة، ولا أزال مع هذا أذكر كيف كنت في ذلك الظرف القاسي أدور في أنحاء الدار، كأني الروح الحائر لا يعرف لنفسه مستقرا، ثم أرتد إلى غرفة المريضة فإذا سمعتها تتأوه أو تئن اضطرب قلبي في صدري، وشعرت بالألم يحز في كبدي، فارتسم ذلك على قسمات وجهي، ثم لم يغنني ما كان يسبغه والدي علي من عظيم عطفه وسابغ حنانه، بل لقد كنت أشعر حين يزيد به الحنان عن مألوف عطفه، كأنني أصبحت يتيمة الأم، وكأنه يريد أن يكون أبي وأمي في وقت واحد، وكانت عمتي تحاول جاهدة أن تقنعني أن والدتي ولله ألف حمد وشكر تتقدم نحو العافية، وتذكر لي أنها رأت رؤيا تفسيرها أن المريضة ستعود إلى مثل صحتها في خير أيام عافيتها، وأن رؤياها لا تكذب أبدا، فأطمئن لحديثها بعض الشيء، ثم لا ألبث حين أسمع أنات الألم تكظمها المريضة جهدها، كلما رأتني مقبلة عليها، أن تذهب طمأنينتي وأشعر في دخيلة نفسي وأعماق وجداني بأنني مقبلة على أمر جلل، فتزداد روحي حيرة، ويزيدني الحنان والعطف الأبوي وحشة على وحشة.
अज्ञात पृष्ठ