تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر1
الفصل الحادي عشر
خاتمة
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر1
الفصل الحادي عشر
خاتمة
هكذا خلقت
هكذا خلقت
قصة طويلة
تأليف
محمد حسين هيكل
تقديم
كانت أسرتي في المصيف، وكنت أتردد بين المصيف والقاهرة لبعض شئوني، وقد اعتدت في ذلك العهد أن أنزل فندق «مينا هاوس»، أستمتع من نوافذه بمنظر الهرم والصحراء، ذلك المنظر البديع في كل حين، وهو الروعة والسحر في الليالي القمرية، ويزيده سحرا ما يسري إلى نفسك معه من نسيم عذب ينسيك قيظ النهار، ويبتعث خيالك إلى تصور القرون الخالية، حين كان أجدادنا يشيدون هذه الأهرام الضخمة، لتكون مقرا للفرعون الذي أمر بتشييدها، سكنا له في حياته الآخرة.
وكنت أستيقظ بكرة الصبح فأنزل إلى حديقة الفندق أجوس خلالها، ثم أتناول طعام فطوري تحت شجرة من أشجارها الباسقة، وكثيرا ما كنت أقضي في هذه الحديقة سويعات الغروب، ولم يكن نادرا أن ألقى بعض الأصدقاء الذين يجيئون إليها من العاصمة يبتغون في رقة نسيمها وبعدها عن ضجة المدينة ما يعوضهم عن جهد نهارهم وقيظه.
وإنني يوما لجالس قبل الغروب، أتوقع أن أرى بعض هؤلاء الأصدقاء؛ إذ رأيت فتاة شابة تقبل علي متأبطة حافظة أوراقها، ثم تقف عندي وتسلم علي باسمي، ولم يدهشني أن عرفتني وأنا لا أعرفها، فكثيرا ما يقع ذلك لي ولأمثالي، وكثيرا ما يقدم إلي بعض الشبان والشابات كراسات صغيرة، ويطلبون أن أوقع باسمي على صفحة من صفحاتها، أو أن أكتب فيها عبارة ما.
ولقد خيل إلي أن هذه الفتاة تقبل علي لمثل هذا الأمر، وأنها ستخرج من حافظة أوراقها كراستها، وتطلب إلي أن أوقع باسمي عليها، أو أكتب لها عبارة تعتز بها بين صديقاتها، لكنها لم تفعل من ذلك شيئا، بل رأيتها ما لبثت حين وقفت أمامي أن استأذنت في الجلوس، فلما هممت بعد جلوسها أن أدعو الخادم ليقدم لها ما تطلب اعتذرت وشكرت وقالت إنها لا تريد شيئا، ولكنها قدمت في مهمة كلفت بها، وكل الذي ترجوني فيه ألا أسألها عن شخصيتها، ولا عمن كلفها هذه المهمة.
وبعد هنيهة فتحت حافظة أوراقها، وأخرجت منها ملفا أنيقا، وقالت: هذه يا سيدي قصة كتبتها صاحبتها، ورغبت إلي في أن أضعها بين يديك، وقد تركت لك الحرية المطلقة في شأنها، لك أن تقرأها أو تهملها، فإذا تفضلت وأضعت وقتك في قراءتها، فلك أن تلقي بها في النار، أو تحتفظ بها بين المهملات من أوراقك، ولك إن شئت أن تنشرها على الناس، فإذا كان لها من الحظ أن راقتك فنشرتها، فستكون هي إحدى قارئاتها، ولن تعرف أنت ولن يعرف غيرك عن صاحبتها شيئا. هذه يا سيدي رسالتي، وهذه هي القصة في ملفها، أدعها بين يديك، وأستأذنك في الانصراف.
تولتني الدهشة لهذه المفاجأة، فحدقت بالفتاة الشابة وقلت: قد أفهم أن تحرص صاحبة القصة على ألا أعرف أنا أو يعرف غيري من هي، وأن يدفعها هذا الحرص على أن تجعل منك رسولا يحمل إلي قصتها، لكنني لا أفهم سببا يدعوك أنت لإخفاء اسمك وكل ما يتعلق بشخصك، إلا أن تكوني أنت صاحبة القصة!
قالت: كلا يا سيدي، لست أنا صاحبة القصة، ولا كاتبتها، وسترى حين تتلوها أنها قصة سيدة في سن والدتي، إن لم تزد على ذلك.
قلت: فما يمنعك إذن من أن تذكري لي اسمك؟ إنك شابة رقيقة يلمع في عينيك الجميلتين ذكاء، قل أن تعبر عينا أنثى عن مثله، ولعلي إن سعدت بمعرفتك أن أكون أكثر سعادة بمعرفة من تمتين إليهم بصلة ممن تربطني بهم صداقة أو معرفة.
قالت: ذلك أدعى ألا تعرف عني شيئا، وقد استحلفتني صاحبة القصة ألا أذكر لك شيئا عن شخصي، وقطعت لها العهد والميثاق أن أكون عند رغبتها، وأحسبك يا سيدي تشجعني على أن أحفظ عهدي، وتسمح لي بالانصراف.
قالت ذلك وهمت بالوقوف، وأيقنت أن ما أبذل من جهد لمعرفة اسمها أو شخصيتها سيذهب سدى، فوقفت وودعتها قائلا: لعلي أراك من بعد.
وأجابت: علم ذلك عند ربي. وانفلتت في رشاقة، وسرعان ما اختفت عن ناظري، تاركة لي هذا الملف الأنيق الذي أخرجته من حافظة أوراقها، وكان الملف مربوطا بشريط من الحرير الأزرق زرقة السماء، فككت رباطه، وأجلت بصري في صحف القصة الأولى، ثم إنني تخطيت هذه الصحف إلى فصل يتوسط القصة، فإذا هو يثير طلعتي، بل يثير دهشتي، وتكاد تهتز لقراءته أعصابي، عند ذلك آثرت أن أصعد إلى غرفتي، وأن أبدأ قراءة القصة من أولها، وفعلت، وإنني لأتابع القراءة إذ دق الخادم باب الغرفة، وقال: ألا ينزل سيدي ليتناول عشاءه، فقد جاوزت الساعة التاسعة؟!
وأجبته: بل أوثر الليلة أن أتناول طعاما خفيفا، فأحضر لي ها هنا خبزا وجبنا، وأكثر من الفاكهة.
وخرج الخادم يعد ما طلبت، وعدت أنا أتابع قراءة القصة، وكنت كلما انتقلت فيها من فصل إلى فصل تولتني الدهشة، فصاحبتها تروي حكاية حياتها في بساطة ويسر، يكاد يخيل إليك معهما أنها حياة عادية لأية امرأة تعرفها، ولكنك تقف بعد قليل دهشا تتساءل: ما هذه المرأة؟ ومن هي؟ إنها فريدة في طرازها، بل هي نسيج وحدها، إنها تحب الحياة، ولا تريد مع ذلك أن تسلم للحياة أمرها، بل تريد أن تصوغ الحياة كما تشاء هي، فإذا صدمها الواقع لم تذعن لصدمته، بل حاولت أن تواجهه في كبرياء المعتز بنفسه، المؤمن بقوته، لتبلغ آخر الأمر إلى الإسلام للحياة ومقاديرها، وللطبيعة وحكمها.
والعجيب في أمر هذه البطلة أنها لم تقف إزاء معركة من المعارك الكثيرة التي خاضتها لتحلل نفسيتها ولتجاهد كي تصلح ما يكاد الدهر يفسده، بل هي تنتقل في قصصها من معركة إلى معركة، وقد كان في مقدورها أن تجد في حمى السلام ملجأ يجنبها هذا النضال، ويظلها بوارف من الطمأنينة بل السعادة، لكنها لم تكن تعرف للطمأنينة معنى، ولم تكن تفهم السعادة إلا أن تكون هي المتحكمة في أقدارها وأقدار غيرها، فلما طال بها أمد النضال، وشعرت أنها أصبحت كالكرة تتقاذفها الأهواء التي ابتدعتها هي من صنع يدها، لجأت إلى الحصن الذي يلجأ إليه كل من عبثت به أنواء الحياة، لكنها ما لبثت أن اضطرت للخروج من هذا الحصن لتذعن آخر الأمر لحكم القضاء، ولسلطان الطبيعة.
لم أنم تلك الليلة حتى فرغت من قراءة القصة، فلما أصبحت فكرت: من تكون بطلتها؟ ومن تكون الفتاة التي حملتها إلي؟ ولماذا اختارتني صاحبتها لتدفعها إلي، وتترك لي مطلق الرأي في مصيرها؟ وماذا عساي أن أفعل بها؟ أألقيها في سلة المهملات، أم أدفعها طعاما للنار؟ كلا، فهي تستحق غير هذا المصير لا ريب، وإن أنا فكرت في نشرها، فأي عنوان أختار لها؟ لقد تركتها صاحبتها بغير عنوان، أفأجعل عنوانها: قصة امرأة؟ لكن قصص النساء كثيرة، وليست هذه البطلة في غمار هاتيك النسوة اللاتي أحببن أو أبغضن، كما تحب كل امرأة وتبغض، بل إن لحبها وبغضها لطابعا خاصا بها، لا يتسق هذا العنوان معه.
وما لي لا أتخذ عنوانها من طريقة تحريرها؟! فلم يرد فيها اسم بطلتها، أو اسم شخص من أشخاصها برغم وضوح شخصياتهم جميعا وبروزها، ما لي لا أجعل عنوانها: قصة بلا أسماء؟ ثم ما لي لا أجعل عنوانها صفة اختارتها البطلة لنفسها في آخر قصتها: المذنبة التائبة، أو صفة أخرى اختارها لها زوجها الأول: غيرة وغرور؟ وترويت في اختيار العنوان طويلا، ثم ألهمتني شخصية البطلة بشذوذها وذكائها وجاذبيتها، وبغرورها وغيرتها، كما ألهمتني الخاتمة التي أضافتها ذيلا لروايتها، فجعلت عنوانها: «هكذا خلقت»، مقتنعا بأن هذا العنوان يصف البطلة وطريقة تفكيرها أصدق الوصف.
ولا أريد أن أحكم لهذه القصة أو عليها، وحسبي أن أذكر أن حديث البطلة عن نفسها جعل القصة أكثر واقعية في تصوير عواطفها وإحساسها، وتطور هذه العواطف والمشاعر في دخيلة وجودها، وهي في غمرة المضطرب الذي تعاني العيش فيه.
والواقع أن ما صورته هذه القصة لا يزيد على أنه أثر من آثار التطور الاجتماعي الذي شهدته مصر، ولا تزال تشهده، وإذا كان في البطلة شذوذ غير مألوف فهو يصور واقعا قل أن يجتمع كله في نفس واحدة في فترة واحدة من الزمن، فهو يرسم - لا ريب - صورة من صور تطورنا المتصل في هذا الدور الحاضر من أدوار المجتمع المصري، وبعض البلاد الشرقية معرضة لأن تمر بهذا الدور مثلنا!
ولعل من القراء من شهد مناظر في الحياة تشبه ما صورته هذه القصة، وإن اتصلت هذه المناظر بأكثر من شخص واحد في الطبقة المصرية المستنيرة، في هذا الزمن الذي نعيش فيه، وتلك ألوان من الحياة لم تكن تمر بخاطر جيلنا أو الجيل الذي سبقه.
ومن الخير تصوير الجوانب المختلفة من أطوارنا في هذا الوطن إذا أردنا أن نواجه التطور الحاضر لفائدة المجتمع، وحرصنا على ألا تسوء آثاره في بعض الطبقات زمنا طويلا، ولن يستطيع كاتب فرد أن ينهض بهذا العبء الجسيم، سواء اختار القصص أو الرسالة أو البحث العلمي أو الفلسفي، فحياة المجتمع تزداد تعقيدا كلما ازداد المجتمع ارتقاء، وقد أصبح التخصص ضرورة في الكتابة كما أنه ضرورة في الطب أو الهندسة أو غيرهما من المعارف والأعمال الإنسانية. وغاية ما أرجو أن تتضافر جهود الكتاب على اختلاف نزعاتهم ليوجه هذا التضافر مجتمعنا الوجهة الصحيحة في تطوره، وليكفل له سرعة السير في معارج الرقي إلى أسمى درجات الحضارة.
هدانا الله جميعا سواء السبيل.
محمد حسين هيكل
الفصل الأول
ما أكبر الفرق بين القاهرة اليوم، في هذه العشرة السادسة من القرن العشرين، وبينها أيام طفولتي وصباي في العشرة الأولى من القرن نفسه! وما أكبر الفرق بين الحياة في هذه المدينة العاصمة اليوم، والحياة فيها إذ ذاك!
أنا اليوم أسكن شارع الهرم على مقربة من نهايته عند فندق «مينا هاوس»، وتقلني السيارة إلى قلب المدينة في عشر دقائق أو نحوها، وذلك ما لم يكن يحلم به أحد في أخريات القرن الماضي وأوائل هذا القرن، لم يكن أحد يومئذ يسكن شارع الهرم، بل كان النيل يفصل بين «القاهرة» وما على شاطئه المقابل لها من مزارع ممتدة إلى مدى النظر، ولم تكن السيارات يومئذ وسيلة المواصلات، بل لم تكن موجودة بالنسبة لسواد الناس، ولست أذكر متى جاءت أول سيارة إلى مصر! لكن السيارات بقيت بعض مظاهر الترف إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ أي إلى سنة 1920، فكان طبيعيا أن تظل رقعة المدينة ضيقة مع وسائل مواصلاتها، وأسرعها عربات الخيل - الحناطير - والحمير، أما الترام الذي بدأ يسير في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الماضي، فلم تكن شبكته قد امتدت إلى ما وراء حدود المدينة كما صورتها.
ثم إني لأذكر يوما من سنة 1909 ذهبت فيه مع أبي إلى ضاحية «مصر الجديدة»، وكانت في بدء إنشائها، فلم يكن بها غير عدد قليل من المنازل، على مقربة من فندق «هليوبوليس بالاس»، ويومئذ سمعت أبي يبدي عجبه: كيف تغامر الشركة البلجيكية القائمة بهذا المشروع باختيار تلك البقعة من الصحراء لبناء ضاحية فيها، لكن المصريين كانوا يومئذ يؤمنون بعبقرية الأجانب، حتى ليكادون يضعونهم في مصاف الملائكة أو في مصاف الشياطين، ولذلك كانوا يحتاطون في الحكم على تصرفاتهم لاقتناعهم بأن هؤلاء الأجانب يدركون ما لا ندرك.
ولقد آمنت يومئذ بما أبداه أبي من عجب؛ لأنه أبي، ولأنني رأيت الترام الأبيض الذي يصل «القاهرة» ب «مصر الجديدة» ينساب بعد العباسية في صحراء خالية لا حياة فيها، فلا ترى العين على جانبيه إلا الرمال الممتدة لتلامس السماء عند الأفق، وكانت العباسية نهاية القاهرة من هذا الجانب، وكانت أشبه بضاحية يقطنها العسكريون الذين ألفوها في أثناء خدمتهم في الجيش؛ لأنها تجاور ثكناته، فلما انتهت خدمتهم فيه أقاموا مساكنهم هناك، على أرض رخيصة الثمن؛ لبعدها عن المدينة وعن مواصلاتها.
أما سرة المدينة فكان ميدان «العتبة الخضراء»، منه كانت خطوط الترام تبدأ سيرها، وفيه كانت تقوم المحكمة المختلطة ميدان النشاط القضائي بين الأجانب والمصريين في العاصمة وما حولها، وعلى مقربة منه كانت تقوم حديقة الأزبكية، التي كانت قبل مائة عام بركة، ثم انقلبت حديقة باسقة الشجر محاطة بأسوارها المنيعة. ومن ميدان العتبة الخضراء يمتد شارع عابدين المعروف إلى قصر الحكم عن شمالك، وتقوم متاجر فخمة عن يمينك ، وينحدر شارع الموسكي ذو الشهرة العالمية؛ لأنه كان شريان النشاط التجاري بالمدينة.
وكان ميدان «العتبة الخضراء» والشوارع المتفرعة منه يفصل بين الأحياء المصرية والأحياء الأجنبية في القاهرة، فما امتد منه غربا إلى النيل كان مستقر الأجانب، وما امتد شرقا متجها إلى جبل المقطم كان مستقر المصريين والشرقيين، وميدان نشاطهم؛ لذلك كان شارع «الموسكي» تختلط فيه العناصر الثلاثة: الشرقيون، والأجانب، والمصريون، يزداد الأجانب في جانبه القريب من العتبة، والمصريون في جانبه المتصل بالسكة الجديدة المؤدية إلى أحياء سيدنا الحسين والأزهر وما وراءها إلى الجبل من أحياء وطنية صميمة، وكان سكان القاهرة يومئذ لا يبلغ عددهم الثلث، بل الربع من سكانها اليوم.
كان طبيعيا - وتلك حال القاهرة في العشرة الأولى من هذا القرن - ألا ترى فيها عمارات شاهقة كالصروح التي تراها اليوم، وأن تتألف منازلها من طابقين أو ثلاثة على الأكثر، وكانت منازل الذوات وأهل اليسار أشبه بالحصون، ترتفع جدرانها الخارجية لتستر كل ما فيها وكل من فيها، ولتستر السيدات المخدرات صاحبات العصمة بنوع خاص، وبين هذه الجدران كان المنزل يتألف من «سلاملك» متصل بالباب الخارجي خاص بالرجال، ومن «حرملك» منفصل عنه هو مستقر السيدات، ويغلب أن تقوم أمام «الحرملك» حديقة صغيرة تتنسم السيدات فيها الهواء، بعيدات عن أعين الرجال.
وكان والدي من المصريين ذوي الجاه واليسار، فكان البيت الذي ولدت به ونشأت فيه من هذا الطراز الذي وصفت، وكان يقع على الميدان الذي يقوم فيه تمثال «لاظوغلي»، وكان سلاملكه يقع إلى يمين الداخل من بوابته الكبيرة، مكونا من غرفة واسعة للجلوس، ومن غرفة أصغر منها، يدخل الإنسان إليهما من بهو فسيح أمامهما، ويرتفع الكل عن الأرض بضع درجات، وكان يفصل بين «السلاملك» و«الحرملك» جدار يزيد ارتفاعه على قامة الرجل، ومن ورائه حديقة غرس فيها الجازون، وقامت على جوانبها أحواض من أشجار الورد والأزهار المختلفة، كما قامت في أحد أركانها «جبلاية» صغيرة تجري فيها المياه.
كنت إبان طفولتي أقضي معظم وقتي في هذه الحديقة ألعب مع اثنتين من بنات الجواري اللاتي يعملن في خدمة المنزل، وكانت والدتي إذا أرادت دعوتي إلى داخل الدار بعثت إلي بإحدى هاتين الطفلتين أو بجارية من الجواري، ولم تكن تناديني مخافة أن يسمع صوتها خادم من الرجال، أو أحد معارف أبي الجالسين معه في «السلاملك»، فصوت المرأة كان يومئذ عورة لا يجوز أن تداعب آذان الرجال.
وكانت والدتي من قريبات أبي، وكان أهلها من الأعيان الذين يرون تعليم البنت القراءة والكتابة أمرا نكرا، ولكنها كانت بارعة في إدارة المنزل، تحذق كل شئونه، وكانت لذلك مدبرة في غير شح، لا ترمي قرشا في غير موضعه، ولا تضن على خادم، رجلا كان أو امرأة، بما يحتاج إليه برغم أنها لم تكن ترى الخدم الرجال أو تخاطبهم.
وكانت والدتي تستقبل السيدات من صديقاتها مساء الثلاثاء من كل أسبوع، وفي هذا اليوم كان الخدم الرجال يتمتعون بإجازة من بعد الظهر، وكان والدي يغادر المنزل فلا يبقى به رجل إلا بوابنا العجوز المتهدم ليستقبل السيدات عند دخولهن من البوابة وخروجهن منها، وكنت أغتبط بمقدم يوم الثلاثاء؛ لأنه كان أشبه بأيام العيد، ولأن بعض المغنيات والراقصات من معارف والدتي كن يحضرن فيحيين هذا الاجتماع النسائي، وكنت قلما أحضر هذه الاجتماعات إلى نهايتها، فقد كانت والدتي تبعث بي إلى الحديقة ألعب فيها، أو إلى صديقة لي من الأطفال كان منزل أهلها قريبا منا؛ لأن هذه الاجتماعات النسائية كان يدور فيها من الحديث ما لا يجوز أن يسمعه الأطفال، ذلك ما تيقنته من بعد حين كبرت، وحين عرفت ما تتبادله النساء من أحاديث تافهة، أساسها الغيبة التي لا تخلو من قصص يألفها النساء، ويرين عيبا أن يسمعها الأطفال، أو يسمعها الفتيان.
وكنت أغتبط بالذهاب إلى منزل صديقتي الصغيرة التي تجاورنا؛ لأن والدها كان رجلا رقيقا غاية الرقة، وكان يحبها أعظم الحب، وكان يحبني لأنني صديقتها، وكان ينتظرني يوم الثلاثاء وقد أعد لي هدية من اللعب التي يغتبط بها أمثالي، فكنت لتوقعي الهدية أسارع إلى تلبية والدتي، والذهاب مع خادم من الجواري أقضي مع صديقتي ووالدها سويعات هنيئة سعيدة.
ولما بلغت السابعة بعث بي والدي إلى المدرسة السنية، ولم يكن بينها وبين دارنا ما يدعو إلى ركوب عربتنا؛ لذلك كنت أذهب مع البواب العجوز كل صباح، وأعود معه كل مساء، ومعي كتبي وكراساتي، وكان معلم القرآن والديانة والخط العربي يشغل معظم حصص الدروس معنا، فكنا نراه ثلاث ساعات كل يوم على الأقل، وكان شيخا رقيقا شديد اللطف بنا، يعاملنا معاملة الأب لبناته، فكنا نحبه ونسر بمقدمه، وكنا لذلك نحفظ الدروس التي يلقيها علينا ونحن مغتبطات أشد الاغتباط، ولهذا حفظت من القرآن جزء «عم» في السنة الأولى، وجزء «تبارك» في السنة الثانية، وكنت أشعر بالمسرة حين أتلو منهما أمام والدي ما يزيدهما عطفا علي، واغتباطا بنباهتي، وازداد عطفهما علي وضوحا حين رأياني منذ تخطيت الثامنة من سني لا أترك فرضا إلا صليته لوقته، فكنت أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة، وأصلي الظهر في مصلى المدرسة، وأصلي بقية الفروض لأوقاتها بالمنزل. ولم يكن العطف علي هو وحده مظهر تقدير أبي لهذا الصلاح وهذه التقوى، فقد جاء يوما إلى المدرسة وطلبني، وطلب الشيخ معلم القرآن والديانة والخط، وشكره أمام ناظرة المدرسة - وكانت إنجليزية - على عنايته بتقويم أخلاق التلميذات عن طريق الدين وفرائضه.
ومنذ بدأت السنة الدراسية الثانية بدأنا نتعلم اللغة الإنجليزية، وفي السنة الثالثة كنا ندرس التاريخ والجغرافيا، تاريخ مصر وجغرافيتها باللغة الإنجليزية، ولذلك أسرعنا إلى التقدم فيها، وأمكننا أن نتكلم بها. •••
كان لأبي على حدود مديريتي القليوبية والشرقية عزبة كنا نقضي بها جانبا من الصيف في كل عام، وكانت والدتي تغتبط أشد الاغتباط بهذه الفترة التي نقضيها في الريف، فقد كان حول منزلنا حديقة فسيحة فيها أزهار وفواكه، وكان كثيرون من أهلنا الأعيان يترددون علينا هناك، فيجدون من والدي مودة ولطفا، وتجد والدتي في أحاديث قريباتنا الريفيات عن الزراعة وأحوالها لونا من الحياة غير الذي ألفته في العاصمة، فتتسلى بهاتيك القريبات الودودات وبقصصهن، وكنت أنا أجد في الحديقة وفي الحقول القريبة ما يبعث إلى نفسي المسرة، فلما بلغت الثالثة عشرة من عمري ذكرت لي والدتي أن التقاليد تمنع خروجي نهارا إلى ما وراء أسوار الحديقة، وتمنع نزولي بها ساعة وجود العمال من الرجال فيها، عند ذلك شعرت بأنني بدأت أدخل ميدانا جديدا من ميادين الحياة، وأنني موشكة متى عدت إلى القاهرة أن ألبس ملابس النساء: الحبرة والبرقع، وألا أخرج إلى الطريق وحدي.
كانت عمتي تكثر التردد علينا في أثناء مقامنا بالعزبة، وكانت سيدة من أعيان الريف المحترمات في وسطها، المحافظات على كرامة الأسرة ومكانتها، المتصدقات على الفقراء والمساكين من أهل قريتها، وكانت تكبر والدي عدة سنوات، وكانت ورعة تقية، قوية الإيمان بالله ورسوله، شديدة المحافظة على فروض دينها، تصلي الخمس فرضا وسنة، وتصوم ثلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان. وكان والدي يحبها ويحترمها، وكانت تغدق علي من عطفها وحبها ما كنت أغتبط به، وكان حبها الشديد إياي يرجع إلى أنني كنت - برغم أنني تلميذة بالمدارس - شديدة المحافظة على فروض ديني، وكنت أتلو عليها من سور القرآن ما يثلج صدرها، سواء أفهمته أم لم تفهمه.
وكانت عمتي تقضي معنا أحيانا أسابيع متعاقبة، وكان لها غرام بأن تقص علينا صورا من ماضي الحياة في الريف، هذا الماضي الذي تطور في نظرها تطورا لا تطمئن إليه نفسها، وكانت تقص علي من تلك الصور ما يثير عجبي؛ كانت تذكر أن أسرتنا التي استأثرت بعمدية البلد ومشيختها، ولا تزال تستأثر بهما، كانت تعد بالعشرات وتقيم في منازل عدة، وأن الفلاحين الذين كانوا يعملون في أراضينا كانوا يجتمعون كل مساء بعد صلاة المغرب في صحن الدار الكبيرة يتناولون طعام العشاء الذي يطهى لعشراتهم في هذه الدار، ثم لا يصد عن الطعام فقير وإن لم يكن يشتغل معهم في المزارع، وأنهم جميعا كانوا ينظرون إلى جدي لأبي على أنه والدهم جميعا، فلا يتزوج أحدهم إلا بعد مشورته، ولا يختلف اثنان إلا احتكما إليه وقبلا حكمه، ولا تطلق امرأة من زوجها إلا بعد أن يقتنع بأن الصلح بين الزوجين غير مستطاع.
وكانت تذكر أن هذه الأبوة لم تكن مقصورة على أبناء الأسرة والعمال في مزارعنا، بل كان أهل القرية جميعا ينزلون على حكم جدي اقتناعا منهم بعدالته، وبأنه رجل صالح يخاف الله ولا يرضى بما يغضبه، وأنه إلى ذلك رجل خير يعين البائس والمحتاج، ويأنف أن يتدخل في شئون البلد غريب أو أن يستبد بأهله حاكم ظالم.
وإن نسيت الكثير مما قصت علي إذ ذاك فلن أنسى تصويرها للقرية المصرية في النصف الثاني من القرن الماضي، فهذه الصورة لا تزال عالقة بذاكرتي، وهي تجعلني أرى أهل تلك القرية يعيشون عيش القبائل في البادية برغم أنهم أهل زراعة، ولم يكن هذا النوع من العيش عجيبا في ذلك العهد؛ فقد كانت كل قرية تعيش في عزلة عن غيرها من سائر القرى؛ لأن المواصلات السريعة لم تكن قد ابتكرت، وكان أهلها لا يكادون يسمعون شيئا عن حياة المدن، إلا ما اتصل منها بعقائدهم وإيمانهم الراسخ بالمشايخ والأسياد، وتطلعهم لزيارة هؤلاء الأسياد للتبرك بهم، ولم يكن ذلك مستطاعا لغير ذوي اليسار ومن يلوذون بهم، أما سائر أهل القرية فكانوا يمضون حياتهم كادحين في غير ملل، مؤمنين بأن الله قسم الحظوظ، وأنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا عليه توكلنا، وعليه فليتوكل المؤمنون.
كنت أطيل الاستماع لعمتي، وأطرب لحديثها، وكنت أشد اغتباطا بما تقع عليه عيني من مناظر هذا الريف الممتعة حين أتردد عليه غير مرة خلال السنة، ولم يكن جمال الريف هو وحده الذي يأخذ بناظري، بل كان لي من الطمأنينة إلى أهله حظ عظيم، وكيف لا أطمئن إليهم وأنا أرى من مظاهر ورعهم وتقواهم ما يثير إعجابي؟! لقد كنت أخرج مع والدي أحيانا بعد الغروب فأرى أحدهم يقوم لصلاة العشاء في مصلى ساذج مفروش بالحلفاء على حافة الترعة بعيدا عن الأعين، فيهتز لذلك قلبي، وتتأثر بهذا المنظر كل مشاعري، فهذا الرجل المنفرد وسط لا نهايات المزارع في هذه الساعة من المساء يدعو ربه ويستغفره، كان مثال الورع في نظري، ولم يدر بخلدي في تلك الأيام من طفولتي وبدء صباي ما عساه يدور برأسه في أثناء صلاته أو بعدها من أفكار قد لا يرضى الله عنها، بل كنت أومن بأنه في وحدته قريب من ربه، وأن حرصه على فروض دينه خير شاهد على نقاء قلبه، وصفاء سريرته.
وعدنا إلى القاهرة في أخريات الصيف من تلك السنة، وأنا موشكة أن أدخل ميدانا جديدا من ميادين الحياة، وأن ألبس ملابس النساء: الحبرة، والبرقع، وإني لأذكر اليوم في ابتسامة لا تخلو من مرارة ما كان يدور برأسي الطفل إذ ذاك من غبطة لهذا الانتقال من حرية الطفولة إلى قيود المرأة، هذه الغبطة التي لا تفسير لها إلا التطلع إلى المستقبل الذي كتب على جنسنا، والذي لا نعرف غيره، ولا مفر لنا منه، والذي تنتظره كل فتاة، أو على الأقل كانت تنتظره فتاة ذلك العهد، وترى فيه أحلام السعادة، ويرى أهلها فيه أحلام الطمأنينة إلى الحياة، أقصد الزواج، أواه لو علمت كل فتاة، وآه لو علم أهلها ما يخبئ الغيب!
لا أريد أن أسبق الحوادث، أو أعبر عما شعرت به في لحظة غير اللحظة التي أكتب عنها، لقد كنت يوم دخلنا القاهرة في ذلك العام سعيدة تفيض عني المسرة، لقد كنت أحبو من الطفولة إلى الصبا في صحة ونضارة، وكانت تحيط بي كل أسباب النعمة على ما كان يتصورها ذلك الجيل، كان أبواي يسبقاني إلى رغباتي، وكنت أجد من حنانهما وعطفهما وبرهما ما يسبغ على الحياة خير ألوانها، وما يجعلني أشعر كأنني في جنة الخلد، وكان تقدير أساتذتي في المدرسة، وتقدمي فيها يزيدني نعيما وغبطة.
وكان الأمل الباسم الذي يفتح أجنحته الأثيرية للشباب الموشك أن يتفتح كما تتفتح الأزهار ينشر أمام خيالي الساذج ألوانا من الهناءة لم أعرف لها في الحقيقة مثالا، وكان مرجع رضاي يومئذ عن نفسي إلى ما عرفت به بين زميلاتي في المدرسة من حسن الخلق لشدة محافظتي على صلواتي، حتى كان بعض معلماتي يسمينني «رضوان الجنة» نسبة إلى حارس جنة الخلد؛ وذلك لشدة عنايتي بمصلى المدرسة.
وبعد أسابيع من استقرارنا في العاصمة فكرت والدتي في أن تفصل لي حبرة ألبسها وألبس البرقع معها، ولهذه المناسبة جعلت أذهب معها إلى المحال التجارية لتختار القماش المناسب، وإلى الخياطة لأفصل الحبرة، ويومئذ أحسست شعورا جديدا يخالط نفسي، شعور الأنوثة التي تسري في عروقي وأعصابي كما يسري ماء الحياة في الشجر فيزيده رواء، ويزيد خضرة أغصانه بهجة، وأكمام أزهاره تفتحا.
ولقد كنت إذ ذاك أعنى بملاحظة السيدات المبرقعات وما يسبغه عليهن الحجاب من جمال يزيد عيونهن النجل روعة وبراعة، وكنت نحيفة القوام معتدلة، وكانت والدتي لا تفتأ تلفتني إلى هاتيك السيدات الممتلئات يتحدث جسمهن البض عن معاني النعمة، وتكاد تؤنبني لنحافتي، بل لقد كانت تذكر لي أن من هاتيك السيدات من تشعر بنحافة جانب من جسمها، فتطالب «الخياطة» بأن تضع تحت الحبرة أسلاكا، أو تحشوها فتستر هذه النحافة، مع ذلك بدأت أشعر أن في عيني من الجاذبية ما يغنيني عن هذا الجمال المصطنع، وإن لم أجرؤ على أن أذكر شيئا من ذلك لوالدتي.
ولبست حبرتي وبرقعي، وانتعلت حذاء عالي الكعب، وأخذت أخرج مع والدتي إلى الأسواق، وفي بعض زياراتها لصديقاتها فإذا هذا الشعور بالأنوثة يزداد في نفسي، وإذا حيويته تسرع إلى النماء أضعاف نموها قبل أن ألبس الحبرة والبرقع، ولعل ما شعرت به من اختلاف نظرة الرجال إلي في أثناء سيري مع والدتي عما كانت عليه قبل هذا الحجاب قد كان سببا في هذا التزايد السريع في نمو شعوري.
وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي، فكنت أقضي أمام المرآة زمنا أصلح في أثنائه من شأني، وألاحظ في أثنائه أدق التفاصيل في مظهري، فكنت أعنى حتى بالشعرات التي تخرج من تحت رأس الملاية ونظامها عنايتي بموضع البرقع من أنفي حتى يزيد في جاذبية نظراتي، ثم أعنى بانسدال الملاية على جسمي حتى تنم في دقة عن ميول قوامي وبارع اعتداله.
ولم يزعجني حديث والدتي عن نحافتي، فقد كنت أقرأ بعض المجلات والقصص الإنجليزية، فأرى فيها تصويرا للسيدات والأوانس النحيفات يشهد بجمالهن ويثير الإعجاب بهن، وكنت أقرأ مثل ذلك فيما تترجمه هذه المجلات عن الأدب الفرنسي. ليست النحافة إذن عيبا لذاتها، وإن أثار الجسم الناعم البض من المعاني المألوفة في مصر ما لم يكن يدور إذ ذاك بخاطري، ثم إنني رأيت في هذه المجلات والقصص حديثا عن جاذبية المرأة، وأنها ترجع إلى رقتها ودماثة طبعها وحسن حديثها، فأغراني ذلك بالعناية بهذه النواحي من أنوثتي أكثر من عنايتي بما أقاوم به نحافتي.
على أن شيئا من ذلك كله لم يصرفني عن صلواتي احتفاظا بمكانتي بين زميلاتي وأساتذتي في المدرسة، وإرضاء لشعور داخلي كان يتردد في أعماق وجداني بأن الزينة لا تخالف التقوى، وكم اغتبطت حين سمعت الشيخ الذي يتلو القرآن كل صباح جالسا في غرفة الانتظار بالطابق الأسفل من منزلنا يرتل:
خذوا زينتكم عند كل مسجد ، فقد ثبتت هذه الآية شعوري الداخلي، واطمأن لسماعها وجداني، فازددت عناية بزينتي كما ازددت حرصا على أداء فروض الله.
وازددت على الزمن شعورا بأن القراءة تتم الزينة، صحيح أنها ليست الزينة المادية التي تلفت النظر إلى أشخاصنا حين مسيرنا في الأسواق ودخولنا على صديقات والدتي، بل هي الزينة المعنوية التي تزيد نظراتنا ذكاء وجاذبيتنا فعلا في النفوس، لذلك أكببت على الكتب والمجلات التي كنت أستعيرها من مكتبة المدرسة، أو أشتريها من المكتبات، وشعرت لهذا الإكباب بلذة قوية كانت تأخذني عن نفسي، وتصرفني عن كل ما سواها، وإن جلبت علي في كثير من الأحيان لوم والدتي خوفا على عيني، وإشفاقا منها أن تصرفني القراءة عن الاضطلاع بواجبات الفتاة والمرأة في العناية بأمور المنزل وحسن تدبيره.
وخشي والدي حين رأى إكبابي على قراءة الكتب والمجلات الإنجليزية أن يضر ذلك بلغتي العربية وثقافتي الدينية، فاختار لي مدرسا شيخا كانت له به ثقة، وكثيرا ما رأيته يصحبه، بل لقد حضر إلى العزبة في أثناء مقامنا بها في الصيف مما دلني على أن له على أبي دالة تزيد في ثقته به.
وكان هذا الشيخ على حظ غير قليل من الذكاء، درس أول أمره في الأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم فجود اللغة العربية بها، وجعل همه أن يطلع على ما يظهر من كتب مؤلفة أو مترجمة إلى العربية ليجاري العصر ولا يقبع في زوايا الماضي على حد تعبيره، فلما بدأ تدريسه لي لم يلبث حين وقف على مبلغ علمي أن اختار لي كتاب «عيسى بن هشام» للمويلحي، وكتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين، وكتاب «التربية» الذي ترجمه محمد السباعي عن هربرت سبنسر.
وقرأت جانبا من هذه الكتب الثلاثة معه، وسمعت إليه يفسر ما رآه غامضا علي من ألفاظها وعباراتها، فأغراني ذلك بالمضي في قراءتها في أثناء وحدتي، وتفتحت لذلك أمامي آفاق جديدة يقصر دونها الكثيرات من أمثالي، بل يقصر دونها كثيرون من رجال ذلك الوقت ونسائه، وقد كنت أقف وجلة أحيانا أمام ما أقرأ؛ لأنه يخالف مألوف الحياة في مصر إذ ذاك، وهو مع ذلك مكتوب بلغتنا العربية، فيجب أن نفكر فيه، وألا نعتبر قراءته مجرد تسلية لقتل الوقت، ويجب أن ننتهي من هذا التفكير إلى رأي، وكنت أسأل أستاذي الشيخ أحيانا فيما يستوقفني، فلا يزيد على أن يبتسم ثم يقول: الزمن يا فتاتي كفيل بإنضاج رأيك في كل ما تقرئين.
ولقد أخذني العجب يوما لحوار جرى بين والدي وأستاذي حسبت حين سمعته أن الشيخ يبالغ فيما يسميه «عصريته»، فقد ذكر والدي أن شابا من أبناء أحد أصدقائه تزوج من أجنبية يهودية، فكان جواب الشيخ: وماذا في ذاك؟ ثم تطور الحوار إلى جدل ديني كان الشيخ فيه دون والدي تعصبا لعقيدته، فقد رأى والدي أن زواج اليهودية من المسلم يتيح لها الفرصة لتقف من زوجها أو من أهله أو من خلطائه على حقيقة الإسلام، فإذا هي لم تعتنقه من بعد كانت مكابرة، وكان مصيرها إلى الجحيم، أما الشيخ فرأى أنها إذا لم تقتنع بحجة زوجها أو أهله أو خلطائه وعملت صالحا فلا جناح عليها أن تقيم على دينها، وأن يغفر الله لها، ويدخلها الجنة.
كانت تدور أحاديث من هذا القبيل بين الرجلين، وكان الجدال بينهما يبلغ الحدة، ثم لا يغير ذلك من ثقة والدي بالشيخ، واطمئنانه لحسن إيمانه، فإذا نودي للصلاة من مئذنة المسجد القريب من دارنا، وقام الشيخ للصلاة، ائتم به والدي وقضى فرضه وراءه.
كنت أسمع وأرى ما يحدث من مثل ذلك فلا أقف طويلا عنده، ومن كان في مثل سني يومذاك لا يقف طويلا عند شيء، بل تمر أمامه الأحداث والآراء، فيلم بها إلمامات سريعة تبقيها في ذاكرته لتنضم على الأيام لأشباهها، ثم تكون موضع تفكير وعبرة من بعد، حين نصبح قادرين على أن نبدي حكما ذاتيا على ما نرى ونسمع، وكذلك بقيت ذاكرتي تختزن ما استطاعت اختزانه، حتى إذا آن الأوان تفاعل ذلك كله في نفسي، وكون وجودي الذاتي وكياني المعنوي.
تعاقبت الأيام والأسابيع والشهور، وانقضت السنة الدراسية، واحتملنا قيظ العاصمة أسابيع من أوائل الصيف، ثم ذهبنا إلى العزبة، وبدأ أقاربنا يزوروننا، وأقبلت عمتي وعلى رأسها طرحة بيضاء على خلاف ما ألفت من لباس رأسها في الأعوام الماضية، إذ كانت طرحتها سوداء؛ ذلك لأنها سافرت إلى الحجاز وأدت فريضة الحج، واستبقت الطرحة البيضاء من لباس إحرامها، ولم يكن حديثها ذلك الصيف عن ماضي الحياة في قريتنا العزيزة، بل كان كله عن الحج والحجاز والكعبة، ومسجد المدينة، والمقصورة النبوية، وكانت تقص ذلك في تفصيل يشهد بطمأنينة نفسها إليه، واستراحة قلبها له، وكنت أشعر في بعض ما تقصه بأنه أدنى إلى الأساطير، لكنها كانت ترويه في حرارة إيمان تنقل صداه إلى قلب والدتي، فلا تفتأ تكرر: يا بخت من زار النبي.
ولو أنني استطعت يومئذ أن أنقل كل ما روته عمتي عن حجها لتألف منه كتاب شائق، فقد كان حديثها عن هذا الحج يتصل يوما بعد يوم، وكأنها شهرزاد في ألف ليلة وليلة، لكنني كنت في شغل بقراءة مجلاتي وقصصي الإنجليزية، وبمراجعة عيسى بن هشام وتحرير المرأة والتربية؛ لأن أستاذي الشيخ أخبرني قبيل سفرنا أنه سيزورنا بالعزبة بعد شهر من مقامنا، ويسألني عما قرأته.
وجاء الشيخ إلى العزبة في الشهر الأخير من أشهر الصيف، وكنت في فترة هذه الإجازة المدرسية قد أسرعت في النمو وبدأ تكويني النسوي برغم نحافتي، وشعرت في نظراتي بجاذبية قوية كنت أغتبط بها حين أقف أمام المرآة أصلح من هندامي، ترى أكان هذا هو السبب في أن والدي لم يكن يذرني وحدي مع الشيخ ساعة تدريسه لي؟! فقد لاحظت أنه كان يحضر دروسي جميعا على غير عادته من قبل، وما أحسبه خالجته شبهة في خلوتي مع الشيخ ساعة الدرس، أو خالطت نفسه ريبة من أمره، فقد كانت ثقته بورعه فوق كل شبهة، وإنما أحسبه خشي قالة الناس، وقالة النساء أكثر من قالة الرجال؛ فقد علمتني السنون من بعد أن الناس في مصر، من أهل المدن كانوا أو من أهل الريف، يسرعون إلى الريبة في غير موضع الريبة، ويتناقلون من الأحاديث الكاذبة في أمر غيرهم ما يسرعون إلى تصديقه. هذا في اعتقادي هو ما دعا والدي لمصاحبة الشيخ ساعات تدريسه لي، وبخاصة بعد أن رأى منذ كنا بالقاهرة عنايتي بهذه الدروس واستفادتي منها.
وجاءت موليات الصيف، وآن لنا أن نعود إلى العاصمة، وإننا لنأخذ أهبتنا للعودة، إذ شعرت والدتي بمرض ألزمها فراشها، وتولت عمتي الحاجة العناية بها، فكانت تلازمها ليلها ونهارها، وكانت تتلو وهي في مجلسها إلى جانبها كل ما عرفت من رقى وتعاويذ، وكانت تدير البخور على رأسها تطرد به حسد الحاسد، لكن المرض كان يشتد يوما بعد يوم، واستدعى والدي الطبيب من أقرب مدينة، فلما فحص والدتي أشار بضرورة إسراعنا إلى القاهرة أو بإدخالها مستشفى المدينة القريب منا، وآثر والدي أن نعود إلى القاهرة فعدنا إليها مسرعين.
وجاء الطبيب الذي اعتادت والدتي أن تعرض نفسها عليه كلما مرضت، ففحص وأطال الفحص ودقق فيه، ثم كتب تذكرة دوائه، ووعد أن يعود المريضة بعد ثلاثة أيام، وخرج والدي معه من غرفة المريضة، ووقفا هنيهة يتهامسان، وبعد أن ودعه عاد يؤكد لوالدتي أن الأمر بسيط، ولن يمضي أسبوع حتى تكون قد استردت عافيتها، ورأيت على وجه والدتي سيما الألم ، وإن ردت إليها هذه الكلمات من الطمأنينة ما خفف بعض وقعه.
وفي المساء جاء والدي بعد أن خلع ملابسه، وتمطى على «كنبة» تواجه السرير الذي رقدت والدتي فيه، بعد أن دعا الخادم وأمرها ففرشت عليها ملاءة، ووضعت على طرفها الملاصق للحائط مخدة نوم، وعجبت لما رأيت من ذلك، فلم أر والدي من قبل ينام على هذه «الكنبة» قط، وألحت عليه والدتي أن ينام على السرير في الغرفة المجاورة لغرفتها فأبى قائلا: لقد نمت أنت على هذه «الكنبة» غير مرة حين مرضي، فلا أقل من أن أؤدي بعض ما علي من دين لك، وإن كنت موقنا أنني لن أؤدي إلا القليل، مقابل ما غمرتني به دائما من رقة وود خالص.
وغادرت الغرفة وقد زادني ما رأيت وسمعت إعجابا بأبي، وبهذا الحب المتبادل، وتمنيت أن أسعد في الحياة بمثله.
وانقضت الأيام الثلاثة التي تحدث عنها الطبيب وشكوى والدتي من عنائها لا تنقص، بل تزيد، وجاء الطبيب في موعده وأعاد الفحص وخرج بعده مع والدي، وفي صباح الغد علمت أنه سيحضر ومعه طبيبان آخران من كبار الأطباء لإجراء «كونسلتو» يشخصون بعده المرض، ويصفون علاجه. وجاء الأطباء الثلاثة بعد الظهر من ذلك اليوم، وفحصوا المريضة وما عولجت به من دواء، ثم تبادلوا الرأي، وكتبوا تذكرة جديدة.
كانت والدتي تذكر للأطباء الثلاثة، في أثناء الفحص، ما ينتابها الوقت بعد الوقت من آلام مبرحة، وتنظر إليهم نظرة رجاء واستعطاف لعلهم يخففون آلامها ويبرئونها من علتها، وكان الأطباء ينظر بعضهم إلى بعض لدى سماع حديثها، ثم يقول كبيرهم العبارات المطمئنة المألوفة، وكأنه يتلو وردا من الأوراد أو دعاء من الأدعية التي تتلوها عمتي الحاجة، فلا يفر ثغره عن ابتسامة، ولا يلمع في عينيه معنى الرجاء الذي طمعت والدتي في أن ترى بريقه، فلما انصرفوا وودعهم والدي وعاد إلى غرفة المريضة نظرت إليه نظرة استفهام، فقال: إنهم يستحسنون نقلك إلى المستشفى زيادة في العناية بك، وأجابته والدتي منزعجة: المستشفى؟! كلا، كل شيء إلا المستشفى، وإذا كان قد كتب لي أن أموت، فخير لي أن أموت على فراشي هذا، أما إن كان الله قد كتب لي الشفاء، فلن يكون في المستشفى شفائي.
ولبست حبرتي وبرقعي وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي.
ورأيت في عينيها دمعة تترقرق، فأخذ والدي يسكن من روعها، ويذكر لها أنه كان على يقين من أنها لن تقبل الذهاب إلى المستشفى، وأنه ذكر ذلك للأطباء، ولقد رأى أن يعيد على مسمعها ما قالوا، وأنهم يرون الخير في أن تكون في عناية ممرضة ورقابة طبيب، ثم إن والدي أضاف: وقد ذكرت لهم أننا نستطيع أن ندعو الممرضة لتكون إلى جانبك هنا، وأن طبيبك يستطيع أن يعودك كل يوم في الصباح وفي المساء.
وجف الدمع في عين والدتي، ونظرت إلى والدي نظرة عرفان، وبدت على ثغرها المتألم شبه ابتسامة، لكنها قالت: لا ضرورة لممرضة، فأنا لا أريد أن تطلع أجنبية على دخائل بيتنا، وإذا أمكن أن تحضر عمتي الحاجة إلى هنا ففيها البركة، وفي يدها الشفاء.
وكانت والدتي تحب عمتي حقا، وتبادلها عمتي هذا الحب الصادق، وقد رأيتها تحضر صبح الغد من هذا الحديث، وتدخل على والدتي تقبلها وتكرر لها الدعوات بالشفاء، وفي لحظات خلعت ملابس السفر، وجاءت وعلى رأسها طرحتها البيضاء، وجلست إلى جانب والدتي، وأخذت تتلو من الأدعية ما اطمأنت له المريضة وشعرت لسماعه براحة نفسية، لعل سببها أنه أزال ما تبدى لناظرها من شبح المستشفى ومنظر الممرضة.
وقد قامت عمتي بمهمة التمريض بإخلاص وإتقان، لما بينها وبين والدتي من الود الصادق والمحبة الخالصة، فلم تكن المريضة ترغب في شيء إلا سبقت إلى تنفيذ إرادتها بهمة لا تعرف الكلال، وكم من ليلة باتت إلى جانبها ساهرة تقص عليها من أخبار القرية أو من أخبار الحجاز ما تتسلى به المريضة عن آلام كانت مبرحة في بعض الأحيان، وكثيرا ما سمعت العمة العزيزة تمنيها بعد أن يمن الله عليها بالشفاء أن تؤدي فريضة الحج، وتزور القبر النبوي وتتمتع بلمس شباكه ولثمه، ووالدتي تسمع لذلك فيعاود نظراتها أمل يرد إليها الحياة بعد ذبولها، ولا أحسب ممرضة كانت تستطيع - وإن بلغت من الدقة في عملها أعظم مبلغ - أن تخدم المريضة بخير مما كانت تخدمها الصديقة الوفية الصادقة الود.
وكان الطبيب يعود والدتي كل يوم، بل كان يعودها مرتين أحيانا، وكان والدي يقف إلى جانبه في أثناء هذه العيادة، فإذا فرغ منها وطمأن المريضة بأن صحتها في تقدم، خرج مع والدي ووقفا برهة يتحدثان، وقد لاحظت غيرة مرة أن أسارير والدي خلال هذا الحديث كانت أدنى إلى الانقباض، وأنه كان يودع الطبيب إلى الباب، ثم لا يعود إلا بعد زمن لعله كان يحاول فيه أن يدخل غرفة المريضة بوجه تبدو عليه ملامح الطمأنينة، ولا ينم عن شيء من اليأس والألم!
ولم يكن شيء يبعث الطمأنينة إلى نفس والدتي ما تبعثها إليها صلوات عمتي الحاجة ودعواتها الصادرة من القلب، فقد كانت تؤدي الفرائض لأوقاتها على مقربة من سرير والدتي، وكنت كثيرا ما أأتم بها، فإذا ما قضيت الصلاة رفعت كفيها ضارعة إلى الله أن يشفي المريضة لتتمتع بشبابها وتفرح بابنتها، وكانت نجواها في أثناء هذه الدعوات تخالطها حرارة الإيمان الصادق والرجاء العميق في وجه الله أن يستجيب لها.
برغم هذه الدعوات، وبرغم العناية الصادقة، شعرت والدتي في إحدى الليالي بألم ممض لا قبل لها به، وأسرعت عمتي فأيقظت أخاها من نومه، وجاء والدي مسرعا يحسب أنه يستطيع أن يخفف من هذا الألم بما يضفيه على زوجه من محبة وعطف وحنان، لكن الألم قد بلغ بالمريضة، فكانت تتأوه وترسل من أعماق صدرها أنات تذيب الجماد. وأسرع والدي إلى الطبيب في منزله، فكان كل ما استطاعه أن حقن المريضة بالمورفين تسكينا لحدة الألم، وأن أشار بضرورة استدعاء زميليه اللذين شاركاه في «الكونسلتو» وفي تقرير العلاج. وهدأت حقنة المورفين من شدة الألم، وأغمضت والدتي عينيها في غفوة ذكرت لي عمتي من بعد أنهم كانوا يرجون أن تنام بعدها نوما هادئا، لكن الصباح تنفس عن معاودة الألم للمريضة، ولما جاء الأطباء وفحصوا المريضة كانت سيماهم تنطق بمعاني اليأس، ولا يبدو في نظرات بعضهم لبعض شيء من الأمل أو الرجاء، وكتبوا تذكرة دواء جديدة، وودعهم والدي منصرفين.
أفأستطيع اليوم أن أصف حالي في أثناء مرض والدتي؟ لقد انقضى الآن على ذلك الزمن ما يزيد على ثلاثين سنة، ولا أزال مع هذا أذكر كيف كنت في ذلك الظرف القاسي أدور في أنحاء الدار، كأني الروح الحائر لا يعرف لنفسه مستقرا، ثم أرتد إلى غرفة المريضة فإذا سمعتها تتأوه أو تئن اضطرب قلبي في صدري، وشعرت بالألم يحز في كبدي، فارتسم ذلك على قسمات وجهي، ثم لم يغنني ما كان يسبغه والدي علي من عظيم عطفه وسابغ حنانه، بل لقد كنت أشعر حين يزيد به الحنان عن مألوف عطفه، كأنني أصبحت يتيمة الأم، وكأنه يريد أن يكون أبي وأمي في وقت واحد، وكانت عمتي تحاول جاهدة أن تقنعني أن والدتي ولله ألف حمد وشكر تتقدم نحو العافية، وتذكر لي أنها رأت رؤيا تفسيرها أن المريضة ستعود إلى مثل صحتها في خير أيام عافيتها، وأن رؤياها لا تكذب أبدا، فأطمئن لحديثها بعض الشيء، ثم لا ألبث حين أسمع أنات الألم تكظمها المريضة جهدها، كلما رأتني مقبلة عليها، أن تذهب طمأنينتي وأشعر في دخيلة نفسي وأعماق وجداني بأنني مقبلة على أمر جلل، فتزداد روحي حيرة، ويزيدني الحنان والعطف الأبوي وحشة على وحشة.
وتشتد مخاوفي أحيانا، وأكاد أسائل نفسي: أأذنبت في حق والدتي يوما حتى أجثو أمامها وأطلب عفوها ومغفرتها؟ بل لقد اعتزمت ذلك يوما، ودخلت عليها أريد أن أقبل وجهها ويديها وقدميها، وأسألها العفو عما لعله سلف مني، لكنها إذ رأتني أتخطى الباب نحوها أشارت إلي إشارة فهمت منها أنها تريد أن تطالعني بشيء أو تسر إلي أمرا، فلما دنوت منها أجلستني على السرير إلى جانبها، وأخذت تقبلني وتبكي، وكأنها هي المذنبة تطلب الصفح، ولم أملك عبراتي فوضعت خدي على خدها، واختلط دمعي بدمعها، ولم تنبس أيتنا ببنت شفة.
وإننا لكذلك إذ دخل علينا والدي، ورأى ما نحن فيه ، فانهمرت من مآقيه عبرات جعل يحاول حبسها، ثم تقدم نحونا، وقد اختنق صوته، وأخذ يقول لزوجته: آمني بالله يا حبيبتي، إنه الرءوف الرحيم، وعما قريب سيشفيك، فلا ترهقي نفسك، ولا ترهقي هذه الصبية العزيزة بما لا طاقة لها باحتماله، ودفعتني أمي عنها دفعا رقيقا لدى سماعها هذه الكلمات، فخرجت من الغرفة مسرعة إلى غرفتي، وحبست نفسي، وأرسلت العنان لدموعي، وبعد هنيهة رأيت والدي يقبل علي وحمرة عينيه تشهد بأنه مسحها ساعة دخوله عندي، وما زال يتلطف بي حتى خرجت معه من الغرفة إلى البهو، وهناك جلسنا ندعو للمريضة بعاجل الشفاء.
لكن رؤيا عمتي والدعوات الصادقة الصادرة من قلوبنا جميعا لم تكن لتغير حكم القدر، فلكل أجل كتاب، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
فقد خرجت مطلع الفجر يوما من غرفتي، فإذا عمتي جالسة على باب غرفة والدتي، وإذا هي لا تكاد تراني حتى تأخذني إلى صدرها وقد هزه البكاء المختنق وتقبلني وتقول: الأمر لله يا بنيتي، والله يحفظ لك أباك. ثم إنها لم تطق كتمان بكائها، فعلا صوتها به، وبكيت أنا كذلك وارتفع صوتانا، وأقبل أبي وعليه ثياب النوم وما يزال، وأخذ يسكن من ألمي، وكل ملامحه تدل على أنه لا يقل ألما عني، وعبراته تحدث عن عميق حزنه، ولما تنفس الصبح جاء الخدم وهن يتوقعن المصاب الفاجع، فلما عرفنه ارتفعت أصواتهن بالصريخ المزعج، وبعد سويعة أقبلت جاراتنا، وانقلب البيت مناحة تدوي أصواتها فيما حولنا من الأرجاء.
وتركنا والدي إلى غرفته وهو يدق رأسه كأنما خرج الألم به عن صوابه، وأقبل صديق له من جيراننا سمع الصريخ، وكان يتردد من قبل على والدي يسأل عن أخبار زوجته، فلما رآه والدي ناداه قائلا: أرأيت يا أخي خراب بيتي؟! وأخذ الصديق يسكن من لوعة صديقه، ويذكر له أن أهله ومعارفه سيحضرون له عما قريب، فلا مفر له، برغم هول المصاب، من أن يتجمل بالصبر حين يتقبل العزاء، وذهب الرجلان إلى السلاملك بعد أن ذهب والدي إلى غرفته، وارتدى ملابسه محاولا جهد طاقته أن يبدو في وقاره الذي اشتهر به وعرف عنه.
ودفنت أمي في مشهد مهيب، وتقضت ليالي المأتم الثلاث، وانصرف المعزون والمعزيات، وأقفر بيتنا من روحه، فكنت أرى والدي يتنقل فيه من غرفة إلى غرفة، في حين كانت عمتي تدير شئونه وتبذل الجهد لراحة أخيها وراحتي، وكم رأيت أبي في تطوافه من غرفة إلى غرفة يدق يدا بيد، أو يسير شارد الذهن، مشتت اللب كأنما أذهله الخطب الذي نزل بنا! أو كأنما يفكر في أمر خطير، وكنت كلما رأيته على هذه الحال ازددت شعورا بفداحة اليتم الذي أصابني فحرمني حنان الأم وأنا أشد ما أكون حاجة إليه. وكان والدي يحاول ما استطاع أن يخفف لوعتي، غير متكلف في محاولاته إلا ما يمليه عليه وجدانه، وتفيض به عاطفة الأبوة، وقد اختص بها الابنة الوحيدة التي رزقها منذ تزوج، وكنت ألمح في عينيه حين يحدثني أنه لم يبق له في الحياة أمل غيري، وكنت أتمنى لذلك لو استطعت أن أدخل إلى قلبه من السعادة ما كانت أمي تدخله على هذا القلب العطوف الرقيق، ولم يجر في خاطري أن أبي يمكن أن يتزوج بعد موت أمي، وإنني لفي براءة صباي إذ طرق سمعي حديث يتبادله الخدم فيما بينهن وهن لا يرينني، حديث أفزعني ولم أكد أصدقه، قالت إحداهن إنها سمعت عمتي تتحدث إلى أخيها بأنه لا يزال في فتوة رجولته، وأن بيته لا يصلح إلا أن يتزوج، وأن والدي أظهر بادئ الرأي عدم الرضا إكراما لذكرى المرحومة أمي، بعد الذي كان بينهما من صادق الحب، فكان جواب أخته أنها كانت تحب المتوفاة كما كان يحبها، وأنها حزنت لموتها مثل حزنه، لكن لله في تصاريفه أحكاما لا يدركها البشر، وإنا إذا وجب علينا الوفاء لمن نحب فذلك واجب ما عاش المحبوب، أما إذا اختاره الله إلى جواره فقد سقط عنا هذا التكليف؛ لأن قيمة الوفاء في تبادله، فإذا لم يكن متبادلا فلا مسوغ لوجوده، والأموات يحلوننا بموتهم من واجب الوفاء لهم، ثم إن عمتي ضربت على الوتر الحساس من قلب أخيها، فقالت: ولعل الله قد كتب لك ذرية صالحة من البنين يحفظون اسمك، ويفتحون بيتك، والزواج سبيلك إلى هذه الذرية، وابنتك هذه لا تستطيع أن تعيش وحدها في هذا البيت الفسيح، فهي بحاجة إلى من تحسن توجيهها، وتقوم بشأنك وشأنها.
وسمع والدي هذا الكلام من عمتي فأطرق قليلا، ثم خرج بالصمت عن كل جواب، وسمعت أنا هذا الكلام من خادمات البيت فأخرجني من أحلامي السوداء حزنا على أمي إلى مخاوف أشد سوادا؛ إشفاقا من المستقبل الذي يفغر فاه ليبتلعني في جحيمه، لكنني لم أكن أستطيع أن أقول شيئا أو أنبس بكلمة، وكل الذي فعلت أن منيت نفسي أن تكون إطراقة أبي شاهدا بعدم رضاه عما سمعه من أخته، ولقد بدأت أشعر لهذه العمة بالبغض والكراهية، وبدأت أفر من كل مكان أراها فيه، فإذا جلست في بهو الطابق الأول أو نزلت إلى الطابق الأرضي أسرعت إلى الحديقة ألتمس فيها الوحدة، وإذا نزلت إلى الحديقة - وقلما كانت تفعل - صعدت إلى الطابق الأعلى والتمست في غرفتي ملجأ أسكب فيه الدمع السخين على هذا اليتم الباكر.
ولست أدري أأفضت عمتي إلى والدي بميلي إلى العزلة، أم أنه لاحظ هذا الميل من تلقاء نفسه، أم أنه كان صريحا حين قال لي إن عمتي تريد العودة إلى قريتها، وإنه يؤثر أن نغير الهواء بالسفر إلى الإسكندرية والمقام بها أسبوعا أو أسبوعين؟
وسافرنا بالفعل، وسافرت معنا طاهيتنا، ونزلنا طابقا صغيرا استأجره والدي من أحد معارفه كانت به خادم صغيرة السن تتقن تنظيف المسكن وقضاء ما تحتاج إليه الطاهية من السوق القريبة منا.
وكان لهذا التغير في لون حياتنا من الأثر الحسن على نفسيتي ما خفف بعض الشيء من عميق لوعتي، فقد كنت أجد من هواء البحر المنعش في هذه الأيام الأولى من فصل الخريف ما ينشط ذابل حيويتي، وكنت أجد في زرقته الممتدة إلى الأفق حيث يتعانق الماء والسماء مسرحا لأفكار مبهمة يذوب خلالها جوى الحزن الذي ناء به صدري ، وكان صريف أمواجه المتكسرة على الشاطئ يداعب سمعي وكأنه أنغام يبعث تشابهها إلى الأعصاب نوعا من السآمة المريحة التي تدعونا إلى النوم كما تدعو أنغام الأم طفلها الرضيع إليه.
ثم إنني قلما كنت أرى ما ينبهني إلى ذكر والدتي، فقد كان والدي يخرج كل صباح، ثم لا يعود إلا لتناول طعام الغداء، وليستريح بعده في سريره ساعة يخرج بعدها من جديد، ولم أكن أسأله كيف كان يقضي وقته، وكانت الطاهية تدخل مطبخها في الصباح لإعداد الإفطار، ثم لإعداد طعام النهار، أما الخادم الصغيرة فكانت من الإسكندرية، ولم أكن قد رأيتها من قبل، وقلما كنت أجد الفرصة للتحدث إليها، إلا حين تصحبني ساعة خروجي بعد الظهر أسير على شاطئ البحر، وفي تلك الساعة كانت تقص علي أنباء تافهة عن مخدوميها أصحاب الطابق الذي نقيم به، ولم يثر عنايتي من حديثها إلا إعجابها الذي لا حد له بجمال سيدتها، وجمال أخت هذه السيدة التي تزوجت قبلها، ثم ظلت سنوات مع زوجها لم تنجب فطلقها؛ لأنها لم ترض أن تشاركها فيه امرأة أخرى يرجو أن يرزق منها الخلف الصالح.
على أن هذه المسكينة المحسنة التي خففت بعض لوعتي لم تبلغ أن أنستني فادح مصابي، ولا حجبت عني طيف المتوفاة العزيزة التي أذاقني موتها طعم اليتم المرير، فقد كانت تتبدى لي في أحلامي، وكنت أرى طيفها في شبه اليقظة وأنا أنظر من الدار إلى غاية الأفق، وكأنها ترنو إلي بعيون ممتلئة حنانا وعطفا، وكثيرا ما كنت أناجي السماء عند هذا الأفق البعيد أسائلها: لم حرمني الله أمي وما جنت ذنبا، بل كانت البر والرحمة بكل محتاج إلى البر وإلى الرحمة؟!
وكنت أعيد هذا السؤال على نفسي إذا تبدت لي أمي في أثناء النوم، ثم استيقظت بكرة الصباح دامعة العين منقبضة النفس، واستبد بي هذا السؤال أيامنا الأخيرة بالإسكندرية، حتى كنت أخرج أحيانا من صلاتي قبل أن أتمها مخافة أن يجزيني الله بالتعرض لقضائه أو الاعتراض عليه، وكنت في بعض الأحيان أجمع بين يدي كل قوتي، وأمضي في الاعتراض على ما أراه ظلما وقع بوالدتي وبي، حتى إذا شعرت أنني أصبحت على شفا جرف من هاوية التجديف ارتددت فزعة أبكي، وأنا لا أدري: أكان بكائي فرقا من هول ما اجترحت في حق ربي، أم من هول المصاب الذي أذبل صباي وشبابي، وجعلني أرى المستقبل أمامي أسود لا يبدد ظلمته خيط من ضياء؟
وأدت بي هذه الحال إلى إهمال بعض صلواتي، وكنت من قبل حريصة على ألا يفوتني فرض منها، كما بدأ يخامرني شيء من الشك فيما كان أستاذي يلقيه علي من دروس الديانة.
وعدنا إلى القاهرة لموعد بدء الدراسة في المدرسة السنية، فلما كنت بين زميلاتي ومعلماتي لم أجد بدا من العودة إلى العناية بمصلى المدرسة محافظة على مكانتي، وانخرطت في الدرس، وضاعفت مذاكرة علومي في البيت، ووجدت في ذلك مسلاة عن همي، وجاءت عمتي من جديد فتولت تدبير المنزل، ثم أعفتني المذاكرة من طول المكث معها، واطردت حياتنا على هذه الوتيرة زمنا كان والدي يسبغ علي في أثنائه أضعاف ما كان يسبغه علي من قبل من عطف وحنان، وأخذت عمتي تدنيني منها، فأنساني مر الزمن ما سمعته من خدم البيت عن حديثها مع أبي في أمر زواجه، فلم تبق في نفسي من ناحيتها تلك الحفيظة التي شعرت بها من قبل، وتعودت حياة اليتم وأخذت أشعر بضرورة الاعتماد على نفسي في كل شأن من شئوني، وبأني مطالبة فوق ذلك بالاشتراك مع عمتي في تدبير شئوننا المنزلية، وبخاصة ما تعلق براحة أبي في ملبسه وفي غرفة نومه، آملة أن يجد في عنايتي بأمره ما يصرفه عن التفكير في الزواج.
الفصل الثاني
أقبل شهر رمضان بعد أسابيع من بدء السنة الدراسية، فاختار أبي فقيها ندي الصوت، أحيا لياليه مع الفقيه الذي ألفنا سماعه عندنا في هذا الشهر المبارك، فلما كان عيد الفطر خرجت مع والدي وعمتي وزرنا قبر والدتي، وذرفت عليه دمعات سخينة، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر التي أحضرها والدي، وبعد شهرين كان عيد الأضحى، فزرنا القبر كرة أخرى، وسمعنا عنده من يرتل القرآن، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر، وشعرت بدمعي أقل سخاء مما كان في عيد الفطر، وإن بقي قلبي يشعر بألم اليتم شعورا قاسيا عميقا.
وبعد أسبوعين علمت أن أبي سافر إلى الإسكندرية لأمر لم أعرفه ولم تطل غيبته هناك غير أسبوع ثم عاد إلينا وقد تزوج.
تزوج السيدة الجميلة المطلقة شقيقة صاحبة الطابق الذي نزلنا به حين سافرت معه، فلما دخل البيت معها ناداني وقال: سلمي على «تيزة». ونظرت إليها فإذا هي جميلة هذا الجمال الشركسي البارع، فارعة القد، عالية العنق، دعجاء العينين، رقيقة البشرة، دقيقة الأنف والشفتين، يلفت جمالها النظر ويمسكه.
وسلمت عليها في تأديب، وبقيت هنيهة صامتة، ثم شعرت بأني أطلت المقام، فانفلت مسرعة إلى غرفتي، وقد أحسست بالعبرات تملأ عيني، وخشيت عدم القدرة على أن أحبس في صدري نشيج البكاء، وأغلقت باب الغرفة، وانخرطت في حزن صامت مخافة أن يسمع أبي صوتي، ترى ما عسى أن يكون مصيري مع هذه السيدة البارعة الجمال؟ وهل اصطحبني والدي إلى الإسكندرية ليخطبها إلى نفسه وأنا عما صنع في جهل وعماية؟
لا ريب أن عمتي لن تلبث أن تغادرنا إلى قريتها وتترك أمر البيت وتدبيره إلى الزوجة الجديدة التي حلت محل أمي، وأصبحت ربة البيت ومن فيه، وستغادرنا عمتي بعد أن دبرت هذا الزواج مع أبي، وبعد أن علمت به منذ عدنا من الإسكندرية، ثم كتمته عني كل هذا الزمن.
وطال احتباسي في غرفتي، ولم يدعني أبي ولم تدعنى زوجه للانضمام إليهما، ولم تفكر عمتي في الدخول علي لمواساتي، وأغلب الظن أنهم رأوا الخير في تركي أسلس العنان لعواطفي في هذه اللحظة الأولى؛ تقديرا منهم لما أثاره هذا الموقف في نفسي من ذكر أمي وذكر مرضها وموتها، لكنني لم أقدر الأمر على هذا النحو في هذه اللحظة، فقد أيقنت أن العزلة أصبحت نصيبي، وأن هذه الزوج الجديدة قد اختطفت أبي كما اختطف الموت أمي، وأني لم يبق لي إلا أن أعتصم برحمة الله وأنزل على حكم قضائه القاسي.
ولم يدر بخاطري أن زوج أبي لم تلبث بعد أن اطمأنت إلى مكانها من بيتها الجديد أن قامت تدور في أرجائه لترسم في ذهنها صورته، ولترسم بعد ذلك أسباب تدبيره، وإنني لفي مجلسي من غرفتي وقد جف دمعي، وإن ظلت عيناي محمرتين من أثر البكاء، إذ فتح الباب ورأيت الأب والزوج والعمة يدخلون علي ثم يقول أبي موجها الكلام إلي: أنت هنا يا ابنتي! وسرعان ما أقبلت زوجه نحوي وأخذت تطري نظام الغرفة وحسن ذوقي في تنسيقها، وكان صوتها رقيقا فيه من الحنان ما لم تتكلفه، فلما آن لهم أن يتركوا الغرفة أخذتني من يدي، وأخذت تسألني عن شأني سؤال من يعنيه أمري ويحرص على راحتي، ونظرت إليها ألتمس مبلغ الصدق في كلامها فسحرني جمالها، وخلتها ملاكا كريما بعثت به السماء ليضمد جراحي، ويأسو كلوم قلبي!
وسرت إلى جانبها وهي ممسكة بيدي، فلما كنا في البهو وأخذنا مجالسنا منه رأيتها تفتح حقيبة وتخرج منها عقدا جميلا تثبته حول عنقي، ثم تخرج من حقيبة يدها مرآتها الصغيرة لأنظر جمال العقد على صدري، ونظرت في المرآة فأعجبني العقد، وكان أول مصاغ تحليت به من نوعه، وأدرت عيني إلى ناحية أبي، فإذا على ثغره ابتسامة راضية تشهد باغتباطه لما يرى.
غادرتنا عمتي بعد ثلاثة أيام إلى قريتها، وانخرطت أنا في نشاطي المدرسي، وفي الدروس الخاصة التي كنت أتلقاها في اللغة العربية وفي الديانة، وأنا أحسب أن شيئا ما لم يتغير في حياتي المنزلية، ترى هل كان للجمال البارع الذي اختصت به زوج أبي أثر في هذا الحسبان؟ فقد تخطت الثلاثين وكانت في نظرتها مع ذلك براءة الطفولة، وفي ضحكتها سذاجة الصبا الذي تتفتح عنه هذه الطفولة، وكانت قسمات محياها كأنما صورها فنان أدق تصوير مر بخياله، وكان شعرها الناعم الفاحم المنسدل على كتفيها خير إطار يزيد حديث عيونها بلاغة، وجمال قسماتها روعة وسحرا، وكان قوامها بهجة للنظر باعتداله ودقته، وكان كل شيء فيها يقف الناظر إليها مسبحا بقدرة الخالق الذي أبدع هذه الفتنة الباهرة، وكانت حركاتها وسكناتها طبيعية، وتبدو مع ذلك وكأنما درست بعناية لم تذر للمصادفة حظا في شيء منها، وكنت كلما رأيتها سحرت بها وازددت إيمانا بالله بارئها وشعرت بأن لجمالها من السلطان على جناني ما كان لحنان الأم الرءوم من السلطان على وجودي كله.
تنصفت السنة الدراسية ثم قاربت نهايتها وأنا منكبة أشد الانكباب على دروسي، ووالدي يحضر كعادته درسي الخاص مع الشيخ موضع ثقته، وإنني لكذلك إذ مرضت وانقطعت عن المدرسة قرابة عشرة أيام، فلما أبللت وأردت الإقبال على الدرس لأستعيض ما فاتني في أثناء علتي، دعاني والدي إليه وقال لي: «لقد رأيت يا ابنتي خوفا على صحتك أن تنقطعي عن المدرسة ولا تذهبي إليها منذ غد.»
ولم يكن لي عهد بأن أناقش قرارا اتخذه، فخرجت من عنده وآويت إلى غرفتي وقد عرتني الدهشة، صحيح أنني كنت أسمع زوج أبي تبدي من البرم بتعليم البنات الشيء الكثير، وتذكر أن البنت خلقت للبيت وللأمومة، لا لممارسة الأعمال والوظائف الحكومية، وأن الخير لذلك كل الخير في أن تتدرب منذ صباها الباكر لتتقن ما ستقوم به في مستقبل حياتها.
لكني لم أكن أعير حديثها في هذا الشأن بالا؛ لأني كنت أعلم أن أبي على غير هذا الرأي، وأنه يرى أن تعليم الفتاة تعليما عاليا بعض ما يجب لكمال وجودها الإنساني، واحتياطا لمستقبلها حتى يكون لها فيه من الحرية ما يرفع عنها ذلة العبودية للرجل، أيا كان مصدر هذه الذلة، فماذا حدث؟ ما الذي دفع والدي ليبلغني هذا القرار ولم أبلغ بعد من التعليم غاية مرحلته الثانوية؟ وهل للمرأة من الأثر على الرجل، وإن كان حصيفا حصافة أبي، أن تبدل تفكيره كما تشاء؟ أم أن السلطان كان لهذا الجمال الساحر الذي اختصت به زوج أبي؟ أيا كان الأمر لقد أيقنت من اللهجة التي أبلغ بها هذا القرار إلي أنه قرار مبرم، لا رجعة فيه.
وكان لهذا القرار أسوأ الأثر في حياتي، فقد أنشأ عندي عقدة نفسية لازمتني، ولم أنج قط منها ، وقد كان الأثر الأول لقرار أبي أن بدأت أعرف ما كنت أجهل، بدأت أعرف الكراهية، وكان قلبي لا يعرف غير الحب، كنت أحب الناس على اختلاف طبقاتهم، وكنت أحب الطبيعة وفتنة جمالها، وكنت أحب الحيوان والطير، وكنت أحب الحياة ونعمتها حبا جما؛ ذلك بأنني لم أشعر منذ ولدت بما يزهدني في الحياة، بل كان المتاع بها وبكل ما فيها بعض حظي. لقد كنت وحيدة بين أمي وأبي، وكانا يفيضان علي من حنانهما وبرهما ما يجعل الهواء الذي أتنفسه كله الحنان والرحمة، وكله المحبة والود، وكله نسمات السحر وبسمات الزهر وأغاريد الطير والشذا المتضوع بأرق العواطف وأحلاها، لكني ما لبثت حين سمعت هذا القرار يبلغه إلي أبي أن شعرت بأن زوجه صاحبة الوحي به، وأن ما أسمعه عن زوج الأب وبرمها بأبناء زوجها صحيح، وشعرت لذلك بهذه العاطفة الكريهة عاطفة الكراهية تندس إلى قلبي، وتجد منه مكانا لم يكن لها من قبل فيه موضع.
وعجبت كيف ينطوي هذا الجمال الفاتن الذي صوره الله في هيئة هذه المرأة على روح خبيثة كل هذا الخبث، وكيف تستر هذه النظرات البريئة قلبا آثما كل هذا الإثم! وأيقنت في قرارة نفسي أن برمها بتعليم البنت لم يكن رأيا تؤمن به وتبديه، بل كانت البنت أنا، وكانت برمة بتعليمي أنا، ولهذا لجأت إلى كل وسائلها وكل حبائلها وكل شباكها، فانتشرت بسلطان جمالها في دخيلة أبي، وحملته على أن يتخذ قراره فيحرمني نعمة كانت لذتي وسلواي، وكانت صارفي عن أن أرى ما في الحياة من قبح وسخف.
وأخذت أفكر كيف أقاوم ما قررا، ولم يكن الذهاب إلى المدرسة سبيلي بطبيعة الحال إلى هذه المقاومة، فأنا لم أكن أذهب إليها وحدي، بل كان يصحبني في ذهابي إليها وأوبتي منها بوابنا العجوز، كما أنني لم أكن أستطيع أن أعلن هذا العصيان الصريح، وأنا موقنة أن ثورتي لن تلبث أن تتحطم، ولن يكون من أثرها إلا أن يغضب مني والدي وتشمت زوجه بي، ولذلك قررت أن أقضي معظم وقتي في قراءة ما أستطيع قراءته من كتب عربية وإنجليزية أستطيع الحصول عليها بوسائلي، ولم أجرؤ يومئذ أن أستشير أحدا فيما أقرؤه، فكنت أقرأ كل ما يقع في يدي، صالحا كان أو طالحا، نافعا كان أو ضارا.
وبدأت زوج أبي تشغل نهاري بما سمته إعدادي لحياتي المقبلة، فأخذت تعلمني التطريز والخياطة والطهي وما إلى ذلك مما يتصل في نظرها بتدبير المنزل، فهي لم تكن تعرف القراءة والكتابة، لكنها كانت تجيد هذه الأعمال كما كانت تجيد العناية بجمالها كل الإجادة؛ لذلك كان إشرافها على نظام المنزل وحسن تدبيره وعلى كل ما نأكل ونشرب بالغا غاية الدقة، صحيح أنها لم تكن تباشر من ذلك شيئا بنفسها، لكن نظرتها إلى ما يجري في المطبخ أو في الكرار، وإلى ترتيب الأثاث وحسن تنسيقه، وما تبديه في هذه الشئون من نقد وما تصدره من أوامر، ذلك كان كافيا ليجعل عيون الخدم في رءوسهم، فلا يهملون شيئا، ولا يغفلون واجبا، وهي لم تكن مسرفة ولم تكن مقترة، وكانت تعرف كيف تضع كل شيء في محله؛ لذلك أسرعت إلى كسب ثقة أبي كما كسب جمالها ناظره وقلبه وعواطفه منذ اللحظة الأولى.
أما أنا فلم أكن شديدة الإقبال على ما تعلمني من شئون المنزل، أكان ذلك رغبة مني عن هذه الشئون، أم كان لأنها هي التي تعلمني إياها؟ وقد خلق انقطاعي عن المدرسة جفوة بيني وبينها جعل كل ما تقوله لي أو تريدني أن أتعلمه موضع الريبة عندي، وأقبل والدي يوما يوجه إلي لوما رقيقا على ما يبدو من عدم إقبالي، وينصح لي في لطف أن أقدر عناية زوجه بي وحرصها على مستقبلي، فازددت بسبب ملاحظته نفورا من زوجه؛ إذ شعرت أنها تريد أن تصرف عني محبته لتستأثر وحدها بكل قلبه، وذكرت له أنني ربما ازددت إقبالا على هذه الشئون لو تعلمتها في مدرسة، فابتسم ابتسامة ذات معنى وتركني وشأني؛ إذ أدرك أنني أريد أن أبتعد عن البيت وربته جهد المستطاع.
وخيل إلي بعد زمن أنني وجدت الوسيلة لما أريد ، فذكرت لأبي بحضور زوجه أن المرحومة والدتي كانت تود لو تعلمت البيانو، ذكرت ذلك وكنت مقتنعة بأن امرأة والدي ستعارضه، ولشد ما كانت دهشتي إذ رأيتها تقول: كلامك هذا معقول يا عزيزتي، فكل فتاة مهذبة لا تعرف اليوم أن تلعب إحدى آلات الطرب ينقصها شيء جوهري لحياتها الزوجية، ثم أشارت إلى والدي قائلة: ومن الخير أن تشتري لها البيانو منذ الآن، فهو بعض جهازها، ومتى جيء به إلى البيت جاءت معلمته تدرسه إلى بنتنا.
ونظر إلي أبي مبتسما، وهز رأسه كأنما يعاتبني على ما يدور بخاطري من ظنون بزوجه، وكأنما يقول لي: إن روحها جميلة جمال شخصها، وإنها تحبني حبها لابنة أحشائها. وجاوبت ابتسامته بابتسامة مثلها شكرا له على عطفه، وانتظارا للبيانو الذي كنت أحلم به.
وكان حقا علي أن أشكر زوج أبي لتأييدها طلبي، لكنني لم أفعل، فقد كنت أريد أن أتخذ من تعليم البيانو فرصة للفرار من جو المنزل، أما أن تجيء معلمة البيانو إليه فقد أصبحت دروسه تحت سمع امرأة أبي وبصرها، وهذا السمع والبصر يضيعان علي الفرصة التي كنت أطمع في انتهازها، ولم أكن أستطيع أن أعبر عما يخالج خاطري من ذلك مخافة أن يساء تأويله، وما أغناني عن سوء التأويل، وحسبي أن صديقتي وزميلتي التي كانت تقيم على مقربة منا كانت تكثر التردد علي، وكان يسمح لي برد بعض زياراتها.
واشترى والدي البيانو، وجاءت معلمته فأكببت على استذكار دروسه إكبابي على قراءة كتبي، بذلك شغلت معظم وقتي ولم يبق فيه لتدبير المنزل في صحبة زوج أبي ما يثقل على نفسي أو تنوء به روحي، ومع ذلك بقيت الحيرة تتولاني كلما خلوت هنيهة إلى نفسي، وأشعر كأني غريبة في هذا المنزل الذي ولدت به، والذي أعيش فيه مع أبي، وكأن روحا آخر يرفرف من وراء الحجب، يريد أن يطمئن علي، وعلى أنني لا أنوء بألم الحياة.
وكان أبي يشاركني الحيرة، وإن كانت حيرته من نوع آخر، لقد كان يسبقني إلى رغباتي، فلم أكن أطلب شيئا إلا أجابني إليه، وأضاف إلى ما طلبت ما يظنه يزيد في غبطتي، وكان يرى زوجه تشاركه في العمل على إرضائي، ثم يراني برغم ذلك قليلة الابتسام ميالة إلى العزلة، يبدو علي دائما أن شيئا ينقصني، وأنني غير مستريحة لما أنا فيه، وكان من حقه والأمر كذلك ألا يعبأ باعتزالي، لكنه مع ذلك يحاول دائما أن يبلغ مرضاتي، على حين كانت زوجه ترى في تصرفه من المبالغة في تدليلي ما لا يتفق مع حسن تربيتي.
ولقد طالما ذكرت تلك الأيام، بعد أن تزوجت وصرت أما، وطالما سألت نفسي: أكنت متجنية في حيرتي وفي عزلتي وفي عدم رضاي؟ فلم يكن ينقصني يومذاك شيء، ولم تكن زوج أبي تسيئني بكلمة، وكان جوابي عن هذا التساؤل هو الجواب الطبيعي، فسعادتنا لا تتعلق بحاجتنا المادية بقدر ما تتعلق بحالتنا النفسية، وبإحساسنا وعواطفنا، ولئن جرت في شأن امرأة الأب الأقاويل، لحق أن زوج أبي لم تتعمد يوما أن تجرح عواطفي، أو أن تمنع عني خيرا، بل لقد كنت أرى والدتي قبل مرضها ووفاتها توجه إلي من ألوان النقد ما لم توجهه إلي زوج أبي.
لكن النقد الذي كانت توجهه إلي أمي، والذي كان يغضبني أحيانا، كان صادرا من أمي، كان الدواء الذي لا نسيغ طعمه أحيانا ولكننا نرى فيه الشفاء، فإذا لم نؤمن بأن فيه الشفاء فلا ريب عندنا في أنه صادر من قلب سليم، وإخلاص صادق لخيرنا، بلا ريب عندنا في أن الحنان المتفجر من أعماق القلب البر العطوف، قلب الأم، يمحو كل ما في هذا الكلام من شائبة تكدر صفونا. وهل الأم كلها، وكل ما يصدر عنها، إلا حنان وبر وعطف، وإيثار لبنيها على نفسها؟ وهل الأم وما أنجبت إلا شجرة واحدة تتشعب فروعها، وكل ما يمتصه الجذع من أسباب الحياة إنما يمتصه لحساب هذه الفروع ولبهائها ونمائها وحسن إثمارها؟ أولا تدل قوانين الوراثة على أن الأسرة وحدة متصلة على الزمن، وأن عصارة الحياة في عروق الأجداد تمتد إلى أحفاد الأحفاد، وقلب الأم يعرف نفسه ، ولا يفرح لصاحبته أو يأسى لما يصيبها، وإنما فرحه لابنها أو لابنتها، وأساه لما يصيبهم؟! والأم تجمع إلى قلبها قلب الأب لتسكبه حنانا ومحبة وبرا في روح ذريتها، هذا كله تراث معنوي ضخم هو مصدر طمأنينتنا للحياة وسعادتنا فيها.
أما زوج الأب فشخص مستقل عنا كاستقلالنا عنه، تتضارب مصالحه مع مصالحنا، وميوله مع ميولنا، وهي تنافسنا في كسب قلب أبينا زوجها، قد تنشأ بيننا وبينها صداقة، ولكن محال أن يربط الحب الصادق بين قلبها وقلبنا، وأنى لها حب الوالدين لأبنائهما، وإن بلغت من طيبة القلب وصفاء النفس أعظم مبلغ؟ أذكر قصة طريفة تصور في سخرية عاطفة الأمومة، وكيف تسمو بفطرتها على العقل ومنطقه، فقد كان لواحد من أقارب أبي زوجتان أنجبتا في عام واحد ولدا وبنتا، وكبر الطفلان، وكان للولد غرام بأن يعض بأسنانه من يناوشه، وتأصلت هذه العادة فيه، فكان يلجأ إليها من غير أن يناوشه أحد، وإن أخته لتجلس إلى جانبه يوما إذ بدا له أن يعضها ففرت منه إلى أمها، وحمتها أمها من أخيها فبكى وأمعن في البكاء، وعرفت أمه سبب بكائه فصاحت بضرتها: «ألا تشفقين على هذا الطفل؟ وما ضر أخته إذا هو عضها واستراح وانصرف عن البكاء؟»
فأجابت أم الطفلة: «أتريدين أن يستريح هو وأن تبكي أخته لغير ذنب جنت؟ فليبك ولينفلق من البكاء فلن أريح شذوذه!»
وتبادلت الضرتان ما شاءت الشحناء أن تتبادلاه من عبارات أوحت بها لكل واحدة منهما أمومتها، ألا يدل ما في هذا الحادث من سخرية وسخف على احتقار نظرة الأمومة لكل منطق؟ أو لو كان الطفلان توءمين لأم واحدة، أفكانت تحاول أن تريح شهوة الولد على حساب البنت، أو أن تدع الولد يمعن في بكائه ولو انفلق؟ أم كانت تجد في حنان أمومتها ما يسكن الطفل عن غضبه، وما يصلح بينه وبين أخته من غير أن يعضها؟
ولا ذنب على زوج الأب فيما تتهمها به الأقاويل، فالأقاويل تريدها أن تكون لغير بنيها، وهي لا تستطيع ذلك وإن حاولته ، ولا وزر في ذلك عليها، إنما الوزر على الرجل الذي تزوج بعدما أنجب بنين، سواء تزوج في حياة زوجه الأولى أو بعد وفاتها، وما حاجة الرجال إلى الزواج بعد أن يصبحوا آباء؟! إن نساء كثيرات يكرسن حياتهن لتربية ذريتهن، وحق على كل امرأة وكل رجل أن يكون ذلك شأنه.
لست أدري لم أنزع الساعة للدفاع عن امرأة الأب بعد الذي كنت فيه من حيرة وعزلة وعدم رضا منذ تزوج أبي إثر وفاة أمي؟! فلأدع هذا ولأعد إلى قصتي، لقد انقضت الشهور منذ اشترى والدي لي البيانو، ومنذ عكفت نهاري على استذكار دروسه عكوفا أنساني شئون المنزل، وكيف تكون العناية بتدبيره، مع ذلك بقيت أشعر بالوحدة والعزلة برغم عطف أبي وحنانه، ولقد زاد في شعوري هذا حادث لم أكن أحسب أنه سيترك في نفسي أثرا، فقد كان طبيب من كبار الأطباء المتخصصين في أمراض النساء يتردد على المنزل ويعود زوج أبي، وقد كان أول أمره لا يبدو عليه حين انصرافه ما يدل على جديد، واستمر كذلك شهورا حتى رأيته يوما متهللا، ورأيت والدي يودعه إلى الباب الخارجي وعلى ثغره ابتسامة عريضة تنم عن مسرته واغتباطه، وسرعان ما علمت أن زوج أبي حامل، وذكرت لسماع هذا النبأ حديث عمتي لأبي بعد قليل من وفاة أمي تحرضه على الزواج لينجب الخلف الصالح، وليكون له بنون يحفظون له اسمه وذكره. عما قريب إذن سيشركني في عطف أبي طفل يستأثر بقلب أمه وبكل روحها ووجودها.
أتراني يومئذ أحب هذا الطفل كما لو كان ابن أبي وأمي؟ وماذا يكون موقف أمه مني؟ لعلي لم أبلغ من تحليل الموقف ما يجول الآن بخاطري، ولكني ازددت إكبابا على البيانو نهارا وعلى القراءة ليلا، ولم ألق بالا لما بدا على زوج أبي من أعراض كانت تلزمها سريرها أحيانا، وتدعوها لتكليفي بمراقبة ما يدور في المنزل، أما أبي فقد ازداد حدبا على زوجه ورعاية لها، وجعل يدعو الطبيب ليراها كل أسبوع أو أسبوعين مبالغة في العناية بها، وبالطفل المستكن في أحشائها، وكان الطبيب يستصحب في بعض زياراته طبيبا شابا يعاونه في قياس الضغط، أو في إجراء بعض تحاليل سريعة يرى الطبيب المباشر أنه في حاجة للوقوف على نتائجها لوقته.
وكان هذا الطبيب الشاب وسيما دقيق العناية بهندامه، وفي عينيه بريق خاص ينم عن الذكاء والطيبة مجتمعين، وقد كان يسرع بالدخول مع الطبيب الكبير إلى غرفة الحامل، فكان قصاراي أن ألمحه من وراء حجاب ساعة دخوله وخروجه، وكانت نظراته وحركاته تجعلني أغتبط بما أرى منه، وأود لو أستطيع التعرف إليه، أما هو فكان في شغل عني بما يوكل إليه إجراؤه في أثناء الزيارة، فإذا انصرف مع الطبيب الكبير المتخصص في أمراض النساء تابعته بنظري من نافذة غرفتي.
ولم يكن لي سبيل إلى التعرف إليه، والحجاب المضروب على النساء كان يومئذ على أشده، فلم يكن يتاح لواحدة من بنات طبقتنا أن تقف مع رجل أو تتحدث إليه أيا كانت سنه، بل لقد كانت الفتاة تخطب إلى شاب لم تعرفه ولم تره، ويكون القول الفصل في زواجها منه لأمها ولأبيها، وكان العار أكبر العار أن يكون لها في الأمر رأي، أو تكون لها فيه كلمة.
وانقضت مدة الحمل، ووضعت زوج أبي غلاما جميلا ابتهج والدي بمولده، وفاض عنه السرور به، وجاءت أخت زوج أبي، وأقامت لها حفل «سبوع» منقطع النظير، بدأت أشعر نحو هذا الطفل البريء بعاطفة الأخوة التي لم أعرفها من قبل، فلما صلب عوده وأصبح مستطاعا حمله كنت آخذه من مربيته وأضعه في العربة في بهو الطابق الأول، كما كنت أجد في النزول به إلى الحديقة خير تسلية، حتى لقد كانت هذه التسلية تصرفني إلى حد كبير عن استذكار دروس البيانو.
وتوعك الطفل فجن جنون أمه، وأسرعت إلى استدعاء الطبيب الشاب الذي عرفته أيام حملها، وفحص الطبيب الطفل وطمأن أمه وأباه، وأخذ يحدثهما عما يجب من رعاية «لولي العهد»، ورغبت الأم أن أسمع كلام الطبيب اقتناعا منها بأنني أقدر من المربية على العناية بالطفل، ولم يجد أبي بأسا بدعوتي، فلو أنني مرضت لعادني هذا الطبيب وأنا في فراشي، فلما ناداني وعرفت أن الطبيب لا يزال في غرفة الطفل شعرت بقلبي يخفق، ثم هدأت نفسي إذ وجدت الفرصة سانحة لما كنت أطمع فيه من التعرف إلى هذا الشاب الذي كان يكبرني بعشر سنوات أو نحوها ومن محادثته، واستمعت إليه يصف الدواء، فأخذت أسأله عن تفاصيل طعام الطفل وشرابه ونومه واستحمامه، وسرت زوج أبي بما بدا من عنايتي بابنها، فنظرت إلى الطبيب نظرة استعطاف، وقالت: لا تؤاخذها يا دكتور، فهي تحب أخاها أصدق الحب، وهي تتولى الكثير من شئونه.
ووصف الطبيب دواء بسيطا، وقال إنه سيعود بعد ثلاثة أيام ليطمئن على صحة الطفل وعلى أثر الدواء، وعنيت أنا خلال هذه الأيام الثلاثة بتنفيذ أوامره في شأن الطفل بدقة أثارت إعجاب أمه ومسرة أبي، وكنت أنتظر اليوم الثالث بصبر نافد، وبخاصة لأنني رأيت الطفل قد زالت وعكته وعاودته الابتسامة البريئة الملائكية التي تجعل الأطفال جميعا أحباب الله، وتجعل هذا الطفل الجميل ملاكا يشع منه نور يسعد كل من حوله.
وجاء اليوم الثالث، وجاء الطبيب ورأى الطفل، وأبدى اغتباطه بشفائه، ولم تضن علي زوج أبي بشهادة طيبة؛ إذ قالت إنني أنا التي بذلت كل العناية في تنفيذ العلاج، وأدار الطبيب الشاب نظره إلي وقال: يظهر أن للآنسة غراما بالطب، أم أن حبها لأخيها وعاطفتها الرقيقة نحوه كانا أشد أثرا من الدواء في سرعة برئه، وأنا مع ذلك سأعود بعد أسبوع لأزداد اطمئنانا على صحته، فالأطفال في سن التسنين معرضون لوعكات لا خطر منها، ولكنها تزعجهم وتزعج أمهاتهم أحيانا.
وجعل الطبيب يعود الطفل بعد ذلك كل أسبوع، وجعلت أنا أزداد بهذا الأخ الصغير الجميل عناية، وله حبا، أفكانت عاطفة الأخوة وحدها مبعث هذه العناية؟ أم كان مبعثها فطرة الأمومة التي تتحرك في أحشاء كل شابة لمرأى طفل جميل ولاجتلاء ابتسامته ولاتصال جسمه بجسمها؟ أم ترى كان لهذا الطبيب وزياراته المتعاقبة أثر في هذه العناية؟ يصعب علي أن أبدي حتى اليوم رأيا في الأمر، ولعل هذه الدوافع جميعا كانت ذات أثر فيه، ولكن الذي أذكره أدق الذكر أنني برغم ما شعرت به نحو هذا الطبيب من جاذبية، وما كنت أجد في حديثه من متعة، كنت شديدة الحرص على ألا تبدر مني بادرة تكشف عما في نفسي، بل كنت أبدو أشد حرصا على أن أثير إعجابه وتقديره لعنايتي بأخي مني على أن أكشف له عن عواطفي.
فقد سمعت أن إحدى زميلاتي في المدرسة أحبت شابا نابها، وعرضت نفسها عليه ليتزوجها، فرغب عنها وخطب غيرها، فلما تمت الخطبة حاولت هذه الزميلة الانتحار، وإن كبريائي لتسمو بي عن أن أعرض نفسي على كائن من كان، بل إني لأشعر بأن الحب إذا انحدر بصاحبه - رجلا كان أو امرأة - إلى هذه المنزلة كان ضعفا يجب أن تتنزه عنه كل نفس مهذبة.
وقد استأثر أخي الطفل بقلب أمه وبعقلها وبكل وجودها، فلم تكن ترى في محيطها غيره، ولم تكن تسمع غير صوته، لقد كنت أراها جالسة إلى أبي يتحدث إليها وتستمع هي إليه، ثم أراها تندفع قائمة نحو غرفة الطفل تقول: إنه يبكي!
هذا ولم يكن أينا سمع بكاءه، وتجيء به وقد حملته إلى صدرها وقلبها، فإذا الدموع بالفعل في عينيه، وإذا هو حقا كان يبكي في صمت لا يسمعه إلا قلب الأم، ولم يكن أبي يسمع هذا البكاء الصامت، ولكنه لم يكن لذلك أقل إقبالا على الطفل وإعزازا له من أمه، كنت أرى هذا الرجل الرزين الحصيف يدخل إلى البيت وفي يده غير مرة في الأسبوع لعبة من لعب الأطفال ممن هم في مثل سن أخي، وكان يجد متاعا بل سعادة كلما رأى الطفل يبتسم، أو سمعه يضحك، وكان الوالدان يزدادان للطفل حبا كلما تقدم نموه، فلما استطاع أن يقف على قدميه ليمشي كانت حركاتهما لتشجيعه تثير الضحك، لكنني لم أضحك لأنني كنت أحب أخي كما كانا يحبانه، وكنت سعيدة كسعادتهما به.
وشغل «ولي العهد» خدم البيت كما شغل سادته، فلم تكن مربيته وحدها تلحظ حركاته وسكناته بعطف وعناية، بل كانت كل واحدة من الخدم تود لو استطاعت أن تخدم سيدها «البيه الصغير» لتسعد بهذه الخدمة، ولتنال بها حظوة عند أمه وأبيه وأخته، ولست أبالغ حين أذكر أن الكل كانوا يسعدون لعنايتهم بهذا الطفل البريء الذكي الجميل، وكانت أمه مع ذلك تخاف عليه من خياله، فإذا سقط على الأرض وهو يمشي أقامت الدنيا وأقعدتها، وإذا صاح لأن أحدا أخذ منه شيئا مخافة تلفه صاحت لصياحه، وأثارت في البيت ضجة كأن حادثا خطيرا حدث، ولم يكن أبي يلومها على شيء من ذلك أو يسدي إليها النصيحة لخير الطفل، بل كان يجاريها في غضبها ورضاها؛ لأنه كان لا يرى إلا بعينيها، ولا يسمع إلا بأذنيها، ولا يعرف في الحياة منطقا غير منطقها.
بدأت برغم حبي لأخي أضيق ذرعا بهذه المبالغات، وأشعر أنني أصبحت من رعاية أبي في المحل الثالث لا في المحل الثاني، وأن أخي وأمه مفضلان علي عنده، فازداد برمي بزوج أبي، وأحسست أن البيت على سعته يضيق بي، وكنت قد تجاوزت إذ ذاك السابعة عشرة من سني حياتي، وكانت صديقتي التي تعيش مع أبويها على مقربة من بيتنا قد خطبت إلى شاب موظف في الحكومة أثنى عليه أبي غير مرة أمامي.
قلت في نفسي: أولا يكتب لي الحظ ما كتب لها فأنتقل إلى بيتي أنا بدل أن أبقى حبيسة مع امرأة أبي؟! وتصورت يوما قريبا يكون لي فيه طفل كأخي أسبغ عليه من حبي ومن قلبي ومن عنايتي ورعايتي كل ما يحتويه قلب الأم من بر وحنان.
ساورتني هذه الأحلام واشتد أخذها بخناقي حين اشتدت لهفة زوج أبي على ابنها الطفل حتى جعلت تلومني على ما سمته عدم عنايتي به، وهي قد زادت في التثريب علي منذ رأتني عدت أستذكر دروسي على البيانو، وأقضي وقتا غير قليل أمامه، فقد كنت أهملت هذه المذاكرة شهورا عدة لفرط اشتغالي بأخي، فلما رأيت مخاوف أمه ولهفتها عليه، وتعلق أبيه به أخذت أعود إلى دروسي أتسلى بها عن هذا الشعور الذي استبد بي، وجعلني أشعر أنني صرت من رعاية أبي في المحل الثالث، ولئن حز هذا الشعور في نفسي لقد دعاني من بعد إلى أن أتساءل: ترى لو أن أمي لم تمت وأنجبت غلاما كما أنجبت زوج أبي، أكانت الرعاية الأبوية تنصرف إليه عني كما انصرفت إلى أخي من غير أمي؟ أم كنا نعيش أسرة واحدة يجري في عروقها دم واحد هو ماء الحياة الذي يمتصه جذع الشجرة ليبعث منه إلى فروعها البهاء والنماء والحيوية المترعرعة بمعاني النعمة والسعادة؟ فأين نحن الآن من هذا الوضع؟ إن الفرنسيين يعبرون عن الأخ أو الأخت لأب، وعن الأخ والأخت لأم أنه نصف أخ، أو أنها نصف أخت، وقد يكون لهذا التصنيف المادي ما يسوغه، ولكني أحسب أن للتعبير الفرنسي معنى أعمق من ذلك بكثير، معنى يتناول الجانب العاطفي في صلات الأسرة وأفرادها بعضهم ببعض، فصلة الأم بأبنائها صلة مباشرة، هم من دمها ولحمها، ومن قلبها وروحها، ومن أعماق وجودها، أما صلة الأب بالأبناء فصلة بالواسطة، والأم هي هذه الواسطة، فإذا كان له أبناء لأكثر من أم تأثرت عواطفه لأبناء كل أم بمبلغ ما بينه وبين الأم من مودة، وإن اختلف هذا الأثر في نفس أب عنه في نفس أب آخر، هذا إذا كانت الأمهات جميعا أحياء.
أما في مثل حالنا حين تكون أم حية وأخرى قد انتقلت إلى جوار الله، فذكرى المتوفاة تقوم في نفس الأب مقامها، وإن كان الحاضر أفعل أثرا من الغائب، وأبي كان يحب أمي أشد الحب، وهو اليوم يحب زوجه أشد الحب، ولا يستطيع الحاضر أن يحجب الماضي، وإن استطاع أن يتغلب عليه، ولطفولة أخي ولجمال أمه أثر في هذا الغلب.
ولعلي لو أتيح لي من الحظ ما أتيح لصديقتي التي تقيم مع أبويها قريبا منا فخطبت ثم تزوجت لاسترددت رعاية أبي كاملة، ولتخلصت من لوم زوجه إياي وتثريبها علي.
وفيما تساورني أحلامي عاودت الوعكة أخي ودعي الطبيب الشاب لعيادته، فلما رآني أخذ يسألني عنه، ثم يسألني عن نفسي، وكان هذا الطبيب هو الشاب الوحيد المثقف الذي أتيح لي أن أتحدث إليه غير الشباب من ذوي قرباي وأبناء أسرتي، ولم يكن واحد من هؤلاء يطمع في يدي؛ لأنهم كانوا ينظرون لأبي على أنه أكبر مقاما وأوسع ثروة وأعرض جاها من آبائهم جميعا، ولم أكن أشعر نحو أحد منهم بمحبة ولا بجاذبية خاصة؛ ولذلك كنت أتمنى لو أن هذا الطبيب خطبني إلى أبي، ولو أن أبي قبل هذه الخطبة وبشرني بها.
ومن يومئذ جعلت أخلق لنفسي منه تمثال المحبوب العزيز الذي أتمناه لنفسي، وكان أشد ما جذبني إليه ما تنم عنه نظراته من طيبة قلبه، ورقة شعوره، وهو قد بلغ من ذلك مبلغا غير مألوف، كان - برغم أنه طبيب - يتحدث عن مرض أخي والدمعة تترقرق في عينيه، وكان إذا قص على والدي نبأ من الأنباء بدا عليه التأثر لكل مصاب أو محزون، وكان إلى ذلك محبا للحياة ومتاعها، تبدو عليه آثار اليسار والنعمة. كانت السيارات في ذلك العهد مركبا نادرا، وكانت له مع ذلك سيارة أنيقة يسر العين مرآها، أما وذلك شأنه فلا بد أن يكون خلقه رضيا، وأن تكون الحياة معه حياة طمأنينة ونعمة وسعادة.
وجاء يوما يعود أخي، وكان والدي قد استدعي إلى العزبة على عجل، فلما أتم فحصه وبدأ يكتب تذكرة الدواء أخذ يتحدث إلي فيما يجب للعناية به، وقبل أن يتم حديثه نهض فنهضت معه وسرت إلى جانبه، وأخذ يكمل حديثه ونحن على السلم في طريقنا إلى الطابق الأرضي، وبعد عدة درجات هبطناها على السلم قال: اسمعي يا آنسة، إنني فكرت أن أخطبك إلى أبيك، لكنني رأيت ألا أفعل ما لم تكوني أنت موافقة على ذلك.
فألقيت ببصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلا، وقلت في شيء من الكبرياء: ليس ذلك شأني، ولكنه شأن أبي.
وكان تعليقه على عبارتي: يكفيني هذا منك، وأنا أشكرك أجزل الشكر.
وعدت مسرعة إلى غرفة أخي مخافة أن تظن أمه بي الظنون، وأخبرتها أن الطبيب ذكر أن ما به ليس إلا سوء هضم بسيط سرعان ما يزول أثره ، وبعد أن طمأنتها أويت إلى غرفتي، وجعلت أركز في ذهني ما سمعته عن خطبتي من أبي، وأخذت أسائل نفسي أأحسنت أم أسأت في إجابتي، وأمني نفسي الأماني للمستقبل، وأرقب عود أبي من العزبة بصبر نافد، أفلا يجب أن أذكر له ما حدث أول ما أراه؟ وهب الطبيب عدل فلم يخطبني إليه ولم يذكر شيئا! وأقمت زمنا أضرب أخماسا لأسداس، وأبني قصورا في الهواء، ولما جن الليل جفا النوم عيني وأنا بين الأمل الواسع الفسيح أقيم في قصوره بعد أن أنظمها على هواي، وبين الخوف أن يفلت مني هذا الأمل فلا أفوز منه بسراب.
وارتسمت أمامي صورة الطبيب الشاب كما أرادها خيالي، وشعرت لمرآها بأن قلبي ينبض بعاطفة كانت مستكنة فيه، وكان الحياء والكبرياء يأبيان عليها أن تبرز إلى الوجود، أما الآن وأنا في دثار من جنة الليل وحمايته فقد تجسم الحب في قلبي، وانتقل منه إلى وجداني، بل إلى حسي المادي، فشعرت كأني أضم هذه الصورة إلى صدري، وأرى في صاحبها ملاكي الحارس وحصني الأمين.
وعاد أبي من العزبة بعد أيام عاد الطبيب خلالها أخي ثم انصرف ولم يذكر لي شيئا عن اعتزامه خطبتي إلى نفسه، وإن حدثني في حضرة زوج أبي عما يجب للطفل - وقد زالت وعكته - من احتياط حتى لا تعاوده، وبعد أيام جاءت زوج أبي إلى غرفتي تقبلني وتهنئني بمفاتحة الطبيب أبي في أمر خطبتي، وتسألني عن رأيي، فألقيت بصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلا، وقلت: لا أرى إلا ما يراه أبي.
فقبلتني مرة أخرى وقالت: نعم الجواب يا حبيبتي، فهكذا يكون الأدب، وهذا ما كان ينتظره أبوك وما كنت أنتظره منك.
وفي الغد جاء الطبيب ومعه صديق له وقابلا والدي في السلاملك، فلما انصرفا جاء والدي فقبلني وأخبرني أنهم سيقرءون فاتحتي بعد غد.
وبعد غد جاء الطبيب ومعه أهله، واستقروا مع والدي في السلاملك، وقرءوا الفاتحة، وأديرت عليهم المرطبات، هنالك انطلقت ألسن الخدم بالزغاريد، وهنالك شعرت بأني خطوت خطوة واسعة نحو آمالي في حياة جديدة.
وأصبح خطيبي أكثر حرية في التحدث إلي حين زياراته إيانا، وشعرت بأن الحظ أسعدني بما لم أكن أسعد به لو أن أحدا غير هذا الطبيب قد خطبني، فلو أن ذلك حدث لما رأيت خطيبي إلا في فرجات النوافذ، ولما استمعت إلى صوته إلا إذا تسمعت من وراء الأبواب حين حديثه مع أبي، كان ذلك حكم الوقت على كل فتاة تخطب، أما وقد سعدت بما لم تسعد به غيري فقد أيقنت أن الحظ يبسم لي، وأن القدر سيعوضني عن فقد أمي عاطفة جديدة، تلك عاطفة الحب المتبادل.
وشغل أبي وشغلت معه بجهازي، وكانت زوج أبي تشاركنا الرأي في بعضه، وتكون صاحبة الرأي الأخير في أمر الحلي والثياب، وكانت فيما تقوم به من ذلك غير ضنينة ولا متلكئة، فلما أتممنا الجهاز أقيمت حفلة الزفاف، حفلة نادرة باهرة، وبدت زوج أبي ليلتها في أبهى حللها وأبدع زينتها، وقد تلألأ جمالها حتى كانت كأنها عروس الحفل، أما أنا فكنت أنتظر بصبر ذاهب نهاية الاحتفال؛ لأذهب مع زوجي إلى بيتي، ولأنسى في أحضانه متاعب الحياة.
وانتقلت معي إلى بيتي خادم كانت عندنا من عهد أمي، وكانت أمي قد وعدتها بأن تكون في خدمتي حين أتزوج، فلما اطمأننت في غرفة نومي، وآن لي أن أخلع ثيابي، وجاءت هذه الخادم تعاونني قالت في ابتسام: أسمعت يا سيدتي كلام السيدات في الفرح؟! أحسبك كنت مشغولة عن كل شيء بانتظار المجيء إلى هنا.
قلت: هذا صحيح، وماذا قلن؟
وأتمت الحديث بقولها: لقد أدهشتهن زينة سيدتي زوج أبيك حتى قالت إحداهن: لمن الفرح؟ أهو للبنت أم للست؟
وأجابت الأخرى: هو للبنت اغتباطا بذهابها إلى بيتها، وهو للست اغتباطا بتخلصها من بنت ضرتها واستقلالها بالبيت وسيده فلا يكون لها فيهما شريك.
وابتسمت لحديثها، ولم تلبث حين رأتني خلعت ثيابي أن غادرت الغرفة ليجيء إليها رب البيت، ليجيء إليها زوجي العزيز الحبيب الطبيب الشاب.
وبدخوله الغرفة بدأت سنوات هانئة سعيدة ليتها دامت!
الفصل الثالث
قضينا بدء حياتنا الزوجية سنوات هانئة سعيدة ليتها دامت ، ولقد طالما بحثت عن السبب فيما طرأ عليها من بعد، أنا أعلم أن كثيرين يتهمونني بأني السبب، وأنه لولاي لبقينا فيما كنا فيه من نعمة وطمأنينة، ولكني لا أقر هذا القول ولا أرضاه، بل أحسبني كنت ضحية أكثر مما كنت مسئولة عما حدث، ولست أريد بتدوين هذه القصة أن أدافع عن نفسي، وحسبي أن أسوق الحوادث كما وقعت، وأدع من تقع عينه يوما على هذه القصة أن يحكم لي أو علي.
ولا أريد بتبرئة نفسي أن أتهم زوجي بأنه هو وحده سبب ما أصابنا، ولو أنني فعلت لكنت ظالمة، وإن كنت لا أستطيع أن أبرئه براءة كاملة، مع الاعتراف من جانبي بأنه لم يقصد إلى غرض سيئ، بل لعل طيبته وبالغ عطفه يحملانه من التبعة أكثر مما كان يحمل لو أنه كان أكثر قصدا فيهما.
لقد بدأنا حياتنا الزوجية حبيبين سعيدين، كان كل ما حولنا يبسم لنا، ويشدو لنا بأنغام السعادة، كنا نخرج تحت جنح الظلام في سيارته، وكان هو يقودها، مرة إلى سفح الهرم، وأخرى إلى القناطر الخيرية، وثالثة إلى المعادي، ورابعة إلى عزبة والدي، فلم أكن أرى في الطريق - إلى أي من هذه الأماكن الخلوية - إلا السعادة يحملها الهواء معه إلى قلبي وروحي، وكنت لا أشعر حين عودتنا من هذه الجولات بشيء غير عبير الحب يحمله النسيم على أجنحته، ويدخل به وإيانا إلى عشنا الصغير الجميل، وكان زوجي الشاب الرقيق العزيز يتمنى لو استطعنا أن نسافر إلى أوروبا نمضي في ربوع سويسرا أو النمسا شهر العسل، لولا أن كانت الحرب العالمية الأولى تحول بيننا وبين تحقيق هذه الأمنية الساحرة البديعة، وقد استعضنا عن هذا السفر بالمقام زمنا في ذهبية لأحد أصدقاء أبي، فكنت أحس إذ أنظر إلى ماء النيل من نوافذها وكأنه يحمل في تياره أريج الصبا ونسيمه العليل.
وكان زوجي يغيب عني ساعات كل يوم في عمله، فكنت أشعر بأني من انتظاره على لظى، لا يبرد سعيرها إلا أريج يحمل الحب شذاه آتيا من ناحية عيادته، فإذا عاد إلى عشنا وتعانقنا شعرت كأنني ذبت في هذا العناق خلاله وأصبحت حبة قلبه، وكان هو من جانبه يبادلني حبا بحب، وهياما بهيام، كان كل تفكيره متى فرغ من عمله كيف يزيدني سعادة وهناءة، فإذا جلس إلى جانبي، وألقيت برأسي على صدره شعرت من نبضات قلبه بطمأنينة إلى الحياة تنقلني من هذا العالم الذي يضطرب فيه الناس، جريا وراء أهوائهم ومنافعهم إلى عالم من الأحلام مفروشة أرضه بالورد، معطر هواؤه بشذا الحب وأنغام الهوى والغرام، أين أنا الآن مما كنت فيه منذ توفيت أمي؟!
بل أين أنا الآن مما كنت منذ ولدت؟! إنني سعيدة سعيدة سعيدة، سعيدة بما لا تعبر عنه الألفاظ، بل لا تعبر عنه الموسيقى، وكأني أتقلب من عالم الناس في نعيم جنة الخلد، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وما يحملني على أجنحة من الخيال إلى عالم السعداء والراضين، عالم المحبين الذي يستمتعون بنعمة الحب إلى غاية حدود المتاع.
انقضى العام الأول من حياتنا الزوجية وأنا في هذا البحر اللجي من فيض السعادة، وكنت في أثناء ذلك لا أخالط غير زوجي من الرجال إلا أبي والأقربين من محارمي، فلم يكن يباح للمرأة من طبقتنا يومئذ أن تتحدث إلى غير هؤلاء من الرجال، أما النساء فكانت تزورني منهن بعض زميلاتي وصديقات صباي وحبيبات أمي، وكانت زوج أبي تزورني أحيانا بطبيعة الحال، وكنت أنقل كل حديث يجري بيني وبينهن، أو بيني وبين أبي ومحارمي، إلى زوجي العزيز، وكنت أشعر بالغبطة حين أراه مسرورا لسماع هذا القصص الساذج؛ لأني كنت مصدره، ولم يكن يخفي ذلك علي، بل كثيرا ما كان يقول لي إذا أنا فرغت من رواية أقاصيصي: تحدثي، تحدثي، إن نغمات صوتك تشجيني، ونظراتك إلي في أثناء الحديث تنفذ إلى قلبي، وتبعث إلى وجودي كله النشوة والطرب.
وكنت أعلم أن في نظراتي جاذبية طالما سحرت بها وأنا أنظر إلى نفسي في المرآة، جاذبية لا ترجع إلى جمال عيني، بل إلى قوة التعبير التي تنبعث من هذه النظرات، ولم أكن أحسب أن هذه الجاذبية قديرة على أن تسحر غيري كما كانت تسحرني، وكنت أشعر كذلك أن لصوتي حين أتحدث سلطانا لا يقل عن سلطان نظراتي، وكنت قد ورثت نغمة صوتي عن المرحومة أمي، كما ورثت لباقة حديثي وقوة تعبيره عن عواطفي ومقاصدي عن أبي، ولا شك في أن قراءاتي الكثيرة في الكتب العربية والأجنبية قد أعانت هذه الوراثة، وبلغت بي إلى هذه المقدرة التي كان يعجب بها زوجي، على أنني لم أقدر سلطان هذه الملكات على غيري لأول ما حدثني زوجي عنها، بل حسبت أن حبنا المتبادل هو الذي يوحي إليه إطراءه، فلما رأيته يكرر الإطراء في مناسبات شتى أخذت أعتد بهذه الملكات وأعنى بتنمية غراسها، فعدت إلى مرآتي أدرس فيها سلطان نظراتي، وعدت إلى كتبي أقرؤها حين غياب زوجي في عمله وفراغي من تدبير المنزل، وكنت أقرأ بصوت مسموع ما يعجبني وما يزيده حسن الإلقاء أثرا في النفس، فإذا جاءت صديقاتي والأقربون من ذوي رحمي لزيارتي، أخذت أتحسس أثر مواهبي فيهم، وسلطان نظراتي وعباراتي عليهم.
ومن يومئذ آمنت حقا بأن من البيان لسحرا، فقد كان الذين يزورونني يبالغون في إعجابهم، بحسن إنصاتهم لحديثي واستزادتهم منه؛ مما جعلني أنا كذلك ألذ بالإصغاء لصوتي والاستماع لحديثي حين متاع الآخرين به، وكنت أحرص على ملاحظة أثره في نفوسهم، وبخاصة حين كنت أصور لهم ما تركه حادث في نفسي من مسرة أو ألم، من رضا أو غضب، من غبطة بالجمال أو تقزز من القبح، فإذا شاركوني في إحساسي، ولمحت على وجوههم أمارات هذه المشاركة، اطمأننت وازددت رضا عن نفسي وإيمانا بسلطاني.
انتهت الحرب العالمية الأولى في منتصف الخريف، وخيل إلي عند ذلك أن الجو أصبح مهيئا لأسافر مع زوجي إلى أوروبا ننشر في ربوعها الجميلة عبير حبنا، ونستنشق مع نسمات جبالها الرفيعة الذرى أريجا منعشا يضاعف متاعنا بالحياة، ونجتلي في أم المدائن باريس ما تهوي إليه كل أنثى، وما يتفتح له قلب كل مشغوف بالفن وكل مولع بالجمال، وأشرت في حديثي مع زوجي إلى رغبتي هذه، فلم يلبث أن ذهب من بكرة غده إلى مكاتب السياحة يعد لسفرنا العدة، فلما عاد لموعد الغداء أخبرني في أسف أن السفر فيما وراء حدود مصر لا يزال محظورا بأمر السلطة العسكرية البريطانية، وأنها تأبى إباء تاما أن ترخص به لأحد، وأنه يؤثر إذا رغبت وجاء الشتاء أن نقضي أسبوعين أو ثلاثة بمشتى الأقصر نزور هناك آثار الفراعنة، وأحسست أنه يريد إرضائي ولو على حساب عمله، وقدرت ما لعل زوج أبي أو بعض صديقاتي يتقولنه علي، فلم يكن سائغا إلى يومئذ أن تنزل مصرية فندقا في بلد مصري، لهذا وذاك أبديت الرغبة عن مغادرة العاصمة، وقبلت زوجي شاكرة إياه من كل قلبي.
ولم يكن حديثي مع زوجي يتعدى حياتنا الخاصة، وكان هو يذكر لي مشاهداته في عمله، وأحاديثه مع أصدقائه، وقلما يجري على لسانه شأن من الشئون العامة، وكنت أقص عليه ما أراه في زياراتي لصديقاتي، وما يجري في زياراتهن لي، ثم ينقضي الوقت بعد ذلك، ولا نحس كيف انقضى ولا نشعر بمروره، وكانت رغبة زوجي عن الخوض في الشئون العامة طبيعية بحكم عمله، وبحكم الظروف المحيطة به؛ فهو طبيب متصل بالناس على اختلاف ميولهم وألوانهم، فلا بد له أن يحتفظ بحسن صلاته بهم جميعا، والجو الذي كان مخيما على مصر يومئذ كان الحكم العرفي البريطاني، وكان ما حدث إبان الحرب من اعتقالات يشيع في النفوس الحذر والخوف.
على أن انتهاء الحرب آذن بنشاط سياسي عام أخذ زوجي يحدثني عنه كل يوم، ويروي لي طرفا من أخباره، وبعد أشهر قبضت السلطة البريطانية على الزعماء المصريين المطالبين باستقلال وطنهم، ونفتهم إلى جزيرة مالطة. هنالك قامت في البلاد كلها، من أقصاها إلى أقصاها، ثورة كانت العاصمة روحها ومصدر الوحي بها، وخاف أبي أن تتطور الثورة إلى عنف قد يصيبنا شرره، فاقترح أن تذهب السيدات إلى العزبة، فرارا بهن من مصير لا يعرفه أحد.
وسافرت مع زوجي وزوج أبي وأخي الطفل في سيارة زوجي، ولشد ما كان عجبي حين رأيت مظاهر هذه الثورة منتشرة في كل مكان، ورأيت الفلاحين والفلاحات فرادى وزرافات لا يكادون يروننا حتى يهتفوا بحياة مصر واستقلالها، هي ثورة شاملة إذن، أترانا نكون أكثر أمنا في العزبة منا في العاصمة؟ لكنا ما لبثنا حين تخطينا أسوار المنزل إلى الحديقة واجتزناها إلى داخل البناء أن رأينا فيه حصنا آمنا، يبعدنا عن مظنة العدوان، ثم ما لبثنا أن رأينا أهلنا وذوي رحمنا أقبلوا علينا، يهنئوننا بسلامة الوصول، وبالنجاة مما علموا أن القاهرة تعج به من أسباب الاضطراب، عند ذلك سكنت نفوسنا جميعا، واطمأننا إلى حكمة والدي في مشورته علينا.
وأقمنا أسابيع عدة بالريف، وكان زوجي يذهب إلى القاهرة في أثناء الأسبوع ثم يجيء إلينا في نهايته يقص علينا ما يجري هناك، ولم يكن يجد في الانتقال مشقة؛ لأن الأطباء كانت لهم حرية التنقل بتصريح عام خاص بهم، وقد قص علينا يوما في حماسة أن سيدات القاهرة خرجن في مظاهرة مرتديات براقعهن وحبراتهن، وأن الجيش البريطاني لم يجرؤ على التعرض لهن بأذى، وأن هذه المظاهرات أثارت العاصمة كلها، وتركت في النفوس أثرا أعظم من كل ما سبقه.
وتولاني لسماع هذا النبأ ألم وأسف أن لم أكن هناك لأشارك المتظاهرات، ولأبدو أمام سيدات العاصمة في مظهري الحق، ولم أستطع أن أكتم ما دار بنفسي عن زوجي، فلما سمعه نظر إلي في ابتسام وقال: أوكنت تستطيعين؟ لا تنسي أنك حامل، وهذا الحمل هو الذي دفعني للموافقة على مجيئك إلى هنا إشفاقا عليك من أن يصيبك اضطراب العاصمة العصبي بأذى.
ولكن هذه العبارات لم تشف غلتي، فقد تصورت السيدات سائرات في مظاهرتهن، ورأيت صديقاتي في مقدمتهن، وشعرت بمكاني خاليا بينهن، وخيل إلي لو أنني كنت معهن أشغل هذا المكان لكانت المظاهرة أتم روعة، وأشد لفتا للأنظار، أترى تعود السيدات إلى تنظيم مظاهرة أخرى، بعد عودتي إلى القاهرة، فأشترك فيها؟! ولكن هبني عدت، وهب السيدات فكرن في تنظيم مظاهرة أخرى، فما عساي أستطيع أن أفعل وأنا حامل؟!
ولمح زوجي ما يدور بخاطري، وخشي أن يطول تفكيري فيه فرأى أن يصرفني عنه بالحديث فيما هو أحب إلى نفسي ونفسه، ولهذا سألني: أتراك فكرت في اسم طفلنا العزيز ولدا كان أو بنتا؟ وحرك سؤاله غريزة الأمومة في دخيلة كياني، وحرك الطفل الجنين أحشائي، وابتسمت كأنني في حلم سعيد، ونسيت المظاهرة والمتظاهرات، وارتسم في خيالي هذا الطفل العزيز حين مولده، وبعد لحظة نسيت الطفل واسمه كما نسيت المظاهرة والمتظاهرات، وتعلقت بعنق زوجي وقبلته بكل ما في من حرارة الأنوثة والشباب والأمومة المرجوة وقلت: أحبك.
ولم تنطق شفتاي بهذه الكلمة عن إرادة مني، بل دفعها إليهما قلبي دفعا، لم يكن لهما من الاستجابة إليه بد، فهذا الزوج العزيز هو مصدر هذه الأمومة التي أخصبت أحشائي، وجعلتني أسعد في يقظتي وفي نومي بانتظار ثمرتها، وهل تراني أو ترى كل امرأة تبتغي في الحياة أشهى من هذه الثمرة؟ ولم أكن أعلم إلى يومئذ ما تحمل الأمومة معها من تضحيات وآلام، ولم أكن إلى يومئذ أقدر الأعباء التي يحتملها الآباء والأمهات في صمت وإذعان، ولم أكن أستشف الغيب فأرى خلاله ما سأتجشمه وما سيتجشمه زوجي العزيز اليوم، الشقي غدا، بسبب هذه الأمومة وهذه الأبوة، لم يكشف لي في تلك اللحظة عن شيء من هذا، بل صور لي الشباب والحب حياة معطرة بشذا الورود والرياحين وبمنظرها البديع البهيج، وسمت غريزة الأمومة فوق التفكير في متاعبها، وزينت لي أحلامي أن الحياة طريق معبد وثير تتدلى على جوانبه الأغصان الخضر تكسوها الأزاهير العطرة، وفاضت عني السعادة بهذا كله، فازددت حبا لمن آمنت بأنه مصدر هذه السعادة، ودفع قلبي إلى شفتي كلمة «أحبك».
انقضت على مقامي بالعزبة أسابيع أفرجت السلطات البريطانية في أثنائها عن الزعماء المطالبين بالاستقلال الذين نفتهم إلى مالطة، بذلك هدأت النفوس الثائرة، وإن لم تنطفئ ثورتها، وأتاح لنا هذا الهدوء أن نعود إلى العاصمة، وأن أستقر فيها، وهناك انقضت أشهر الحمل، وأثمرت أمومتي طفلة أنساني بكاؤها ساعة مولدها ما تجشمت في حملها تسعة أشهر من مشقة، وشغلت بهذه الطفلة عن كل شيء آخر، حتى عن أبيها الذي كان يحبها من أجلي كما أخذت أحبه من أجلها.
وعجيب حقا ما طرأ بعد أمومتي على حبي زوجي، لقد بقي هذا الحب قويا كما كان، لكن لونه تغير، لقد كنت أحب هذا الرجل الشاب لذاته، فكنت كلي له، كنت أشعر بالسعادة إذا استطعت أن أزيده رضا بالحياة وسعادة فيها، كنت أشعر بأنني قديرة على أن أهبه كل نفسي، وأن أضحي من أجله بحياتي، كنت أشعر أنني بضعة منه لا غنى لي عن حبه، ولا غنى له عن حبي، وكنت كثيرا ما أذكر قول الشاعر:
كأن حبيبا في خلال حبيبه
تسرب أثناء العناق فذابا
لأن قوله هذا كان يصور لنا حالنا في كثير من الأحيان، كان ذلك شأننا قبل أمومتي، أما بعد أمومتي فلم أصبح قادرة على التضحية بحياتي من أجل زوجي؛ لأن حياتي أصبحت ملكا لهذه الطفلة التي تطالبني بكل أسباب الحياة، وكنت أرى زوجي يحنو على هذه الطفلة التي انفرجت أحشائي عنها، ويلمع في عينيه حب أبوي ندي بمعاني العطف والرحمة، فكنت أحبه لذلك، وكنت أزداد حبا له كلما ازداد حنوه على الطفلة وحبه لها، وكنت أحس بأنه مطالب وإياي بتهيئة أسباب الحياة الناعمة لابنتنا، وأني مطالبة لذلك بتشجيعه على أداء هذا الواجب المشترك، وأنا لا أملك من أسباب هذا التشجيع إلا الحب، بهذا تغير لون حبي لزوجي وإن بقي قويا كما كان، وبهذا صهرت الأمومة عاطفة الحب كما تصهر النار الذهب وشكلته بالصورة التي ترضاها.
وللأمومة سلطان قوي قاهر لا يقف عند اختلاف التلوين لحب متبادل. قصت علي إحدى زميلاتي، وكانت قد سبقتني إلى الأمومة، وكانت متزوجة رجلا يكبرها بخمس وعشرين سنة، وكانت لذلك تحس نحوه الهيبة أكثر مما تحس الحب، إنها حاولت المواءمة بين شبابها وكهولته، وأنفقت في ذلك جهدا كاد ينتهي إلى اليأس، ثم إنها حملت ورزقت طفلة كطفلتي، فإذا لون الحياة كله يتغير أمامها، وإذا هذه البضعة من وجودها والحشاشة من قلبها تحيل القتام المخيم عليها ضياء وضاء يكشف أمامها طريق السعادة في الحياة، وإذا هيبتها زوجها تنقلب تعلقا به لتعلقه بهذه الطفلة، وإذا هي تجد في العناية بالطفلة ونظافتها ورعايتها ما يسعدها ويشغل كل وقتها، وإذا هي تنعم من أمومتها بكل ما تطمع فيه المرأة من نعمة الحياة.
وانقضت عشرون سنة أو تزيد على حديث زميلتي، ثم جمعني مجلس بشيخ من كبار مفكرينا قصصت عليه في أثنائه طرفا من شئوني وشجوني، وبعد أن أنصت إلي طويلا في إصغاء زادني إمعانا في حديثي ومحبة لهذا الشيخ الجليل، قال: إن حديثك لساحر، وما ذكرته عن أمومتك الأولى يعيد إلى ذاكرتي قصة المرحومة زوجتي - وكانت زوجه قد توفيت منذ أكثر من أربعين عاما - لقد تزوجتها ولما أبلغ الثلاثين، وكانت هي طفلة رقيقة متعلمة كأحسن ما تتعلم الفتاة في ذلك الجيل، وكنت أترجم إذ ذاك كتابا في الفلسفة السياسية، وكنت أملي عليها في الصباح ما ترجمته العشية لتكتبه بخطها الجميل.
وانقضت بعد ذلك أشهر رزقنا بعدها ابنا، فلما استعادت صحتها ونشاطها خيل إلي أنا قادران على العود إلى ما كنا فيه، فأمليها وتكتب، ولم يبد من جانبها على ذلك أي اعتراض، لكني أدركت بعد قليل أنني أطلب المحال، فقد كنت أبدأ الإملاء وتبدأ الكتابة، ثم سرعان ما تعتذر بأن الطفل يبكي، وتنفلت لترى سبب بكائه، وكثيرا ما كنت أتبعها لعلي أستطيع معاونتها في شأنها كما كانت تعاونني في شأني، وكثيرا ما كنت أحمل الطفل عنها لتهيئ له ما ترى أن تهيئه، وكانت تعتذر لي أحيانا، وتحاول أن تدعو الخادم لتتولى معونتها، فكنت أرجوها ألا تفعل، وكنت أجد في صحبتها وفي معاونتي لها وفي تدليلي الطفل مكانها - على ما في هذا التدليل من سخف لم أكن أسيغه - لذة أكبر اللذة؛ لأنها كانت تسر به وتجزيني عنه مزيدا من العطف والحب.
سمعت حديث جليسي الشيخ المفكر وهو يسوقه في طلاوة تسحر الأذن، وتدفعه إلى القلب، فلما أتمه قلت فيما بيني وبين نفسي: ما أشبه حال هذا الرجل العظيم وزوجه بحالي أنا وزوجي، لقد كانت زوجه تحبه من أجل طفلها، وكان هو يحب طفلها من أجلها، وكانت الأمومة سر هذا وذاك، كما كانت السر في إنقاذ زميلتي من يأس يهددها، حتى أضاءت الأمومة قلبها بنور الحياة ونعمائها.
كان من بين صديقاتي اللائي جئن يهنئنني بمولد طفلتي ثم استمر تزاورنا، من اشتركن في مظاهرة السيدات السياسية التي أشرت إليها من قبل، وكانت كل واحدة منهن تتحدث عن مكانها في هذه المظاهرة، وعن المجهود الذي بذلته قبلها وفي أثنائها بإفاضة وحماسة يشهدان بأنها تركت في نفوسهن أثرا عميقا، ولم يقف حديث بعضهن عن المظاهرة وعن الأثر السياسي العميق الذي كان لها، بل أخذن يتحدثن عما تستطيعه المرأة في ميادين الحياة العامة سياسية واجتماعية، ويذكرن أن حجاب المرأة الذي حال إلى يومئذ بينها وبين اقتحام هذه الميادين يجب أن يزول، ولقد ذهبن إلى أن هذا الحجاب سبة يجب التخلص منها؛ لأنه ينزل بكرامة المرأة إلى مكان وضيع يهوي بقيمتها الإنسانية إلى حيث تصبح عبدا ومتاعا للرجل لا أكثر، وشعرت في هذا الحديث بمقدمة ثورة اجتماعية رجوت - إن قدر لها التمام - أن تتم في هدوء وطمأنينة. على أنني لم أكن أستطيع الاشتراك في هذه الثورة الاجتماعية على شدة اقتناعي بضرورتها؛ لأن أمومتي كانت تشغل كل وقتي وكل جهدي، ولأنني خشيت أن أثير بيني وبين زوجي زوبعة لا خير في إثارتها؛ لهذا بقيت راضية بما أنا فيه لأنعم بأمومتي وبحب زوجي، وتركت لهاتيك الثائرات أن يفتحن الطريق إن وجدن إلى فتحه الوسيلة.
وأستطيع اليوم أن أقول إنهن نجحن في ثورتهن إلى حد بعيد، ويرجع نجاحهن إلى أنهن سلكن في هذه الثورة سبيل الحكمة والتصون عن كل عنف، فقد بدأن جهادهن في سبيل حريتهن بالنهوض بأعمال الخير: عناية بالمرضى، وبرا بالفقراء، وعطفا على الطفولة المشردة، وما إلى ذلك من أعمال إنسانية تتفق مع فطرتهن، ومع ما جبلت المرأة عليه من بر وحنان، وما كان للرجال أن يعترضوا طريقهن في هذا السبيل، بل أعانوهن وشجعوهن، وكان طبيعيا بعد ذلك أن تخلع المرأة حجابها ، وأن تلقي جانبا هذا البرقع، ثم هذه «البيشة» التي كانت تستر بها وجهها؛ لأن فاعل الخير والقائم بالعمل الإنساني لا يستخفي ولا يتستر، وإنما يستخفي المريب وذو النية المتهمة.
وطالب النساء بعد ذلك بألوان من الإصلاح الاجتماعي أقرهن الرجال عليها، ورأوا فيها للمجتمع صلاحا وخيرا. وبهذه الحكمة وهذا الاعتدال استطاعت الثورة الاجتماعية التي تمخضت عنها تلك المظاهرة السياسية الأولى أن تحطم الحجاب، وأن تفتح أمام الفتاة وأمام المرأة أبوابا كريمة كانت من قبل موصدة في وجهها، ولعلنا - نحن النساء - نستطيع بهذه الحكمة أن نحقق لأنفسنا وللرجال وللمجتمع المصري كله غاية ما تصبو الشعوب المتحضرة إليه من رقي وتقدم.
استدار العام منذ مولد طفلتي، فإذا أحشائي تتحرك بأمومة جديدة، ورزقت هذه المرة غلاما كان قرة عين لي ولوالده، برغم وضع متعسر أشرف بي على الموت، ولهذا شعرت بأنني أديت للإنسانية وللجماعة المصرية ما لهما علي وعلى زوجي من حق بعد أن أنجبت هذين الطفلين، وعاهدت نفسي أن أقف بأمومتي عند هذا الحد.
وقد وفيت بالعهد وإن كنت أعترف بأن نفسي نازعتني غير مرة إلى نقضه، وفي كل واحدة من هذه المرات كنت أقاوم غريزة ليست مقاومتها أمرا يسيرا، ولست أدري أكان ما قاسيت حين مولد غلامي هو الذي شجعني على هذه المقاومة، أم شجعني عليها اعتبارات أخرى كنت أراها رأي العين، ولا يحسب كثيرات من النساء لها حسابا، بل إني لأعرف من هاتيك الكثيرات من لا تكاد تضع حملها وتتخلص من آلام ولادتها حتى تبتسم رجاء أمومة جديدة، وكأنها تجد في ألم الوضع لذة، أو كأنما يعوضها الطفل الذي تنفرج عنه أحشاؤها عن كل ألم، وكأن ما يجشمها هذا الطفل من مشقة هو لذة حياتها وكمال سعادتها.
والعجب أن النسوة اللاتي يتولين بأنفسهن شئون أطفالهن ولا تسمح وسائلهن بالاستعانة بمربية أو خادم هن اللواتي تتحكم فيهن غريزة الأمومة، ولا يفكرن في مقاومة سلطانها القاهر، مؤمنات بأن ذلك من أمر الله، وأن الأطفال عطاؤه المحبب. وقد يكون لهاتيك المؤمنات عذرهن بإيمانهن، أما بنات طبقتي المستسلمات لغريزة الأمومة، العاجزات عن مقاومتها بعد أن يرزقن طفلين أو ثلاثة، فهن في نظري أعجب وأغرب؛ لأنهن لا يدعن أطفالهن للطبيعة كما تفعل الأوليات، وتربية الطفل أشد عسرا من حمله وميلاده ألف مرة.
وكان حرصي على عهدي أول ما اشتد الخلاف عليه بيني وبين زوجي، فقد كان يؤمن إيمان العجائز بأن كل طفل يأتي ورزقه معه، وبأنه هو الذي يكد لحياة الأسرة، وبأنا يجب ألا نعترض إرادة الله! وكنت أجيبه بأن السعي للرزق لن يزيده إرهاقا، وبأني أنا التي أحمل مشقة الأطفال حملا ورضاعة وتربية؛ لأني لا أستطيع أن أدع طفلي لمرضع، ولا أن أعتمد الاعتماد التام على المربية التي عندنا، برغم ثقتي التامة بها.
وقد تكرر اختلافي مع زوجي في هذا الأمر غير مرة في فترات متباعدة امتدت بضع سنوات، وكان كل منا يسوق خلال جدله ألوانا من الحجج لا تخلو من طرافة، كان زوجي يقول لي أحيانا: أوتأمنين غدرات القدر بأحد هذين الطفلين أو بهما جميعا؟ وكنت أجيبه: وهل تأمن غدر القدر بك أو بي أو بنا معا فييتم أطفالنا؟ أولا ترى أنهم كلما كانوا أقل عددا كان رزؤهم فينا أخف حملا؟
وكان يقول لي: لقد نشرت الصحف اليوم أن فرنسا قررت للأسر التي يزيد أبناؤها على طفلين مكافأة يرتفع قدرها كلما زاد عدد الأطفال.
وكنت أجيبه: إنما تريد فرنسا زيادة سكانها لتزيد في الجيش، ولتزداد الأيدي العاملة عندها، ولا أحسبنا أنا وأنت نريد أن يكون أبناؤنا جنودا أو عمالا.
فلندع هذه المكافأة، وهذا الفخر للمؤمنات بأمومتهن، واللاتي جعل القدر من حظهن وحظ ذريتهن أن يكونوا جنودا أو عمالا، أو ممرضات أو عاملات.
وكان إذا مرض أحد طفلينا، ورآني نازعتني غريزة الأمومة وطمع في أن أضعف أمامها، أظهر لي من الحب والحنان ما أكاد أنهزم دونه، ولكنني سرعان ما كنت أستجمع قوة المقاومة، وأسمو بها فوق ضعفي ونوازعي، وأقف بها إلى جانب عهدي.
وكثيرا ما كان يبدي دهشته ويقول: هذا أعجب ما رأيت! امرأة تقاوم سلطان الأمومة ، وتأبى أن تحمل وتلد، وأب يريدها أن تنجب فتقاوم إرادته، لقد رأيت عكس ذلك غير مرة إشفاقا من الآباء على أولادهم في مستقبل حياتهم وعيشهم، أما أن تقف امرأة هذا الموقف، فلا تفسير له عندي إلا من أنانيتها وحرصها على شبابها وحريتها.
ولم يكن هذا الهجوم يزعجني، بل كنت أقاومه بسلاح المرأة، كنت أبتسم وأعانق زوجي، وأقول له: هب هذا الاتهام الذي توجهه إلي صحيحا، فلمن أحتفظ بهذا الشباب؟! ألست أحتفظ به لك؟ وأنت تعلم أن حريتي كقلبي في ملكك، وكنت أسوق إليه من معسول القول ما يذيب اعتراضه وغضبه، وما يرده إلى حال من الرضا لا سبيل له إلى مقاومتها؛ لأنه يحبني بقلبه وعقله وكل وجوده.
على أن ذوبان غضبه لم يكن ينقله إلى معسكري، فقد كان عنيدا في إصراره على رأيه، لا تزحزحه عنه حجة، ولا يصرفه عنه برهان، وكان برغم ذلك ضعيفا أمامي كل الضعف؛ ضعف الأم لابنها، فكنت أنا طفله المدلل، يعمل جهده إلى إجابة رغباتي وإن لم تعجبه، ما دام لا يرى فيها مضرة ولا شنعة. وقد انتهى بعد المناقشات التي دارت بيننا إلى الاقتناع بأن أمومتي من شأني، وأنه لا يستطيع أن يرغمني فيها على شيء لا أريده.
وشاءت الأقدار أن تعاونني على التشبث بعزمي والوفاء بعهدي، فقد كان في مقدمة ما أدت إليه مظاهرة السيدات السياسية من تطور اجتماعي أن رفعت الحجاب، وأباحت للمرأة أن تخرج مع زوجها أو أبيها أو أخيها أو الأقربين من محارمها، وأن تتحدث إلى من يلقونهم في هذه الحال من الرجال، وكانت المرأة من طبقتنا لا تملك إلى ذلك العهد أن تحادث رجلا غير محرم، فإذا خرجت إلى الطريق مع زوجها وصادفا رجلا يعرف الزوج، وأراد أن يتبادل معه مجرد التحية، انتحت المرأة جانبا وأدارت وجهها حتى لا يراه هذا الأجنبي؛ لأن وجهها كصورتها كانا عورة لا يجوز أن يطلع عليهما الرجال. وكان لزوجي أصدقاء من رجال السلك السياسي الأجانب لا أدري كيف ولا متى عرفهم ، فلما حدث ذلك التطور بدأ زوجي يدعوهم وقريناتهم لتناول الشاي عندنا، وكان طبيعيا أن أقابلهم وأن أتحدث إليهم كما كان هو يقابل زوجاتهم ويتحدث إليهن.
وصادف ذلك التطور الاجتماعي تطور سياسي يقابله؛ ذلك أن اعترفت إنجلترا باستقلال مصر، وأن أعيدت وزارة الخارجية المصرية، وكانت قد ألغيت منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وترتب على عود وزارة الخارجية لدولة مستقلة أن بدأت تلك الوزارة تنظم التمثيل السياسي والقنصلي للبلاد في الخارج، وبدأت أسمع أنهم يرشحون لهذه المناصب من فئات مختلفة كانت فئة الأطباء من بينهم، ثم علمت أن أطباء من معارفنا رشحوا بالفعل لهذه المناصب.
قلت فيما بيني وبين نفسي: ولم لا يعين زوجي في لندن أو باريس أو روما، فنستمتع بالحياة في هذه العواصم الكبرى بما فيها من آثار الفن والجمال، ويكون بيننا وبين الدبلوماسيين والقنصليين من كل الأمم علاقات طيبة نستريح إليها، وتفيد مصر منها؟! فإذا تحقق هذا الأمل كان أوجب علي أن أستمسك بعهدي، وأن أقف بأمومتي عند ابني وابنتي.
وداعبني الأمل، ثم تحكمت في رغبة الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، فأفضيت لزوجي بخلجات نفسي، وذكرت له أسماء الأطباء المرشحين لهذا السلك، وطلبت إليه أن يعمل جهده ليرشح كما رشحوا، وكنت أظن أنه سيرحب بهذه الرغبة ويطير لتحقيقها، ولشد ما كانت دهشتي عندما أبدى لي الرغبة عن كل تفكير في هذا الأمر، وكانت حجته أن الأطباء الذين رشحوا للسلك ليست لهم في عالم الطب مكانة، وليس لهم بين الأطباء مثل اعتباره، فإذا هو بذل من جانبه أي مسعى لتحقيق رغبتي جنى ذلك على مركزه وعلى عمله، وهو - بعد - طبيب ناشئ استطاع أن يبلغ في فنه بمجهوده مقاما محمودا، فمن سوء الرأي صرفه عن الطب إلى غيره إرضاء لنزوة طارئة.
وعبثا حاولت أن أعدل به عن رأيه، فقد بلغ من تشبثه به أن طلب إلي ألا أعود إلى مخاطبته في الأمر، أو إظهار الأسف على رغبته عنه، وزارني والدي يوما فأبديت له رغبتي، وذكرت له عناد زوجي، فابتسم وقال: إن زوجك رجل عاقل، وهو يعلم كما يعلم كثيرون أن هذه المناصب لا تعطى اليوم للشبان المتزوجين مجانا، فهل أنت مستعدة لدفع الثمن؟ وأجفلت فزعة لسماع هذه العبارة، ولم أحر جوابا، ولم أعاود الحديث مع زوجي في هذا الموضوع من بعد.
ثم إنني قدرت بعد أن رويت في هذا الأمر أن أبي أراد بعبارته المزعجة أن يصدمني ليصرفني عن التفكير في أمر لا يرغب فيه زوجي، وذلك إبقاء على مودتنا وما يعرف من حبنا المتبادل.
وتمكن هذا التفكير من نفسي، ودس إلى قلبي جرثومة أخذت تعبث بعاطفتي نحو زوجي، وعملت هذه الجرثومة عملها بتوالي الأيام، حتى توهمت أن ما يقوله زوجي عن مكانته في الطب لا حقيقة له، وأنه من قبيل الخداع النفسي؛ اعتذارا عن عجزه عن أن يسعى لينال المنصب الذي أصبو إليه، وأن هذا العجز ضعف غير لائق بالرجال.
كان لاختلافنا هذه المرة من الأثر في نفسي ما لم أشعر بمثله حين اختلفنا على تحديد النسل، ففي هذه المرة الأولى كان الأمر كله بيدي، وكان النصر لذلك حليفي، من غير أن أتحمل في سبيله أية تضحية، ونحن في هذه الحال أشد عطفا على الهزيم وإشفاقا من أن يناله بسبب انتصارنا ما يسوءه؛ لذلك كنت أقبل زوجي إثر كل مناقشة بيننا في أمر نسلنا لأهون عليه هزيمته. أما بعد اختلافنا الأخير ورفضه أن يبذل أي مسعى لانتقالنا إلى السلك الدبلوماسي، فقد شعرت بأنني انهزمت، وبأن هذه الهزيمة آذت كرامتي، وخيل إلي أن زوجي قصد إلى هذا الإيذاء متعمدا، ولم يكن يضيره أن يسعى، فإن وفق فقد بلغت ما أردت، وإن لم يوفق فلا ذنب عليه، ولن يصيبه من جراء ذلك في عمله أي ضرر.
وحزت هذه الكرامة المهيضة في نفسي: أأجزى بكل ما بذلته لإرضاء زوجي بألا يعبأ بالسعي لمطلب يناله من هو أقل منه، وتناله من هي أقل مني؟!
وبلغ من حنقي أن خيل إلي أن زوجي ذهب إلى والدي، وطلب إليه أن يردني عن الإلحاح في أمر لا يرضاه، وأن ذلك كان السبب في قسوة الجواب الذي واجهني به والدي حين أفضيت إليه برغبتي، ولو أن زوجي لم يفعل من ذلك ما فعل، ولم يظهر لوالدي معارضته رغبتي، لاستطعت أن أستعين بوالدي في السعي لتحقيق غرضي، فله كلمة مسموعة في دوائر رسمية كثيرة، وصلاته بأولي الأمر تدعوهم لمجاملته.
وجعلت أشكو حالي لبعض صديقاتي اللواتي هن في مثل سني، فإذا كل واحدة منهن تشكو حالها، وتكاد تعلن الثورة على زوجها، وجمعت هذه الحال بين خمس منا، فكثر تزاورنا، وكثر ترديدنا الشكوى من حالنا، تقول إحداهن إنها رغبت إلى زوجها في تغيير مسكنها فأبى، وتقول ثانية إنها لا تكاد ترى زوجها الطبيب إلا ساعات الطعام، فإذا حدثته في ذلك اعتذر بكثرة عمله، وتسوق الباقيات أمثال هذه الأقاويل، ويتكرر ذلك في كل زياراتنا، ثم لا تزيد على الشكوى؛ لأننا لم نكن نستطيع أكثر منها.
وفت في عضدنا أن إحدانا غضبت من زوجها ولجأت إلى بيت أهلها، فتلقاها أبوها عابس الوجه مقطب الجبين، وقال لها في صرامة وحدة: الواجب عليك أن تحمدي الله على ما أنت فيه، وأن تقبلي يد زوجك صباح مساء، فكم من مثيلاتك تعيش مثل عيشك في بحبوحة ونعمة؟! وزوجك رجل رقيق مهذب، رضي الخلق، وأنا لا أشك من غير تحقيق في أن الحق عليك من رأسك إلى رجليك، فارجعي إلى بيت زوجك واعتذري إليه، وإلا ذهبت أنا بنفسي واعتذرت إليه.
والعجب أن زوجي لم يتغير علي في هذا الظرف برغم ما بدا من نفوري، بل لقد ازداد لطفا بي وعطفا علي، وقد بلغ من ذلك أن زال من نفسي كل شك في أنه يحبني من أعماق قلبه، مع ذلك بقيت الرغبة الدفينة في الانتقال من الطب إلى السلك الدبلوماسي تساورني، وكان اعتدادي بنفسي وبسحر حديثي مصدر هذه الرغبة وإلحاحها علي، فكنت أقدر أنني سأبلغ في محيط هذا السلك ما لا تبلغه امرأة غيري، وقد بقي هذا الاعتقاد متشبثا بنفسي إلى عدة سنوات من بعد، وإني لأذكر يوما بعد هذه السنوات دخلت فيه إلى اجتماع للسيدات، مصريات وأجنبيات، فلقينني بما تعودت من ترحيب، إلا زوج وزير ألمانيا المفوض، وكانت متعالية تعتد بجمالها، وبجنسها، وبمركز زوجها، وبواسع ثقافتها، فلم يسعني إلا أن وجهت إليها نظرة ازدراء زلزلت كبرياءها، ثم آليت على نفسي أن أتقن الألمانية، وأن أقرأ خير مؤلفاتها بلغة العظماء من كتابها، وعرفت السيدة المتعالية من بعض صديقاتي ما أقدمت عليه، فانتهزت أول فرصة تلاقينا فيها لتقدم إلي معاذيرها. بذلك تصافينا واتصلت مودتنا، ولم يلفتني ذلك عما أخذت به نفسي؛ فأتقنت الألمانية، وقرأت بها «جيتي» و«هيني» و«نيتشه»، وتأثرت إلى حد كبير بآراء «نيتشه» من أن القوة - والقوة وحدها - هي مصدر كل سلطان في الحياة.
وللمرأة من أسباب القوة ووسائلها الكثير مما لا سبيل للرجل إليه؛ لها الذكاء، ولها الحيلة، ولها الرقة، ولها سحر النظرات والحديث، ولها الصبر، الصبر الذي يمكنها من أن تحمل الجنين تسعة أشهر، وترضعه عاما أو أكثر من عام، وتتولى بعد ذلك تربيته والعناية به، أين للرجل هذه الوسائل التي تجمعها كلمة الأنوثة؟ وهل تستطيع قوته المادية أن تتغلب عليها؟!
وقد استطاع زوجي بعد اختلافنا على الانتقال إلى السلك الدبلوماسي أن يتغلب على نفوري بحنانه ولطفه، وبحبه إياي حبا كان يحرك كل قلبه وكل حواسه وكل رجولته، ثم إنه كان يحدثني كل يوم عن عمله في الطب، وعن اطراد مكانته في السمو بين زملائه، وعن كسبه الوفير منه، كما أخذ يغدق علي من صنوف الهدايا ما يهواه قلب المرأة من حلي ومجوهرات، ومن تحف زخرفية بديعة تزدان بها حجرات المنزل، وتتمتع العين بدقة صنعها وبارع جمالها، وكم أغراني للذهاب بنفسي أختار من الثياب وأدوات الزينة ومن هذه التحف الزخرفية ما أشاء، وانتهى بي لطفه إلى أن سكن نفوري، فعدنا إلى سابق مودتنا.
ولكن حبي إياه كان قد خدش، ولم يكن لي مع ذلك بد من التظاهر بأن شيئا لم يحدث، وبأنا ما زلنا نتبادل الحب صفوا كاملا، وماذا عساي كنت قادرة أن أصنع وبين يدي هذان الطفلان لا يزالان في غرارة طفولتهما بحاجة إلى عناية أبيهما وعطفه؟! ولن يدور بخاطري أن ألجأ إلى بيت أبي فتشمت بي زوجه، ويلقاني هو بوجه عابس أن ليس لي فيه أم يغفر حنانها ما لا يرضاه الأب الغضوب. لا مفر إذن من الصبر من أجل هذين الطفلين، ومن أن أعمل على مداراة ذلك الخدش إن استطعت إلى مداراته سبيلا.
وبالغ زوجي في العمل على مرضاتي، فلما كان الصيف سافرنا جميعا إلى أوروبا، وسافرت معنا مربية أولادنا، وقضينا في هذه السفرة زمنا سعدت به، وبرئت نفسي في أثنائه، حتى خيل إلي أني كنت متجنية على هذا الزوج العزيز الكريم، كم من مرة وقفت إلى جانبه على سطح الباخرة التي تجري فوق لجة بحيرة «ليمان»، واستمتعت معه بمغرب الشمس فوق قنن الجبال المحيطة بها، وبالهواء العذب الساحر الذي ينساب مع أشعتها الذهبية إلى الصدور ينعشها وينعش القلوب معها.
خادم الفندق تستأذن علي وتدخل إلي طاقة كبيرة من أزهار شتى.
وكم من مرة درت معه في أنحاء باريس في الليل أو في النهار، وكم نعمنا بمشاهدها ومسارحها، وبمظاهر الفتنة التي لا حصر لها فيها، وكم، وكم. وقد بلغ من إعجابي بهذا الرجل في هذه الفترة أنني كنت أنظر إليه في بعض الأحيان لا على أنه زوجي، بل على أنه حبيبي، حبيب قلبي وروحي، فقد وهبني كل نفسه ليله ونهاره، فلم يكن لي بد من أن أهبه كل نفسي وكل حياتي.
فلما عدنا إلى مصر، وعاد زوجي إلى عمله، وعدت إلى حياة المنزل الرتيبة، وانقشعت من حولي هذه الغمامة الشعرية التي أحاطت بي في أوروبا، فلم يبق لي إلا ذكراها، والتحدث لصديقاتي عنها، عاودني الأسف أنا لم ننتقل إلى السلك السياسي، وخيل إلي أن أهل هذا السلك يقضون حياتهم كما يقضي المصطافون حياتهم، يتنقلون حيث يشاءون، وينعمون بجمال الطبيعة وبجمال الحضارة أينما يريدون.
وجلست ذات مساء بعد أسابيع من عودتنا إلى مصر أتحدث إلى زوجي، وكان قد عاد من عمله وعليه آثار الغبطة، فذكرت له رحلتنا وأثرها الجميل في نفسي، فقال: أرجو يا عزيزتي أن نتمكن من قضاء الصيف كل عام في بعض ربوع أوروبا الجميلة، وما دام هذا يرضيك فإنه يسعدني، وهل لي من سعادة إلا في رضاك وغبطة طفلينا وراحتهما؟!
ولم أملك نفسي وقد سمعت عبارته، فعانقته وقبلته شاكرة أجزل الشكر؛ إذ رأيت في وعده هذا بعض العوض - إن لم يكن كل العوض - عن السلك السياسي، وقد كنت راغبة في الانتقال إليه أشد الرغبة.
الفصل الرابع
في الأيام الأخيرة من شهر «نوفمبر» من تلك السنة، أصيبت طفلتنا بنزلة شعبية حادة أرقتني وأرقت والدها، فلما برئت رأى زوجي أن أسافر بها وبأخيها والمربية إلى الأقصر؛ ليقضي دفء جوها على كل أثر للمرض. وحجزنا أماكننا بفندق الأقصر، وسافرنا بقطار الصباح اتقاء برد الليل، وصحبنا زوجي إلى محطة العاصمة، ثم ودعنا ساعة تحرك القطار، وعاد توا إلى عيادته يزاول عمله.
وقد شعرت ساعة وجدتني وحيدة مع الطفلين بديوان سكة الحديد بشيء من الرهبة، إن الديوان مخصص للسيدات، ويغلب ألا يشاركنا فيه أحد طول الطريق، فالأوروبيات يجلسن مع أزواجهن إلا أن يكن مسافرات وحدهن، أما ولم تشاركنا مصرية ولا أوروبية حين سفر القطار من القاهرة ومن الجيزة فلا خوف من أن تصعد مسافرة بعد ذلك من محطة أخرى، وزايلتني الرهبة بعض الشيء بعد ساعة أو نحوها من انطلاق القطار، وإن بقيت أحسب ألف حساب لطارئ من الرجال يفتح الباب علينا ويحاول الجلوس معنا، ماذا عساي أن أصنع لو أن ذلك حدث؟ فليس في الديوان جرس أستطيع أن أدعو به من ينقذني من مثل هذا الموقف.
وصلنا إلى الأقصر ولم يحدث ما توهمته مخاوفي، فلما بلغت الفندق وصعدت إلى غرفتنا عاودتني المخاوف، لقد نزلت في أوروبا فنادق كبيرة شتى، ولم يخامرني مثل هذا الشعور، أتراني هناك كنت أكثر شجاعة، أم تراني كنت أكثر اطمئنانا إلى الناس؟ لا هذا ولا ذاك، لكنني كنت في حماية زوجي، وكنت مطمئنة في جواره، أما الآن وليس معي إلا المربية والطفلان، فقد ألفيتني عزلاء مجردة من كل دفاع، على أن مدير الفندق - وكان سويسريا - أبدى لي من اللطف ما بدد الكثير من مخاوفي.
واستيقظت في الصباح وأخذت زينتي وتناولت فطوري ونزلت إلى بهو الفندق، فأقبل علي مديره ليطمئن على راحتي وراحة أطفالي، واتصل حديثنا بالفرنسية، فسألني إن كنت أريد أن أزور قبر «توت عنخ آمون»، وكان قد كشف من سنتين، ليوفر لي أسباب هذه الزيارة، ولما كنت لم أزر الأقصر من قبل، وكنت لا أريد أن يعرف الرجل ذلك عني، فقد ذكرت له أني مرجئة زيارة الآثار حتى أطمئن على راحة طفلي، وقصصت عليه مرض ابنتي، وأنني جئت إلى الأقصر من أجلها، وأبدى الرجل أشد الاهتمام بأمر الطفلة، وقال: «إن الشمس تغمر فناء الفندق معظم النهار، وشمس الأقصر ممتعة جدا، وتستطيع الصغيرة أن تتسلى باللعب مع أخيها في حديقة الفندق، وبين نزلائنا أطفال استفادوا من جو هذا الفصل في الأقصر فائدة كبرى.»
وخرجت مع الطفلين والمربية إلى فناء الفندق نستمتع بدفء الشمس، وفرح الطفلان بهذا التغيير في لون حياتهما، واندفعا إلى ناحية حديقة الفندق، وتبعتهما مربيتهما، فبقيت زمنا أحدق فيما حولي وأرقب هؤلاء السائحين، رجالا ونساء، وقد جاءوا إلى مصر من أقصى الأرض، يستمتعون بجو شتائها المنعش، وبمشاهدة مناظرها الخالدة على صفحات الطبيعة، وفي صحف التاريخ.
فلما قربت الظهيرة قمت أسير في طريق يشطر الحديقة حتى بلغت بابا من الخشب مقفلا، لكنه غير موصد، وصادفني عند هذا الباب بستاني حياني وقدم لي باقة من زهر البنفسج، ثم فتح لي الباب الخشبي وقال: تفضلي يا سيدتي إن شئت، فقد تجدين بعض معارفك في حديقة «ونتر بالاس».
وكان هذا الباب الخشبي يفصل بالفعل بين حديقتي الفندقين: الأقصر، و«ونتر بالاس»، وذكرت هذه اللحظة صديقتي التي مات زوجها تاركا لها ولذريتها الضعاف تركة قيمة، طمع فيها أهله، فمنعوا ورثته من الاستيلاء عليها وعلى إيرادها. وكانت أم صديقتي ذات ثراء، وكانت شديدة الإعزاز لابنتها؛ لأنها كانت وحيدتها بين إخوة ثلاثة قادرين على الكسب الوفير؛ لذلك أتاحت لها المتاع بالحياة بعد انقضاء مراسم الحزن على زوجها، فسافرت إلى الأقصر، وتركت أبناءها في رعاية أمها، ونزلت «ونتر بالاس»، فلما ذكرتها تخطيت إلى حديقة الفندق الفخم لعلي أجدها، ألا ما أبدع هذه الحديقة وأبهاها! وما أحقر حديقة فندق الأقصر إلى جانبها! فهذه الأشجار الباسقة، وهذه الأزهار النضيرة، وهذه الملاعب الفسيحة للتنس، وهذه الغزلان والطيور الجميلة في الحظائر، وهذه المقاعد الوثيرة بأشكالها المختلفة منثورة في كل ناحية من الحديقة، والشمس والظلال تتداول جوانب المكان المعطر بشذا الأزهار، هذا كله لم أشهد له نظيرا فيما زرت من فنادق أوروبا، وهذا كله يجوس خلاله نفر قليل من الرجال والسيدات، كثرتهم من الأجانب، ويلعب في بعض أرجائه أطفال كأنهم الأزاهير لفرط العناية بهم وبما يلبسون.
درت في أرجاء الحديقة ألتمس صديقتي فلم أجدها، وعلوت السلم المؤدي من الحديقة إلى الفندق آملة أن أجدها في بعض أبهائه، أو أسأل عنها بعض رجاله، فعلمت من البواب أنها ذهبت في صحبة إلى بيبان الملوك، وأنها ستكون - لا ريب - ساعة الشاي في البهو الكبير، ودلفت من باب الفندق إلى شرفته، يا للجلال والبهاء والعظمة والجمال! فهذه الشرفة الرفيعة البديعة تطل على منظر كله الروعة لا نظير له في العالم، تطل على النيل تنساب مياهه السماوية الزرقة، هادئة هدوء هذا الفصل الرقيق من السنة، وتناسب فوق مياهه الزوارق، ذاهبة آيبة بين طيبة الأحياء، وطيبة الأموات، وقد تطوف أحيانا حول جزيرة ناتئة في النهر حتى تغمرها مياه الفيضان، وعلى الجانب الآخر من النيل تتدرج هضاب «طيبة الأموات» في ارتفاع حتى تختلط بالسماء عند مدى النظر.
ووقفت إلى جانبي سيدة رأتني أحدق في إعجاب إلى هذا المنظر البديع، وعلمت أنني نزلت الأقصر العشية، فحيتني بالإنجليزية وقالت: إن هذا المنظر يكون أبدع بكرة الصباح وساعة المغيب وأشد سحرا، وهذه الجبال التي تبدو أمامك الساعة وقد غمرها ضوء الشمس، وكاد وهجها يحجبها عن النظر، تبدو في الإصباح والإمساء وقد بادرتها الشمس، أو انحدرت من ورائها، ورسمت عليها خطوطا من أشعتها الذهبية، تخالينها سطورا تنطق بما احتوته هذه الجبال في جوفها، من فراعين وملكات، ومن قسس ووزراء، ومن فعال هؤلاء وأولئك، وكيف كتبوا من تاريخ الإنسانية صحفه الأولى. إنني أهيب بك أن تجيئي إلى موقفك هذا بكرة الصبح وساعة المغيب، ليتضاعف متاعك بالنيل والصحراء والجبال وما تحدث عنه من تاريخ ما قبل التاريخ!
وأقمت مكاني زمنا مأخوذة بالمنظر الساحر أمامي، فلما امتلأت منه العين والجوانح عدت إلى فندقي أتفقد الطفلين العزيزين، وأشرف مع المربية على طعامهما، وتحدث إلي زوجي تليفونيا من القاهرة ليطمئن علينا فطمأنته على كل شيء، وغفوت غفوة الظهيرة، أستريح بها من شقة سفر أمس، فلما دنا موعد الشاي ذهبت من جديد إلى «ونتر بالاس»، وما كدت أدخل البهو الكبير حتى رأيت صديقتي في جانب منه، فقصدت إليها وجلسنا معا إلى مائدة لا ثالث معنا حولها، وإنا لنتجاذب أطراف الحديث إذ أقبل علينا رجل ناهز الثلاثين، فحيا صديقتي، ثم أحنى رأسه تحية لي، واستأذن وجلس. وعلمت أن هذا الرجل من الأقصر، وأن له في فنادقها شأنا، وسرعان ما أدركت أنه كثير التردد على نزلاء هذه الفنادق ونزيلاتها، فما كاد يشاركنا الحديث حتى رأيته يذكر لصديقتي أسماء طائفة من نزلاء «ونتر بالاس» ونزيلاته، ومن نزلاء فندق الأقصر ونزيلاته، ويروي عن هؤلاء وأولئك، وبخاصة عن هاتيك اللاتي ذكر أسماءهن، أنباء تنقلاتهن وملابسهن، ومبلغ انسجام ملابس السهرة على هذه وعدم انسجامها على تلك، وكيف ترقص هذه وكيف ترقص تلك، والحق أني ضقت بحديثه، لكن ما أبداه في أثناء الحديث من استعداد للقيام بأية خدمة أرغب فيها اقتضاني مجاملته، بل ملاطفته، ولعل كثيرات غيري من نزيلات الفندقين كن في مثل موقفي، يتظاهرن بالمجاملة والملاطفة انتظارا لخدمة يؤديها هذا الرجل، أو تقديرا لخدمة سبق له أداؤها.
وأحسست ساعة المغيب تدنو، فاستأذنت صاحبتي وصاحبها لخمس دقائق، ودلفت إلى الشرفة فألفيت السيدة التي وقفت إلى جانبي ساعة الظهيرة، وكأنها في انتظاري، ورأتني مقبلة فصاحت: «أترين هذا المغيب البديع؟ لكأن الشمس علمت بأنك تريدين مشاهدتها، فجملت الوجود كله بزينتها ، انظري، انظري إلى النهر والسماء والجبال، وكأن المغيب يضمها جميعا في غلالة من ذهب.»
وانطلقت السيدة تصف ما ترى مأخوذة، كأنها واقعة تحت سلطان منوم مغناطيسي مقره قرص الشمس! وأخذت بالمنظر وبحديثها، ووقعت أنا الأخرى تحت سلطان هذا المشهد الفذ من مشاهد الطبيعة، فلما آن للمساء والنهر والجبال أن تخلع زينتها عدت إلى مجلسي مع صديقتي، وقد غلبني البهر فعقد لساني، فلما أفقت من بهري أخذت أتكلم وأصف ما شهدت، وأصغيت لصوتي ولعباراتي، فإذا هي أنغام توقع لحن هذا المشهد الفذ الرائع، وقضيت في هذا الحديث زمنا رأيت الرجل في أثنائه مسحورا، فلما كاد يتولاه البهر الذي كان قد تولاني، تركت «ونتر بالاس»، وعدت إلى فندقي وإلى طفلي.
وأصبحت بكرة الغد، وتناولت فطوري، ثم إذا خادم الفندق تستأذن علي وتدخل إلي طاقة كبيرة من أزهار شتى كلها الفتنة والجمال، شبكت بها بطاقة صاحبنا الأقصري الذي تناول الشاي معنا أمس في «ونتر بالاس».
ولم يكن عجبي لجرأته دون سروري بهذه الأزهار البديعة الفاتنة، وطلبت إلى الخادم فأحضرت من الآنية ما وزعت فيه الأزهار لأزين بها جوانب غرفتي، فلما اطمأننت إلى أن كل آنية وضعت حيث يجب أن توضع أدرت نظري في الغرفة، وارتسمت على ثغري ابتسامة الرضا، فالأزهار تنشر في المكان الذي توضع فيه بهجة، وتبعث إلى القلب المسرة، وإلى النفس الغبطة والطمأنينة، ودعوت طفلي ومربيتهما، فاستمتعوا معي بهذه البهجة وهذا الجمال.
وهبطت إلى بهو الفندق، فإذا صاحبنا الأقصري جالس في صدره، وكأنه ينتظرني، فلما رآني أقبل علي وحياني وعلى ثغره ابتسامة عريضة، وشكرته وأثنيت على أزهاره، وتحدثت إليه هنيهة حاولت الانصراف بعدها، فاستوقفني وقال إن عربته تحت تصرفي لأزور بها آثار الأقصر جميعا، وإنه يسر إذا قبلت مصاحبته إياي في زيارة معبد الكرنك ليشرح لي من أسراره ما لا يعرفه أقدر التراجمة من أبناء المدينة، فشكرته واعتذرت له أن لدي اليوم شواغل تحول دون مغادرتي الفندق إلى زمن طويل، وأني مضطرة لذلك أن أرجئ زيارة الآثار إلى يوم آخر، وقبل اعتذاري في لطف وأسف، ثم قال إن صديقتي لا تبرح «ونتر بالاس» اليوم؛ لأنها تريد أن تستريح من مشقة زيارتها ببيان الملوك أمس.
وانصرف الرجل، وخرجت أرى طفلي في فناء الفندق وحديقته، ثم إنني اصطحبتهما ومربيتهما إلى حديقة «ونتر بالاس»، وهناك ألفيت صديقتي ممددة على كرسي طويل، وفي يدها قصة تقرؤها، فهي لم تكن تطيق أن تقرأ من الكتب غير القصص، واتجهت نحوها، فلما دنوت منها رفعت بصرها عن كتابها، ثم قامت وحيتني ودعت البستاني، فجاء بكرسي طويل آخر تمددت عليه إلى جانب كرسيها، فلما استقر بنا المجلس اتجهت إلي بنظراتها الفاتنة، وقالت: «خبريني، ماذا فعلت بهذا الأقصري؟! لقد سحر بك سحرا، بل جن بك جنونا، إنني لم أره قط كما رأيته أمس بعد أن غادرتنا، لقد انقلب على حين فجأة شاعرا مفلقا؛ فنظراتك، ولفتاتك، وحديثك، وهندامك، ورقتك، ولا أدري ماذا كذلك كانت مدار حديثه طول سهرته! ولقد سهر طويلا وأسهرني معه، ولم يكن يتابع بنظراته الحائرة حركة الرقص على عادته، فقد كان في شغل شاغل عن ذلك كله بالحديث عنك، عنك أنت وحدك حتى خيل إلي أنه يعرفك من زمن، وأن بينكما مودة، فلما أخبرني أنه رآك أمس أول مرة وأنت معي تولتني الحيرة؛ أي طلسم تحملين أضله عن صوابه كل هذا الضلال؟»
وتبسمت ضاحكة من قولها وقلت: «أنت تبالغين يا عزيزتي، وإن هناك لطرازا من الرجال ذلك شأنهم حين يرون امرأة لأول مرة، وما يدريك لعل هذا الأقصري يوم رآك للمرة الأولى قد قضى سهرته حديثا عنك، وقضى ليلة تفكيرا فيك، وهو لا ريب قد حمل إليك صبح الغداة من ذلك اليوم طاقة كبيرة من أزهار جميلة شبكت بها بطاقته، ووضع تحت تصرفك عربته تزورين بها الآثار، واستأذنك في أن يصحبك إلى معبد الكرنك ليشرح لك من أسراره ما لا يعرفه أقدر التراجمة في المدينة.»
وقالت صديقتي: «بل أنت التي تبالغين، صحيح أنني تلقيت غداة وصولي إلى هنا ومقابلته إياي للمرة الأولى طاقة من الأزهار، لكنها لم تكن كبيرة، ولم تشبك بها بطاقة ما، وهو قد صحبني إلى الكرنك، لكنه لم يصحبني وحدي، بل كنا جماعة من زوار الأقصر رجالا ونساء، وكان أكثرنا من الأجانب، وكان معنا ترجمان تولى الشرح، ولم يتوله غيره، أما عربته فإنه يتلطف بإرسالها إلي كلما ذكرت له أنني ذاهبة إلى نزهة خلوية، أثرية أو غير أثرية.»
سمعت ذلك فاغتبطت، فشتان بين ما ذكرته صديقتي وما كان معي، وصديقتي جميلة حقا، فارعة القوام ممتلئة في غير سمنة، في عينيها حور، وفي نظراتها سحر، إذا مشت لفتت مشيتها النظر، وإذا ابتسمت أسعدت ابتساماتها جليسها، وهي مؤمنة بجمالها وبسلطانه على كل من يراها، وهي مع ذلك تذكر لي من أمر الأقصري ما ذكرت، ليس الجمال وحده صاحب السلطان إذن على الرجال، فهذا الأقصري الذي سحر في لحظات بحديث عن جمال بلده يستطيع أن يقرأ مثله أو خيرا منه في الكتب، ويستطيع أن يسمع مثله أو خيرا منه من غيري، قد سحره - لا ريب - شيء آخر غير الألفاظ التي اشتمل عليها الحديث، وهذا الشيء الآخر هو سر السحر الذي يبهر كل من يسمعني، هو سري أنا، سر السلطان الذي أحسه، ولا يحيط التحليل بكل مصادره.
ولكن من هذا الأقصري الذي ضقت أمس بحديثه حتى تخرجني الغبطة بسحره بي عن موجب الرزانة وحسن التقدير؟! لقد أحسنت صنعا بالاعتذار عن مصاحبته إياي إلى «الكرنك»، وخير لشابة مثلي أن تلزم جانب اليقظة والحذر.
مرت هذه الخواطر بنفسي في مثل لمح البصر، فلم تلحظ صديقتي شيئا منها، واستطرد بنا الحديث وأنا إلى جانبها في شئون وشجون، بعد أن قصت علي في إيجاز مشاهداتها في آثار الأقصر وبيبان الملوك وبيبان الملكات، وإننا لفي حديثنا إذ مر بنا أجنبي وقف إلى جانبها فحياها بيده، وحياني بإشارة من رأسه، وتحدث إليها لحظات حديثا عاديا، ودعاها بعده، ودعاني وإياها لتناول الشاي ثم انصرف. وذكرت لي صديقتي بعد انصرافه أنه ألماني مهذب مشتغل بالآثار، وأنه يحضر إلى الأقصر كل شتاء منذ سنوات لمتابعة أبحاثه، وأردت منها أن تعتذر إليه عن عدم قبولي دعوة لم توجه لي إلا لوجودي معها، فابتسمت وقالت: «من يدري! لعلها وجهت إلي أنا من أجلك، وعلى أية حال لا ضير عليك من قبولها، وأؤكد لك أنك لن تأسفي لمعرفة هذا الرجل، فهو مهذب واسع الأفق والثقافة، حلو الحديث، لطيف المجلس، وهو لا يقيم بهذا الفندق، ولا يكثر التردد عليه، ولم أره هنا يومين متعاقبين منذ جئت إلى الأقصر، لهذا أرجوك أن تكوني معنا هنا ساعة الشاي، ولك أن تعتذري وتنصرفي بعد قليل من تناوله.»
وألحت الشابة الجميلة فنزلت على رجائها، وجئت للموعد فألفيت الرجل قد حجز لنا مائدة، وجلس إليها ينتظرنا، وأقبلت صديقتي وطلبنا الشاي وأخذنا نتحدث، وعلم مضيفنا أني جئت الأقصر لأول مرة في حياتي، فأخذ نفسه بأن يرسم لي - من هذه المدينة الصغيرة التي كانت من قبل عاصمة الفراعنة - صورة تحييها أمام خيالي في عهود عزها وجلالها، وتصفها في حاضرها بعيدة كل البعد عن هذه العزة وهذا الجلال، لولا معبدها الضخم القائم على شاطئ النيل الأيمن، ولولا القبور العجيبة التي نحتها الفراعنة مقرا لحياتهم الآخرة في جوف الهضاب الناتئة على الشاطئ الأيسر، وأخذ يتحدث في هذا حديث عليم ساحر الحديث طيلة تناولنا الشاي، فلما فرغ من القول شكرته، ثم أبديت له عجبي من أولئك الأقدمين، كيف تخيلوا حاجة الروح بعد الموت لطعام هذه الدنيا ومتاعها، حتى كانوا يدفنون مع الميت القمح والزهر والحلي، وما إلى ذلك من ألوان المتاع؟! وانتقلت من هذا الحديث إلى غيره، وإلى غيره، وجعل هو يجيبني إلى ما أسأل عنه.
وطاب لي المجلس فلم أعتذر ولم أنصرف، بل أقمت أستمتع بحديث مضيفنا وبأنغام الموسيقى، حتى لم يبق في بهو الفندق معنا إلا نفر قليل، عند ذلك قلت مبتسمة: «أظن أنا لم يبق لنا من الانصراف بد، وأنا أشكر صديقتي، وأشكرك يا سيدي، وأستأذنكما في العود إلى فندقي.»
قال الألماني: «أوتأذنين يا سيدتي أن أصاحبك إلى هناك، فالطريق طريقي وأنا أقيم على مقربة من فندق الأقصر؟ وانتقل الحديث في أثناء الطريق من الفراعنة إلى مشاهداتي في أوروبا، وأصغى الرجل لحديثي عن جمال سويسرا، ثم سألني عما إذا كنت قد زرت ألمانيا، وأبدى الأسف حين قلت إنني لم أزرها، وذكر أنه سيكون في برلين الصيف المقبل، وتمنى لو التقينا بها وتعرف إلى زوجي هناك.
نزلت صبح الغد إلى بهو الفندق، فألفيت صاحبنا الأقصري في مكانه لأمسه، وأقبل علي حين رآني، وذكر لي بعد التحية أن الأثري الفرنسي، الذي يشرف على عملية التنقيب بالكرنك، ويقيم في منزل تجاه المعبد، يقيم اليوم حفلة شاي، وأنه علم بمقدمي من مصر، فأبدى الرغبة في حضوري هذه الحفلة، والاستعداد للمجيء إلى الفندق لدعوتي إذا كنت مستعدة لقبولها، وتحدث الأقصري عن هذا الأثري الفرنسي، مثنيا على أعماله، محبذا قبولي الدعوة، فلما أبديت أني لا أرفضها قدم بطاقتها باسمي، قلت: لا داعي إذن لتجشيم الرجل مشقة الحضور بنفسه، فبدت على محيا الأقصري علائم الغبطة، وقال: «سأصحبك إذن في عربتي إلى هناك.»
وذهبنا بعد الظهر معا، وتم التعارف بيني وبين الفرنسي وسائر المدعوين إلى الحفلة، وبعد أن تناولنا الشاي ذهبنا في زيارة قصيرة إلى الكرنك، رأينا خلالها ما أسفرت عنه عملية التنقيب، على أني خرجت من هذه الزيارة القصيرة وأنا لا أكاد أصدق ما رأيت من جلال هذا المعبد وفخامته وعظمته، ورأى الفرنسي إعجابي، فقال إنه يسر بمصاحبتي في أرجاء المعبد كله دليلا يشرح لي بعض أسراره، ونظرت إلى صاحبي الأقصري مبتسمة ابتسامة من يسأل: «أي الدليلين أختار، هو أم المشرف الفرنسي على المعبد؟» وجوابا على ابتسامتي وجه هو الحديث إلى المشرف قائلا: «متى قررت السيدة زيارة المعبد أحطتك تليفونيا، وحضرت معها لأستفيد جديدا عن آخر ما وصل إليه تنقيبك!»
قضيت أسبوعين على هذا النحو بالأقصر، أستبشر كل صباح بمشاهدة طفلي زادهما هذا الجو البديع نشاطا وصحة، وأتفق مع الطاهي على ما سيقدم لهما من طعام، وأقضي ما وراء ذلك متاعا بنفسي وبصديقتي وبمعارفي الذين ألقاهم في حديقة «ونتر بالاس»، أو أجلس إليهم ساعة الشاي في بهوها، أو أزورهم بعد العشاء أحيانا قليلة، أسمع موسيقى الرقص، وأمتع النظر بحركات الراقصين. وفي هذين الأسبوعين زرت آثار الأقصر في طيبة الأحياء، ومقابر الفراعنة ملوكا وملكات في بيبانها، وزرت الكرنك مع فوج من السائحين في ضوء القمر، وأشهد لقد كنت سعيدة بمن عرفت من الأحياء سعادتي بهذه المشاهد الخالدة الباقية على الدهر بقاء الدهر، فكانت هذه وأولئك يشغلونني في يقظتي وفي نومي؛ لأنني لم يكن يشغلني شيء سواهم، ولأنني كنت في هذه الفترة أقضي نهاري وليلي كما يقضي السائحون نهارهم وليلهم، لا هم لهم إلا المتاع بالحاضر، لا يشغلهم غدهم عن يومهم، ولا يفكرون إلا فيما تقع عليه أنظارهم، وما تلتهمه مشاعرهم وحواسهم، وكذلك نسيت السلك الدبلوماسي، ونسيت تحديد النسل، ونسيت القاهرة، بل نسيت أوروبا؛ لأن الحاضر أمامي كان يملأ فراغ وقتي، ولا يدع لي فرصة للتفكير في شيء غيره.
فلما صدمني الواقع بأنا عائدون إلى القاهرة بعد غد، شعرت كأنني أفيق من حلم سعيد لذيذ، وكأني إنما جئت إلى الأقصر لأمسي، واستبد بي هذا الشعور حين رأيت المربية صبح الغد تعد متاعنا للسفر، لم يبق لي إذن إلا أن أودع كل ما رأيت ومن رأيت خلال هذين الأسبوعين السعيدين، لم يبق لي إلا أن أودع هذه الغرفة التي احتوت أحلام يقظتي ونومي بفندق الأقصر، وهذا البهو وقاعة الطعام، وهذا الفناء، وهذه الحديقة، ولقد كانت ملعب طفلي، ومهبط أشعة الشمس المحسنة إليهما، وأن أودع حديقة «ونتر بالاس» وبهوها وشرفتها والنيل، وبيبان الملوك والملكات مما تطل هذه الشرفة عليه، وأن أودع صديقتي وصاحبها الأقصري، وهذا الألماني المثقف الظريف الذي تردد علينا بضع مرات كنت أحس كل مرة منها بأنه أوسع ثقافة وأكثر ظرفا! نعم، لم يبق لي إلا أن أودع من رأيت، وما رأيت، وأن أقول لهم ولها: إلى الملتقى إن قدر لنا أن نلتقي ها هنا مرة أخرى.
وخرجت إلى فناء الفندق أشرف على الطفلين حتى تنزل المربية إليهما بعد أن تفرغ من إعداد المتاع، واتجه نظري إلى باب الفندق الخارجي فيما وراء الحديقة، ودارت برأسي خواطر مبهمة أوحت بها خلجات نفسي، ترى لو أنني جئت إلى هنا العام المقبل، أتراني ألتقي بمن أودع اليوم؟ وابتسمت في مرارة حين ارتسم أمام بصيرتي الجواب الطبيعي لهذا السؤال: نعم، سأرى الفندقين وحديقتهما، وسأرى النيل والمعابد، وقبور الملوك والملكات، كما أرى شمس الأقصر وقمرها.
أما صديقتي والأقصري والألماني، ومديرا الفندقين، ومن إليهم من رجال ونساء يقيمون هنا، دعك من السائحين والسائحات، فلا علم لي ولا علم لأيهم ما مصيره بعد عام، بل بعد شهر، بل بعد يوم، فقد يرجع الألماني إلى وطنه ثم لا يعود، وقد يمرض أحدهم وقد يموت. ألا تعسا لهذه الحياة! لا نمسك منها إلا بخيال سريع التنقل سريع الزوال، وما أشهاها مع ذلك، وما ألذها، وما أطيب ما نسيغه من حلو متاعها! أتراها تكون كذلك لو أن الأحياء كتب لهم البقاء كما كتب على المعابد والنيل والشمس والقمر؟
ونزلت المربية فتركتها مع الطفلين، وأخذت طريقي إلى حديقة «ونتر بالاس»، وهناك جلست أتحدث إلى صديقتي حديث الوداع، وإنا لكذلك، إذ أقبل الأقصري فجلس إلينا يشاركنا في هذا الحديث، ثم قال ساعة انصرافه إنه دعا الألماني كما دعا الفرنسي المشرف على أعمال التنقيب بمعبد الكرنك لتناول الشاي معنا قبيل المغيب ليقوم الجميع بتوديعي.
واجتمعنا حول مائدة الشاي، واستمعنا إلى الموسيقى، وتحدثنا، فلما آن موعد انصرافي حياني الفرنسي بكلمات تسيل رقة، وتمنى لي عودا سعيدا إلى بيتي، وعانقتني صديقتي وتبادلنا قبلات حارة، وقال الأقصري إنه سيراني مرة أخرى على محطة سكة الحديد صبح الغد، وأما الألماني فقد أصر على مصاحبتي إلى فندقي، فطريقي طريقه إلى مسكنه، فلما بلغنا باب الفندق وقف يودعني، وأخرج من جيبه علبة صغيرة وقال: «أرجو يا سيدتي أن تقبلي هذا التذكار الصغير لتعارفنا القصير، خلال هذه الفترة الوجيزة، إنه لا يعبر عما أشعر به نحوك من إكبار وتقدير فحسب، ولكنه يذكرني كذلك عندك كلما رأيته.» وشكرته وفتحت العلبة قبل أن ينصرف، فرأيت بها حلية صغيرة دقيقة الصنع غاية الدقة ، فلما أبديت إعجابي بها قال: «لقد صنعتها بنفسي، وإن لم تكن صياغة الحلي صناعتي»، ثم ودعني وانصرف.
وفي الصباح الباكر جاءت عربة الأقصري فانتقلنا بها إلى المحطة، فإذا هو ينتظرنا على إفريزها، فلما آن لنا أن نستقل القطار، وصعد إليه الحمال بمتاعنا رأيت مع المتاع زنبيلا أشار إليه الأقصري وقال: «إنها هدية صعيدية لا تليق بالمقام، تأكلونها شفاء وعافية.»
وانطلق بنا القطار، وأنا وحيدة في الديوان مع طفلي، أستشعر رهبة، ولم أشعر بحاجة إلى دفاع، وغلب النوم الطفلين لتبكيرهما في اليقظة، فاستلقى كل في ناحية، ورحت أنا يتردد خيالي بين الأقصر ومقامي بها، والقاهرة وإقبالي عليها، لكني ما لبثت بعد قليل أن نسيت القاهرة وتعلقت بالأقصر؛ ذلك أنني حانت مني التفاتة إلى متاعنا فأخذ الزنبيل بنظري، وأحيا صورة الأقصري في ذهني، وأحيا صورة بلده، ودفعني منظر الزنبيل وتوهم ما فيه إلى المقارنة بينه وبين الحلية التي أهدانيها الألماني، وبين ذوق كل من صاحبي الهديتين، وأدت بي هذه المقارنة إلى أن أسأل نفسي: أفكان من حقي أن أقبل أيا من الهديتين؟ صحيح أن هدية الأقصري قد زج بها بين متاعي من غير علمي، وأنها فوق ذلك طعام لن يبقى له غدا أو بعد غد أثر، وأستطيع إذا سألني زوجي أن أذكر له كل شيء عنها، ولكن ماذا عساي أقول إذا سئلت عن هدية الألماني، وكيف سولت لي نفسي قبولها؟
وأعترف، لقد بهت وتولتني الحيرة، حين أردت الجواب على هذا السؤال، وفي الحق كيف قبلت هذا التذكار؟ وكيف جرؤ الألماني على تقديمه لي؟ وما معنى هذا الصنيع من جانبه؟ ليس للتذكار قيمة مادية ذات شأن، لكن تقديمه إلي ساعة توديعي مشفوعا بالعبارات التي نطق بها كان يوجب علي أن أتدبر الأمر أكثر مما فعلت، وأن أشكر وأعتذر عن عدم قبول هذا التذكار، ولكن بماذا كنت أعلل اعتذاري، من غير أن أخل بواجب الأدب والمجاملة؟ إن الرجل لم تبدر منه في كل المرات التي جلس إلينا فيها أية بادرة لا ترضاها أدق قواعد الذوق، وعبارته الأخيرة أنه يقدم لي هذا التذكار لما يشعر به نحوي من إكبار وتقدير، عبارة مختارة أدق اختيار، فلو أنني اعتذرت ولم أقبل تذكاره لكان اعتذاري جافا لا يصدر عن إنسان مهذب!
لكن ما عساي أن أقول لزوجي حين يرى هذا التذكار؟ وهلا أقص عليه أنباء جولاتي، وكل ما رأيت في الأقصر، وأنا إنما سافرت إليها من أجل ابنتنا لتمام برئها؟ إن هذا التذكار ليفتح علي أبوابا ما أغناني عن فتحها، أفأخفيه عن زوجي تخلصا من كل سؤال وجواب؟ إن كبريائي وكرامتي لتأبيان ذلك علي؛ لأنني لم أرتكب إثما فأتستر عليه، ولكن هلا يثير هذا التذكار في نفسه من الغيرة ما قد يجني على مودتنا وعلى حبنا المتبادل، ثم يعذره كل إنسان عن غيرته، وإن لم يكن لي في ذلك ذنب ولا جريرة؟
جعلت أقلب هذه الأمور في نفسي، والقطار ينهب بنا الطريق إلى العاصمة، فلما بلغها ألفيت زوجي في انتظاري على المحطة، ولمحت في نظراته وهج الشوق العنيف، وخيل إلي أنه يريد أن يبتلعني ابتلاعا، لكنه اكتفى بتقبيل الطفلين وإظهار الرضا عن صحتهما، فلما دخلت منزلنا وأزلت عني غبار السفر ولباسه وتزينت للنوم، وأوى الطفلان إلى مضجعهما، ألقيت بنفسي بين أحضانه، وسكبت في فمه كل ما اجتمع في جسمي، وفي قلبي، وفي عواطفي، وفي وجودي كله مدى وجودي بالأقصر من مشاعر وإحساس، وتلقى هو قبلتي فزادته شوقا لي، وأذبت نفسي وروحي فيه، وانتشرت بذلك في كل وجوده، فلما آن لنا أن نتحدث لم نجد ما نقوله، إننا كلينا هنا وكفى، وبعد ألفاظ قليلة مبعثرة تبادلناها قال: أحسبك متعبة من مشقة السفر طول النهار، فليرد عليك النوم راحتك وطمأنينتك، ولنتحدث غدا عن الأقصر وما كان فيها.
واستيقظت صبح الغد في ساعة متأخرة فألفيته ذهب إلى عمله، وعدت أفكر فيما كان يشغلني وأنا بالقطار، فقلت: يجب أن أقص عليه كل شيء، ويجب أن أذكر له الألماني وتذكاره، إن ما شهدته منذ بلغت القاهرة ليدلني على أن لي عليه من السلطان ما كان لحواء حين أغوت آدم فأكل من شجرة الخلد، وسأرى ما يكون لذلك من أثر ثم أتصرف.
وعاد من عمله مبكرا، وقبلني قبلة شدت من عزمي، فلما جلسنا سألني وعلى ثغره ابتسامة الرضا عما رأيت في الأقصر، فذكرت له صديقتي التي مات زوجها، فاستولى أهله على تركته، وذكرت كيف كان يجتمع إلى مائدتها ب «ونتر بالاس» قوم أولو ظرف وكياسة، يتناولون الشاي ويتحدثون، منهم الأقصري الذي أهداني الزنبيل ساعة سفري، ومن هديته سنتناول طعامنا بعد هنيهة، ومنهم ألماني مهذب واسع الثقافة، كان قليل التردد علينا، وقد قضى عليه ظرفه ساعة ودعني أن يهديني تذكارا دقيقا من صنع يده، وفتحت العلبة الصغيرة التي احتوت التذكار وأريتها لزوجي، فلما رآها قليلة القيمة المادية لم يبد اهتماما بها. وذكرت الأثري الفرنسي المشرف على أعمال التنقيب بالكرنك، ثم ذكرت الكرنك وما تركه في نفسي من أثر عميق حين زرته مع صحبة في ضوء القمر، وبيبان الملوك، وقبر توت عنخ آمون، ومقابر الملكات، وذكرت ذلك كله، وذكرت النيل ومغارب الشمس البديعة، وأخذت أتحدث وأتحدث وهو يصغي إصغاء مأخوذا من سحر حديثي، ثم ختمت الحديث بأني كنت أغتبط بذلك كله، ثم أزداد غبطة حين أستيقظ في الصباح، فأرى طفلينا يزدادان نشاطا وصحة، ويزيدانني بذلك هناءة وسعادة، ويجعلان من مقامنا بالأقصر فلذة من نعيم، كان يضاعف لو أن والدهما كان معنا يستمتع بمتاعنا، ويزيدنا سعادة بمتاعه!
قبلني زوجي حين فرغت من حديثي، وشكر لي عنايتي بالطفلين، ثم قمنا وتناولنا غذاءنا، وخلوت بعد ذلك إلى نفسي راضية عن نفسي، هأنذي لم أخف شيئا عن زوجي، وها هو ذا مطمئن مغتبط، وهذا طبيعي؛ فلا جناح على امرأة إذا رأى الناس فيها جاذبية أدنتهم منها وحببت إليهم مجلسها، أو رأوا في حديثها ما أخذ بسمعهم وأبصارهم، فيم إذن كان ترددي وأنا بالقطار؟ وفيم كانت خشيتي أن أثير هواجس الرجل أو أثير غيرته؟ إننا كثيرا ما نجسم أمام خيالنا أمورا لا جسامة في الواقع لها، وكثيرا ما نضطرب أمام اعتبارات لا شيء فيها يوجب الاضطراب.
على أنني ابتسمت بعد هنيهة في نفسي، وتساءلت: أكان الأمر يتم بكل هذا اليسر لولا أنني سكبت في جنان زوجي كل ما اجتمع في جسمي وفي عواطفي وفي وجودي كله من حس ورغبة، ولولا أنني أذبت نفسي وروحي فيه، وانتشرت في كل وجوده لأول ما خلوت إليه بعد أن بلغنا القاهرة؟ وهل كان الأمر في مثل هذا اليسر لولا لواعج الشوق التي كانت تحرك كل روحه وكل عصبه، ولولا ما يكن قلبه من حب فرض عليه كل سلطانه؟ إن شوقه وحبه هما اللذان نصراني بعد أن أرضيتهما بكل ما ينطوي عليه وجودي من أسباب إرضائهما، وبعد أن تعاونت أسباب هذا الإرضاء في ذكاء ومقدرة فلا أغمط حق نفسي، ولا أهون من قدر سلطاني القاهر، فلولا هذا السلطان لواجهت اليوم موقفا ما أدقه وأعسره!
وتعاقبت الأيام وأقبل الصيف، وفكرت في السفر إلى أوروبا، ولم أكن في ريب من إجابة زوجي رغبتي، فقد رضي سلطاني وأقره وخضع لحكمه برغم ما كان يبدو أحيانا من تحكمه؛ لأنه رأى في هذا التحكم لونا من دل المحب يزيده إغراء، على أن أمرا حدث حال دون السفر، فقد مرض والدي واشتد به المرض حتى كان الأطباء يعودونه صباح مساء، وكان زوجي هو المشرف على تنفيذ العلاج الذي يقررونه، فلم يكن مستطاعا أن ندعه في علته ونسافر إلى ربوع الاصطياف والتسلية، فلما برئ كان الصيف في مولياته، ولم أكن أحب الإسكندرية منذ سافرت مع والدي إليها بعد موت أمي؛ لذلك استقر مقامنا بالقاهرة حتى إذا كنا في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر رأى زوجي أن من حقي أن أستريح، فاقترح أن أذهب مع الطفلين والمربية إلى الأقصر كما فعلت في العام الماضي، وحجزنا أماكننا في فندق الأقصر، وسافرنا بقطار الصباح اتقاء برد الليل، فلما بلغت الفندق وجدت الأقصري والألماني في بهوه، وأقبلا مع مدير الفندق وقالا: لقد أخبرنا المدير بمجيئك فانتظرناك لنقول لك: حمدا لله على السلامة. ثم ذكر أن صديقتي نزلت «ونتر بالاس»، وودعاني وانصرفا.
وذهبت مبكرة بعد ظهر الغد إلى «ونتر بالاس» فألفيت بهوها خاليا، فتخطيت إلى شرفتها أؤدي للنيل ولما وراءه في الجانب الغربي تحية إكبار وإجلال، ولم يطل وقوفي حتى رأيت الإنجليزية التي وقفت إلى جانبي في العام الماضي تقبل علي وتقول: «هاللو، أرأيت أنك لم تستطيعي مقاومة ما لهذا المنظر الساحر من سلطان؛ فجئت حاجة إليه هذا العام كرة أخرى؛ ذلك شأني معه من أعوام عدة، لا يكاد الشتاء يقبل حتى أشعر بدافع يجذبني إلى هنا لأؤدي لهذا المشهد الفذ فرضا، حاولت غير مرة أن أتنصل منه، ثم لم أجد مفرا من أدائه. وحدثيني بربك، أي شعور يملكك حين تهبطين مئات الدرج إلى قبر فرعون نقشت جوانبه بطلاسم «كتاب الموتى»، ثم ترين مكان تابوته أو بقية من آثاره؟ إن الرهبة التي تملكني في تلك اللحظات لتريني العالم الآخر، وتريني ملكوت السموات، ألا ترين أنت أيضا شيئا من ذلك؟»
وأجبتها: «إنني لم أتردد بعد على تلك المقابر ما ترددت لأرى فيها ما ترين، إنما ملكني شعور العجب كيف ينفق هؤلاء الملوك كل ذلك الجهد، ويسخرون في سبيله ألوف العمال وعشرات آلافهم؛ لينقروا في جوف الصخر قصور قبورهم!» قالت - وفي لهجتها شيء من الإنكار علي: «كلا يا سيدتي، لا تقولي هذا الكلام، فلو أنهم لم يفعلوا لما خلدوا للأجيال المتعاقبة على الدهر هذه الآثار البارعة الضخمة، التي تحدث عن حضارة روحية أضاعها عالمنا المادي الأحمق! إن هؤلاء الأقدمين في مصر والهند والصين قد هدتهم حكمتهم، وخلدوا من آثار علمهم وفنهم وحضارتهم ما لا قبل لعالم اليوم بمثله، إنهم كانوا يعيشون مطمئنين إلى خلد أرواحهم؛ فكانوا يقيمون لهذه الأرواح المقر اللائق بها، أما نحن فنعيش في عالم مضطرب سريع التغير لا نستطيع أن نمسك منه بمعنى من معاني البقاء، وحسبنا لذلك منه حياتنا على الأرض، وما أقصرها! وما أتفه ما تكسبه أرواحنا في أثنائها! وإني لأشعر يوم نلتقي بهؤلاء الأقدمين في ملكوت السموات أنا سنرى أنفسنا أقزاما إلى جانبهم، ونرى حضارتنا هباء إلى جانب حضارتهم.»
واستأذنت محدثتي، وعدت إلى بهو الفندق، وجلست إلى مائدة في أحد جوانبه، وبعد قليل رأيت صديقتي قادمة من ناحية المصعد فقمت إليها، وتهادينا التحية، وجلسنا حول المائدة وعدنا إلى مثل حالنا منذ عام! وإنا لكذلك إذ جاء الألماني ووقف هنيهة يتحدث إلينا، ثم انصرف معتذرا بأن لديه موعدا لا فكاك له منه، قالت صديقتي: «خبريني، ماذا صنعت بهذا الرجل؟ إن الأقصري ليذكر أنه مجنون بك، وإنه يقول إنه يرى الله في السماء ويراك على الأرض.» فضحكت ضحكة ذات مغزى وقلت: «وهل تصدقين الأقصري؟ لعله يراني أضيق به أحيانا، وأني أجامل هذا الألماني، فدفعته الغيرة لأن يقول لك ما قال، إنني لم أر هذا الألماني في العام الماضي إلا معك، وكنت أراه معجبا بك، وما أحسب الأقصري يريد بكلامه لك وقيعة بيننا!» قالت صديقتي: «لا أظن بالأقصري هذا الظن، والألماني رجل مهذب رقيق، ألا ترين أنه كان يأبى إلا أن يرافقك إلى الفندق كل مرة يجالسنا فيها، فكان يدعنا وينصرف معك حتى لا يدعك تسيرين وحدك.» ولم أر أن أجيب فانصرفت بالحديث إلى موضوع آخر.
لست أنكر أني اغتبطت في دخيلة نفسي لما ذكرته صديقتي عن عواطف الألماني نحوي، لكني رأيت أن أقطع عني ألسنة المتقولين بالتزام جانب الحيطة والحكمة، فكنت إذا أردت الانصراف وهو في مجلسنا دعوت سيدة تقيم مثلى بفندق الأقصر، ولو كانت على مائدة غير مائدتنا؛ لنعود بعد ذلك إلى الفندق معا، فلا يفكر هو في مرافقتي، فإن فعل لم يكن لصديقتي، ولا للأقصري، ولا لغيرهما أن يقولوا شيئا.
ورأيت يوما زوج صديقة لي، كنت أعجب بمنطقه، وكنت أعلم أنه ينزل «ونتر بالاس»، فلما رآني جاء يحيينا فاستبقيته هنيهة، ثم قلت: «حان موعد ذهابي إلى فندقي»، وقلتها بلهجة فهم منها أني أريد مرافقته إياي، وكان ذلك بالفعل قصدي إبعادا لشبهة الألماني. وصحبني زوج الصديقة وهبطنا الدرج إلى الحديقة والوقت قد أمسى والظلام مد رواقه، وعثرت قدمه، فقال وكأنما يعتذر عن عثرته : «تبا لإدارة هذا الفندق، ما ضر لو بعثروا بين أشجار الحديقة بعض الثريات الكهربية؟» وبدر مني عن غير عمد أن قلت: «يا عبيط!» ولم ترضه كلمتي فلم يسكت عليها، بل قال: «لو لم تكوني زوجا لصديقي!» ولم أجب للحظتي، ولولا الظلام لبدت على وجهي حمرة الخجل، على أنني قلت بعد برهة: «ما لكم معشر الرجال تسرعون إلى سوء الظن حين لا يكون لسوء الظن موضع؟!» ولم يرد هو متابعة هذا الحديث، فأداره بذكاء إلى اتجاه آخر.
ويظهر أن الألماني فطن لحذري، وأراد التغلب عليه، فقد صادفته يوما ساعة نزولي من غرفتي لأذهب إلى موعد الشاي ب «ونتر بالاس»، فلما رآني تقدم إلي وحياني في لطف وأدب وقال: جئت أدعوك لقضاء النهار بعد غد في البر الغربي حتى تشهدي ما تجريه مصلحة الآثار في الدير البحري، وسنتناول طعام الغداء هناك، وبدت علي الحيرة، فلم يدع لي فرصة للاعتذار، بل قال: «وقد لاحظت ما بدا من حذرك هذا العام، فدعوت صاحبنا الأقصري ليكون معنا، وقد رجوته أن يقنع صديقتك بمرافقتنا كذلك.» قلت: إن كان الأمر كما تقول فأنعم بها من صحبة! قال وكأنما صفعته عبارتي: «لست أفهم يا سيدتي حذرك هذا، فهل بدر مني ما يوجب الريبة؟ وهل سمعت مني كلمة خدشت سمعك؟ أم أن ذنبي بل جريمتي أنني معجب بك إعجابا لا حد له، معجب بذكائك، وبروحك المضيئة، وبحديثك الساحر، وبكل شيء؟ ومتى كان الإعجاب جريمة يجزى مجترفها هذا الجزاء القاسي؟ هأنذا صارحتك بما يدور في نفسي نحوك من عاطفة، لن تزداد على الأيام إلا سموا، ولست أنا وحدي الذي ملكني الإعجاب بك، فكثيرون ممن رأوك أو استمعوا إليك يعجبون كيف يكون فندق الأقصر أو فندق «ونتر بالاس» مسكنا لملاك مثلك، ولو أن ذلك كان سائغا لشادوا لك قصرا يحجون إليه كلما نزلته، فأمثالك اللاتي وهبهن القدر ما وهبك يا سيدتي قليلات، فلا تسرفي في التواضع، ولا تجعلي من إعجابي بك جريمة تقتضي الحذر مني، والبعد عني! إنني لا أريد أن أسمع منك جوابا على ما قلت، فإلى بعد غد، بعد فطورك، إلى الملتقى.» وتركني وانصرف.
وتولتني إثر هذا الحديث الذي يكاد يشبه الاعتراف دهشة أذهلتني، فبقيت مستلقية في مقعدي مضطربة النفس، لا أدري ماذا عساي أفعل، فلما هدأت قمت متحاملة على نفسي إلى «ونتر بالاس»، وجلست مع صديقتي، وسرعان ما جاء الأقصري، وبعد هنيهة غمز بعينه وقال: «نحن إذن ضيوف الألماني بعد غد إلى الجانب الغربي؛ لنرى الدير البحري وما يجري فيه.»
وقالت صديقتي: «وقد ألح صاحبنا هذا علي لأقبل الدعوة برغم علمه بأنني شهدت من الآثار ما لا حاجة لي بعده أن أشهد جديدا.»
قلت في هدوء متكلف: «لقد كنت موشكة أن أعتذر لولا حرصي على صحبتكما، فإن شئتما اعتذرنا جميعا، ولا يزال في الوقت متسع.»
قال الأقصري متحمسا: «كلا يا سيدتي، إن اعتذارنا يسيء إلى رجل رقيق مهذب جاملنا بدعوته إيانا، ولم يسئ قط إلينا، وأنا موقن أننا سنقضي بعد غد يوما من الأيام التي لا تنسى.»
وقضينا بعد غد يوما بالفعل لا ينسى، كانت الشمس محسنة كعادتها، وكان الهواء ناعما رقيقا، وتخطينا النيل في زورق شراعي انساب على هون فوق مياهه الهادئة المطمئنة، ودرنا بين آثار «طيبة الأموات» وتماثيلها ومقابرها، حتى إذا انحدرت الشمس شيئا ما بعد الزوال تناولنا غداءنا في استراحة [الدوك]، وذهبنا بعد ذلك إلى الدير البحري، فتلقانا الفرنسي الذي يقوم بالأعمال هناك، ودار معنا في أرجاء الدير، وأرانا في مخزن إلى جانبه بعض ما عثر عليه في أثناء حفره وتنقيبه، وكان يشملنا طول نهارنا جو مودة أذهب عني الحذر، وجعلني أشكر الألماني من كل قلبي أن هيأ لنا فرصة هذا اليوم الممتع الظريف، وكان الأقصري يبتعد عنا أحيانا مع صديقتي فلا أضيق بذلك ولا أنكره، إن ما صبه الألماني في سمعي من آيات إعجابه قد صادف هوى في فؤادي وأرضى كبريائي، وهو اليوم سعيد بصحبتي، يريد أن يسمع مني أكثر مما يريد أن يتحدث إلي، وأنا ضنينة بالكلام وهو راض مع ذلك كل الرضا بما أقول ، ويرتد الأقصري مع صديقتي إلى ناحيتنا، فتتولاهما الدهشة لصمتنا؛ لأنهما لا يدركان المعنى الإنساني السامي الذي تنطوي عليه جوانحنا، والذي يقرب بين روحينا وعقلينا، وإن لم تضطرب بسببه ذرة من أعصابنا أو جسدنا.
وعدنا حين قاربت الشمس المغيب، فأقلنا الزورق إلى «ونتر بالاس»، ورافقني الألماني إلى فندق الأقصر بعدما اعتذرت لصديقتي بأنني متعبة شديدة الحاجة إلى الراحة، واحتوتني غرفتي فأزلت عني غبار النهار، واستلقيت على سريري أستعيد صور هذا اليوم الجميل السعيد، وبهذه الصورة اتصل الحديث الذي صبه الألماني في أذني أول أمس، فازددت غبطة وسرت في عروقي نشوة أشعرتني الرضا والنعيم، وتناولت طعام العشاء في غرفتي، وأويت من جديد إلى فراشي كأنما أريد أن أستعيد هذه الصورة المنعشة المسعدة، وارتسم خيال الألماني وراء هذه الصور كأنه يحركها، وأغمضت جفني لعلي أنام، فإذا النوم يجفوني، وإذا هذه الصور تزداد وضوحا أمامي، وإذا بي أشعر كأن هذه الصور تنحدر بي إلى لون من الحس يقشعر له بدني، ويضطرب به تفكيري، وطال ذلك بي إلى ساعة من الليل لم أدر ما هيه، وأخيرا غفوت، ويظهر أنني قد طالت غفوتي، فقد صحوت فإذا الأطفال هبطوا مع مربيتهم إلى الحديقة، ودعوت الخادم فأقبلت تسألني ما بي؟ ثم أحضرت لي طعام فطوري، ووقفت إلى جانبي تطمئن على صحتي، وهبطت إلى البهو، وطلبت زوجي بالقاهرة تليفونيا، ومكثت سويعة أنتظر دعوتي لمحادثته.
وإنما طلبت زوجي لأنني شعرت بالحاجة الماسة إلى سماع صوته، بل شعرت بالحاجة الماسة إلى وجوده بجانبي، لقد رأيت في أثناء غفوتي أنني علوت أعلى هضبة في الشاطئ الغربي، وأن ريحا عاتية هبت ساعة المغيب فدفعتني أتدحرج على سفحها، وأصيح بأعلى صوتي فلا ينقذني أحد، ولعل هذا الصياح هو الذي دعا الخادم لتسألني عن صحتي وما بي، وجعلت أتدحرج وأتدحرج، وأصيح وأصيح، ثم إذا يد محسنة وصدر حنون تلقياني، ونظرت إلى صاحب هذه اليد وهذا الصدر فإذا هو زوجي، فلما استيقظت صممت على محادثته ودعوته ليجيء إلينا.
ودعيت لمحادثته وسمعت صوته يسألني في انزعاج: «كيف أنتم؟ ماذا حدث؟ لماذا طلبتني؟!» قلت: «كن مطمئنا، إننا جميعا على خير ما تحب، لكنني شعرت منذ تركت القاهرة أننا ظلمناك، فأنت أحوج إلى الراحة منا، إنك لم تسترح طول الصيف، فاحضر إلينا فاقض معنا أسبوعا، فالجو هنا كفيل بأن يعيد إليك طمأنينة نفسك وراحة أعصابك، وحسبك أن ترى الأطفال يمرحون سعداء فتكون سعيدا بهم وبي، فمتى تحضر؟ خبرني لأخطرهم هنا في الفندق.» قال: «لا شيء أحب إلي من أن أراكم هانئين سعداء، وسأحضر بعد يومين بالقطار الذي يصل الأقصر بكرة الصباح، وماذا تريدين أن أحضر لكم من القاهرة، لك وللأطفال؟» وشكرته وقلت له: إلى اللقاء. وانتهى حديثنا، وأنا أسعد الزوجات.
وأسرعت إلى «ونتر بالاس» وأخبرت صديقتي بأن زوجي سيحضر بعد يومين، وأذاعت صديقتي النبأ، وعرفه كل معارفنا ساعة الشاي، فلما أويت إلى مخدعي بعد السهرة تولاني العجب من نفسي، فلماذا دعوت زوجي؟ يجب ألا يعلم أحد أنني أنا التي دعوته، بل يجب أن يعلموا أنه هو الذي قرر الحضور من تلقاء نفسه، ويجب أن يفهم الألماني ذلك بنوع خاص حتى لا يظن أنني أردت أن أحتمي بزوجي منه، ومن نفسي، إن كبريائي لتأبى علي أن أضعف، أو أن يتوهم أحد أنني عرضة لأن أضعف، يجب أن أكون دائما صاحبة الرأي، وصاحبة السلطان، وأن يستجيب الغير لإرادتي وسلطاني بدافع من أنفسهم، ومن غير أن أطلب إليهم شيئا طلبا صريحا. فلما جاء زوجي بكرت لملاقاته، وبعد أن تهادينا تحية كلها الود، وبعد أن اطمأن إلى صحة الطفلين وهناءتهما قلت له: «لقد فهم الناس هنا أنك أنت الذي أردت أن تحضر بدافع من عواطفك نحونا وشوقك لنا، وراقني هذا الذي فهموا فلم أعترضه، ولا شك في أن ما فهموا من ذلك يرضيك ويسرك؟» واغتبط زوجي لفهمهم الأمر على هذا الوجه وأكده لهم، وأقام معنا أسبوعا عدنا بعده إلى القاهرة.
وفي خلال هذا الأسبوع دعوت الألماني والأقصري ودعوت صديقتي لتناول الشاي ولتناول العشاء معنا بفندق الأقصر، وأعدت على مسامع زوجي أمام الألماني أنه هو الذي أهداني التذكار الذي أريته إياه في العام الماضي، وطفنا جميعا معا لنري زوجي من آثار الأقصر ما لم يكن رآه، فلما اقترب موعد سفرنا، وحانت لحظة استطاع الألماني أن يحدثني فيها على حدة قال: «أرجو أن أراك هنا العام المقبل، وأرجو أن تأذني لي إذا حضرت إلى القاهرة أن أزورك هناك.» قلت: «أولا تريد أن ترى زوجي كذلك بالقاهرة؟» قال: «ذلك شأنك أنت، لكنني أصبحت أشعر أنه لا غنى لي عن أن أراك وأستمع إلى حديثك ولو مرة في كل عام، ولو اقتضاني الأمر أن أحج إليك كما يحج المسلم إلى مكة والمسيحي إلى بيت المقدس ليرفع إلى ربه دعاءه، كذلك أريد أن أرفع إليك في كل عام دعائي وآيات إعجابي صادقة خالصة لوجهك الكريم!»
وابتسمت ولم أجب أمارة أنني أغتبط بذلك ولا أعترضه، وكفته ابتسامتي ليشكرني وليحمد لي أن لم أر في إعجابه إثما يوجب التثريب عليه!
وعدت مع زوجي والطفلين والمربية إلى القاهرة وأنا مغتبطة أشد الاغتباط بأن دعوته، فحضر إلينا بالأقصر، ولم يكن مرجع غبطتي أنه حماني من ضعف نفسي، فلم يكن أيسر علي من أن أتغلب على هذا الضعف، وأن أخضعه لإرادتي وسلطاني، لكن هذا الأسبوع الذي قضاه بالأقصر أتاح له فرصة لا يسمح عمله بأن يتاح له مثلها في القاهرة؛ أتاح له أن يرى إعجاب المعجبين بي، أجانب ومصريين، وأن يدرك أنني لست امرأة ككل النساء، صحيح أنه يحبني ويقدرني ويستجيب لكل رغباتي، لكنه كان في حاجة إلى أن يرى ما أرى إكبارا لي، وتقديرا لما يجب أن يكون لي في الحياة من مكانة، وليعلم أنني يوم أردت أن ننتقل إلى السلك الدبلوماسي إنما أردت أن أسمو بنفسي وبه إلى هذه المكانة الواجبة لي وله!
أما وقد رأى بعيني رأسه هذه الهالة التي كانت تحيط بي، فقد غفرت لنفسي لحظة الضعف التي دفعتني فطلبت مجيئه إلى الأقصر، بل حمدت هذه اللحظة، واطمأن قلبي كل الطمأنينة لما صنعت في أثنائها. وعاد زوجي إلى عمله ، وعدت إلى حياتي الرتيبة المتشابهة التي تبعث إلى نفسي السآمة لولا هذان الطفلان العزيزان اللذان كانا مصدر سعادتي وهناءتي، ولولا أنني شعرت بأن زوجي تبدلت عواطفه نحوي فأصبح شديد الإعجاب بي، سريعا إلى تلبية رغباتي في إذعان جعله لا يناقشني في شيء، بل يسبقني إلى ما أريد إذا بدرت مني أمارة تدل على إرادتي.
من ذلك أنه أظهر لي أن سكننا لم يعد يليق بنا، وأنه يبحث عن مسكن يعجبني. ومنه أن الصيف لم يكد يقترب حتى رغب إلي في أن أعد العدة لسفرنا إلى أوروبا، وأن أعد نفسي بنوع خاص للمكان الذي ينبغي لي في المجتمعات التي نغشاها.
الفصل الخامس
قبل أيام من سفرنا إلى أوروبا صحبني زوجي إلى منزل مملوك لإحدى الدوائر الكبرى؛ لأرى مبلغ صلاحه سكنا لنا، وأخبرني أن الدائرة مستعدة أن تدخل عليه من الإصلاح كل ما نقترحه، وأنها ستقوم بهذا الإصلاح خلال الصيف، فإذا عدنا من سفرنا ألفيناه معدا لانتقالنا إليه، ويقع هذا المنزل في حي ممتد على النيل، وقد أعجبني موقع المنزل، وأعجبني مجموع نظامه، لكنني رأيت إدخال بعض التعديلات الجوهرية عليه، كما أبديت اقتراحاتي في طلاء غرفه طلاء يوافق أثاثنا، وبعد الظهر عاد زوجي فأخبرني أن الدائرة قبلت اقتراحاتي كلها، وأنه أمضى العقد معها، وعهد إلى صديق قديم لنا أن يشرف على إجراء الإصلاح في أثناء غيابنا.
وكنت قد أعددت لسفرنا إلى أوروبا ما أرضاني، وسافرنا وقضينا هناك صيفا ممتعا حقا. وقد ألفت حياة الفنادق الكبرى، واغتبطت بها لأنها كانت تعفيني من تدبير المنزل وما يقتضيه من مشقة، ولأنني كنت أرى من نزلائها أشخاصا أستريح إليهم وأطمئن إلى معاشرتهم، من هؤلاء سيدة أمريكية رقيقة ساحرة الحديث، بلغت رقتها أن كانت تبدو ناحلة الجسم حائلة اللون بعض الشيء، ولكنه شحوب يزيدها رقة، ويزيد حديثها أثرا في النفس، ويدعو للطف بها والميل إليها، وقد اتصلت بيني وبينها مودة اقتضتني أن أسأل عنها كلما قيل لي إنها لم تترك غرفتها، وسمحت لها أن تدعوني إليها إذا لزمت سريرها لتستريح من تعب ألم بها، وكنت أجد عندها أحيانا من أصحابها من تسلي بحديثهم وحدتها، وقد سألتني يوما أن أدعو زوجي معي ليعودها وليصف لها دواءها، وكان زوجي يصحبني بعد ذلك أحيانا إليها، وإن لم تكن في حاجة إلى طبه وعلاجه.
وكانت هذه السيدة تتزين في سريرها أجمل زينة وأبرعها، ولست أبالغ إذ أقول إنها كانت أكثر عناية بزينة سريرها منها بزينة خروجها ونزهتها، وكانت ملابس سريرها آية في الجمال وحسن الذوق، كانت قمصان نومها من حرير رقيق مطرز أبدع تطريز، وكانت ألوان هذه القمصان هادئة: سماوية أو وردية أو بنفسجية أو ما إليها، خلا قميصا أحمر قانيا كانت تلبسه أحيانا، وقد سألتها يوما عن تباين هذا القميص القاني مع سائر لباسها، فقالت: «إنما ألبسه حين يدمى قلبي ليعبر بلونه عن دخيلة نفسي»، وكانت كثيرا ما تضع على رأسها لباسا ينسجم مع لون وجهها، ولون قميصها، ويظهرها في براءة الطفل المدلل، ويزيدها بذلك إغراء وفتنة.
وكنت أحب في هذه السيدة كل شيء إلا حبها الشراب، وإن قل ما رأيتها متأثرة به، فقد كانت إذا تنصف الليل لا تطيق صبرا على كئوس تحتسيها، ولو كانت في سرير نومها، وقد دعتني غير مرة لمشاركتها في شرابها فاعتذرت ولم أقبل، وكانت إذا أطلق الشراب لسانها تروي من هموم حياتها ما يثير الشفقة بها، هذا مع أنها كانت تنفق عن سعة تشهد بواسع ثرائها، وبأن المال وحده لا يذيب الهموم، ولا يكفل السعادة.
وكانت هذه السيدة تعرف من دقائق الجمال الذي تتزين به الطبيعة في أرجاء أوروبا المختلفة ما لا يعرفه إلا الأقلون، وقد أشارت علينا بجولات في أرجاء النمسا وشمال إيطاليا وفي بلاد الشمال الأوروبي لم نستطع ذلك الصيف أن نتمها جميعا، ولكن متاعنا بما رأيناه فاق كل ما كنت أتصور، فلما كنا في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر عدنا إلى القاهرة، وأنا أحسب لانتقالنا إلى منزلنا الجديد ألف حساب.
ونزلنا القاهرة فإذا بالإصلاح المطلوب في المنزل لم يتم كله، وإذا ما تم منه لا يعجبني، وأبديت رأيي في ذلك بطريقة أغضبت الصديق الذي تولى الإشراف على الإصلاح في غيابنا، وقد كان يتوقع أن نشكره لا أن نلومه، وأدى به الغضب إلى الإقلال من التردد علينا، وساء زوجي غضبه وانقطاعه، لكن رأيي في الأمر كان حاسما!
قال زوجي: «وما العمل الآن؟ إن منزلنا الأول قد سكنه مستأجروه الجدد، وأثاثنا كما تعلمين مودع في مخازنه.» قلت: «ذلك شأنك، فإن شئت بحثنا عن مسكن آخر، وإن شئت نزلنا في الفندق حتى يتم إصلاح هذه الدار التي استأجرتها.» فذهب إلى الدائرة المؤجرة، ثم عاد يقول: إنهم وعدوني أن يتم الإصلاح في شهر، فلا حاجة بنا إلى البحث عن منزل جديد، وقد اتفقت مع إدارة «مينا هاوس» لنقيم فيه ريثما يتم الإصلاح.
واغتبطت بما سمعت، ونزلنا «مينا هاوس»، وكم سعدت بأيام مقامي هناك، وإن شقيت بعد ذلك بمعقباتها. كان زوجي يستيقظ مبكرا، ويتناول فطوره في غرفة الطعام، ويذهب إلى عمله، فإذا أردت الذهاب إلى المدينة لبعض شئوني أو لأرى ما تم في منزلنا الجديد، طلبت السيارة فأقلتني إلى حيث أشاء، ثم عدت بها مع زوجي إلى الفندق. وكنت قلما أغادر «مينا هاوس» بعد الظهر، إلا أن نجيب دعوة إلى الشاي أو العشاء في المدينة، وكان كثيرون من أصدقائنا يزورننا بالفندق، وكنت أشعر في بعض الأيام بالتعب، فلا أرى بأسا من أن أستقبل في غرفة نومي أية صديقة تحضر لزيارتي، فإذا كان معها زوجها لم أر بأسا بأن يصحبها إلى غرفة النوم، واضطر زوجي إلى قبول هذا الوضع حين ذكرته بأنه كان يصحبني أحيانا في زيارة الأمريكية ونحن في أوروبا، واقتضاني هذا الوضع أن أحاكي الأمريكية في زينة سريري، وقد جعلت من غرفة نومي بهو استقبال يحضر إليه الرجال مع زوجاتهم، وإن لم أكن قد تسامحت بعد في أن يصعد إليه الرجال وحدهم.
وكان الإصلاح يسير في منزلنا الجديد ببطء شديد، ولعلي كنت مسئولة بعض الشيء عن هذا البطء، وقد تخطت مسئوليتي البطء إلى نفقات الإصلاح ، ذلك أنني قدرت أن هذا المنزل سيكون مسكنا لنا سنوات عدة، ويجب لذلك أن يبلغ الإصلاح غاية ما يرضينا؛ لذا كنت لا أقر الكثير مما قاموا به وسموه إصلاحا، وكنت أطلب إعادة العمل على الوجه الذي أستريح له، فإذا قيل لي إن الدائرة لا يمكن أن تتكفل بهذا، قلت: «لا يهم، نفذوا ما أطلب على نفقتنا.»
وتحدث إلي زوجي يوما أنا ندفع أجر المنزل أول أكتوبر؛ أي منذ عدنا من أوروبا، وندفع أجر الفندق وملحقاته، وندفع نفقة ما أطلب من إصلاح لا تلتزم الدائرة به، وأن في ذلك إرهاقا لنا طال أمده.
قلت: «فيم إذن كان تفكيرك في انتقالنا إلى مسكن جديد إذا كان هذا المسكن لا يرضي ذوقنا؟ لقد كان خيرا لو بقينا في مسكننا القديم إذا لم نشعر نحن، ولم يشعر الناس جميعا بالفارق الكبير بين السكنين، وسيتم الإصلاح عما قريب، وتنتهي نفقاته ونفقات الفندق، وينتهي بذلك ما نشكو منه.»
وسكت زوجي ولم يعقب بكلمة، يومئذ شعرت بأنه رجل عاجز الحيلة، فليس يضيق بأمر المال في رأيي إلا الذين يعوزهم الإقدام، فإن من معارفنا من كانوا يتطلعون إلينا أول زواجنا على أننا من الأغنياء واسعي الثراء، ثم إذا هؤلاء المعارف يصبحون بإقدامهم من أصحاب الألوف، بل من أصحاب الملايين، والعجز عن الإقدام نقص وأي نقص.
لم يعقب زوجي بكلمة على مراجعتي في هذا الأمر، ولم يفاتحني من بعد فيه، ولعله استشف ما دار في خاطري، أو شعر من ناحيتي بأني لست راضية عنه كل الرضا على نحو ما عودته، فقد رأيته مشغول البال، بادي الهم، كثير الأرق، وإن لم يتغير في صلته بي عما عودنيه من مودتي والاستجابة لكل رغباتي، وهو لم يكن يستطيع أن يتغير، فقد كان يحبني، وكان يخشى أن أتغير أنا عليه بعد الذي رآه من إعجاب المعجبين بي وإذعانهم لسلطان جاذبيتي وسحر حديثي. والواقع أنني شعرت بعد الذي رأيته من همه وأرقه بأني أبالغ في محبتي وإكباري إياه؛ لأنه لا يجاريني في طموحي، ولا يحاول أن يصعد بي ومعي إلى الصف الأول من صفوف الحياة في مصر.
وتمت الإصلاحات في منزلنا الجديد وانتقلنا إليه، وإن بقيت فيه أشياء لم تنل كل رضاي، وأردت لمناسبة هذا الانتقال أن أقيم حفلة ساهرة كبرى، فاعترض زوجي بأن مألوف عاداتنا المصرية لا يسيغ مثل هذه الحفلات، واقترح إن شئت أن أقيم حفلة شاي يتحقق بها غرضي. ورأيت حفلة الشاي دون ما ترضاه نفسي، فأبيت ولم أقم أيا من الحفلتين، وكذلك تم انتقالنا في صمت جنائزي، كما أنني لم أستطع أن أبلغ كل ما أريد من تجديد أثاثنا لينسجم على ما أريد مع الدار الجديدة بعد إصلاحها.
على أنني عنيت بتأثيث غرفة النوم عنايتي بزينتي في سريري، فقد أدركت إبان مقامي بالفندق ما لهذه الغرفة من سحر وصاحبتها في سريرها، وفهمت لماذا كانت صاحبتنا الأمريكية في أوروبا تؤثرها على كل ما سواها من أبهاء الفندق الفخم وصالاته، واصطناع المرض أو التعب الذي يلزم الإنسان سريره لا يشق على امرأة، هما عندها كالدموع تلين بها قلب الرجل، وتكسب بها عطفه ومودته. وغرفة النوم أشد إثارة لطلعة السيدات، وأدعى لثرثرتهن من غرفة الاستقبال ومن كل غرفة أخرى في المنزل.
وقد أرضاني أثاث هذه الغرفة بعد تمامه، وكان زوجي أشد سحرا به؛ لأنه كان أعلم بأسراره إذ ذاك من كل من سواه.
وكانت كل واحدة من صديقاتي تزور هذه الغرفة تبدي من الإعجاب بها ما يزيد رضاي عنها، أما أزواج صديقاتي الذين كانوا يصحبونهن، فكان نظرهم يدور في أرجاء الغرفة دورة خاطفة ليستقر آخر الأمر على السرير وزينته.
كان الصديق الذي عهد إليه زوجي بالإشراف على إصلاح المنزل في أثناء غيابنا في أوروبا، والذي انقطع عنا أو كاد حين عرف رأيي في الإصلاح الذي تم بإشرافه، قد بالغ في انقطاعه منذ انتقالنا إلى المنزل، فلم يحضر إلينا فيه إلا في زيارة تقليدية لتهنئتنا بالانتقال، وكان هذا الصديق غير متزوج، وكان بطبعه سريعا إلى رفع الكلفة كثير فلتات اللسان، وكان ما بينه وبين زوجي من صداقة قديمة وود متصل قد جعل زوجي يضيق بانقطاعه عنا، وعدم تردده علينا، وقد قال لي يوما وكأنه يعاتبني: «لقد أوحشني انقطاعه عن زيارتنا، ولم تحسني أنت جزاءه عن إشرافه على الإصلاح للمنزل في أثناء غيابنا، ولعله يخشى أن يسوءك مجيئه إلينا.» قلت: «عجبا لكما أنت وهو! إنني لم أزد على إبداء رأيي في الإصلاح الذي تم في غيابنا، ولم يدر بخاطري أن يستاء صديقنا من هذا الرأي حتى ينقطع عنا، وإنه ليسرني أن يعود إلى سابق مودته، وليسرني أن يبدي رأيه في المنزل بعد إصلاحه الأخير، وتستطيع أن تؤكد له أنني لن أضيق بملاحظاته، ولن أغضب منه إذا أبدى من النقد أشده، فالأذواق تختلف، ولا يدل اختلافها على شيء يسوء صاحب هذا الرأي أو ذاك.»
وألح زوجي على صديقه فجاء يوما معه، فلما فرغ من شرب القهوة قلت له: «الآن تفضل ودر في أرجاء المنزل، وقل لي رأيك في صراحة في إصلاحه.» قال لي في تهكم: «وهل لمثلي أن يبدي رأيه فيما يتم بإشرافك أنت يا صاحبة الذوق السليم.»
قلت: «لا يسوءني أن تتهكم بي، ولا أن تنقد عملي، ولكني حريصة على أن أعرف رأيك»، فقام بعد تمنع ودار مع زوجي في أرجاء المنزل، فلما أتم زيارة الطابق الأول قال: «وهل كانت الدائرة تسمح لي بأن أنفق ما أنفقتم أنتم ليبلغ الإصلاح هذا المدى؟ والآن أفهم شكوى زوجك من باهظ النفقة، أنت جبارة لا تخافين الله، لقد كان خيرا بدل أن بعثرت ما بعثرت في إصلاح هذا المنزل أن تشتروا منزلا جديدا يبقى لكم ولأولادكم من بعدكم.» قلت مبتسمة: «لعلك قلت هذا الكلام لزوجي، فكان ذلك سبب تغيره علي؟!»
فنظر إلي نظرة خبيثة، وقال: «زوجك يستطيع أن يتغير عليك! مسكين هذا الرجل، لقد كبلته من عنقه ومن يديه ومن رجليه؛ فأصبح لا يستطيع حراكا أمامك، إنه يوم حدثني في شأن الإصلاح، وما أنفقت فيه استحلفني بقبر أبي ألا أذكر من حديثه حرفا، ولولا غيظي منك لبررت بوعدي له.» قلت: «ألا تصعد إلى الطابق العلوي؟ لقد عنيت به أكثر من عنايتي بهذا الطابق الذي يزورنا الناس فيه، فالطابق العلوي هو عشنا الحقيقي، هو سكننا بالليل، والجانب الأكبر من النهار، هو ملجؤنا من أعين الناس وفضولهم، ولهذا أخالف الذين يبذلون النفقة إرضاء للناس وخوفا من ألسنتهم، ولا يبذلونها إرضاء لأنفسهم ومتاعا بحياتهم!»
قال: «ألم أقل إنك جبارة لا تخافين الله، إذا كانت نفقة هذا الطابق قد بلغت ما أرى، وكنت قد ضاعفت العناية بالطابق الأعلى، فأي نفقة كلفتكم هذه العناية؟»
قلت: «دعك الآن من النفقة، وقل لي رأيك في الإصلاح»، وصعد معي إلى الطابق الثاني، فلما دخل غرفة النوم الفسيحة، ودار بنظره في أرجائها فتح عينيه واسعتين، وقال: «هذه غرفتك أنت أم غرفة مدام ركامييه؟ أقسم أن غرفة «زبيدة» الملكة زوج «هارون الرشيد» لم تكن في جمال غرفتك هذه وإبداعها، الآن أعترف أن ذوقك لا يعلوه ذوق، ولو أن الأقدار كانت منصفة لوجب أن تكوني من أصحاب الملايين، حتى لا يقف في سبيل ذوقك الجميل عائق.» قلت فيما بيني وبين نفسي: «ترى ماذا عساه كان يقول لو أنه دخل هذه الغرفة وأنا في زينة سريري؟!» وشرد ذهني لحظة حين كان هو يتفقد كل قطعة من قطع الغرفة، ويقف أمامها هنيهة، فلما عاد إلى ناحية الباب حيث كنت أقف قال: «كل ما هنا بديع بارع، لكن هذا لا يمنعني من أن أقول لك إنك ظلمت زوجك في النفقة ظلم الحسن والحسين.»
ضقت ذرعا بتكراره عبارة النفقة وظلمي زوجي، فقلت: «وهل يضيق بأمور المال رجل ذو همة وذكاء؟! إنما يقعد العجز بصاحبه عن الإقدام لبلوغ ما يريد! وهل أمطرت السماء ذهبا على من تعرف ممن جمعوا مئات الألوف بل الملايين، أم أن إقدامهم وحسن حياتهم هما اللذان نصبا للمال شباكه فصادته، وكانوا قبل ذلك فقراء لم يرثوا عن أهلهم ما ورث زوجي عن أبيه؟! معذرة عن كلامي هذا، لكنك أكثرت الحديث عن النفقة وإسرافي فيها، وقد حملت ما قلته أول الأمر على أنه اعتذار عن عدم بلوغ الإصلاح ما يرضيني حين إشرافك عليه، أما الآن فإني أشعر أن زوجي يكرر عليك الكلام فيه ولكأنه يوجه إلي الاتهام بشأنه، وأنا إنما أردت أن يعيش كما يجب أن يعيش، فإن كنت أسرفت في حسن ظني فاستغفره لي، وقل له إني تبت لعله يقبل توبتي!»
قلت هذا الكلام في حدة روعت الرجل فقال: «مهلا مهلا، لا تسرفي في التثريب على الرجل إلى حد اتهامه بالضعف والعجز، إن أولئك الذين تذكرين ممن تصيدوا الملايين لم يتصيدوها في عام ولا في بضعة أعوام، وزوجك اليوم أعمق تفكيرا في التحايل على المال منه في الغضب منك أو في اتهامك، إنه يريد إرضاءك، إرضاءك بكل وسيلة لا تخدش شرفه، ولا تؤذي سمعته بين الناس. ولست أدري أيستطيع إنسان أن يجمع بين المال والشرف وحسن السمعة؟ لكن تصيد المال هو ما يشغل زوجك الآن إرضاء لطموحك، ولعلي لو كنت مكانه لما صنعت صنيعه، ولوقفت في طريق اندفاعك إبقاء على نفسي من الانزلاق في سبيل لا يغامر بالانزلاق إليها إلا الذين لا يعنيهم شيء، فإن تحقق ما غامروا في سبيله ارتفعوا بثروتهم إلى السماء، وإن لم يتحقق ظلوا في القاع الذي يحاولون الخروج منه.»
وخشينا كلانا أن يسرقنا الوقت إلى ما يثير هواجس زوجي من بطئنا، فلما رآه صديقنا قال له: «هنيئا لك يا صديقي هذا المنزل الفخم، بل القصر المنيف، لم أكن أتصور أن يخلق الإصلاح من تلك الدار التي رأيت أول الصيف هذه التحفة التي أرى الآن!»
ثم التفت إلي وقال: «وأنا أهنئك يا سيدتي، لقد محا إعجابي بذوقك كل غضب أثاره في نفسي عدم رضاك عن إشرافي، وهو إعجاب لا حد له، ولو أن أصحاب هذه الدار كانوا أهل ذوق ومروءة لاحتملوا نفقات هذا الإصلاح كلها، وأنا مستعد لأن أخاطبهم في ذلك، وأحملهم ما أستطيع منها إذا لم يكن لكما على تدخلي اعتراض.»
وشكرناه وقلنا له إنا لا اعتراض لنا على تدخله. والعجب أنه لم يمض على حديثنا في الأمر غير ثلاثة أيام، ثم إذا هو يحمل إلينا النبأ بأن الدائرة قبلت أن تتحمل نصف ما أضيف علينا من نفقات الإصلاح، وشعرت كأن زوجي انتشل من وهدة لسماع هذا النبأ السار، واغتبطت أنا كذلك، ولكن هذه الفرحة التي بدت على زوجي جعلتني أشفق عليه لعجزه عن أن يفعل ما فعله صديقنا، ويحمل الدائرة على ما حملها هذا الصديق عليه، وكان هو أحرى بهذا وهو صاحب الشأن الأول والمصلحة المباشرة، ولو أنه فعل لرفع عن عاتقه هما وأرقا كاد أثرهما يسيء إلى صحته.
وعاد صديقنا سيرته الأولى إلى مودتنا والتردد علينا، وعاد يعابث زوجي بفلتات لسانه، ويعابثني أحيانا كذلك، ولم يكن زوجي يجيب معابثته إلا بالسخر منه، وعدم الاكتراث لعبثه، وكان هذا الموقف وذاك من جانب الرجلين طبيعيا، ولكن عجبت كيف جمعت الصداقة بين طبعين مختلفين هذا الاختلاف، فزوجي رزين شديد الاتزان يقدر كل كلمة يقولها، ويبالغ في احترام الناس احتراما لنفسه، وصديقنا على النقيض يلقي الكلام جزافا، ولا يعبأ بمظاهر الاحترام، وزوجي شديد الحياء إلى حد أضيق به أحيانا، وصديقنا يجد الحياء سخفا لا معنى له، وزوجي ودود متخفف مع ذلك في وده، وصديقنا مسرف في الود سريع مع ذلك إلى المغاضبة، ولكن صداقة الرجلين اتصلت منذ كانا طالبين معا في المدرسة الثانوية، وصداقة الصبا قل أن يعدو عليها الزمان وإن أمكن أن يعدو عليها النسيان!
وكان صديقنا يعرف صديقتي التي مات زوجها منذ عامين فطمع أهله في تركته ومنعوها وذريتها الضعاف من الاستيلاء عليها أو على إيرادها، وكان صديقنا كذلك صديقا لزوجها ولأمها، وكان فيما يخيل إلي معجبا بجمالها وبطبعها، وقد كان زوجها شديد الغيرة عليها، وكان يعرف في طبعها خفة لا تؤذي وفاءها وعفتها، ولكن تؤذي غيرته، ولذلك انتقل بها إلى الضواحي وسكن معها فيها، ومنعها من أن تنزل إلى المدينة إلا بإذنه وفي رفقته، فلما مات عادت إلى القاهرة وأظهرت من الحزن عليه ما رق له قلب صديقنا وفاء للزوج المتوفى، وإعجابا بالزوج الأرمل . ولقد عرف بعد قليل ما تضطرب فيه هذه الزوج الأرمل من مشاكل ميراث مع أهل زوجها لا قبل لها وحدها بحلها، فتبرع مشكورا لمعاونتها، واضطر من أجل ذلك أن يكثر التردد عليها، واقتضت هذه المشاكل مشورة طبيب فأشرك صديقنا زوجي معه في مهمته.
ولم يبد زوجي بادئ الأمر حماسة لهذه المعاونة لولا أن دفعته أنا إليها، وقد أدهشني تباطؤه عن المبادرة إلى عمل إنساني يتفق مع طيبة قلبه وحبه الخير للناس، وزادني دهشة أنه كان يعرف صديقتي في حياة زوجها، وكان يتردد عليها لعيادتها، ولعيادة أطفالها، ثم كان يحدثني عنها حديثه عن أي مريض أو مريضة يعوده أو يعودها، ولم يبد من مظاهر الإعجاب بجمالها ما يريبني، لكنه لم يلبث بعد حين من مشاركته صديقنا في معاونتها أن ازدادت حماسته لهذه المعاونة، حتى بلغت أشدها، وأن صار يتحدث عنها وكأنه يقوم بعمل يمس قلبه، بل يحركه، فماذا حدث؟ أتراه أذعن لفتنتها فصار يبدي لميراث أبنائها كل هذه الحماسة؟! ثم إنه أخذ يتردد عليها في بيت أمها العجوز الشمطاء، وهي في غير حاجة إلى طبه وعلاجه، فهل تراها تنصب له شباكها ليقع في حبائلها؟ هنالك بدأت الغيرة تدب في صدري، وإن حرصت على ألا يبدو من أثرها أي مظهر، وبدأت أفكر كيف أستعيد هذا الرجل خالصا لي كما كان.
ولم يكن دافعي إلى هذا التفكير محبتي إياه بقدر ما كان الدافع إليه غيرتي ونفوري من أن تأخذ امرأة مني رجلا ملكته يدي، وأصبح طوع يميني، فصار لا يستطيع حراكا بغير إرادتي!
واستخلصت صديقتي ميراثها بمعونة زوجي ومعونة صديقنا، وأصبحت بذلك في سعة تسمح لها أن تنهض بحياتها وحياة أولادها في رخاء ونعمة، فأقامت في مسكن اختارته لنفسها، ولم يكفها أن تذهب إلى الأقصر في الشتاء لنزهتها، بل كانت تصطاف في أوروبا، وتقضي في ربوعها شهور متاع ومرح ومسرة.
ولم ينقطع زوجي عن التردد عليها بعد أن استخلصت ميراثها، ولم تنقطع هي عن زيارتنا برغم قلة زيارتي بيتها، وكانت غيرتي تزداد لذلك ضراما، وكنت أومئ إلى زوجي أن الناس يتحدثون في تردده عليها، فلا يأبه لهذا التلميح، مكتفيا بقوله: «ما دمت واثقة بي مطمئنة إلي فإن كلام الناس لا يعنيني»، وكانت كبريائي تأبى علي حين أسمع منه هذا القول أن أخبره بمكنون صدري، وإن استبد بي التفكير في التماس الوسيلة للتخلص من هذه المرأة ومن تردد زوجي عليها. وإني لأقلب هذا الأمر على وجوهه إذ أخبرني زوجي أن الألماني الذي عرفنا في الأقصر قد جاء إلى القاهرة، وأنه تحدث إليه بالتليفون، وأنه دعاه لتناول الشاي معنا، قلت: «إذن فادع صديقنا لنحدث التعارف بينهما، وإذا لم يكن لديك مانع فادع كذلك صديقتي فإنه يسرها لا ريب لقاء الألماني بالقاهرة، بعد أن تلاقيا طويلا بالأقصر.» ولم يجد زوجي بأسا بدعوتهما، فكدت أطير من الفرح مؤمنة بأن الحظ الذي جاء بالألماني إلى القاهرة في هذا الوقت لا بد مسعدي في تفكيري، وستتمخض هذه المصادفة الطيبة عن نتائج أرضاها.
وجاء المدعوون ساعة الشاي، وأقبل علي الألماني يحييني وتكاد عيناه لا تنظران إلى غيري، وكانت أول عبارة قالها: «لم لم تحضري إلى الأقصر هذا العام يا سيدتي؟ إن جميع معارفك والمعجبين بك كانوا يسألون عن موعد مجيئك بشغف ليس كمثله شغف، سلي صديقتك، لقد عرفت من ذلك ما عرفت، وأظنها أبلغتك تحياتهم واحتراماتهم.»
لم يثر هذا الكلام من صديقتي أي صدى، بل تشاغلت عن الإصغاء إليه بالحديث إلى زوجي وإلى صديقنا، وزادني ذلك إقبالا على الألماني، وترحيبا به، وعملا على أن أصل الحديث بينه وبين سائر الحاضرين.
لم توجه صديقتي إلى الألماني في أثناء الشاي إلا كلمات متقطعة، لكنها كانت المودة مع زوجي كل المودة، وكانت تلتهم صديقنا بعينيها التهاما، وتكاد تأكله بهما أكلا، وكان صديقنا يجاهد لكي لا يغيب عنا مسحورا بهاتين العينين الفاتنتين، زانهما حور زاده الكحل الرقيق سحرا، وزاد صاحبته فتنة، وكانت صديقتي تعرف سحر عينيها، وتعرف كيف تزيد نظراتهما فتنة وسحرا، ومع ذلك جزى الألماني صدها عنه بالإقبال علي وتوجيه الحديث كله إلي إلا عبارات كان يبعثرها هنا وهناك حتى لا يحسب زوجي أو صديقنا أنه نسيهما لفرط اشتغاله بي.
فلما فرغنا من الشاي قلت: «ألا تريد أن تنزل إلى الحديقة؟» قال: «بكل سرور»، فدعوت صديقنا وتخطيت مع الرجلين غرف الطابق الأول، ونزلنا من السلم الخلفي إلى حديقة الدار، أما صديقتي فقد اعتذرت، وآثرت المكث حيث هي، واضطر زوجي للبقاء في صحبتها، ولم تطل دورتنا في الحديقة، فلما عدنا منها قال الألماني موجها الكلام إلى زوجي: «ما أجمل داركما! إن براعة الذوق في نظامها وتنسيقها لتنطق بأن السيدة قد بثت فيها من روحها بعض ما تنطوي عليه من تناسق وجمال.» وشكره زوجي، ثم ودعنا ضيوفنا وأوصلناهم إلى الباب الخارجي.
فلما خلوت إلى زوجي قلت له: «ما رأيك في أن ندعو الرجل للعشاء غدا؟ إنه ينزل فندق الكونتننتال، وليس أيسر من أن تحادثه بكرة الصباح تليفونيا، وما أحسبه إلا قابلا دعوتنا»، وأجاب زوجي في هدوء مصطنع لا يتفق مع ألفاظ عبارته: «ألم يكفك أني دعوته اليوم للشاي إرضاء لك، أنت تعلمين كما أعلم أنه لم يخاطبني في التليفون حين جاء إلى القاهرة حرصا على مقابلتي، بل حرصا على مقابلتك أنت، فإذا دعوناه للعشاء غدا أثار ذلك حديث أصدقائنا حولنا، ولا أحسبك تغتبطين بأن يذاع هذا الحديث!»
قلت وأنا أكظم في نفسي سرورا كادت تلمع به عيناي: «وماذا عسى يستطيعون أن يقولوا؟ هذا رجل مسافر بعد غد إلى بلاده في أوروبا ليقيم بها ستة أشهر أو تزيد، وقد أكرمني في الأقصر العامين الماضيين، فلا عجب أن تكرمه بمناسبة مروره بالقاهرة، وأنا مع ذلك لا ألح عليك في دعوته، وإن كنت أعجب لكلامك عن حديث الناس، وكأنهم لا يتكلمون اليوم عنا لمبالغتك في العناية بصديقتي، ولو أنك عرفت ما يقولون لما ذكرت حديثهم في دعوة بريئة لرجل أكرمنا من قبل، وأكرر أني لا ألح في دعوته، بل أعتذر إليك وأرجوك أن تنسى أني طلبتها.»
وتلجلج زوجي حين سمع هذا الكلام وكأنما طعنته في صدره ، فوجم هنيهة ، ثم قال: «يغفر الله للذين يتحدثون عني، إنما دفعتني للعناية التي تذكرين عاطفة نبيلة لأطفال ما أحوجهم إلى ميراث أبيهم، وللعطف عليهم، أما أمهم فلا شأن لي بها، ولا شأن لها بي إلا أن تشكرني على العناية بأطفالها، وصديقنا هو المعني الأول بالأمر، وهو الذي يحفزني كلما ظن أني بحاجة إلى حافز لمضاعفة عنايتي، وقد لا تعلمين أن صديقنا يفكر في الزواج من هذه السيدة، أو أنها هي التي تفكر في الزواج منه.»
كنت أسمع أحاديث عن هذا الزواج، وكنت في ريب منها، فلما أكدها زوجي كنت كمن فوجئ بها، والعجيب أني شعرت حين تحققت منها كأن صديقتي تخونني، وفكرت لذلك في إفساد ذلك الزواج التي تعتزم، كيف نبت هذا الشعور في نفسي وصديقتي مخلصة في مودتها لنا، ولا جناح عليها وهي أرمل أن تفكر في الزواج، ولا حق لي وأنا متزوجة أن ألومها فيه؟ ولم أكن أحسب أن بيني وبين صديقنا عاطفة تسوغ مثل هذا الشعور! لا جواب على هذه الأسئلة، ولكن ذلك ما حدث، وسرعان ما ترعرع هذا النبت فحرك شجوني وأنساني الألماني، وأنساني زوجي، وأنساني حديث الناس، وجعلني لا أعنى بشيء إلا بإفساد هذا الزواج!
ولطالما فكرت من بعد: أي داع دفع هذا العزم إلى نفسي؟ وكل ما اهتديت إليه بعد طول البحث والتحليل أني كنت أجد في زيارات صديقنا وأحاديثه متعة أستعين بها على الملال، بل أسعد بها في الساعات الطويلة التي كان العمل يشغل زوجي في أثنائها، وأن عقلي الباطن أوحى إلي أن زواجه بهذه المرأة سيشغله عني ويأخذه مني، ومن يدري؛ فلعلها يوم تتزوجه تجعل من دارها ندوة يأوي إليها زوجي فتتم بذلك عزلتي، ويصبح انتصار هذه الفاتنة اللعوب علي حاسما يحطم كبريائي ويمرغها في التراب؟! فأما إن استطعت إفساد هذا الزواج فسيبقى صديقنا يؤنس وحدتي، ويبعث المسرة إلى قلبي، وسأجد في أحاديثه مسلاتي، بل هناءتي، وسيبقى منزلي مقصده ومقصد زوجي، هذا ما اهتديت إليه من بعد، تفسيرا لعزمي على إفساد هذا الزواج.
وأحكمت يومئذ تدبيري، فتمارضت ولزمت سريري، وكنت إذا أصبحت وخرج زوجي إلى عمله تزينت للسرير أجمل زينة وأشدها إغراء، وبقيت به طيلة النهار، واستقبلت زائراتي وأزواجهن في غرفة نومي، وجاءني زوجي غداة اعتكافي، وأخبرني أن صديقنا يستفسر عن صحتي، وأنه في بهو الاستقبال، قلت: «لو أن صديقتي كانت هنا لما رأيت بأسا باستقبالهما في غرفة النوم ما داما يعتزمان الزواج.»
ولم أعجب حين رأيت صديقتي تجيء الغداة ومعها صديقنا، بحجة أنها تريد محادثة زوجي في بعض الشئون المتعلقة بأبنائها، فلما خلا الجو لصديقنا قال: «أشكرك على السماح بزيارتك وأنت في هذه الزينة البارعة، لقد ضاعف وجودك هنا من جمال هذه الغرفة وزادها سحرا.» قلت: «دعك من هذا الحديث فأنا متعبة لا طاقة لي بسماعه، وأين جمال هذه الغرفة وساكنتها من جمال عروسك وسحر عينيها الفاتنتين؟ فلا تكادان تنظران إلى رجل حتى يخر على قدميه ساجدا.» وسكت لحظة ثم قلت: «إنني هدني التعب والمرض، وأنا أشكرك لتفضلك بالسؤال عني»، قلت هذا وصحبته بابتسامة حار في دلالتها، أهي التهكم أم الصدق أم مجرد الإغراء؟ ونظر الرجل إلي بعينين واسعتين، وقال: «يا ماكرة! أمتعبة أنت حقا أم تريدين أن تتعبي من يزورونك هنا لأنهم لا يستطيعون الإمساك عن التفكير في صورتك الجذابة، وفي الإطار البديع الذي أحطت نفسك به.»
وعادت صديقتي فأمسكنا عن الكلام، على أن صديقنا عاد الغداة مع زوجي، وصعد معه إلى غرفة نومي، وقد أقنعته سرعته إلى رفع الكلفة بأنه لم يبق ما يمنعه من زيارتي فيها، وابتسمت فيما بيني وبين نفسي لنجاح الخطوة الأولى من خطتي، فلولا أنني أذنت بصعوده إلي مع صديقتي لبقي كارها في تحفظه. ورآني حين دخل الغرفة في زينة غير التي رآها لأمسه، فانتهز فرصة خرج فيها زوجي لبعض شأنه، وقال: «ما أجمل المرض في هذا السرير!» قلت: «وما لك أنت وذاك وأنت موشك أن تتزوج؟ احتفظ بمثل هذه التحيات لتقولها لأهل بيتك، متعك الله في الحياة الجديدة التي تنتظرك، وأرجو يومئذ أن تنسيك هذه الحياة أصدقاءك!»
وبعد هنيهة سألته: «ما بال صديقتي لم تحضر معك كما فعلت أمس وهي تعلم أني متعبة؟» قال: مررت بها فألفيتها غادرت منزلها، ولم تذكر لخادمها أيان ذهبت، وسألت عنها في بيت أهلها فلم أجدها هناك.»
كنت أعرف في هذه الصديقة خفة تستسيغ معها أن تصحب المعجبين بها إلى نزهات خلوية، وكنت أعرف من أقاربي شابا جميل الطلعة يتردد إليها مسحورا بجمالها وبفتنة عينيها، وقد شجعته هذه الفترة الأخيرة على مصاحبتها، وعلمت في هذا اليوم أنهما سيخرجان لنزهة على طريق السويس بعد مصر الجديدة، فأوحيت إلى صديقنا أن يذهب إلى هذه المنطقة فإذا صادف قريبي هناك، فليبعث به إلي لأمر هام أريد أن أحدثه فيه، ولم يجد صديقي بعد زياراته الأخيرة إياي في غرفة نومي مفرا من أن ينزل على رغبتي. وبعد الغروب عاد إلي وعيناه تقدحان الشرر وهو يقول: «أهنئك يا سيدتي بنجاحك في إفساد هذا الزواج، وأشكرك، لقد رأيت قريبك مع صديقتك داخل السيارة في جوف الصحراء وهما في وضع لا أستطيع أن أصفه!» قلت: «هون عليك يا أخي، فقد حملني الوفاء لصداقتك على أن أتيح لك فرصة ليس يسيرا أن تتاح لإنسان، فإن كان قد ساءك ما فعلت فلي من حسن قصدي عذير.» قال: «ولكنك قاسية، وكان حسبك أن تنبهيني»، فقلت: «إنني أردت أن ترى بعينيك ما لا تستطيع أن تصدقه حين تسمعه»، فأطرق إطراقة طويلة ثم ارتمى على مقعد، وكأنما ترقرقت في عينيه دمعة، وقال: «شكرا لك أن أزلت عن ناظري غشاوة حجبت عني خطرا داهما.» وبعد برهة ودعني وانصرف.
أما صديقتي فلم تخاطبني ولم أخاطبها بعد ذلك اليوم، ولم يكفها أن قاطعتني، بل ذهبت تذيع في كل صالون، وفي كل ناد، وفي كل مجتمع في المدينة أني أحب صديقنا، وأنني أريد أن يطلقني زوجي لأتزوجه، وأن الغيرة دبت في نفسي منها منذ عني زوجي بشأنها، واهتم بميراث أطفالها، وقد كان عذرها في مهاجمتي أنها تدافع عن نفسها، فقد أخبرني قريبي الذي كان معها في السيارة في الصحراء أن صديقنا فاجأها وهو ممسك يدها بين يديه، وهي ملقية رأسها على كتفه، وأنها حين رأت صديقنا سحبت يدها من يديه، وصفعته على وجهه قائلة: «أوبلغ من سفالتك أن تدبر مع قريبتك هذا الموقف المشين يا نذل؟!» وأقسمت أن لن تراني، وأنها ستفضحني. وكان مما قالته له والسيارة تعود بهما أدراجهما: «لماذا تدليتم إلى هذا الحضيض يا أحط من خلق؟! هل أخذت منها زوجها؟! لقد كان في مقدوري أن أفعل، فأنا أجمل منها ألف مرة، ولكني حفظت عهد الصداقة، ورعيت ما بيننا من خالص الود. هل أخذت منها الألماني في الأقصر، ولم تكن تراه إلا على مائدتي في «ونتر بالاس»؟ وإذا كانت تعشق هذا الذي كنت أريد أن أتزوجه فلماذا لم تخبرني فأدعه لها وألقيه صاغرا تحت أقدامها؟ أم حسبت أنني أنافسها في محبته فتآمرت معك هذه المؤامرة الدنيئة؟! إن يكن ذلك ظنها فهي مخطئة، إنه رجل ماجن، ولكنه أظهر صدق الإخلاص إثر وفاة زوجي، وعمل جهده لمعاونتي على استخلاص ميراث أطفالي حتى استخلصه، فقدرت له هذا الصنيع وأردت أن أجزيه عنه بالتزوج منه، فإن كانت قريبتك قد ظنت رغبتي في التزوج منه عشقا أو حبا فهي مخطئة، وليس بين الرجال من يستحق في سني أن أحبه، وإن كان منهم من يستحق أن أحترمه، ولست أنت ممن يستحقون الاحترام بعد أن انحدرت إلى هاوية المؤامرة التي انحدرت إليها!»
قص علي قريبي هذا كله غداة حدوثه، واشتد في لومي أن أوقفته هذا الموقف، وطمأنته بكلمات لم تزل غضبه، ولم يرعني هذا الغضب وأنا أحسب أني في أوج انتصاري، لقد دبرت فنجح تدبيري، وكنت أعلم أن نجاحي معناه القطيعة الحاسمة بيني وبين صديقتي، وأن تدبيري لن يضير قريبي وهو شاب وسيم، ومن حقه في نظر الناس جميعا أن يخرج للنزهة مع أي امرأة يغريها شبابه وجماله، فلن يروعني إذن أن ينتج عملي كل آثاره.
وانقضت أيام انقطع صديقنا في أثنائها عن المجيء إلينا حتى خشيت أن يكون قد خاصمني، وإنني لفي غرفة زينتي إذ دخل علي زوجي متجهما صامتا، فسألته ما به؟ فقال إن صديقنا مريض نزلت به الحمى منذ غادرني آخر مرة عائدا إلى منزله، وإنه قص عليه ما كان بين صديقتي وقريبي، وإنه اليوم أحسن حالا، وسكت زوجي بعد ذلك طويلا ثم قال: «وقد سألته لم لم يدعني لعيادته لأول ما نزل به المرض، فقال إنه لم يرد إزعاجك، ولست أدري كيف سولت لك نفسك أن تقدمي على ما أقدمت عليه!» قلت: «لقد كنت أحسبك أكثر وفاء لصديقك، وأشد حرصا على طمأنينته في حياته.» قال: «أوقاصر هو لتنصبي نفسك وصية عليه؟» قلت وقد بدأ هدوئي يزايلني: «وهل بلغ من حرصك على عواطف صديقتي وعلى رقيق مزاجها أن تلومني من أجلها؟ تزوجها إذن أنت إن كانت قد فتنتك! لقد طالما حدثتني نفسي عن سر عنايتك بشأنها، وطالما حاولت أن أقنع نفسي بأن إنسانيتك وطيبة قلبك وشفقتك على أطفالها هي مصدر هذه العناية، أما الآن فقد فضحت سرك، واستبان لي خفي أمرك، اذهب فتزوجها أنت إن شئت، اذهب يا منافق!»
قلت عبارتي الأخيرة في ثورة غضبي حاولت أن أكظمها فلم أنجح، وأبت كبريائي على أن أصيح لأنفس عن نفسي، واستلقيت منهدة في مقعدي، وانهمرت الدموع من عيني، وأخذت أبكي بكاء الطفل، وأراد زوجي أن يسكن روعي فدفعته عني ملقية نظري إلى الأرض؛ لأني كرهت أن أرى وجهه. ووقف الرجل قبالتي وانتظر حتى هدأ روعي بعض الشيء، ثم نظر إلي نظرة إشفاق وقال: «أولو كان بيني وبين صديقتك من الود ما تنزعجين له، أفكنت أنظر مغتبطا لزواج صديقنا منها، لينقطع الود بيني وبينها، أم كنت أصنع صنيعك فأفسد هذا الزواج لتخلص لي؟ لقد كنت أحسبك أوفر ذكاء من أن تضل الغيرة الحمقاء بصيرتك، وتدفعك إلى صنيع غير لائق بأمثالك!»
قلت وقد غالبت نفسي حتى ملكت ما استطعت روعي: «أنت تتهم ذكائي وتحسب حجتك تقنعني، كلا يا سيدي، أنت تعلم كما أعلم أنها إذا تم زواجها بصديقنا فسيفتح هذا البيت أمامها على مصراعيه، وسيكون لك من الحرية في استدامة ودها أضعاف ما لك اليوم، ولن أستطيع أنا يومئذ أن أقول شيئا، فتخير إن شئت حجة أخرى أجدر بقدرتك على استنباط الحيل!» قال وقد كاد يخرج عن طوره: «يا عجبا! أوبلغ من الحطة أن يسلب رجل زوجة صديقه، أو تسلب امرأة زوج صديقتها؟! ذلك أمر لا يمكن أن يدور بخاطري، وأنت فوق ذلك تعلمين أن لك عندي من المكانة ما كنت أحسبه يسمو بي عندك فوق كل شبهة، لقد أصفيتك وأصفيت أولادنا حبة قلبي، فإن كنت في ريب من ذلك فالذنب ذنبك لا ذنبي!»
ثم إنه أخذ بمجامع بدني وجذبني نحوه، وضمني إليه ليسكن من ثائرتي، ولم أستطع إزاء عطفه ورقته أن أتابع المعركة، وإن شعرت بأن شيئا بيننا قد تحطم، وأن حياتنا الهانئة الهادئة قد أسدل عليها ستار كثيف.
وبعد أيام جاءني صديقنا، ولا تزال عليه آثار العلة، فلما رأيته امتلأ قلبي رحمة وشفقة، وشعرت أني أثمت في حقه، فلما استقر به المجلس وتناول بعض المرطبات قال: «جئت اليوم أسألك وأرجوك أن تجيبيني في صدق وصراحة، إني أعرف صديقتك منذ سنين، وأعرف خفتها، لكني لم أعلم أن هذه الخفة جنت قط على عفتها أو على وفائها لزوجها الأول، فهل تستطيعين أن تذكري لي بشرفك أنك تعلمين غير ما أعلم»، وأحسست من نبرة صوته أنه يريد أن يضعني موضع الاتهام فقلت: «وما شأني أنا بهذا؟ إن كنت تريد أن تتزوجها فلست أنا التي أمنعك من زواجها، إنما دفعني الوفاء لصداقتك لنا على أن أفتح عينيك على ما أعرف، فإن لم تجد فيما رأيت ما يريبك فأنت أعلم بما يسرك وما يسوءك، وأنا لا أعرف عن صديقتي أكثر مما تعرف أنت عنها، وأنت كنت تعرف زوجها ولم أكن أعرفه، وكنت تزوره يوم أسكنها الضواحي ولم أكن أزورها، فلا تسلني عما لا علم لي به، وأنت صاحب الشأن في زواجك منها بعد أن انقطعت صلتي بها.»
وتركني صديقنا وخرج، تركني حيرى أنعى ما فرحت به من نجاحي، وأنعى إخفاقي المشين، وأنعى ما تحطم بيني وبين زوجي، وأنظر إلى المستقبل بعين كلها اليأس والأسى. والحقيقة أني لم أكن أعلم عن صديقتي برغم خفتها ما يجرح عفتها، فأي شيطان دفعني إلى ما أقدمت عليه، وما نفر مني كل من أحب، وضرب حولي نطاقا وجعلني أدور حول نفسي في عزلتي، كما يدور الحيوان المفترس الحبيس في قفصه؟
أولو تزوج صديقنا صديقتي برغم ما رأى، فماذا يكون موقفي منه ومنها ومن زوجي؟ وإذا حدث ذلك ودعيت مع زوجي لحضور قرانهما فماذا أستطيع أن أفعل؟ أأدعه يذهب وحده فيصدق الناس ما أذاعته من أني أحب زوجها، وكنت أريد أن يطلقني زوجي لأتزوجه؟ أم أذهب معه قطعا لألسنة الناس؟ وإذا ذهبت فبأي وجه ألقاها؟ مرت بخيالي أمثال هذه الأسئلة المحرجة حتى ضقت ذرعا بها، وحتى أظلمت الدنيا في عيني.
وهب صديقنا لم يتزوج فهل تظل صلته بي كسابق عهده في الأيام الأخيرة إذ كان يزورني في غرفة نومي وأنا في سريري، أم تراه ينقبض عني ولا يلقاني إلا بحضرة زوجي كما كانت الحال من قبل؟ وبأي وجه ألقى الناس في الحالين: حال إقباله وحال إعراضه؟ فهم لا ريب سيقولون وسيعيدون، ولن تفتأ صديقتي تذيع ثم تذيع لتجعلني أحدوثة المجتمعات، يتندر بقصتي المتندرون، ويرثي لحالي الشامتون، ويذهب من شاء مذاهب أيسرها أن الحب والغيرة دفعاني لأزدري ما تقضي به المروءة، وتفرضه الصداقة.
وعدت أسأل نفسي: أي شيطان وسوس إلي ما أقدمت عليه؟ فلو كنت أحب صديقنا حب غرام وعشق لكان حبي إياه عذيري عن مؤامرتي، أو لكنت التمست وسيلة أخرى لإرضاء حبي، ولكني لا أحس نحوه بنار الحب المحرقة التي تبيح لمن تحب أن تفعل ما فعلت، إنني أغتبط بمجلسه وبحسن إصغائه، لكنه ليس وحده الذي يتمتع عندي بهذه المنزلة، بل إن غيره من أصدقائنا المهذبين المثقفين من أحب مجالستهم، وأغتبط بإصغائهم وإعجابهم بحديثي، وإن قل منهم من كان مثله كامل الرجولة جم الوفاء.
وإذا لم يكن حبي صديقنا حب غرام دافعي إلى فعلتي، أفكانت غيرتي على زوجي ومخافتي أن تغصبه صديقتي مني هي هذا الدافع؟ لقد ابتسمت ساخرة حين عرض لي هذا السؤال، فزوجي آخر من تغار امرأة عليه، لقد تزوجته فرارا من زوج أبي، ومن بيت أبي، وتزوجته طفلة غريرة لا أعرف شابا غيره، فأصفيته ودي، ومنحته قلبي، وشعرت بأنه يبادلني حبا بحب وودا بود، وربما دام شعوري ذاك لو أن الدنيا بقيت كما كانت فلم أعرف رجلا غيره، لكنني ما لبثت بعد سنوات قلائل أن رأيته يحبني بحكم الواجب لا من أعماق قلبه، ورأيت في طبيعتنا تفاوتا ينأى به عنه، فليس عنده من الطموح ما عندي، وليست فيه رجولة العقل أو القلب، أو أي من ألوان الرجولة التي تجعل المرأة تتعلق بالرجل وتفنى فيه، إنه طيب بالغ الطيبة، فيه صفات رب الأسرة العطوف الذي يبذل غاية جهده لإرضاء أسرته، لكنه ليس بالرجل الذي يثير الغيرة؛ لأنه لا يعرف الحب الذي لا يرضى بما دون قلب المحبوب وعقله وروحه وجسمه ليملكها جميعا ملكا تاما مطلقا.
ما الذي دفعني إذن إلى ما فعلت؟ لا أدري، وهأنذي أشعر الآن بأني خسرت المعركة، وأضعت كل شيء، أضعت حتى كرامتي، وأذللت نفسي، وكانت أعز من أن تذل لإنسان، وهأنذي أشعر بالعزلة وكأني من الحياة في سجن مظلم، حتى أطفالي أشعر حين أراهم أني غير جديرة بأن أقبلهم، لقد خانني ذكائي فلم أقدر لكل هذه العواقب، إنني تعسة، وليس على الأرض امرأة أتعس مني.
انتهز فرصة خرج فيها زوجي وقال: «ما أجمل المرض في هذا السرير!»
واستوحشت حتى من نفسي فكنت إذا أقبل الصبح وخرج زوجي إلى عمله، خرجت أضرب في الأرض على غير هدى مخافة أن يسأل عني أحد معارفي بالتليفون، أو يسألني من لا أعرف عما اجترحت ويؤنبني عليه، فإذا كنت في الطريق ورأيت الناس وتعرضت لضجة الحياة، عدت إلى نفسي بعض الشيء إبقاء على نفسي أن تدهمني سيارة، أو يرتطم بي إنسان مشتت الذهن لأنه لا يجد قوت عياله، أو آخر نزلت به كارثة اضطرب أمامها ولا يدري كيف يتخلص منها، فإذا كان موعد الطعام رجعت إلى الدار ألقى زوجي وأطفالي، وأنا مضطربة الذهب خائرة القوى.
ودخل علي زوجي بعد أيام والتأثر باد عليه، وقال: «مسكين صديقنا، لقد انتكس ولزم من جديد فراشه يعاني من الحمى أهوالا، وقد دعاني صبح اليوم لعيادته، فلما ذهبت إليه وفحصته تولاني القلق عليه، وسأعوده كل يوم مرتين لأرى أثر الدواء فيه، والله يساعدني.»
نزلت علي هذه الكلمات نزول الصاعقة، ألا لئن أصاب صديقنا مكروه لأكونن الآثمة الجانية، وأردت أن أسأل زوجي عما إذا كانت حياته في خطر، فتلجلج لساني في فمي، وعز علي أن يدور هذا الخاطر الأسود بخيالي، فلما أمسيت تولاني أرق اضطربت في أثنائه بين اليقظة والإغفاء، فإذا أغفيت رأيت صديقنا ترعده الحمى وسمعته يناديني، وحين بدت تباشير النهار هببت من مرقدي كالمجنونة طائشة الصواب، وحاولت جهدي ضبط أعصابي فإذا بي أرتعد، وكأن بي من الحمى ما بهذا الرجل الذي جنيت عليه، واستيقظ زوجي وتناول فطوره وذهب إلى عمله وتركني مستلقية في غرفة أخرى، وقد خيل إليه حين دخل ورآني بهذه الصورة أني أرقت ليلي ثم نمت وجه الصبح، وأن من الخير لذلك أن يدعني أستعيد بالنوم راحتي.
فلما استطعت أن أجمع قواي خرجت إلى الطريق هائمة على وجهي، وجعلت أسير ثم أسير، وأتلفت بين الحين والحين مخافة أن يراني أحد معارفنا، وكأني سجين هارب من سجنه. وطال بي السير وأنا لا أعرف لنفسي غاية أقصد إليها، ورأيت نفسي بعد حين على مقربة من «كوبري» عباس، فملت إليه وسرت فوقه حتى توسطته، هنالك وقفت وأخذت أنظر إلى صفحة الماء في النيل، أولو ألقيت بنفسي في النهر فابتلعتني لجته، ألا تكون هذه الخاتمة خير جزاء لي؟ مر هذا الخاطر بذهني كلمح البصر، ثم استقر في رأسي لا يبرحها، ولم أذكر لأول وهلة فجيعة أطفالي بموتي، بل اعتبرته الوسيلة الوحيدة لنجاتي من الهم المقيم الذي جثم على صدري منذ انقلب علي انتصاري، وثبت نظري على صفحة الماء، فسحرت بها، ولم أجد عن إدامة النظر إليها منصرفا، وإنني لكذلك تزداد فكرة الانتحار تشبثا بنفسي إذا برق طيف الطفلين في خيالي، وكأنما يناديني: «رحماك يا أماه!» هنالك انهملت العبرات من مآقي، وغامت الدنيا في عيني، واستندت بيدي إلى حاجز «الكوبري» ولم أعد أرى شيئا.
كم بقيت على هذه الحال؟ ساعة أو أكثر أو أقل، لا أدري! وكل الذي شعرت به أن المارة كانوا ينظرون إلي ثم يتخطونني لشأنهم، ولا يعنيهم أمري. وإنني لكذلك إذ وقفت إلى جانبي سيدة ربتت بيدها على كتفي، فتنبهت فزعة فنظرت إليها فإذا هي زميلة قديمة من زميلات المدرسة، فلما استيقنتها واستيقنتني قالت: «ما لك يا حبيبتي، وماذا يبكيك؟ إنني لم أرك منذ سنوات، ولكني سرعان ما عرفتك، إنك لم تتغيري عما كنت عليه أيام المدرسة، لماذا تبكين؟ هوني عليك، فالحياة أهون من أن تذرفي عليها دمعة واحدة، انظري إلى هؤلاء الذين يمرون الآن بنا، أتحسبينهم أسعد منك حالا؟ بل أتحسبينهم أقل مني ومنك هما وألما؟ إن منهم من لا يجد قوت يومه إلا بشق النفس، ومنهم العاجز والمريض، ومن أثقلته الأحزان والهموم، نعم يا حبيبتي، ومن نظر إلى بلوى الناس هانت عليه بلواه، فهوني عليك وكفكفي عبراتك وتعالي معي.»
قالت هذا الكلام، ولم تنتظر مني جوابا، بل جذبتني من يدي وسارت، وسرت أتبعها كأني طفلة، ولا تكاد قدماي تحملاني، فلما جاوزنا الجسر إلى الطريق، قالت: «أراك متعبة، فخير أن نركب عربة أوصلك بها إلى بيتك تستريحين فيه»، ونادت سيارة وطلبت إلي أن ألقي إلى سائقها بعنوان منزلي، وألقيت نفسي منقادة لأوامرها كأنني تلميذة من تلميذاتها، فقد عرفت من حديثها أنها مدرسة، وأنها مضطرة الساعة للذهاب إلى مدرستها، ولولا ذلك لبقيت معي حتى أسترد سكينتي، وألقيت إلى السائق بعنوان المنزل، فلما كنا عند بابه نظرت زميلتي إليه، ثم قالت: «أتسكنين هذا القصر ثم تبكين؟!»
وشكرتها من أعماق قلبي، لا لأنها أنقذت حياتي، بل لأنها ردتني إلى الطفلين العزيزين، قالت: «أسعدك الله بهما وأسعدهما بك »، وألقت إلى السائق بعنوان مدرستها بعد أن اطمأنت إلى أنني دخلت المنزل، وعبثا حاولت من بعد أن أرى هذا الملاك الرحيم.
دخلت المنزل منهوكة القوى محطمة الأعصاب لا أكاد أقوى على نزع ملابسي، فلما استطعت نزعها وألقيت بنفسي في سريري إذا البكاء يغلبني من جديد، وإذا عيناي تجودان بدمع هتون، وبعد برهة إذا جسمي كله ترعده الحمى، وإذا بي أضطرب في فراشي اضطرابا جعلني أصيح منادية مربية أطفالي، فلما دخلت علي ورأتني ممتقعة اللون أسرعت إلى «الترمومتر»، ثم سارعت بعد أن نظرت إليه إلى إسعافي.
وبعد سويعة أقبل زوجي لموعد طعامه، فلما عرف ما بي أسرع يفحصني، ثم أمر بإقفال نوافذ الغرفة، وبتركي في راحة تامة، وجاء الطفلان بعد ذلك من المدرسة، فاستقبلتهما مربيتهما، وأخبرتهما أنني مريضة، ولذلك يجب عليهما ألا يحدثا أية ضجة أو جلبة تزعجني، وأمسكت الطفلين ودخلت بهما علي، فإذا هما ساهمان وكأنهما حدثتهما نفساهما البريئتان بأن أمرا حدث، فلما وقفا إلى جانب سريري اغرورقت عيناي بالدمع، ونظرت إليهما كأنما أستغفرهما أن كدت أجني عليهما فأيتمهما، وانصرف الطفلان كسيري الطرف، ثم غلبتهما الطفولة فسمعتهما يضحكان، عند ذلك شعرت بأني كنت مقدمة على عمل جنوني أنجاني القدر منه بأن بعث إلي ذلك الملاك الرحيم.
ولم يكن يشغلني أيام مرضي غير نكسة صديقنا وحال صحته! وقد سألت زوجي غير مرة عن حاله، فأنبأني أنه تخطى الخطر وإن كان في حاجة إلى زمن طويل ليسترد عافيته، فلما برئت واستطعت أن أخرج من منزلي سألت زوجي أن أصحبه يوما في عيادة هذا الصديق العزيز!
وإذ رأيته وتبينت حاله رق قلبي رقة لم يكن يسيرا معها أن أغالب دمعي، ثم زادت بقلبي رقته، فأمسكت بيده وزوجي واقف بجانبي، وقلت: «أستحلفك بأعز عزيز عليك أن تسامحني، أنا أعلم أن ذنبي لا يسعه الغفران، ولكني أعلم كذلك أن وفاءك لصداقتنا يسمو بك إلى ما فوق المغفرة، يسمو بك إلى الرحمة، وإلى الإشفاق على بائسة مسكينة.»
فنظر إلي الرجل وهو ممدد على كرسيه الطويل بعينين يشيع فيهما عطف يكاد يكون الحنان، وقال: «لقد سامحتك منذ زمان طويل، وليسامحك الله، وليسامحنا جميعا.»
لم أشعر في حياتي بتضاؤل كبريائي مثل ما شعرت في هذا اليوم، لقد شعرت بنفسي - أنا المتعالية المعتزة بنفسي - صغيرة ضئيلة تافهة محتاجة إلى كلمة عطف تسند ضعفي، وتسكب ماء البر الطهور على ذنوبي، وهأنذي قد سمعتها، لكني بقيت مع ذلك صغيرة ضئيلة تافهة.
وانقضت الأيام والأسابيع وعوفي صديقنا، وعاد يتردد علينا، لكني بقيت برغم ذلك محطمة الأعصاب، فلا بد لي من جو جديد تتغير فيه نفسيتي، فلما أقبل الصيف قال لي زوجي: «ما أحسبك احتجت يوما إلى السفر إلى أوروبا حاجتك هذا العام، فأعدي عدتك، وقد لا أستطيع السفر معكم، ولذلك أعددت جواز سفر لك وللطفلين، وأرجو أن يفيدكم تغيير الجو الفائدة التي أرجوها، وشكرته، وأخذت أفكر في السفر وفي إعداد عدته.»
الفصل السادس
لم أنظر إلى اصطيافنا بأوروبا هذا العام مطمئنة النفس قريرة العين، أنا حقا في أشد الحاجة إليه، فهذا الجو الذي يحيط بي خانق، ولم يبق لي طاقة باحتماله، وأعصابي مرهقة يثيرها مس الهواء، لكن الهواجس كانت تفزعني، وتبلبل خاطري، وتزيد نفسي قلقا، وأعصابي اضطرابا، فما بال زوجي لا يريد أن يصحبنا إلى أوروبا؟ أي شيء يمسكه بالقاهرة ليصلى صيفها القائظ؟
وهنا ارتسمت أمامي صورة صديقتي وهي تنظر بعينيها الجميلتين الساحرتين إلى هذا الطبيب الذي وهبها كل عناية لإنقاذ ميراثها وميراث أطفالها، أولا تكون هذه المرأة هي السبب في تخلفه عن مصاحبتنا وبقائه بالقاهرة؟ أنا أعلم أنها تصطاف بالإسكندرية، لكن الذهاب من القاهرة إلى الإسكندرية آخر كل أسبوع لقضاء يومين أو ثلاثة على مقربة منها والتقاءهما كلما شاءا؛ أمر يسير!
وإذا أنا كنت قد فعلت ما فعلت لأمنع زواجها من صديقنا، أفأسافر إلى أوروبا وأدعها تغصب مني والد أطفالي، على حين أنتقل أنا بهما بين بلاد المياه، وفي أعالي الجبال الأوروبية الجميلة؟!
ودار بخاطري أن أعتذر عن عدم السفر، وأن أكتفي بالذهاب إلى الإسكندرية أقضي الصيف بها. وإني لأفكر كيف أصور الأمر لزوجي إذ مر بي صديقنا، وأخذ يسألني عن موعد السفر وبرنامجه، قلت بعد حوار طويل: وما اهتمامك أنت وزوجي بهذا الأمر؟ كأنما تريدان إبعادي عن مصر لأمر تدبرانه؟
فبهت الرجل لسماع هذه العبارة، وقد قلتها بنغمة كلها الجد والحزم، وقال بعد هنيهة: «أوهجست بنفسك هواجس جنونية جديدة لتقولي مثل هذا الكلام السخيف؟» قلت: «فلم إذن لا يصاحبنا زوجي إلى أوروبا؟»
هنا تبسم الرجل ضاحكا وقال: «إذن فاعلمي أنه استدان المبلغ اللازم لسفركم، وكنت أنا واسطته وضامنه، وهو يريد أن يشتغل في الصيف ليسدد ما استدان، أويكفيك هذا العلم لتهدأ نفسك وتسكن أعصابك؟»
قلت وأنا أحاول التسكين من وساوس نفسي: «ما كان أغناه عن هذه الاستدانة وأغناني عن التعرض لهذه الهواجس! إنني لم أرغب إليه في السفر، بل هو الذي عرضه علي، ولو علمت أن الأمر يقتضيه أن يستدين لما قبلته، بل لكفانا أن نقضي معا شهرا بأي مصيف، وأن نقيم بقية الصيف هنا في وكرنا وملجئنا»، وأجاب صديقنا مبتسما: «ثم تبقى أعصابك مضطربة، وحسك مرهفا طيلة العام المقبل؛ فتجعلين حياته جحيما! لا تحسبي يا سيدتي أنه نسي في هذا الأمر نفسه، ولم يفكر إلا فيك، فقد ذكرت له حين طلب إلي التوسط في الاستدانة وضمانه فيها هذا الكلام الذي قلت أنت الآن، وعرضت عليه أن تذهبوا إلى مكان قصي كمرسى مطروح، فحدثني بلغة الطبيب الذي يعرفك خير معرفة أنك لا دواء لك إلا السفر إلى أوروبا، وأن ما يتكلفه في ذلك من النفقة أيسر عليه من بقائك فيما أنت فيه مما ينغص عليه وعلى الطفلين عيشهم، ألا ترين أنه يحسن التقدير والحساب؟ فاطرحي من خيالك المريض هواجس لا وجود لها إلا في هذا الخيال، واستقبلي سفرك بنفس راضية لتعود إليك صحتك، وليعود إلى طفليك مرحهما وابتسامهما، وسأمر بك بعد ثلاثة أيام لأعرف كيف أعددت لرحلتك وبرنامجها.»
وصدق الرجل وعده ومر بي بعد ثلاثة أيام فألفاني أكثر هدوءا وطمأنينة، ذلك بأنني كنت قد أخذت أثق به وأطمئن إلى كلامه بعد أن أيقنت من خلال أحاديثه المتكررة أنه لن يتزوج صديقتي، ودار بيننا في رفق حديث هادئ أطلعته في أثنائه على خطة سفري وعدته.
وصحبني هو وزوجي إلى الإسكندرية حتى ودعاني ساعة تحركت الباخرة، فلما بعدت عن الشاطئ وغابت عنا آثاره ذهبت أستقبل هواء البحر أملأ منه صدري ورئتي، مقتنعة بأن فيه الدواء الناجع لعلتي، واستنشقت هذا الهواء ملء خياشيمي، فأحسست فيه حياة تنعش قلبي، وترفع عن صدري عبئا كان يثقله، وتمددت على مقعد طويل أرحت إلى مسنده ظهري ليكون صدري أكثر استقبالا لهذا الهواء المحسن، وتطلعت بنظري إلى الأفق الممتد بين السماء والماء، وكأنما يتهادى مع الباخرة فوق لج البحر العظيم، وانقضت ساعة وأخرى وأنا على هذه الحال، أزداد كل ساعة شعورا بأن الأعصاب المنهارة التي كانت تتحكم في وجودي تستقيم وتقوى شيئا فشيئا، ألم يقل صديقنا إن السفر إلى أوروبا فيه دواء علتي، وهأنذي أشعر بفعل هذا الدواء منذ اللحظات الأولى.
وأقبل المساء فكنت أهدأ نوما، وتقضت أيامنا على الباخرة وأنا أشعر كل يوم بأنني أحسن حالا مما كنت عليه في اليوم الذي سبقه، وكان على الباخرة سيدات رقيقات رأينني ورأين أطفالي، فكن يداعبن الأطفال ويحادثنني في مألوف ما يتحدث المسافرون فيه، فلما أصبحت اليوم الأخير والباخرة تتأهب لإلقاء مراسيها على رصيف المرفأ، جئن يودعنني، ثم قالت إحداهن وكأنها تهمس في أذني: «أهنئك من كل قلبي يا سيدتي، لقد أشفقت عليك ساعة رأيتك تصعدين الباخرة في الإسكندرية، كان وجهك شاحبا، وملامحك متعبة، وكان الجهد باديا عليك، وكأنما قضيت زمنا طويلا في غرفة مظلمة، أما الآن - ولا حسد - فوجهك مشرق، وملامحك باسمة، وكلك حيوية ونشاط.» فشكرتها وقلت: «لقد كنت أحس الإعياء حقا، لقد مرت بي أحداث أرهقتني، وأشعر الآن أنني أفقت وحييت.»
وسافرنا توا من المرفأ إلى الجبال، وأخذت أتنقل مع الأطفال من مصيف إلى مصيف، وقد نسيت كل شيء إلا أنني حييت، فلما اطمأننت إلى العافية وإلى أطفالي أخذت أستعيد هذا الماضي القريب في دهشة، وأعجب لما حدث فيه، فإذا رأيته بدأ يشغل حيزا من تفكيري لم يكن أيسر من أن أهز أكتافي، وأعود إلى متاعي بجمال الطبيعة من حولي، لكن أمرا واحدا لم يبرح ذهني، ذلك أمر صديقتي وعناية زوجي بشأنها وبميراث أطفالها عناية غير مألوفة، فلن تحرك الرحمة والإنسانية وحدهما رجلا ليعرض نفسه إلى ما تعرض له زوجي من أجل هذه الفاتنة!
وفيما ننتقل بين المصايف صادفتني السيدة الأمريكية المعنية بزينة سريرها أكثر من عنايتها بزينة خروجها ونزهتها، وهي التي عرفتها الصيف الماضي إذ كان زوجي معنا في أوروبا، فقد صادفتني أسير في بهو الفندق وطفلاي يسيران معي، فلما رأتني أقبلت علي وعانقتني، وأبدت من السرور بلقائي ما أنعش نفسي، وعدنا سيرتنا العام الماضي، وزدنا عليها أنني جلست وإياها على مائدة واحدة في غرفة الطعام.
وكانت تدعو بعض أصدقائها وصديقاتها أحيانا لتناول الطعام معنا، فيتيح ذلك لنا فرصة الحديث في شئون شتى، ولهؤلاء الغربيين جرأة على موضوعات يمنعنا الحياء في مصر أن نعرض لها، ولست أنسى لهم حديثا ترك في نفسي من بعد أثرا عميقا، وكان للسيدة الأمريكية فيه رأي جريء لم أجد مثل صراحته فيما سبق من مطالعاتي، فقد تحدثوا عن الحب، وعن صلات الرجل والمرأة، وأيد بعضهم ما يقوله الروائيون من أن الحب عاطفة يقصد بها الرجل تملك المرأة، وأيد آخرون مذهب شوبنهور من أن الحب أسطورة تقصد الطبيعة من ورائها إلى تخليد النوع وتحسينه، قالت الأمريكية: «أما أن الحب عاطفة يقصد بها الرجل تملك المرأة، فحديث خرافة ابتدعه الرجال إرضاء لغرورهم، فلست أعرف رجلا تملك امرأة في غير الكتب التي يزوقها القصاصون، أما الواقع فإن النساء هن اللواتي يمتلكن الرجال، ويسخرنهم كما يشأن لأغراض الحياة، وقصة آدم وحواء تصور هذا الواقع خير تصوير، فحواء هي التي أرادت أن تطعم من شجرة الخلد فسخرت آدم لما أرادت، فأذعن لها وهو يعلم أنه يخالف بهذا الإذعان أمر ربه، والمرأة هي التي تخلق من الرجل ملاكا أو شيطانا حسب هواها، ترتفع به إلى الذروة أو تهوي به إلى الحضيض، وقل أن كان العكس صحيحا، والرجال أنفسهم لا ينكرون على المرأة هذا السلطان ولا يأبونه، ألا يتحدث الشعراء من أقدم العصور عن ربة الشعر على أنها مصدر وحيهم وإلهامهم، والغزل في الشعر من فنون الرجال يتغزلون به في المرأة، ويتخذونه زلفى إليها؟ وقل أن روى التاريخ لامرأة شعر غزل إلا أن يكون الرجال قد زيفوه لينزلوا بالمرأة إلى مثل مكانتهم، وماذا يمتلك الرجل من المرأة فيما يزور القصاصون؟ جسمها، إنه يملكه سويعة يذل لصاحبته بعدها ما عاش، وفي طبعها ما في طبع كل أنثى مما يذكره شوبنهور: أن تخلد النوع. والرجل يحسب أنه يتملكها حين تسخره هي ليتم أسمى غرض في الحياة وأرفعه، ذلك أن تخلق جيلا جديدا!»
قالت سيدة من الحاضرات: «إن ما ذكرته يصدق على الزواج أو على التناسل إن شئت، لكنك لم تذكري شيئا عن الحب، والحب لا صلة له بالتناسل، بل هو عاطفة مجردة مكتفية بذاتها كالصداقة. والحب كلما ازداد تجردا ازداد سموا، وكلما كان خالصا لوجهه وحده كان رحيق العواطف وخلاصتها جميعا.»
أجابت الأمريكية: «إن هذا الحب الرحيق الذي تذكرين، وهذه العاطفة السامية المكتفية بذاتها، حب ملائكي لا يعرفه بنو الإنسان، وهو على كل حال ليس الحب الذي يذكر القصاصون أن الرجل يقصد به إلى امتلاك المرأة، ولئن وجد هذا الحب الملائكي بين شاب وفتاة، أو بين رجل وامرأة، ونذر كلاهما لله أو للعذراء ألا يقرب أيهما صاحبه، وألا يكون بينهما قط شيء من صلة الجسد، إنهما إذن لمن أتقى أبناء الكنيسة الكاثوليكية البررة المطهرين، وليسا من أبناء عالمنا نحن، عالم الحياة والتجدد. أما حب الرجل والمرأة في عالم الحياة، فغايته إنشاء الشركة اللازمة لأداء واجب الحياة على خير وجه، ووسيلته التجانس والتجاذب بين الشريكين على نحو يكفل انتقاء أحسن بذرة للتربة التي تصلح لها، والتي تتكفل هذه الشركة بتعهد ثمراتها، هذه صورة مادية قد لا ترضي الخيال الشعري، لكنها الصورة التي تنتقل مع تاريخ الإنسانية منذ عرفنا تاريخ الإنسانية ، فالتشريع الذي وضعه الرجال في مختلف العصور يقررها، والواقع الذي تراه أعيننا يشهد بها، فإذا أراد رجل أو أرادت امرأة أن تسمو على هذه الصورة المادية فقد أنكر كلاهما واجب الحياة وتنكر له، وهذا - مع الشيء الكثير من الأسف - ما تيقنته أنا بعد تجارب كثيرة مريرة.»
قلت ملقية الكلام إلى الحاضرين من غير أن أوجهه إلى أحد بذاته: «والغيرة، ألها صلة بالحب؟ أم أنها مستقلة عنه قائمة بذاتها؟»
قالت الأمريكية وكأنما حرك هذا السؤال عندها شجنا دفينا: «غيرة المرأة عاطفة طبيعية باعثها الدفاع عن النفس، وعن الملك، فالمرأة - كما ذكرت - تملك الرجل الذي تحب وتحرص على ألا تفرط فيه، وهي لذلك تحوطه بالعناية التي يحيط بها الإنسان أعز ما يملك، وهي تعتبر ماله ملكها، وصحته ملكها، وقلبه ملكها، وسمعته ملكها، ومكانته في المجتمع ملكها، فإذا حاولت امرأة غيرها أن تغصب هذا الملك منها فمن حقها أن تدفع هذا الاعتداء بكل وسائلها، وفي مقدمة هذه الوسائل أن تنصب شباكها حول الرجل نفسه حتى لا يفلت منها، فإن نجحت فذاك، وإن تغلبت عليها غريمتها أو حاول رجلها أن يفر منها، فمن حقها أن تعلن عليهما حربا شعواء، قد تكون الهزيمة في هذه الحرب نصيبها، ولكن خوف الهزيمة لا يجوز أن يثنيها عن النضال، فلا تفرط في قيد أنملة من ملكها إلا مغلوبة على أمرها، وإذا هزمت مع ذلك فلها العذر، ولها من استماتتها في النضال عن ملكها عزاء عن فقده آخر الأمر، وإن لم يرد هذا العزاء فائتا، ولم ينجها من أن تغرق نفسها فيما يذيب الهم ويذهب الحزن.»
قالت الأمريكية عباراتها الأخيرة وقد شردت نظراتها، وانخفض صوتها، وكأنما حركت نفسها هواجس ماض قاست فيه أهوالا، وانهزمت فيه بعد دفاع طويل مجيد، عند ذلك أدركت حرصها على الشراب، تغرق فيه همها، وقد رأيتها ذلك اليوم أشد إكبابا عليه كأنما هاجت الذكرى أشجانها، فاستعانت بالشراب على نسيانها، وخشيت أن يعاودها من هذه الذكرى رجع يثير من نفسي ما لا أريد أن يثور، وأنا حريصة على أن أفيد لصحتي ولأعصابي ولكل حيويتي من هذا الاصطياف ما استطعت، فانتقلت إلى مصيف آخر أكثر مرحا، وأخذت أعبث أنا وأطفالي وأرتع معهم، نرتفع إلى قنن الجبال، ونلعب في الثلوج البيضاء المتراكمة عليها، ونهبط إلى الوديان نستمتع بخضرتها ومياهها، وننتقل ثم ننتقل حتى لا يدع لي المقام في مكان واحد فرصة للتفكير في غير المرح والمتاع.
وعدنا آخر الصيف إلى مصر، واستقبلنا زوجي على ظهر الباخرة أول ما أرست بالإسكندرية، وفرح الطفلان بأبيهما فتعلقا بعنقه وأخذا يقبلانه، فسألني هو كيف أمضينا صيفنا، فذكرت له طرفا مما رأينا، وذكرت الأمريكية التي زارها معي العام الماضي في غرفة نومها، ولكني لم أذكر شيئا من أحاديثها وأحاديث أصحابها، وسألته بدوري كيف قضى صيفه؟ ورجوت ألا يكون قيظ القاهرة أرهقه، وأجابني أنه استطاع أن ينتهز فترات جاء في أثنائها إلى الإسكندرية يستريح من عناء العمل، ويستنشق هواء البحر يسري به عن نفسه، ويعتاض به من قيظ بلغت درجته الأربعين في بعض الأيام، وذكرتني زوراته الإسكندرية حيث مصطاف صديقتي بهواجسي قبيل سفري إلى أوروبا، على أني آثرت الصمت فلم أقل شيئا.
وانتقلنا إلى القاهرة، وجاء صديقنا يحمد الله على سلامتنا، فأبدى اغتباطه بما أفدت لصحتي من رحلتي، وسروره بما عاودني من سكوني وطمأنينتي، وتقضت أوائل الخريف بعد ذلك رتيبة متشابهة تبعث إلى النفس السأم والملال، فلما كنت في الأيام الأولى من شهر ديسمبر أقبل زوجي يوما يذكر لي أن جماعة من أصدقائه الذوات، سيدات ورجالا، يريدون أن يستمتعوا تلك الليلة بضوء القمر عند سفح الأهرام، وأنهم يدعوننا لمشاركتهم في هذا المتاع، وأنه ذكر لهم أن مثل هذه النزهة الليلية غير مألوفة لي، فألحوا عليه في أن يقنعني بمشاركتهم وقبولي دعوتهم، وأنه وعدهم أن يفعل، وسألني بم يجيبهم، قلت: وما رأيك أنت؟ فأنا في هذا الأمر على ما تحب، إن شئت ذهبنا وإن شئت اعتذرنا.»
وإنما أردت بهذا الأدب الجم أن ألقي عليه كل التبعة، على أنني كنت أود من كل قلبي أن يقبل هذه الدعوة ، فهي لون جديد من الحياة يشوقني أن أعرفه، وأصحابها طراز من الجمعية القاهرية الراقية يسرني أن أتعرف إليهم، ولقد كنت فوق هذا وذاك أفكر في الوسيلة التي أسترد بها زوجي إلى حظيرتي، فلا يبقى لدي خيال شك في تعلقه بصديقتي، وقد استبد بي هذا التفكير بعد أن ذكر حين استقبلنا على الباخرة بالإسكندرية أنه جاء من القاهرة إليها غير مرة في أثناء غيابنا في أوروبا حين كانت صديقتي تصطاف بها، فإذا قبلنا هذه الدعوى فتحت أمامي بابا أنفذ منه للغرض الذي أقصد إليه.
وبدا على زوجي بعض التردد بعدما ذكرت أني تركت الأمر له. قلت: «فيم تتردد؟ إن لم يكن في هذه الدعوة ما يغريك فلا أيسر عليك من أن تعتذر عنها، وكل الذي أرجوك فيه ألا تحتج في اعتذارك بي حتى لا يفسر القوم ذلك تفسيرا يسوءني، تستطيع إن شئت أن تحتج بعملك، فأنت طبيب معرض لأن تطلب في كل وقت، أما إن راقك أن تقبل الدعوة فأبلغ أصحابها شكري إياهم، واغتباطي بالتعرف إليهم.»
وسكت زوجي هنيهة ثم قال: «أما وأنت لا ترفضينها فأنا أقبلها، وسأبلغهم ذلك الساعة، وإنني لواثق من أنك ستسرين بمعرفتهم، فهم غاية في الرقة رجالا ونساء، وقد أبدوا من الحرص على التعرف إليك ما شكرتهم عليه، وإنني لواثق من أنكم ستصبحون أصدقاء عما قليل.»
ما أشد غبطتي وما أسعدني بما قال! فهذا يتفق مع ما دار بخاطري، وما فكرت فيه من وسيلة أسترده بها إلى حظيرتي، لا بد أن أثير الغيرة في نفسه حتى لا يظل متوهما أنني لا أعرف غيره، ولا أحب غيره، ولا أقدر غيره، مما دعاه إلى الاكتفاء نحوي بأداء واجبه ربا لأسرتنا، وأن يتناسى شخصيتي وما حباني القدر من مواهب يعجب بها غيره أشد الإعجاب.
وأقبل المساء وأشاع القمر بضيائه الرطب الندي معاني النعيم في أجواء القاهرة، واشتملها كلها، وتزينت لهذه النزهة الصحراوية زينة جمعت إلى البساطة الإغراء. ودق التليفون، وقال زوجي إن القوم في طريقهم إلينا، فهبطنا إلى الطابق الأول حتى إذا سمعنا نفير سياراتهم خرجنا إليهم فألفيناهم نزلوا من السيارات لتحيتنا، وتعرفت إليهم، ودعاني أحدهم لأجلس في سيارته إلى جانبه وهو على عجلة القيادة، وذهبت زوجه في سيارة أخرى، وتفرقنا حتى لا تجلس زوجة مع زوجها في سيارة واحدة، وانطلقنا مسرعين حتى إذا بلغنا طريق الهرم سرنا على هون مبطئين، وما كان لنا ألا نفعل، فقد سكب القمر على ما حولنا من المزارع والمساكن أمواجا من نور غمرت ما بين السماء الأرض، وجعلتنا نسبح منها فوق أثير شعري رقت معه قلوبنا، وسمت عواطفنا حتى كادت تلتقي وتتعانق، قلت لزميلي في السيارة: «لست أدري كيف أشكر لكم هذه الدعوة، فلست أذكر أني رأيت القمر أبهى سنا، وأروع جمالا في هالته البديعة مما هو اليوم، لقد طالما اجتزت هذا الطريق في ضوء عاشق السموات فلم أره يرنو إلي ويحدثني بمثل هذه اللغة التي يحدثني بها الليلة؟»
وأجاب صاحبي: «أنت يا سيدتي التي أوحيت إلى القمر كل هذا الشعر الذي يوقع لنا الليلة أنغامه، وسترينه على سفح الأهرام، وعلى وجه أبي الهول أروع شعرا وأبدع إيقاعا بفضل وحيك وإلهامك.» واتصل بيننا بعد ذلك حديث رقيق حرصت ما استطعت على أن يزداد ظرفا ورقة وسحرا، فإذا تحدث الرجل بعد ذلك عني حديثا بلغ سمع زوجي عرف أنه ظالمي، وأن من حقي أن أثور بهذا الظلم.
وبلغنا سفح الأهرام، وأوغلنا في الصحراء، ثم تركنا السيارات وأخذنا ننعم في هذا الجو الشعري الساحر بأعذب ألوان الحس، كنا نتطلع إلى ناحية الأهرام فنراها قد كساها القمر من ضيائه حلة زادتها بهاء ومهابة ورهبة، ثم نتطلع إلى رمال الصحراء المتموجة تحت أشعة القمر في ارتفاع وانخفاض يخلقان منها بحرا لجيا وإن لم يصطخب له موج، وإن كان صامتا صمت الليل، ونرتفع ببصرنا أحيانا إلى السماء فإذا الجو كله معطر بعبير هذه الساعة اللذيذة المنعشة، وإذا القمر قد أذاب في هذا الجو نورا مطمئنا تستريح له العين، وينهل منه القلب، وتنتشي بسحره العواطف، ويعبث الهوى في أثنائه بالأفئدة بين الجوانح.
وسرعان ما أقام القوم مرقصا على أنغام أسطوانات جلبوها وجلبوا «فونوغرافها» معهم، وشاركت وشارك زوجي بطبيعة الحال في الرقص، وإن لم نرقص مرة واحدة معا خلال الساعات المتعاقبة التي شهد فيها ساهر السموات هذا المرح السابغ المجنون، وقد ألقيت نفسي في أثناء هذا الرقص بين أذرع الرجال من أصحابنا جميعا، وجعلت أكثر رقصاتي مع زميلي في السيارة، وكنت في أثناء رقصي معه أتابع الأحاديث الحلوة التي بدأناها في طريق الهرم.
فلما أخذنا من الرقص حظنا كاملا، جلسنا على سجادة جيء بها لهذا الغرض، وتناولنا طعاما خفيفا نكظم به صيحات معداتنا بعد أن هضم الرقص ما كانت تحتويه، وجعل القوم في أثناء الطعام يثنون أطيب الثناء على رقصي، وينسبون لقوامي البارع أكبر الفضل فيه.
وعدنا أدراجنا بعد أن شكرت القوم من كل قلبي لأنهم أتاحوا لي فرصة متاع لا عهد لي بمثلها من قبل، وأجاب القوم بأنهم هم الذين يشكرونني لأني دفعت إلى سهرتهم من حيويتي ومن رقتي حياة ورقة لم يعرفوهما فيما سبق لهم من مثلها.
وانطلقت السيارة بي وبزوجي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فلما شعرت أني وإياه في خلوة قلت: «ألم تحدثك نفسك طيلة ساعات الرقص أن تطلبني لرقصة معك؟» وكأنما أدهشه سؤالي هذا فأجابني: «لقد رأيتك في أثناء الرقص كله في غبطة لم أرد أن أفسدها عليك، أو أنتقص منها.» قلت: «لست أنكر أنني اغتبطت بهذه النزهة الساهرة من أولها إلى آخرها، لكنك كنت أكثر مني اغتباطا، فقد رأيتك تائها في أحلام أفسح سعة من الصحراء، وأقسم أنني لم أكن خطرت بأحلامك، ولو أنني خطرت بها لدعوتني ولو مرة واحدة إلى الرقص معك.»
وأجابني وكأنما أخذ لهذا الجواب عدته: «لكن ذلك لم يكن يليق، فنحن مدعوان إلى هذه الحفلة، فيجب ألا يشعر أصحابها بأنا ننكمش عنهم إلى ناحية لحظة واحدة، ولأي اعتبار.» قلت: «وما لهم لم يرعوا ذلك فيما بينهم، فقد راقصت كل سيدة زوجها مرة على الأقل، أما أنت فقد تعمدت إهمالي لغرض لا أفهمه.» وأدرت وجهي غاضبة، واستمر هو يقود السيارة إلى منزلنا.
ومر بي صديقنا الغداة فقصصت عليه أنباء سهرتنا وما دار بيني وبين زوجي حين عودتنا، فابتسم وقال: «مسكين زوجك! إنه رجل طيب، ولكنه لا يفهم العواطف كما تفهمينها، هي ليست في نظره لونا من ألوان الفن الجميل الذي يشهد الناس صوره المختلفة على المسرح، ولكنها بعض واجبات الحياة الزوجية يؤديها الرجل فيما يبديه من عناية براحة زوجه وأولاده، وعذره عن هذا الفهم أنه فلاح، هو من أبناء الأعيان يرون الحب المسرحي عيبا غير لائق بالناس الطيبين، وهو مقتنع بأنه يؤدي لك ولطفليك ما لكم عليه من حق، ويحسب أنه يؤدي هذا الواجب على الوجه الأكمل، وهو يظهر لي دهشته أحيانا، ويسألني: أمقصر هو في حقكم في شيء برغم ما يحمل نفسه من أعباء يخشى أن ينوء بها يوما من الأيام؟»
وقلت في نفسي: «نعم، هو فلاح وفيه خبث الفلاحين، وكل ما درسه، وكل ما رآه في أسفاره إلى أوروبا، وكل ما تعلمه من معاشرة الذوات وأبناء الذوات لم يغير طينته، وإن أسبغ عليه طلاء ظاهرا من الثقافة والتمدن، فإذا حك هذا الطلاء ظهر الفلاح بقسوته وضعفه وخبثه، ألا يتزوج أحدهم زوجة ثانية ثم لا تعلم زوجه الأولى بما فعل سنين متعاقبة؟! وما يدريني لعله تزوج صديقتي، وهو - لا ريب - يحبها وإن لم يتزوجها، إن هذه الطيبة التي يتظاهر بها ليست إلا ثوب رياء يستر به مكره وخبثه، أفلا يجمل بي أن أحاربه بمثل سلاحه، فأظهر غير ما أبطن، علي بذلك أستل منه سره، وأقف على مكنون صدره؟»
وفي الغد كان القمر بدرا كاملا، فاتفقنا مع أصدقائنا الذوات على أن نوغل في الصحراء، وأن نجعل الاستراحة القائمة في منتصف الطريق بين القاهرة والإسكندرية غايتنا، وقضينا وقتا ناعما استمعنا فيه من «الجراموفون» أحلى الأغاني وأعذب الأنغام، وتناولنا من الأحاديث، كل جماعة في ناحية، ما أرضى هوانا وأمتع أرواحنا وقلوبنا، ألا ما أروح الصحراء في ضوء القمر! أنت منها في لجة تجمع السماء والهواء والأرض في غلالة من غمام مضيء، لا تعرف العين له بداية ولا نهاية، ولا تعرف أين منه مساكن الشياطين، وأين منه منازل الملائكة؟ كل شيء فيه مبهم أمام العين، واضح أمام البصيرة تقرأ سطور الغيب في لوحه المحفوظ، فأنت تشعر وأنت في هذا المحيط الباهر الوضاء كأنما كشف عنك غطاؤك، وكأنما اتصلت على موج الأثير بعوالم الكون جميعا وهي مع ذلك محجوبة عنك، لا ترى فيها الدقائق التي ترى في وضح النهار، وأنت مع ذلك معجب بما ترى، تحسب أنك استبطنت أسرار الكون، وعرفت منها ما كان وما يكون!
وعدنا أدراجنا حين تكبد القمر السماء، وإننا لننهب الطريق إلى القاهرة إذ وقفت إحدى السيارات، واندفع نفيرها يعلن نداء الاستغاثة، وفي لمح البصر اجتمعت السيارات كلها حول السيارة المنكوبة، ونزلنا جميعا رجالا ونساء نتساءل: ما أصابها؟ ولم يكن العطب فادحا، إنما هي عجلة انفجرت ويجب تبديلها، يكفي إذن أن يتعاون رجلان في هذه المهمة، وكان أحد الرجلين زوجي، وانصرفنا جميعا نستمتع من جديد بالهواء المنعش، والضياء الرقيق، والحديث العذب، والضحكات الناعمة تتأرجح على أرج النسيم فتنتشي بها أسماع الرجال نشوة تترجمها بسمات ثغورهم، وبريق عيونهم.
وكنا إذ ذاك في طريق الصحراء على بضعة كيلومترات من طريق الهرم، فلما استعادت السيارة المنكوبة مقدرتها على السير ركبت كل سيدة مع زوجها حتى بلغنا منازلنا.
لذ لي عيش هؤلاء الذوات، واستراحت نفسي للون حياتهم، وأعجبني فيهم ظرفهم وحسن ذوقهم في الحياة، ولطف مسلكهم فيها، وارتبطت لذلك معهم بأوثق صلة، ولقد كنا حين لا يسعفنا ضوء القمر بسهرات في الهواء الطلق نؤثر أن نجتمع في منزل من منازلنا نقضي فيه سهرة لا تقل عن سهرات الصحراء متاعا ومرحا، كنا نرقص ونغني ونستمع إلى الموسيقى تثير من ألوان الطرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا عدت مع زوجي إلى منزلنا في الهزيع الأخير من الليل كان الجهد قد أخذ منا، فنمنا إلى الضحى، فإذا استيقظت علمت أن زوجي قد بكر إلى عمله كعادته، وأمر ألا يزعجني عن فراشي أحد.
ولم أكن أحسب أن هذا اللون من حياة الذوات باهظ النفقة، لكني سرعان ما تبينت خطئي، فالولائم والأزهار النادرة والحلي والثياب وما يتصل بذلك من ملحقاته لا ينتهي حين يبدأ، ولا تنتهي نفقاته، ونحن نعيش من قبل عن سعة اضطرت زوجي للاستدانة سدا لنفقات سفرنا إلى أوروبا، وليس في مقدورنا الآن وقد عرفنا هذه الألوان الجديدة من الحياة، وتعرفنا إلى أصحابها أن نرتد عنها، حتى نترع منها ويفيض بنا كأسها، ولم يدر بخاطر زوجي أن يخالفني في ذلك حذر المستقبل، ولعل عقله الباطن هو الذي صده عن أن يفعل مخافة كلام الناس، إنه يحسب أنه انتقل بي إلى مصاف الذوات، ومن العار عليه أن يرتد بي عن هذه الصفوف خشية إملاق، فالله يرزق من يشاء بغير حساب، أليس صاحبه المليونير كان إلى بضع سنوات متواضع الثراء، وكان يقترض منه ثم يرد له ما اقترضه، فما ضره وقد أصبح الرجل مليونيرا أن يقترض هو منه في انتظار أن يسد الله عنه دينه؟
ولكن كيف يحتال لذلك من غير أن يجرح إباءه الذاتي؛ دعا المليونير إلى وليمة فاخرة عندنا، وأوصاني أن أبالغ في اللطف معه، والتودد إليه، وحسن اللقيا لزوجه، ولم أجد في تنفيذ الوصية مشقة؛ فقد أعجبتني هذه الزوج، وحلت أجمل مكان من نفسي، فبالغت في تحيتها عن رضا مني، واطمئنان إليها، وكان المليونير قليل الكلام، كثيرا ما يغيب بذهنه عن المجلس، وكأنه يفكر في مشروعاته وحساباته، وقد بذلت جهدي لاستدراجه إلى الكلام في الشئون الجارية مما تنشر الصحف أو تتداوله المجالس، فكان يحصر ذهنه ليحسن الإصغاء إلي، ثم يحييني في عبارات موجزة جدية محكمة.
وزرنا الرجل بعد ذلك وتردد علينا، لقد طالما سمعت عنه من رجال ذوي ثقافة أنه محدود الأفق لا يستطيع أن يسمو بعقله فوق الماديات، وفوق ما يتناول الناس من منافع الحياة، وقد أردت أن أسبر غوره لأعرف مبلغ ما في هذا الكلام من دقة وصدق، فدلني ما شهدت على صحته، لكني رأيت ذلك التفكير المادي الذي ينسبونه إليه واسع المدى إلى غير حد، إذا تكلم في أحد مشروعاته تناول تفاصيله في دقة غاية الدقة، وقص ما أنفق للحصول على هذا المشروع من جهد ومال قصصا يستهوي اللب، ويكاد يذكر الإنسان بالقصص البوليسية، وهو يؤمن بالمال إيمانا لا حد له. وقد ذكرني إيمانه هذا بغني آخر نعرفه جعله الإيمان بالمال شحيحا غاية الشح، إلا أن يكون له من وراء السخاء منفعة مادية، هنالك ينفق عن سعة ولكن بحساب، عابه أحد أصحابه يوما لعبادته المال وحرصه عليه، وكان صاحبه هذا مولعا بالتحف والصور الزيتية ينفق في اقتنائها الشيء الكثير، وكان جواب الغني الشحيح على ما عابه به صاحبه صريحا واضحا، قال: «أوتستطيع أن توضح لي سبب اقتنائك هذه الصور التي تزين جدران بيتك، وهذه التحف الكثيرة المنشورة في أرجائه، وهي تكلفك الألوف؟!» ودهش صاحبه وقال: «عجبا لك يا أخي! ألا تعرف شيئا اسمه الجمال وذوق الجمال والمتاع به، إنني إذ أقف أمام هذه الصور وهذه التحف أتأملها أشعر بمتاع يتضاءل المال إلى جانبه، ويهون في سبيله، إنما المال يا أخي وسيلة للمتاع بالحياة وجمالها، فإذا نحن لم ننفقه واكتنزناه لم نعرف للجمال قدرا، ولم نسغ للحياة طعما.» قال المؤمن بالمال: «إني أوافقك على كل ما قلت، ولا أخالفك إلا في استنتاجك الأخير، أنت تعشق الجمال، وترى في اقتناء الصور والتحف - وإن كلفتك من المال ما كلفتك - وسيلتك إلى المتاع بالحياة، وأنا أرى في المتاع بالحياة رأيا آخر؛ إني حين أتناول كشف حسابي من البنك آخر كل شهر وأرى رصيدي فيه يزداد، أشعر بمزيد من العزة والسلطان يضاعف متاعي بالحياة، ولا تثريب علي ولا عليك إذا اختلف ذوقنا في المتاع بالحياة، واختلفت وسيلتنا إلى هذا المتاع.»
ولم يكن للمليونير كذلك إيمان عميق بغير المال، فكان غرامه بالنساء هوى طارئا لا عمق فيه، وكان تعلقه بمتع الحياة سطحيا لا يعنيه منه إلا المظهر البادي للناس يرضي به غرور نفسه وكبرياء سلطانه، كان لكاتب صحفي دالة عليه، ولقد زاره يوما وأخذ يتحدث وإياه في أمور جارية لا نتيجة لها، ودخل السكرتير وأخبر المليونير أن أحد أصحاب الدولة السابقين يستأذن عليه، وكان صاحب الدولة السابق هذا عضوا منتدبا لإدارة شركة من شركات المليونير، وأجاب الرجل سكرتيره: «قل له فلينتظر فلي حديث معه»، فلما انصرف السكرتير قال الصحفي: «ليس بيننا حديث ذو شأن حتى تنظر رجلا في مقام صاحب الدولة هذا»، وكان جواب المليونير: «بالله عليك خبرني، أتحسب أني - ولي من الثراء ما لي - آكل خيرا مما تأكل، أو ألبس خيرا مما تلبس، أو أنام في فراش أوثر من فراش نومك؟ لا شيء من كل هذا، فأي قيمة للثراء إذن إذا لم أشعر أني أستطيع بفضل سلطانه أن أدع صاحب الدولة هذا وأمثاله ينتظرونني إن أمرت، ويدخلون علي إن شئت؟»
كنت قد سمعت هذه القصة، وخشيت أن ينال زوجي ما نال صاحب الدولة يوم يعلم المليونير أنه يطمع منه في قرض، على أن زوجي لم يخبرني من ذلك بشيء، ولم أسأله أنا عن شيء، لكني لاحظت بعد أن تم القرض أن المليونير قل تردده علينا، وكان أكثر مجيئه حين يكون زوجي في عمله، وكنت ألقاه متلطفة في مودة، فإذا عاد زوجي من عمله أخبرته بمجيئه، وقصصت عليه ما دار بيننا من حديث، فلا يعلق على ذلك بكلمة، وكأن رجلا لم يقابل زوجه، ولم يقل لها عبارة مجاملة.
أدهشني هذا الجمود من زوجي؛ فلا تحركه أية غيرة علي، أنا التي فعلت ما فعلت لغير شيء إلا لعنايته بميراث صديقتي وأطفالها، أتراني أحبه وهو لا يحبني؟ أم أنه طراز من الرجال لا يعرف كيف يعبر عن حبه برغم تعلقه بي؟ أنا لا أطلب إليه أن يكون شاعرا يتغزل في، ولكني أريد منه أن يتحدث إلي ويصغي لحديثي في إعجاب كما يفعل صديقنا، وكما يفعل غيره من الرجال الذين يقضون الساعات مصغين وعيونهم تناجيني في صمت وإذعان، ألا تعسا ليوم ربط الزواج بيني وبينه فيه! ولكن ماذا عساي أن أفعل وهذان الطفلان يوثقاننا في رباط يتعذر الفكاك منه؟
ولم أكن أستطيع أن أشكوه إلا لصديقنا، فزوجي اليوم طبيب مشهود لطبه بين زملائه وبين مرضاه، ولو أنني شكوته إلى أبي لرماني بالجنون، ولنسب جنوني إلى خلة ورثتها من أمي، فذلك دأب الرجال ينسبون فضائل ذريتهم إلى ما ورثوه منهم، وينسبون عيوبها إلى ما ورثوه من أمهاتهم؛ ذلك شأنهم ولو كانت الأم لا تزال معهم وكانوا لا يزالون يحبونها، ما بالك بهم إذا انفصلت الأم عنهم أو ماتت وحل غيرها محلها عندهم؟!
والآن ماذا أفعل إزاء ذلك الجمود الذي يلقاني به زوجي؟ إنه لا يزيد على أن يسألني عن حاجاتي وحاجات أطفالي، فإذا ذكرتها قضاها أو أتاح لي فرصة قضائها، لكنه لم يعن يوما بثوب جديد أرتديه، ولا بقبعة ألبسها، ولا بحذاء أنتعله، ولم يقف أمام شيء من ذلك مثنيا في إعجاب، وهو إنما يتحرك بعض الشيء للجديد الذي يلبسه الطفلان، هذا وما حباني به القدر من جاذبية استهوت كثيرين لا يحركه نحوي، ولا يثير غيرته علي، وقد حاولت أن أحرك هذه الغيرة في نفسه في أثناء مرحنا في الليالي القمرية التي نعمنا بها مع أصدقائنا الذوات فلم أنجح، أتراني انهزمت، ويجب أن ألقي سلاحي؟! لكنه لم يجرحني يوما بكلمة ولم يغض يوما عن تلبية رغباتي ما استطاع، ولم تتغير معاملته لي قط، ولم أعلم من صلاته بصديقتي ما يثير شبهاتي، وإن أثار غيرتي.
ولم يكن صديقنا يزيد حين أذكر له ما يعنيني من خلجات نفسي على أن يسخر مني ومن نزعاتي الخيالية نحو رجل لم يهبه القدر ذرة من نعمة الخيال، وانتهى بي الأمر إلى أن أستسلم للمقادير، وأن أذعن لقضاء الله في.
وأقبل الصيف فقضى زوجي جانبا منه في ربوع لبنان، وبقيت أنا وأطفالي بالقاهرة، والعجيب أنه كان يحدثني كل يوم بالتليفون من مصيفه يسأل عن صحتنا وحاجاتنا، مما يشهد بشديد عنايته براحتنا وطمأنينتنا، وعظيم حرصه على أن يطمئن علينا، أم تلك نعرة الفلاح يريد أن يتظاهر أمام أصحابه الذين يصطاف معهم بأنه أكثرهم جميعا برا بأهله وعطفا عليهم؟
وبقيت في حيرتي، تضيق نفسي أحيانا، وتدفعني إلى الثورة على ما أنا فيه، وأستسلم أحيانا أخرى إشفاقا على طفلي أن يصيبهما من ثورتي ما يفسد حياتهما. وأفكر في أثناء ثورتي وأثناء استسلامي في هذا القضاء الذي نزل بي، وفرضته الأقدار علي، والذي جعلني أضطرب في حياتي ولا أعرف لها مستقرا.
وهداني تفكيري آخر الأمر إلى خطة رسمتها، واعتزمت تنفيذها، فما الذي يمسكني في هذا الوضع؟ هو شعوري بأنه مفروض علي ولا فكاك لي منه، ومبعث هذا الشعور حرصي على مستقبل الطفلين، فلو أنني تخلصت من هذا الشعور واسترددت استقلالي لاستطعت أن أصور حياتي على ما أريد، وأن أطرح كل ما أضيق به، فكيف أبلغ هذه الغاية، وأحقق هذا الغرض؟
فكرت أولا وقبل كل شيء في أمر الطفلين، وقررت أني لن أتخلى بحال عنهما وأدعهما لأي سبب لأبيهما، هما منعاني من الانتحار مخافة يتمهما، فليس يجوز أن أراهما بعيني يتيمي الأم وأنا على قيد الحياة؛ إنهما يتقدمان الآن من الطفولة إلى الصبا، وهما مبعث سروري ومصدر ما أشعر به أحيانا من السعادة، فمن الحمق الذي لا حمق بعده أن أحرم نفسي منهما، وأحرمهما من حناني وعطفي، وهما لن يشعرا قط بالحرمان من أبيهما، فعمله يشغله عنهما، وهو قليلا ما يراهما، لا بد لي إذن من أن أحتفظ بهما، وأن أبذل في سبيل ذلك كل ما أستطيع بذله.
ثم يجب أن أوفر من المال كل ما أستطيع ليكون سندي في تنفيذ خطتي؛ ولهذا فتحت لنفسي حسابا خاصا في البنك، جعلت أودع فيه كل ما يصل إلي من والدي، وكل ما أقتصده من نفقات المنزل ومن أي مصدر أحصل عليه لي وللطفلين، قد لا يكون ذلك وفيرا، وقد يحتاج اقتصاد مبلغ ذي قيمة إلى سنوات، لكن الخطة التي رسمتها للنضال كان أساسها الصبر والاحتمال، فليس يسيرا أن ينجح في نضال من ليس يستطيع الصبر، وأنا بعد أدافع عن حريتي وعن كرامتي، وذلك نضال لا أذكر أن مصرية سبقتني إليه، بل قل أن سبقتني إليه في غير مصر امرأة يحيط بها وبمجتمعها ما يحيط بي من ظروف.
وكانت الخطوات الأولى لتنفيذ هذه الخطة بطيئة بالفعل، انقضت الشهور الأولى ولم أستطع أن أقتصد شيئا يذكر، وشعرت إثر انقضائها بشيء من اليأس في نجاح ما اعتزمت، وبدا لي أني لو سلكت خطة أخرى، فهاجمت زوجي في سمعته الطيبة - وبخاصة فيما يتصل بعنايته بصديقتي وبميراث أطفالها - فقد أختصر الطريق إلى غايتي، ولعلي أشرت إلى شيء من هذا في حديث جرى بيني وبينه في نوبة غضب لم أملك معها صوابي، فقد جاءني صديقنا يوما متجهما، فلما سألته عن سبب تجهمه قال: «هو هذا الجنون الذي قام برأسك وجعلك تهددين زوجك بتحطيم سمعته، بل بتحطيم حياته، أولا تعلمين أن ما يمس زوجك يمس طفليك في صميم حياتهما؟ إنهما ابناه رضيت أنت أم أبيت، فإذا حاولت أن تشوهي سمعته أو تحطمي حياته فاعلمي أن الحجر الذي تقذفينه يصيبهما قبل أن يصيبه، ولن يقول الناس يومئذ إنك زوج غاضبة أو عاقة، بل سيقولون إنك أم شريرة، وقد يقولون أكثر من هذا، وقد جئتك الآن لتقسمي أمامي بحياة طفليك أنك لن تجازفي بشيء من هذا الجنون، الذي يضر بك قبل أن يضر بأي إنسان آخر، ولن أقبل يمينا أخرى غير حياة هذين الطفلين العزيزين عليك، فأنا أعلم أنهما أعز عليك حتى من نفسك.»
ووجمت برهة غير قصيرة تردد في أثنائها أمام خيالي طيف الطفلين؛ فانحدرت من عيني دمعة قلت بعدها: «أعدك بألا أفعل، وأرجوك في ألا تلح علي في هذا القسم الذي تطلب، فلن أستطيع أن أقسمه، لكن هذا الوعد الذي بذلته لك وعد قطعته ولن أخل به إلا أن يكون ذلك بعلم منك.»
ويظهر أن موقفي هذا قد كان له أثره، فقد بدأ زوجي يسخو في النفقة سخاء لم يكن لي به من قبل عهد، لم أكن أطلب شيئا للمنزل أو لي أو للطفلين إلا أجابني إلى ما أطلب، ووضع في يدي من المال أكثر مما أرغب فيه، بذلك بدأت خطتي المرسومة تنجح على نحو لم أتوقعه، وبذلك أخذ رصيدي الخاص في البنك يزداد شهرا بعد شهر، وأخذت أشعر أنني أمهد بالفعل لاسترداد حريتي، وأن شيئا من الصبر كفيل بأن يفتح لي باب الخطوة الحاسمة لاستكمالها.
وتوفي والدي وأنا في صميم هذه المعركة الصامتة أناضل نضال امرأة مست عزتها وجرحت كرامتها، وقد حزنت أشد الحزن لوفاة هذا الوالد البر الحنون الذي لم يذكر والدتي يوما بسوء، وطالما أسدى إلي أصدق النصح وأحكمه، على أن وفاته قربتني من الأمل الذي كان يداعبني في استرداد حريتي، ولم يكن ذلك لأني ورثت عنه مالا يعتمد عليه، فقد رزقت زوجه الثانية عديدا من الأطفال، فتت تركته وجعل الاعتماد على حصة كل وارث فيها غير مستطاع لمن كان في مثل مكانتي، ولكني أحسست بوفاته أني أصبحت طليقة من قيود معنوية كان وجوده يفرضها علي.
على أنني رأيت أن أدع العيدين يمران على وفاته قبل أن أتخذ أي موقف حاسم؛ وذلك إرضاء لذكراه، وحتى لا يقول الناس إنه - عليه رحمة الله - هو الذي كان يحمل زوجي على إمساكي، بذلك انقضت شهور ستة تابعت فيها خطتي، وازداد خلالها رصيدي في البنك، ورأيت بعدها أن أخطو الخطوة الأخيرة؛ أضطره بها أن ينزل على كل ما أريد.
استغرقت خطتي منذ بدأت تنفيذها إلى ذلك اليوم ما يزيد على ثلاث سنوات خيل إلي أن ما أتممته فيها كفيل بأن يثير زوجي، ويحمله على التسليم من غير قيد ولا شرط، فقد عزلته في غرفة في أقصى المنزل نقلت إليها سرير نومه وكتبه وأدواته الطبية، وكنت أتناول الطعام أحيانا وأخرج من المنزل قبل أن يحضر، وكنت أقص عليه أحيانا في ازدهاء وعلو ما يغمرني به المعجبون من عبارات الثناء التي تثير غيرته، وكنت أبالغ في الإنفاق مبالغة ينوء بها إيراده من عمله، وإيراده من ثروته، وتحمله من غير شك على الاستدانة، وكنت أفعل هذا كله متعمدة إساءته وإثارته ، وكنت أحسب أنه سيجيء يوما وقد فاض معين حلمه وطار صوابه ليقتلني أو ليضربني غير عابئ بالنتائج، أو أنه سيقول لي يوما: «لك ما شئت على أن ننفصل وأتخلص من هذا السعير الذي أعيش فيه»، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل ظل الرجل يتحمل كل ما يلقاه مني في صبر، وكأن حبنا المتبادل أو زواجنا لا يزال يملأ قلبه، وكأن ما أوجهه له في وجود أصدقائنا وصديقاتنا لا يحرك شعرة من إبائه وكرامته، ولقد عجبت لهذا الإذعان المطلق من جانبه حتى ظننت يوما أنه مدبر أمرا ضدي، وفكرت ما عسى يكون هذا الأمر لأفسده، ولكن مر الأسابيع والشهور أقنعني أن إذعانه عجز، وأنه أضعف من أن يقف رافعا رأسه أمامي.
وأعجب من ذلك أنه لم يكن يناقش قط في أثناء هذه الفترة الأخيرة في أمر الطفلين وطريقة تربيتهما وتعليمهما، بل كان يقر كل تصرفاتي بشأنهما من غير بحث، فكانا يلبسان كما أشاء، ويذهبان إلى المدرسة التي أختار، وكان لمربيتهما رأي تأخذ وتعطي فيه معي حين لا يقول هو شيئا، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنهما ليسا ولديه.
وكانت حالته هذه تثير إشفاقي عليه أحيانا، فقد بدا لي أنه انحلت همته، وتضعضع عزمه، وتداعت إرادته؛ فأصبح كأولئك الذين يصيبهم الانهيار العصبي، فهم يبثون كل إنسان شكواهم، ولا يعرفون كيف يواجهون الحياة وأعباءها، وهم يخشون يومهم وغدهم، ويحسون الخطر في كل لحظة يهدد وجودهم، وطبيعي أن تأثر بهذا الاضطراب عمله في عيادته، وتزعزعت ثقة مرضاه به، ولكني مع ذلك لم أكن مستعدة لتخفيف طلباتي المالية منه؛ لذلك اضطر أن يلجأ إلى كبير في الدولة يرجوه أن يسند إليه منصبا طبيا فيها، وكان هذا الكبير يعلم من أمره لكثرة ما سمع به ومنه ما أثار شفقته، فأسند إليه عملا محترما لا يحتاج إلى مجهود فكري، فهو إشراف إداري على طائفة من الأطباء الناشئين في مصلحة كبرى، وما لبثت حين علمت بذلك أن اطمأننت إلى أنني في حل من أن أمتص مرتبه هذا أو معظمه، فطفلاي أولى به من أبيهما، ومن الواجب علي وحدي أن أفكر في مستقبلهما.
ترى هل بقيت فيه بعد كل الذي مر به بقية للنضال، أم تراه أصبح كالجدار المتداعي، لا يلبث حين تعصف به الريح أن ينقض وينهار؟ لقد خيل إلي يوما أنني لو طلبت إليه أن ننفصل بالطلاق فإنه لن يتردد في ذلك، بل يتلقاه شاكرا متنفسا الصعداء، مؤمنا بأنه قد آن له أن ينتقل من الجحيم إلى المطهر في انتظار يوم تتم عليه مغفرة الله فيه، لكني خشيت إن أنا أقدمت على هذه الخطوة بنفسي أن يعاوده عناد الفلاح فيرفض لغير شيء إلا التشبث بهذا العناد، لهذا آثرت أن ألقي على صديقنا هذا العبء، فإن نجح فيه في غير مشقة فذاك، وإلا أقدمت على الخطوة الحاسمة التي اعتزمتها.
ودعوت صديقنا واتفقت معه على أن يذكر لزوجي أن الحال التي يعانيها لا تحتمل، وأنه رحمة به يرى أن يخاطبني في أن ننفصل بالطلاق، فإن أنا قبلت ذلك ولم يدفعني العناد إلى لدد في الخصومة كان ذلك خيرا له ولي، واضطلع صديقنا بهذه المهمة وخاطب زوجي كما اتفقنا، لكنه عاد يذكر لي أن زوجي أجفل حين سمع كلمة الطلاق، وقال له: «وماذا يقول الناس عنا؟ وماذا يكون مصير طفلينا؟ إنني احتملت وأحتمل ما تعلم، وأكثر مما تعلم، حتى لا يشمت الشامتون بنا، وحتى لا يشعر الطفلان بأنهما ليسا كغيرهما من أبناء طبقتهما، وأنا لا أزال أطمع في أن يرد الصبر إلى زوجي رزانتها وحكمتها، بل إني لأعتقد أنها لو خوطبت في هذا الأمر الذي تخاطبني فيه لكانت أكثر مني إنكارا له وتقززا من الكلام فيه.»
وعجبت لما سمعت! لقد كنت أتوقع أن يغتبط الرجل بفكرة انفصالنا، وها هو ذا يفزع منها وينفر أشد نفار، ولست أحسبه يفزع وينفر تعلقا منه بي، أو تلبية منه لداعي محبته إياي، فلو أنه أحبني كما أحب ليلى المجنون لما بقي في قلبه أثارة من هذا الحب بعد الذي صنعته معه.
وهنا برقت أمامي فكرة آمنت بأنها التصوير الصحيح لما بعثه على أن يرفض طلاقي، لقد خيل إليه أن صديقنا يريد أن ننفصل لأتزوجه، فقد أذاعت صديقتي هذا الحديث بعد انقطاع ما بيننا وألحت في إذاعته، وأكبر ظني أن ما تذيعه صديقتي يؤمن به زوجي، ولذلك عاند وتشبث بعناده. نعم، ذلك باعثه على رفض ما عرض عليه أن ننفصل بالحسنى، أما وذلك شأنه فلم يبق لي مفر أن أنفذ خطتي، ولا أظنه يستطيع مقاومتها، ولو جمع في نفسه مكر الفلاحين جميعا، بل مكر النساء جميعا.
وقررت أن أنفذ هذه الخطة منذ غد!
الفصل السابع
لزوجي أصدقاء كثيرون من خيرة طبقات القاهرة، يجتمع بهم في ناد من أنديتها، وقد كان يتناول طعامه في هذا النادي في أثناء غيابنا في أوروبا، كما كان يتناول بعض وجباته فيه إذا اضطره عمله للتخلف عن الحضور إلى المنزل في الظهر أو المساء، أو لو حملته على أن يتناول أكثر وجباته هناك، وأمعنت بذلك في إبعاده عنا وعن المنزل، أولا يشعر بالوحدة شعورا يهون عليه أن يقبل الانفصال الذي أريده؟
وتنفيذا لهذا التصميم كنت كثيرا ما أطلبه في المساء في النادي، وأبلغه أن المنزل لا طعام فيه، وأنه إن شاء أن يتناول طعاما فليتناوله في النادي، ولعله لم يكن يضيق بذلك ويتأذى منه، ولعله كان يجد فيه فرصة لإطالة المقام بين أصدقائه، فإذا جاء إلى المنزل في موعد النوم لم يزد على أن يبادلني تحية المساء ويذهب إلى غرفته، ولم أكن صادقة في كل المحادثات التليفونية معه، فكثيرا ما كان يتناول العشاء معي في تلك الليالي أصدقاء وصديقات يسر زوجي بالوجود معهم، وفي هذه الليالي كنت أشد حرصا على بقائه بعيدا عن المنزل حتى لا يجد ما يحببه فيه ويدعوه إليه.
وللمصادفات في حياتنا الإنسانية تصاريف عجب، فقد كلمته ذات مساء ليتناول طعامه في النادي، وكانت عندي ليلتها وليمة دعوت إليها عددا من أصدقائي الذين يسرون بلقائه، فلما حضروا ودعينا إلى المائدة سأل بعضهم عنه، فذكرت أنه اعتذر لي في اللحظة الأخيرة لأمر طرأ عليه، وإننا لنتناول الطعام إذ دخل هو علينا ووقف واجما ينظر إلى هذه المائدة الفاخرة، ويذكر قولي له إن المنزل لا طعام فيه، وأخذت حين رأيته في موقفه منها وكدت أضطرب، لكني ملكت نفسي وقلت في عبارة حاسمة إنه لا مكان له على المائدة، وأراد بعض الحاضرين أن يفسح له مكانا، فقلت في لهجة الحزم: «فليبق كل في مكانه، أما هو فلا مكان له بيننا»، وساد الحضور - وبينهم صديقنا - وجوم استمر حتى خرج زوجي من قاعة الطعام معتذرا في ابتسامة متكلفة بأنه أكل قبل أن يحضر إلى المنزل، ثم عدنا إلى أحاديث تافهة نقطع بها جو هذا الوجوم.
وفي الغد تناول زوجي طعام الظهيرة خارج المنزل، ثم جاء مبكرا في المساء فألفاني وحيدة في غرفة نومي، وقد تزينت لسريري زينة كلها الإغراء، وقد ألف بحكم مهنته أن يجلس على سرير المريض حين يفحصه، وكثيرا ما كان يجلس إلى جانبي هذه الجلسة فيما مضى، أما اليوم فلم يفعل، بل جر كرسيا إلى جانب السرير جلس عليه، وارتسم على وجهه من سيما الحزم ما لم أتعوده منه قط، ثم قال: «اسمعي، إنني أريد أن أحدثك في هدوء فإياك أن تفسدي علي هدوئي، إن ما حدث منك أمام ضيوفك أمس لا يصدر عن سيدة ولا امرأة من حثالة الناس، لقد تحملت منك ما تحملت حتى اليوم لغير سبب أعلمه، ولقد تحملته لا خوفا منك، ولكن خوفا عليك، وخوفا عليك من نفسك؛ فأنت امرأة مريضة النفس، لا تنظرين إلى الحياة بالعين التي ينظر بها الأصحاء، بل متأثرة بعاملين هما مصدر علتك وسبب مرضك النفسي، هذان العاملان هما: الغرور والغيرة، برغم ذلك أحببتك ولا أزال أحبك! وحبي إياك من أجلك ومن أجل طفليك، هو الذي يجعلني أحتمل منك ما احتملت، وأن أصبر عليه ما بقي أمره بيني وبينك، آملا أن يشفيك الله يوما فيثوب إليك رشدك. أما أن يبلغ الأمر إهانتي على نحو ما حدث أمس فذلك ما لا قبل لي باحتماله، ويجب أن تعلمي أن هذا البيت بيتي أنا، وأن الذين يدخلونه يدخلون بيتي أنا، وأنت تقيمين فيه وتدعين أصحابك إليه لأنك زوجتي، وأحسبك تقرين هذا ولا تجهلينه، فلو أننا انفصلنا غدا بالطلاق كما طلب إلي صديقنا أن أفعل لما بقي لك في هذا البيت مكان، ولما استطعت أن تستقبلي فيه أحدا.»
كنت أسمع كل كلمة من كلماته هذه كأنها خنجر يطعنني في صميم كرامتي، ولكني كظمت غيظي وحبست دموعي، حتى إذا أتم مقاله أجبته في هدوء: «وماذا عليك إذا أرحت نفسك وأخرجتني من هذا البيت ليكون لك وحدك، أو لمن يرضي قلبك أن يحل فيه مكاني؟!»
لم أكد أتم هذه الكلمة حتى رفع يديه وقال: «الآن أيقنت أني أخطئ في تقديري، فصديقنا لم يحضر ولم يكلمني في طلاقك من تلقاء نفسه، بل اتفقتما معا لغرض تضمرانه، لكني لست من السذاجة بما تتوهمان، إنني لن أنيلكما ما تبغيان، ولن أجعل نفسي وأجعلك وأجعل طفلينا أحدوثة الناس، كلا! لن أفعل، لن أطلقك وإن تحملت في سبيل إمساكك أضعاف ما تحملت، كلا، لن أنيل هذا الجاحد للأخوة الخائن للصداقة ما يريد، أوتستطيعين أن تقولي كيف عرفته؟ أولم يكن صديقي الحميم وأنا الذي قدمته إليك وائتمنته على شرفي وعرضي، واتخذت منه أخا فخان مودتي، وتسلل إلى قلبك مكاني؟! يا له من غادر مخادع! إني أحذرك مغبة السير وراءه، والانخداع بمعسول كلامه، إنك لا تزالين في أعين الناس السيدة المحترمة الشريفة التي تحمل اسمي، فلا تدعي هذا الماكر الخائن ينفث في فؤادك سمومه، ويدع الناس يتقولون عليك ما أنت بريئة منه، ويتهمونك باطلا وأنت الطهر والعفاف والكرامة والشرف.»
وهنا بدأ الرجل يضطرب كأن به الحمى، وأمسك برهة عن الكلام، ولم أجد وهو في هذه الحال ما أجيبه به، فقد غلبتني الرأفة بحاله، وخشيت إن أنا قلت شيئا أن يزداد اضطرابه.
وبدأ عليه شيء من الهدوء الظاهر، لكن نفسه كانت تتعذب، وكانت عيناه تنمان عن هذا العذاب الذي يتأجج في صدره، ولقد مر بخاطري في أثناء صمته أن تمنيت لو أنه ثار هذه الثورة منذ شهور وسنين، وتمنيت لو أنه يومئذ حطم كبريائي وإن أدت به الحال أن يضربني، فلو أنه فعل يومئذ لاعتقدت أن لي عنده مكانا، وأنه يريد أن يدافع عني غيرة علي، وإني لتمر بي هذه الخواطر وأشباهها إذ رأيته يمد يده ويسحب يدي في رفق ويقول، وقد تندت عيناه وانخفض صوته: «بالله خبريني، لم تعاملينني هذه المعاملة؟! إني لا أزال أحبك كما أحببتك يوم زواجنا ومن قبل زواجنا، وهذا الحب هو الذي يجعلني أحتمل منك ما لا يمكن - لولا الحب - احتماله، أويرضى قلبك أن ينخدع بصديقنا فينكر ماضينا، وينكر أبوتي لطفلينا؟ بالله عليك! بحق هذين الطفلين العزيزين، إلا ما راجعت نفسك، واتقيت الله في نفسك وفينا جميعا.»
كدت أشفق عليه وأضعف لضعفه، بل كدت أتلطف معه وأعتذر عما بدر مني أمس له، ولكني ما لبثت أن رأيت طيف صديقتي يتبدى في خيالي، ويجفف في عيني عبرات كانت توشك أن تنحدر، عند ذلك سحبت يدي من يده، واستويت جالسة في سريري، ونظرت إليه بعينين انقلب حنانهما حزما، بل قسوة، وقلت: «يرحمك الله يا صديقي! لقد كدت تمس قلبي كما لم تمسسه من قبل قط، فما عهدتك في كل ما خلا من سني حياتنا تتقن التمثيل المسرحي، وتستطيع أن تتلاعب بالعواطف، أما اليوم فما أبرعك ممثلا تتقن الأدوار المتناقضة، فأنت «روميو» وأنت «عطيل» في وقت معا! أتراك لعب بك إغرائي وأنا في هذا السرير فانتقلت من التهديد الذي حفظت دوره قبل أن تحضر إلي، إلى الاستعطاف وإلى الحديث عن الهوى والغرام؟! وإني لأسأل نفسي ولك هذه المقدرة: أي دور تمثل حين تلقى صديقتي؟ أحسبك حين تراها لا يبقى أمامك من الوجود كله سواها، فهي أمامك الشمس والقمر، ولعلها في نظرك أبهى من الشمس والقمر.
أيقظته عبارتي الأخيرة فنظر إلي بعينين فيهما عطف وفيهما حزم، وقال: «حسبك الله يا ظالمة، فأنت تعلمين أني لو أردت أن أتزوج صديقتك بعد وفاة زوجها لما عزت نفسها علي، وأنني لو أردت أن أتزوجها بعد أن بدا اليأس لها من صديقنا لاستجابت في غير تردد، وأنني لو أردت أن أتزوجها اليوم أو غدا لقبلت في اغتباط أي اغتباط، لكني لم أفكر قط في أن أتزوجها، ولن أفكر في ذلك، فهي لي منذ مات زوجها بمثابة الأخت المحرمة علي، وأنت تعلمين أني أعرفها وأعرف أسرتها منذ بدأت أمارس مهنة الطب، ولعلي فكرت في أن أتزوجها قبل أن أعرفك، وأن يكون بيننا من الود ما أدى إلى زواجنا، ولم أجرب عليها من يومئذ إلى اليوم ما يمس شرفها وعفافها برغم ما تتهم به من خفة، وبرغم جمالها الفاتن، فبالله عليك لا تسرفي في تصوير عواطفي نحوها، فعواطفي كلها لك، وليس بيني وبين صديقتك إلا الإخاء يدفعني إليه سابق معرفتي بها وبأسرتها وبزوجها.»
دهشت لهذا الدفاع الحار عن امرأة قاطعتني، وأذاعت في كل مجتمعات القاهرة ما أذاعت عني، فلو أن عواطف زوجي كانت كلها لي كما يقول لغضب لي من صديقتي، ولما ذكر جمالها الفاتن وريقه يتحلب، وكأنما يريد أن يطير إليها ليستمتع بنظرة من عينيها الساحرتين، لذلك قلت له: «إنك يا صديقي لست ممثلا بارعا وكفى، بل أنت محام بارع كذلك، وكنت أود أن تكون قضيتي أقرب إلى قلبك من قضية صديقتي، فتدفع تخرصاتها عني في كل مجالسها بهذه الحماسة التي تدافع بها عن عفافها وشرفها.»
وبعد هنيهة أردفت: «ولو أنني أردت أن أدافع عن صديقنا - كما تدافع أنت عن صديقتي - لما أعوزتني الحجة الصادقة، فهو لم يخنك كما تزعم، ولم يحاول التسلل إلى قلبي، ولكني أشعر بأن حديثنا الليلة طال، وأن من الخير أن تنسحب أنت إلى غرفتك، وأن تدعني أستريح في مخدعي.»
وابتسم هو وقد بدا عليه شيء من الاطمئنان، أو من الإذعان، وأطفأت أنا مصابيح الغرفة، وحاولت أن أنام فذهبت محاولتي عبثا، فقد أخذت أستعيد الحديث الذي دار بيني وبين زوجي كلمة كلمة وحرفا حرفا، ثم أخذت أفكر كيف أواجه هذا الموقف؛ فلو أن هذا الحديث جرى بيننا قبل أن أوجه إليه في وجود أصدقائنا تلك الإهانة التي أدمت قلبه ودفعته لما فعل لكان لي فيه رأي، أما وقد شعر بأني أتعمد إحراجه، فأراد بما فعل أن يفسد خطتي، فلن أمكنه مما أراد، لقد تحطم ما بيننا منذ عهد طويل، وهو قد واجهني خلال هذا العهد كله بجمود يدل على أنه لا يحس نحوي بأي عاطفة، فمجيئه اليوم بعد اللطمة القاسية التي نالته مني يتحدث عن قلبه وحبه ليس إلا أحبولة يتوهم بها القدرة على تغيير ما استقر عليه عزمي، وذلك ما لا سبيل إليه.
وفكرت فيما عساي أفعل في هذا الموقف الذي خلقه هو بأسلوب لا يخلو من براعة، واستقر بي الرأي بعد طول الروية على أن أكتب إليه خطابا يكون عريضة اتهام، وإنذارا نهائيا في الوقت نفسه، وأردت بالفعل أن أبدأ الكتابة رغم تقدم الليل، ولكني شعرت بالجهد، فأطفأت الأنوار من جديد ولزمت سريري.
وكان النهار ضحى حين استيقظت في الغداة أجمع أعصابي المهدمة، وسألت عن زوجي فإذا هو قد استيقظ وتناول فطوره وخرج كعادته إلى عمله، وشعرت بالضيق يكاد يخنقني، وبالحاجة إلى الهواء أتنفسه، وكأن المنزل على سعته لم تبق فيه أثارة من هواء؛ ولذا قمت فتناولت فنجانا من اللبن والقهوة، واكتفيت به عن كل فطور، وخرجت إلى الشوارع ألتمس فيها متنفسا، وجعلت أسير حتى انتهيت إلى حدائق الجزيرة، هنالك وقفت على شاطئ النيل أستنشق الهواء ملء رئتي أسترد به نشاطي وهدوء أعصابي، فلما ردت إلي حيويتي أخذت أفكر فيما حدث أمس، وفي الخطاب الذي أكتبه إلى زوجي.
ولم تطاوعني نفسي على العودة إلى المنزل ساعة الظهيرة، وتابعت السير حتى بلغت حديقة الحيوان، فدخلتها وذهبت إلى جزيرة الشاي، وتناولت فيها طعام الغداء، جالسة إلى مائدة على حافة بحيرتها الصغيرة، ونظري كله إلى الماء، وإلى الطيور الجميلة التي تعوم فيه، وفكري مشتت يحاول أن يجمع ما يحويه خطابي إلى زوجي، فلما كانت ساعة الشاي أقبل قوم وعليهم سيما المرح، وفي أصواتهم رنين المسرة ، وأفسدت ضجتهم الطروب علي خلوتي، فغادرت مكاني وخرجت من الحديقة، وناديت سيارة أقلتني إلى المنزل.
فلما احتواني المنزل عاد الضيق يأخذ بخناقي، فذهبت إلى غرفتي، وجلست إلى نضد زينتي، وهيأت منه مكتبا، وأخذت أدون ما أريد أن أكتبه لزوجي، لقد كانت الكتابة تستعصي علي حين ألجأ إلى الحجة والمنطق، فإذا أرخيت العنان لعاطفتي وما تتنفس عنه اندفع قلمي لا يكبو ولا يتعثر، وسطرت بضع صفحات أعدت قراءتها فإذا هي ليست عريضة اتهام وكفى، بل تأنيبا موجعا في لهجة مقذعة لا تتفق ومألوف رزانتي واتزاني، ولا مع الهدوء الذي حاول زوجي به أن يصوغ كلامه لي، لذلك أعدت الكتابة وحاولت التخفيف من حدتي، لكني لم أستطع أن أكون هادئة ولا موجزة، بل كتبت عشرات من الصحف كانت سطورها تتدافع إلى قلمي، ولا تكاد يدي تجاريها في سرعة تدفقها لتدون كل كلمة من كلماتها، فلما فرغت من تدوين الكتاب وراجعته بعثت به إليه، وأقمت أنتظر النتيجة التي يرتبها عليه.
ولست أريد أن أنقل نص ذلك الكتاب إلى هذه القصة، وأنا كلما تلوته بعد السنين التي انقضت على كتابته خجلت وتولتني الدهشة كيف استطعت أن أفرغ كل ما فيه من قحة وإقذاع! وحسبي أن أذكر أنني قلت فيه إنني لم أشعر بالسعادة منذ زواجنا يوما من الأيام، وإن مسلكه فيما ادعاه من معاونة صديقتي للحصول على ميراثها وميراث أبنائها كان معيبا دنيئا، وإنه أهملني وأهمل ولدينا وكأننا من سقط المتاع، وإنه عاملني كما لو كنت خادمة أبيه، وإنه كان يغتبط بسفري إلى أوروبا ليخلو له الجو ليندفع في تيار أهوائه ومفاسده، وإنه ضيق الفكر ريفي العقلية إلى الحد الذي جعله يقول لي في آخر حديث له إن هذا البيت بيته، وإنني أقيم فيه بأمره وإذنه وتسامحه. وذكرت أنني لن أبقى في هذا البيت، ولن يعرف هو بعد ذلك مقري، وأنه يستطيع إن شاء أن يطلبني إلى بيت الطاعة، وإنني أتحداه أن يفعل ليتيح لي فرصة الدفاع أمام القضاء عن نفسي وعن حياتي التي حطمها، ولأتمكن بعد ذلك أن أطلب الانفصال عنه، ويومئذ لن يتردد قاض في الحكم لي، ثم يعلم الناس كم قاسيت في سبيل المحافظة على سمعته وسمعتي، لا حبا إياه ولا حرصا على الحياة معه، لكن من أجل طفلينا حتى لا يصيبهما رشاش من مسلك أبيهما المشين.
ولم أتحرج حين الحديث عن معاونته صديقتي في أن أصفها بما أعتقد أنها أهل له، وأن أذكر أن صلاته بها أوحت بها الأهواء، ولم توح بها المروءة ولا الإنسانية! كما أنني ذكرت له أنه سبني سبا قبيحا حين تكلم عن صديقنا وزعم أني دبرت معه أن يتحدث إليه في أمر طلاقي منه لغرض في نفسينا، وأعدت في خاتمة الكتاب أنني لن أراه، ولن أسمح له بأن يراني، وأنني لن أبقى في بيت يسميه بيته، وأنه لن يعرف لي مقرا، وأنني أحتقر نفاقه حين يزعم لي أنه لا يزال يحبني، وأنا أعلم علم اليقين أن قلبه لغيري، هذا إن كان قلبه يعرف الحب، أو يملي عليه عاطفة كريمة صادقة!
ماذا كان شعوره حين قرأ هذا الكتاب؟ لا أدري، لكن صديقنا جاءني بعد أيام يقول لي إنه التقى بزوجي مصادفة، وإنه رآه في حال من الهم والأسى تثير الشفقة، وإنه تحدث إليه محاولا أن يخفف عنه فإذا عيناه تدمعان، وإذا هو يخرج من جيبه خطابي ويدفعه إليه، ويطلب إليه أن يقرأه. قال صديقنا: «وقد تصفحت بعض صحفه فأدهشني أنه لم يحضر إليك ولم يضربك ولم ينتقم لنفسه من بذاءة لم أقرأ ولم أسمع قط مثلها من سيدة أو امرأة من السوقة أو سواد الدهماء، ولو أنه فعل لما استطعت إلا أن تعتذري له عن هذا الطيش الجنوني الذي أملى عليك ما كتبت، أنت حرة في أن تكرهيه أو تحبيه، لكنك لست حرة في أن تهينيه وتسبيه.»
قلت: «أتراك عاودتك نزواتك السابقة حين أردت أن تتزوج من صديقتي، وأن هذه النزوات هي التي دفعتك للتطاول علي الساعة؟!»
نظر الرجل إلي في صمت حين سمع مني هذا الكلام نظرة تأنيب وعتاب، ثم استدرك هذه النظرة بعد برهة وقال: «وماذا يعنيك أنت من أن تعاودني نزواتي أو لا تعاودني؟ أم تريدين أن تسمعي مني مرة أخرى أني لن أتزوج صديقتك؟ إذن فاعلمي أني لن أتزوجها، نعم، لن أتزوجها، وليس ما تتوهمين من نزواتي هو الذي دفعني لأخاطبك بهذه اللهجة التي خاطبتك بها، لكنك أسرفت في إهانة رجل لا يسوغ لك أن تهينيه وأنت لا تزالين زوجته وله عليك حقوق أولها احترامه، فالزوجة قد لا تستطيع أن تحب زوجها، ولكنها لا حق لها بحال أن تهينه، أفهمت الآن سبب ما سميته تطاولي عليك؟»
هذه كلمات قاسية لم أسمع من قبل مثلها، لكنها نزلت علي بردا وسلاما، أكان ذلك لأنه أكد من جديد أنه لن يتزوج صديقتي؟ أم لأنه خالف بزجره إياي ما ألفت من جمود زوجي؟ لا أدري، لكني ابتسمت حين أتم كلامه، وقلت: «ما أظرف حديثك، وما أرق فلتات لسانك!» ثم نظرت إليه في خبث نظرة حرصت عيناي على أن تكذب بها لساني وأضفت: «وأي شأن لي إن أنت تزوجت صديقتي، اللهم إلا أن تكون حريصا على أن تجيء معك لزيارتي؟» وازدادت ابتسامتي وضوحا ونظرتي خبثا وزدت: «هذا إلا أن تخشى أن يكون عندي قريبي الذي رأيته معها في السيارة.»
وكان كل جواب الرجل: «دعيني من صديقتك فقد انقطع ما بيني وبينها كما انقطع ما بينك وبينها، لكنك ذكرت في خطابك لزوجك أنك لن تبقي بهذا البيت، فإلى أين تذهبين؟ وهلا تخشين ما يتقوله الناس عليك وأنت لا تزالين في عصمة زوجك، ولا يزال هو مصرا على إمساكك؟»
قلت: «أما أني سأترك هذا البيت فذلك أمر قررته ولا رجعة فيه، ولست أخشى ما يقوله الناس؛ لأنهم لا يعلمون ما قاسيت هنا، فقلوب الناس كالحجارة ما دام الأمر لا يمسهم، وإن أوقف هذا الأمر من يعنيه على حافة اليأس ودفعه إلى الانتحار، لقد دبرت أمري في سر، ولعلي لا أضن عليك أنت بسري، يوم يصبح أمرا مقضيا، فأنت وحدك الذي أجد في التحدث إليه السلوى عن بلواي، ومنقذي من عزلة يحاول زوجي أن يضرب نطاقها حولي بما يذكره إلى أصدقائنا عني، فأنا أعلم أنه تحدث إلى غير واحد من هؤلاء الأصدقاء عن الخطاب الذي بعثت به إليه، وذكر لهم شر ما فيه، لكن ما يقوله لم يعد يعنيني، وقد انحسم ما بيننا، ولم يبق سبيل إلى غير انفصالنا.»
وتركني صديقنا بعد حديث حاول به أن يردني إلى ما سماه الصواب، فلما خلوت إلى نفسي أخذت أقلب صفحاتها وأنا مضطربة الخاطر حينا، هادئة حينا، وعدت بذاكرتي إلى حديث زوجي الأخير معي، ووقفت منه عند كلامه عن مرضي وعلتي، وأن الغرور والغيرة هما مصدر هذه العلة، عند ذلك ثارت نفسي، وسمعت بأذني صوتي وأنا أقول: «يا بؤسى لهذا الرجل! أولو صح ما يزعم أفلا يرضيه أن أغار عليه؟! أم يريد أن أصنع صنيعه فأختار رجلا غيره أصفيه مودتي وأهبه قلبي؟ أم تراه يحسبني بعض متاع هذا المنزل، يسكن إليه متى شاء، ويدعه متى شاء، ويركله برجله أو يلقيه من النافذة إن أراد؟ إن يكن ذلك رأيه فليبحث عمن توافقه عليه، ولألقين عليه درسا لن ينساه ما عاش.»
وشغلت بالتفكير في ترك هذا البيت الذي يسميه بيته، فأين أذهب؟ وكيف أنفذ ما ذكرته له من أنه لن يعرف لي مقرا؟ ليس ذلك يسيرا إن أنا بقيت بالعاصمة، وليس يسيرا كذلك في مدينة صغيرة تثير أتفه الحوادث فيها طلعة ساكنيها، فهم يتحدثون عنها، وتلوكها ألسنتهم ويتناقلونها، فلا يبقى فيهم صغير ولا كبير لا يعرفها، إذن فليكن مقري الجديد بالإسكندرية، ولأذهب إليها أبحث فيها عن سكن لي وللطفلين؛ فالإسكندرية مدينة فسيحة الأرجاء مترامية الأطراف، وحسبي يوم أقيم بها ألا أختلط بأهلها، وأن أجعل مقامي في حي ناء من أحيائها، وسأستحلف صديقنا يوم أبوح إليه بسري ألا يبوح به لأحد، ولن أقبل منه إلا أن يقسم بقبر أمه، فذلك قسم لا يحنث هو به أبدا.
فلما صح مني العزم ترددت على الإسكندرية، ثم اخترت في ضاحية من ضواحيها النائية بيتا صغيرا أنيقا تحيط به الأشجار، وكأنما بناه صاحبه للغرض الذي أقصد إليه، وبعد أيام مر بي صديقنا فأخبرته بما فعلت بعد أن أقسم لي بقبر أمه أنه لن يبوح بسري، وبعد أيام جاءت إلى المنزل عربة من عربات نقل الأثاث حين كان زوجي في عمله، فنقلت ما أخذت إلى الإسكندرية، وقبل أن يحضر زوجي كنت قد سافرت أنا والمربية والطاهي إلى مقرنا الجديد.
وتنفست الصعداء حين نزلت بيتي أنا، لا بيت زوجي، وشعرت كأن عبئا ثقيلا قد انزاح من فوق صدري، واستنشقت رئتاي هذا الهواء الجديد، هواء الحرية المطلقة، وخيل إلي أن السعادة أصبحت في متناول يدي، وأنني ألقيت ما كان يساورني من هموم في لجة البحر المترامي بموجه المصطخب أمام نظري، وزاد في غبطتي أني رأيت طفلي مغتبطين بهذا الانتقال كأنما كانا يعانيان ما كنت أعاني، ويضيقان بالجو الخانق الذي كنت أضيق به.
وبعد أسبوع أو نحوه جاء صديقنا يزورني، فلما رأى المنزل ونظامه هنأني على حسن اختياري، ثم تحدثنا في شئون حرص من ناحيته وحرصت من ناحيتي على ألا نشوبها بشيء من ذكرى الماضي، وقد حمدت له عنايته بسؤالي عن الطفلين وأية مدرسة اخترت لهما، ونصحه إياي أن أحتفظ بمربيتهما. وانقضى الوقت وأنا أقص عليه في مرح كمرح الأطفال ما أجده في هذه الحياة الجديدة من مسرة، أيسرها جلوسي إلى شاطئ البحر، أسمع إلى صريف أمواجه، وأستنشق طيب هوائه، وأمد ببصري إلى آفاقه التي لا تنتهي، والتي تحجب في طياتها غيب السموات والأرض.
أتاح لي هذا الهدوء الذي اشتملني أول مقامي بالإسكندرية - لبعده عن موطن النضال، وما يثيره النضال في النفس من غضب - أن أسبر غور نفسي لأستظهر عواطفي، لقد بذلت الجهد في مقاومة صديقتي، أريد أن أستخلص من براثنها زوجي لأختصه خالصا لي ولولدي، غير مطمئنة لتوكيده المتكرر لي أنه لا يحبها ولا يحب غيري، وأن تردده عليها عناية بشأن أولادها لا تشوبه قط ريبة، وقد بقيت أمقتها برغم شعوري في أعماق روحي بأن حجابا قام بيني وبين زوجي يحول دون تآلفنا وامتزاج قلبينا، وقد بلغت قسوتي في مقاومتها ذروتها يوم أوحيت إلى صديقنا فذهب إلى الصحراء فألفاها في سيارة مع قريبي ويدها بين يديه، ورأسها على كتفه، فأفسد ذلك عزمه على التزوج منها، وكان هذا الزواج موشكا أن يتم، وأنا إن أحسست في نفسي ميلا لصديقنا واستلطافا، فلم يبلغ هذا الميل وهذا الاستلطاف مبلغ الحب الذي يجيز لصاحبه أو لصاحبته المغامرة بمثل ما فعلت، ولا أحسب غيرتي من جمالها باعثي على هذا النضال، وهل تراني تحركني غيرة من مثلها ولم يقف جمالها الساحر حائلا دون فتنة المعجبين بي وقد فتنتهم جاذبيتي وذكائي، وسحر حديثي، وسائر مواهبي؟ وحسبي أن أذكر الألماني الذي كان يجالسنا معا بالأقصر، وكيف دفعه ذكاؤه وواسع علمه وسعة أفقه ففتن بي وسحره حديثي، ولم يفتن بها ولم يسحره جمالها. فما الذي حركني إذن إلى هذا النضال؟
لم أهتد إلى جواب على هذا السؤال بعد أن جهدت أياما حسوما ألتمس الجواب عليه، وعند ذلك آثرت أن أدعه واثقة أن الزمن سيكشف لي عن هذا الجواب، وعدت إلى طمأنينتي السابقة الجميلة، وقد زادت حياتي الجديدة في سعادتي بها واستراحتي لها.
كان صديقنا يزورني في عطلة آخر الأسبوع مرتين على الأقل في كل شهر، وإننا يوما لنتحدث إذ فتح الباب، ورأينا زوجي وكأنما يريد أن يدخل علينا، وأجفلت لمرآه وتولتني الحيرة ماذا أصنع؟ لكنه لم يدع لي فرصة للتفكير، فإنه ما لبث حين رآنا أن ارتد على عقبه، وأن أقفل الباب الذي فتحه، وأن هرول مسرعا إلى خارج الدار حتى خلت أنه طيف لا حقيقة له، وأن خيالي هو الذي صوره لي، ولكنني صدمت بهذه المفاجأة صدمة هزت أعصابي، واضطر صديقنا أن يدعو المربية لتسعفني، وانقضى وقت غير قليل قبل أن أسترد هدوئي، فلما سكنت نفسي، واستطعت أن أفكر وأن أتكلم قلت: كيف اهتدى هذا الرجل إلى المنزل، وكيف سولت له نفسه أن يصعد إلى هنا؟
ولم يكن صديقنا أقل مني حيرة ولا دهشة ، فهو لم ير زوجي منذ أطلعه على خطابي، ولم يحدث له من أمري ذكرا، من ذا الذي هداه إذن إلى بيتي؟ وهل تراه يريد أن يفسد علي حياتي من جديد بعد أن تركت له العاصمة كلها، وما فيها ومن فيها؟ لقد كان يخشى قالة الناس فينا إذا هو سرحني ولم يمسكني، أما وقد حسمت ما بيني وبينه بهذا الانفصال من غير طلاق فما مطاردته لي، كأنني سجين هارب من سجنه، ولا مفر من إعادة القبض عليه؟!
انصرف صديقنا حين أوشك النهار أن يولي، بعد أن حاول ما استطاع أن يهون علي ما حدث، فلما خلوت إلى نفسي ارتسمت أمامي صورة زوجي ساعة فتح الباب علينا ووجدني في خلوة مع صديقنا، وكاد يتولاني الدوار من جديد، ترى أي ظنون قامت بذهنه لهذا المنظر الذي لم يكن يتوقعه؟ أم تراه جاء وهو يعلم بوجود صديقنا عندي، فأراد أن يظهرني على أنه يعلم من أمري ما أردت ستره؟ أم أنها المصادفة البحتة هي التي ساقته في تلك الساعة، وأوقفتني منه موقفا أرتج علي فيه فلم أستطع أن أقول كلمة، ولم أستطع أن أزجره لاقتحامه علي بيتا هو بيتي وليس بيته ولا شأن له به؟ وكذلك أخذت أقلب هذا الأمر في نفسي، ثم ترتسم بين آونة وأخرى أمام خيالي تلك الصورة التي أثارت انزعاجي، ترى أين ذهب بعد أن ولى مدبرا وأقفل الباب وراءه؟ هل ذهب يدعو من يشهد ما رأى؟ لكن أحدا لم يحضر، وهل تراه غادر الإسكندرية أم بقي بها؟ وهل أستطيع أن أراه لأؤنبه على فعلته المنكرة؟
وجفا النوم مضجعي تلك الليلة لكثرة ما فكرت فيما عساي أصنع، وكيف أستطيع أن أعلم كيف عرف زوجي مقري، ولم يغمض لي جفن حتى الهزيع الأخير من الليل، فلما استيقظت ضحى الغد ناولتني مربية أولادي خطابا عرفت لأول ما رأيت عنوانه أنه من زوجي، وتوقعت قبل أن أفتحه أن أقرأ فيه من فحش القول وهجر الكلام ما لا أستطيع الرد عليه، وما لزوجي كل العذر في أن يقوله، فلما فتحته وتلوته انقلبت مخاوفي دهشة وعجبا، وتولاني من الحيرة ما كاد يذهلني، فهو كتاب موجز كل الإيجاز، وفيه يقول زوجي بعد تحية رقيقة إنه لم يحضر إلى بيتي لظنة قامت بنفسه كما قد أتوهم، ولكن عليه واجبات بصفة كونه زوجا وأبا لا يمكن أن يهملها، ولا بد له من أدائها، ويسألني أن أفكر لصحتي وصحة الولدين أن أسافر إلى أوروبا هذا العام ليبعث لي نفقات السفر كما عودني، ويختم خطابه: زوجك الوفي المخلص.
لم أصدق عيني حين تلوت الكتاب، فأعدت تلاوته مرة ومرة ومرة، ثم شعرت بعد هذه التلاوة وكأنني هويت من أعلى السحاب! يا عجبا! أولو كانت في يد هذا الرجل طبنجة أفرغها في وفي صديقنا، أفكان يلومه أحد؟ أولو كانت معه هراوة أدارها علينا، ثم طرد صديقنا كما يطرد الكلب، أفما كان الناس جميعا يرونه محقا؟ أولو كان قد وجه إلينا أقبح الشتائم وأقذع السباب، أكان في مقدورنا أن ندافع عنا بكلمة؟ لكنه لم يفعل من ذلك كله شيئا، بل انسحب وكأنه لم يرنا، وها هو ذا يبعث إلي بذلك الكتاب العجيب يريد أن يؤدي واجب الزوج والأب، ويعرض علي أن أسافر إلى أوروبا، أأستطيع مع ذلك أن أهمل الرد عليه؟ وإذا رددت فماذا أقول؟!
وأسندت رأسي برهة إلى مقعدي أفكر في الأمر، على أنني ما لبثت أن مر بخيالي أن يكون هذا الخطاب أحبولة نصب لي شباكها، فلو أنني قبلت ما عرضه لكان ذلك أقوى سند له إذا أراد أن يكرهني بحكم القضاء على العود إلى بيته، وإلى طاعته، أأرفض إذن؟ ولكني إن رفضت أسقطت حجتي في مطالبته بنفقتي ونفقة الطفلين إذا اقتضى الأمر. وإني لأفكر في هذا كله إذ جاء صديقنا يبلغني أنه عائد إلى القاهرة، ويسألني أفي حاجة أنا لأي رأي أو معونة، ولعله أراد أكثر من هذا وذاك أن يرى الأثر الذي تركته مفاجأة زوجي في نفسي بعد انقضاء يوم كامل عليها، فلما أريته الخطاب وتلاه تولاه من الدهشة ما تولاني، وأخذ يقلب الأمر معي على وجوهه بعد أن ذكرت له ما ثار عندي من ظنون، ثم إننا اتفقنا على أن أكتب له في إيجاز كتابا أقول له إنه أدرى بواجبه أكثر مني، وإن طبه يسمح له بأن يقدر حاجة الولدين للسفر إلى أوروبا، فإن رأى ذلك ورأى أن أسافر معهما للعناية بهما فإنني لن أقصر في القيام بواجب الأمومة، وسأنهض به كما ينهض هو بواجب الأبوة، أما إن رأى بقاء الطفلين بمصر فلا اعتراض لي على ذلك، فصحة الولدين غاية همي، والعناية بهما مصدر سعادتي وهنائي.
على أن كتاب زوجي وردي عليه لم يهدياني إلى جواب عن سؤالي: كيف عرف مقري؟ وقد عرفت من بعد أنه علم بتردد صديقنا إلى الإسكندرية، فأيقن أني أقمت بها، فاتصل بمحافظها - وكان صديقه - وطلب إليه أن يدله على عنواني، ولم يجد المحافظ مشقة في الاهتداء إلي حيث أقيم؛ إذ سأل رجال الإدارة في أحياء الإسكندرية جميعا فجاءه من أقيم في حيه بالعنوان، فأبلغه إلى زوجي، عند ذلك أيقنت أن من يعيش في جماعة منظمة يصعب عليه أن يحتفظ بأسرار حياته، وبخاصة ما كان منها واقعا تحت نظر الدولة ورجالها كمحل السكن.
وأقمت أنتظر تصرف زوجي بعد ردي على خطابه، ولم يطل انتظاري، فبعد أيام تناولت كتابا به تحويل على أحد بنوك الإسكندرية بنفقة إقامتنا، وفي الكتاب أن محل كوك أصدر تعليماته إلى فرعه بالإسكندرية ليعطيني تذاكر السفر لي وللولدين والمربية إلى أوروبا، وإلى حيث أريد التنقل بين أرجائها ذهابا وإيابا حتى عودتي إلى مصر، وأنه يريد أن يعرف الزمن الذي أعتزم قضاءه في تلك الربوع، ليبعث إلي تحويلا بالنفقة اللازمة له.
لم تكن دهشتي إذ تلوت هذا الكتاب بأقل من دهشتي يوم تلوت الكتاب الأول، فلو أنني كنت مكانه حين رآني أتحدث في خلوة مع صديقنا لأكلت الغيرة قلبي، ولما ملكت نفسي، ولما استطعت أن أضبط أعصابي، وها هو ذا يبعث إلي بالنفقة كأن أمرا لم يحدث، وكأني لا أزال أهلا لعطفه وحبه، أي إنسان هذا الرجل؟! وكيف ظل واثقا بي ليوقع كتابه إلي: «الزوج الوفي المخلص»، وكأني لست دونه إخلاصا ولا وفاء، أم يحسب نفسه قديرا على أن يشتريني بالمال؟! إن يكن ذلك ظنه فقد خاب رجاؤه، فلست بالجامدة التي تستطيع أن تتحكم في أعصابها وعواطفها كما يتحكم هو في أعصابه وعواطفه.
وألفيت نفسي، بعد أن تلقيت كتابه الأخير، أمام الأمر الواقع؛ لذا ذهبت الغداة إلى البنك فقبضت التحويل، ثم ذهبت إلى كوك لمخاطبتهم في أمر السفر، واستعنت بهم في تصوير خطته وبرنامجه، ووعدتهم أن أعود الغداة لأبلغهم مطالبي، وأخذت وأنا في طريق عودتي أفكر من جديد في زوجي وجموده أمام منظر يثير الغيرة في نفس أكثر الناس جمودا وأشدهم لزوجته - التي لا تزال على ذمته - كراهية واحتقارا.
على أنني سمعت إذ ذاك صوتا يناديني منبعثا من أعماق نفسي: «لك الله يا ظالمة! أوتظنين أنه كان يحمل على نفسه كل ما حمل، ويكلف نفسه عبء سفركم وحالته المالية ما تعلمين، لولا أنه أراد أن يفرق بينك وبين صديقنا من غير ضجة تفضحكما وتسيء إلى ولديكما؟ خففي إذن من غلوائك، واعلمي أن غيرتك الحمقاء وكبرياءك المغرور هما علة ما أنت فيه، وأنك لولاهما لاستطعت أن تكوني أسعد النساء.»
أزعجني هذا الصوت، فلم يبق في قلبي ذرة من عطف على هذا الرجل، أو عاطفة تقربني منه ليفرق بيني وبين صديقنا، وإذا صح أن غيرته هي التي دفعته ليحمل على نفسه ويحتمل عبء سفرنا إلى أوروبا، فأين كانت هذه الغيرة من سنوات مضت؟ وإذا كان يظن أن هذا السفر يصلح ما أفسد، فما أفحش خطأه! لقد تنافر ود قلبينا فلم يعد إلى تجاوبهما سبيل، أما غيبتي عن صديقنا أشهر الصيف فلا أثر لها في نفسي، فليس بيني وبين الرجل إلا أنه كان شهما ذا مروءة، سندني في أوقات محنتي، وأظهر من الرجولية إزاء صديقتي ما لم يظهره زوجي، وأبدى من العطف على ولدي منذ انتقالي إلى الإسكندرية ما استحق ثنائي الجميل.
ومر بخاطري برهة أن أرفض السفر، وأن أظل بالإسكندرية كيدا لزوجي، وامتحانا جديدا لغيرته، ولكني خشيت إن فعلت أن يتمسك علي بهذا الرفض، ويتخذه حجة لأمر يدبره ضدي، فذهبت الغداة إلى كوك، ورتبت معه برنامج رحلتنا وطلبت إليه أن يعد تذاكر السفر كلها، ثم مررت به بعد يومين وأخذت كل ما أعده، وأبلغ المحل الرئيسي زوجي ما حدث، فبعث إلي بكتاب أرفق به تحويلا جديدا لنفقات السفر، وبعث معه بالجوازات اللازمة لي وللطفلين والمربية، وتمنى لنا رحلة سعيدة موفقة.
وجاء صديقنا قبيل السفر يودعني ويذكر أنه كان يود أن يراني ساعة السفر، لولا مخافته أن يلتقي بزوجي على الباخرة لقاء تخشى مغبته. فلما كان يوم الرحيل وذهبنا إلى الميناء ألفيت زوجي في انتظارنا، فلما رآنا أقبل علينا، وقبل الولدين وسلم علي، وحيا المربية، وصعد معنا الباخرة، واطمأن معنا إلى حجراتنا منها، وإلى موضع متاعنا بها، ثم ذهبنا جميعا نستريح فوق ظهر الباخرة، فسرت أمامه وسار خلفي ممسكا كلا من الولدين في إحدى يديه حتى أجلسهما معه على مقعد طويل، ولقد أخذ يداعبهما ويقبلهما، وأخذت أرق له وأرثي لحاله. وإننا لكذلك إذ فاجأتنا المصادفة بمنظر ارتاع له قلبي، رأيت صديقتي مقبلة علينا وحولها عديد من معارفها والمعجبين بها، وهي توزع بينهم نظراتها الساحرة وابتساماتها المشرقة، وتبادلهم في صوت خافت عبارات لم أتبينها، وأشحت وجهي حتى لا أراها، ومرت هي بي في استخفاف وكأنها لا تراني، ولكنها وقفت عند زوجي وحيته وقبلت ولدينا، وبادلته عبارات فهمت من مجموعها أنها تسأله إن كان مسافرا معنا، وأنه يجيبها أن عمله لا يسمح بهذا السفر، إذ ذاك تضاحكت في دلال وقالت بصوت مسموع: «كم آسف لذلك، فقد كانت رفقتك تسعدني، ولو لم تطل لأكثر من الأيام التي نقضيها على ظهر السفينة حتى نصل إلى جنوا.»
هي إذن مسافرة معي على الباخرة، وقد كان زوجي يعلم لا ريب بموعد سفرها، أتراه جاء اليوم ليودعنا، أم اتخذنا سلما ليودعها؟ ها هي ذي تنظر إليه كأنما تريد أن تلتهمه بعينيها، وهو يحدثها ملقيا بنظره إلى الأرض كأنما خجل من أن أراهما يتحادثان، وحانت مني التفاتة إلى مربية أولادي فهمت منها ما أريد فأسرعت إلى الولدين وجاءت بهما عندي، وصديقتي تتعمد إطالة الحديث حتى استغرق دقائق خلتها دهرا أرهفت أذني في أثنائه لأسمع ما يدور بينهما من حديث، ولاحظت منذ جاء الولدان عندي أن زوجي يريد أن ينهي هذا الحديث ليعودا إليه، وأدركت صديقتي ذلك من ردوده المقتضبة، فسلمت عليه سلاما حارا وودعته بنظرة بارعة، وقالت في ابتسام ساحر: «أرجو أن أراك حين عودتي مستريح البال موفور العافية.»
فلما عاد إلى مجلسه على مقعده الطويل نظر إلى ولديه، وأومأ إليهما برأسه فهرولا نحوه مسرعين، وأجلسهما معه كما كانا من قبل، وعاد يقبلهما ويداعبهما، فلما أعلنت الباخرة المودعين بصوتها الضخم تؤذنهم بالانصراف ضم كلا من الولدين إلى صدره، ثم مسح عينيه بمنديله، وأقبل نحوي فسلم علي وعلى المربية، وقصد نحو السلم يهبط عليه إلى رصيف الميناء.
وجرى ولداي مع المربية إلى الناحية الأخرى من الباخرة حيث السلم ليتمكنا من رؤية أبيهما حين انصرافه، ومكثت أنتظر عودتهما، لكنهما طال غيابهما؛ لأن أباهما وقف يشير إليهما ويناديهما، ويلوح بمنديله الأبيض حتى تحركت الباخرة واستدارت نحو مدخل الميناء إلى فسحة البحر، عند ذلك عادا فقبلتهما وقلبي يدق، وكأنما يقول في دقاته: تستطيعين أن تنفصلي عن هذا الرجل بجسدك، لكنك لن تستطيعي أن تفصلي حياتك عن حياته، وهذان الطفلان يربطان بينكما بأوثق رباط!
وتخطت الباخرة الميناء إلى البحر، وأطلقت لمحركاتها العنان، وأخذت الإسكندرية تتوارى شيئا فشيئا في حجاب الأفق، فلما لم يبق أمام ناظري إلا السماء والماء تمطيت على مقعد طويل، وحاولت أن أخلي خاطري من كل شيء، وأن أدع نفسي تموج مع نسيم البحر العليل في عوالم مبهمة لا يشغل الخيال ولا الذهن شيء مما فيها، وإنني لكذلك إذ مرت صديقتي مستندة إلى ذراع أحد المسافرين وهي ترسل الحين بعد الحين ضحكات ناعمة تشهد بما يملأ قلبها من مرح ومسرة، قلت في نفسي: «ما أسعد هذه الأرملة الطروب بالحياة اليوم! وهي هي التي كانت من سنوات مضت صورة ناطقة لمعاني الهم والشجن، وهمها وشجنها بالأمس هما مصدر مرحها وسعادتها اليوم، فلولاهما ما بذل صديقنا وزوجي ما بذلا من عناية حتى استخلصا ميراثها وميراث أبنائها، وأتاحا لها هذه الحياة الناعمة التي تحياها، ولما شغل صديقنا، ولما شغل زوجي بها إلى اليوم. وهكذا الحياة، مجموعة من المتناقضات يسعد بها قوم ويشقى آخرون: صحة ومرض، فقر وغنى، شقاء وسعادة، وهذه المتناقضات تتداولنا دراكا فنسعد ثم نشقى، ونشقى ثم نسعد، ويتوالى ذلك علينا حتى يدركنا الأجل المحتوم!
لست أدري لم أثار مرور صديقتي هذه المعاني الفلسفية في نفسي، وجعلني أفكر في ضعف الإنسان أمام الحياة حتى لتزعجه أتفه الأشياء كما تسعده أتفهها، قد يكون موج البحر الممتد أمام النظر إلى مدى الأفق، والذي يستر في طياته من الغيب ما لا أعلم، هو الذي أثارها، وقد يكون هواء هذه الساعة برقته وما يهيئ للنفس من استرخاء وسكينة هو مبعثها، على أية حال فقد بقيت بعدها كأنني في حلم متمطية على مقعدي، أفتح عيني وأغمضهما كما أهوى، وأشعر بنوع من تخدير الأعصاب الذي يسبق النوم.
فلما حان موعد العشاء وحان للناس أن يبدلوا ملابسهم ارتديت للسهرة ثوبا بسيطا، ثم صعدت إلى سطح الباخرة تلمع عليه أضواء الكهرباء، وبينما أسير ذهابا وجيئة مرت بي صديقتي من جديد، وقد ارتدت للسهرة ثوبا بارع الجمال، وقد تزينت زينة كلها الإغراء، وقد أمست بجمالها وزينتها وثوبها تلفت نظر كل رجل وكل امرأة مرت به أو مر بها، ونظرت إليها إذ ذاك، وأطلت النظر، وذكرت كلماتها الأخيرة لزوجي: «أرجو أن أراك حين عودتي مستريح البال موفور العافية.»
وتناولنا طعام العشاء، ثم أديرت بعده حفلة رقص شهدتها إلى منتصف الليل، وقد رقصت صديقتي مع كثيرين كانوا يستبقون إليها ويطلبونها للرقص معهم، وكانت لا تأبى أن تلبي من يتقدم إليها لتراقصه، ثم كان جمالها وكانت زينتها حديث الرجال جميعا، وكان مرحها وكانت ابتسامتها أشد إثارة لإعجابهم من ثوبها ومن زينتها، وقد خيل إلي ساعة غادرت هذه الحفلة إلى مخدعي أن الرجال جميعا جنوا بها جنونا، وأنهم لن يدعوا الحفلة تنتهي حتى مطلع الفجر!
وخلعت ثيابي، وارتديت ملابس النوم، واستلقيت في سريري وصورة صديقتي - وهي موضع الإعجاب، بل موضع التقديس عند الجميع - لا تبرح خيالي، وأغمضت عيني أحاول النوم، فإذا هذه الصورة تتوارى لتحل محلها صورة صديقتي يوم التقينا بالأقصر بعد عام من وفاة زوجها، لم تكن يومئذ الأرملة الطروب التي يراها الرجال اليوم ويعجبون بها، بل كانت سيدة بادية الحشمة، تؤمن بجمالها من غير أن تعرضه نزهة للناظرين، بل كانت تبدو وكأنها تستحيي منه، وتود لو تستطيع أن تواريه عن الأعين، يومئذ كنت أجلس إليها وأراها شابة جميلة ساذجة لا تجيد أن تتكلم، ولا تجيد إلا أن تنظر بعينيها الساحرتين إلى من يجالسها ومن يمر بها، ويومئذ لم أر بأسا بأن يهتم صديقنا بأمرها، وأن يعنى زوجي بشئونها وشئون أبنائها، أما منذ خلص لها ولأبنائها ميراثهم وحسبت أنها اطمأنت إلى الحياة، تبدلت حالها غير الحال، وأصبحت امرأة وقاحا لا تطاق، ظنت أنها تستطيع أن تنافسني في سلاسة العبارة وجمال اللفظ، وأنها تستطيع أن تسحر بهما الناس فوق سحرها إياهم ببارع جمالها وساحر فتنتها، وقد بلغت من ذلك أن فكر صديقنا في أن يتزوجها، وأن قبضت على ناصية زوجي، واستبقت مودته.
وكانت صورتها تتبدل أمام بصيرتي وأنا مستلقية في مرقدي، كلما تصورت حالا من أحوالها التي أثارتني بها وانتهت إلى القطيعة بيني وبينها، وكنت أزداد حنقا على هذه الصور وعلى صاحبتها كلما هفا إلى مسمعي صوت موسيقى الرقص آتيا من ناحية بهو الباخرة، وهي الليلة في ذروة مجدها وانتصارها.
وأصبحت فتناولت فطوري في غرفة الطعام، وصعدت إلى ظهر الباخرة، ووقفت أستنشق هواء البحر لعله يذهب عني جهد الأرق الذي لازمني معظم ليلتي، وبعد قليل وقفت إلى سيدة حيتني بالفرنسية، ثم أخذنا نتبادل الحديث المألوف في مثل هذه الأسفار عن الجو والبحر، والرجاء أن يظل هادئا إلى نهاية السفرة ، وإنا لفي حديثنا إذ مرت صديقتي مشرقة الوجه باسمة الثغر كأنها نامت كل ليلتها، وسعدت بأجمل أحلامها، وكأنها لم ترقص إلى قرابة الصبح، ونظرت إلي ساعة مرت بنا نظرة تعال وكبرياء وكأنها تقول لي: «أرأيتني ليلة أمس، وهلا تزال الغيرة تأكل صدرك مني ولا تفتئين تطمعين في منافستي؟ إن يكن ذلك فهذا البحر أمامك فاشربي منه، أو ألقي نفسك بين أحضانه لتتخلصي من غيرتك ويأسك.»
وسألتني محدثتي، وكنت قد علمت منها أنها فرنسية، أأعرف هذه السيدة الجميلة؟ قلت: نعم، أعرفها، وإن لم نكن أصدقاء، وهي كثيرة المعارف والأصدقاء، وأصحابها في مصر يسمونها «الأرملة الطروب»، ففيها خفة تقارب الطيش، وتذكرت وأنا أتكلم أن صديقتي مصرية، ويجب لذلك ألا أجرحها، فاستطردت في كلامي: «لكن أصدقاءها يذكرون أنها طيبة القلب، وأن خفتها ومرحها لا يتعديان المجتمع إلى حياتها الخاصة، أما معرفتي بها فقليلة، وليس من حقي أن أحكم لها أو عليها.»
وعلقت محدثتي الفرنسية على كلامي فقالت: «أنت على حق يا سيدتي، فأنا أعرف في باريس نفسها سيدات اشتهرن بالخلاعة، وهن مع ذلك مثال الشرف والسمو عن الابتذال، وتقولين أنت الآن إن أصدقاء هذه السيدة المصرية يقولون ذلك عنها، ولا أحسبني في ريب من ذلك بعد الذي رأيته أمس، لقد تركتنا أمس منتصف الليل والسهرة لم يحم وطيسها، ولو أنك بقيت إلى نهايتها لرأيت عجبا، شرب بعض الشبان حتى ثملوا، وعرضوا على هذه السيدة أن تشرب ولو قليلا من الشمبانيا فأبت إباء مطلقا، معتذرة بأنها لم تشرب في حياتها، وأن دينها يحرم عليها الشراب، وألقى هؤلاء الشبان الثملون أنفسهم على أقدامها، وزعم أحدهم أنه شاعر إنجليزي، وألقى مقطوعة ادعى أنه نظمها لساعته من وحي عينيها الساحرتين، وذهب آخر إلى غرفة الطعام وجاء بما فيها من الأزهار ونثرها عليها، ولم يكن القبطان أقل الحاضرين افتتانا بها، فقد عرض عليها وهو في نشوة شرابه إن لم تكن تعجبها قمرتها، أن تأخذ قمرته وصالونه، وضحكت هي لهذا العرض، وقالت إنها ستفكر فيه متى أصبحت وأصبح القبطان ، والحق أشهد أنها كانت برغم مرحها وطربها شديدة الاعتزاز بنفسها وبكرامتها، وإن لم تكن أقل من ذلك اعتزازا بجمالها وبسحرها»، وسكتت محدثتي قليلا، ثم قالت: «ألا ليتك تستطيعين يا سيدتي أن تحدثي التعارف بيني وبينها.»
وأخذت لهذه العبارة الأخيرة، فلن يحملني اعتبار أيا كان على التحدث إلى هذه المرأة التي سلبتني هناءتي وسعادتي، بل سلبتني كل ما في الحياة من نعمة وجمال، على أني سارعت مع ذلك وقلت لمحدثتي: «أنت يا سيدتي في غير حاجة إلى من يقدمك لها، وحسبك أن تبادئيها الحديث بإطراء جمالها لتكسبي قلبها، وهي طيبة القلب كما ذكرت لك، ويسرها لذلك أن تعامليها من غير كلفة ولا رسميات.»
لا أستطيع أن أصف ما أثاره هذا الحديث في نفسي من غيرة ومن حيرة، لقد كان هذا الانتصار الباهر الذي أحرزته صديقتي خنجرا مسموما صوب إلى صدري، ولكني كتمت موجدتي، واتخذت من طفلي مسلاة لي أنسى بهما همي وكربتي.
وتناولنا طعام الظهيرة وذهبنا إلى بهو الباخرة نتناول القهوة، فإذا إعلان بخط واضح أن الآنسة الإيطالية، ضاربة الكمان الشهيرة في الأوساط العالمية جميعا، تفضلت بإحياء سهرة هذا المساء في بهو الباخرة، وتبدأ الساعة التاسعة والنصف، والجميع مدعوون.
أقبل المساء وبدل المسافرون ملابسهم لطعام العشاء، فإذا صديقتي أبدع ثوبا وزينة مما كانت عليه أمس، وإذا العيون تنهبها ساعة دخلت قاعة الطعام، وعجب الناس حين رأوها تتخطى المائدة التي كانت تجلس عليها الليلة الماضية إلى مائدة القبطان لتجلس إلى جانبه، عند ذلك دوت القاعة بالتصفيق مما أخجل مصريتي، فلما فرغنا من الطعام وذهبنا إلى البهو إذا رجال الباخرة قد استحدثوا فيه منصة للاعبة الكمان، وإذا على هذه المنصة كراسي ثلاثة لم نعرف لمن وضعت، وبعد قليل أقبل القبطان وعن يمينه لاعبة الكمان، وعن يساره صديقتي، وإذا هم يصعدون جميعا إلى المنصة، ويجلس القبطان بين السيدتين، فلما سكن تصفيق الحضور وقف القبطان يقول: «لا حاجة بي إلى تقديم الآنسة ربة الكمان وشهرتها تغنيها عن كلامي، وكمانها الذي ستسمعونه عما قليل أبلغ عبارة مني في تقديمها، أما السيدة المصرية فقد عرفتموها جميعا ليلة أمس، بعد أن قدمها لكم جمالها وظرفها وقلبها الكبير، والكلمة الآن للكمان البارع.»
فلما كان يوم الرحيل وذهبنا إلى الميناء ألفيت زوجي في انتظارنا، فلما رآنا أقبل علينا وقبل الولدين.
ولعبت الآنسة عدة مقطوعات لعبت معها بالعقول والقلوب، فكانت كل مقطوعة تنتهي تدمي الأكف بالتصفيق، ولست أذكر أني سمعت موسيقى بلغت من الإعجاز ما بلغت موسيقى تلك الليلة، سمعنا مقطوعات لبتهوفن، ولموزار، ولفاجنر، وأمثالهم من الخالدين الذين أشاعوا في جو العالم أبدع الأنغام وأعذب الألحان، فلما فرغت الآنسة من إيقاعها البارع البديع الذي سما بنفوسنا إلى أجواء الفن العليا، وقف القبطان يشكرها لما أسعدتنا جميعا به من تلك الموسيقى السماوية، ثم قال: «ولم أرد أن أروعكم ساعة بدأت هذه الحفلة، فقد صادف بدؤها بدء عاصفة لعبت بالباخرة، وستحسونها جميعا عما قليل، لكن هذه العاصفة وعبثها بالباخرة لم يكن لهما أي سلطان على الآنسة؛ لأن فنها ملكها في أثناء لعبها فلم يكن لغيره، ولم يكن للعاصفة، سلطان على أصابعها البارعة، ولا على جسمها الذي استطاع أن يحتفظ بكل توازنه أكثر مما استطاعت باخرتي أن تحتفظ بتوازنها.
ولم تقف قدرة الآنسة عند هذا الحد، فقد أنستكم جميعا ببراعة فنها أن الباخرة تميل يمنة ويسرة؛ لأن أنغامها أمسكتكم في مقاعدكم تطربون لها وتستمعون إليها، أفلا يوجب هذا كله علي وعليكم أن نضاعف شكرنا لمن أباحت لنا هذا الفن الجميل، وأنستنا غضب البحر وهياجه؟! فباسم هؤلاء الحاضرين واسمي أقدم لك يا سيدتي خالص الشكر وجزيل الثناء.»
واندفع الحاضرون نحو المنصة يحيون الآنسة ويشكرونها، ولكن الأعجب من هذا أنهم كانوا يتجهون بعد تحيتها إلى صديقتي يحيونها هي الأخرى، ثم يقفون حولها يبدون من الإعجاب بجمالها مثل إعجابهم بالكمان ولاعبته، وحاولت صديقتي أن تنصرف حين انصرف القبطان، فإذا المحيطون بها قد ضربوا حولها نطاقا يتعذر اختراقه، ولم ينجها من هذا الموقف إلا أن أعلنت أنها بدأت تشعر بالدوار، وأنها في حاجة إلى الهواء الطلق، أو تهبط إلى قمرتها ، عند ذلك أفسح المحيطون بها طريقا لها، وكلهم يكررون آي إعجابهم بجمالها ورقتها وظرفها.
وكنت أشهد ذلك مشدوهة، لا دهشة أعظم من دهشتي، ولا حيرة أعظم من حيرتي وغيرتي، ولو أن زوجي اختار لها أن تسافر معي على هذه الباخرة كيدا لي، لقد بلغ من كيده ما أراد، وأكثر مما أراد، أما إن كانت المصادفة هي التي ساقت ذلك كله إلي فيا لبؤسها من مصادفة مشئومة!
وخرجت مع الناس إلى ظهر الباخرة، وكأني أشعر بالدوار يعبث بي، فهبطت مسرعة إلى قمرتي، وقضيت بها ليلة نابغية، فلما أصبحت كان البحر قد استرد اتزانه فسكن هياجه، وعاد سلسا كما كان، والتقيت بالفرنسية بعد الفطور، وتبادلنا التحية، وأخذت تحدثني عن موسيقى الآنسة الإيطالية وروعتها، ثم قالت: «وصاحبتنا المصرية، أرأيت تهافت الرجال عليها، واستسلامهم لفتنة جمالها؟» قلت: «نعم، رأيت ذلك ولم يدهشني، ذلك شأن الرجال، يترامون على المرأة ترامي الفراش على النور، ثم لا يعنيهم أن تحرقهم بنارها، وتذري بقاياهم في الهواء يبددها كل ريح.»
وقالت محدثتي: «وأعجب الأمر أن أكثر الرجال رزانة وحكمة لا يمتازون في هذا الشأن عن أكثرهم طيشا ونزقا، وإن اختلفت أمزجتهم في ذوق الجمال وصاحبته، وأعجب من ذلك أن البريق الظاهر يفتنهم ويغريهم أكثر مما يفتنهم الجمال الحق في المرأة الكاملة، ولا شيء يدل على هذا ما يدل عليه افتتانهم بثياب المرأة وحليها وظاهر زينتها، وأنهم مع ذلك يذكرون أن المرأة هي التي تخلع على هذه الأشياء جمالها ورونقها، وأما إن رأوا سيدة بسيطة الثياب قليلة الزينة فقلما يلفتهم جمالها، وأقل من ذلك أن يلفتهم ما تنطوي عليه روحها وجسمها من كريم المعاني، ورائع الجمال، ثم يقول الرجال بعد هذا إنهم أولو حكمة، وإن كانت حكمتهم أغلب الأمر هي السخف كل السخف، ولم يكن لها من سند إلا سخرية المرأة منهم وفتنتها إياهم.»
أعجبني هذا الكلام فانصرفت أكرره في أعماق روحي، وتبدو لي من خلاله صورة زوجي وعطفه على صديقتي، فلا يزيدني ارتسامها أمامي إلا ازدراء له ومقتا إياه ، فهو الذي أفسد حياتي ودفعني للفرار من بيتي باصطفائه صديقتي على رغم علمه بخفتها وطيشها.
كانت ليلتنا المقبلة آخر ليالينا على الباخرة؛ إذ كانت ترسو الصباح بمرفأ جنوا، ولهذا أقيمت في المساء حفلة تنكرية لم أرد أن أشترك فيها؛ لأن صديقتي بارعة في التنكر، تبتكر له من الأزياء ما لا يرد بالخاطر، وما يلفت الأنظار إليه ويمسكها عنده، ولست حريصة على أن أشهد الاحتفال بانتصارها الساحق للمرة الثالثة؛ لهذا أويت إلى قمرتي، وأعددت متاعنا، وقضيت بعض الوقت أقرأ وأنا في سريري، ثم أطفأت مصباحي.
واستيقظت بكرة الصباح وصعدت إلى ظهر الباخرة فإذا هي ترسو، وانتقلنا توا إلى محطة السكة الحديدية، فلما انطلق القطار ولم تكن به صديقتي تنفست الصعداء، وحمدت الله أن استعدت حريتي، وتنقلنا بين شمال إيطاليا وسويسرا وفرنسا وألمانيا مبتعدين عن المدن ما استطعنا، مستمتعين من هواء الجبال والبحيرات بما رد إلي هدوئي وطمأنينتي، وزادني هدوءا أني انتهيت إلى تصميم حاسم أن أنفصل بالطلاق عن زوجي، وإن كلفني ذلك ما كلفني، فلم يعد يعنيني ما يقوله الناس عني إذا لجأت إلى القضاء، فالأمر لا يتعلق بسعادتهم بل بسعادتي، ولم أعد أعبأ بما كان يذكره صديقنا من تأثر ولدي بهذا الطلاق، فالوضع الحاضر أسوأ أثرا على نفسيهما، وأكثر إساءة لهما، وإذا اضطرني عناد زوجي إلى التشهير به، فلن يكون ذلك ذنبي، ولن أكون آخر امرأة طلقت، ولا آخر امرأة تطلق، ولن يكون لي من وراء هذا الطلاق إلا أن أستعيد حريتي، وأن أحيا كما يحيا كل من ملك حريته.
من يوم صح على هذا الرأي عزمي شعرت بدبيب الحياة السعيدة يجري في عروقي، ورأيت الجبال أبهى منظرا بالخضرة التي تكسو سفوحها، والبحيرات أبرع جمالا بأضواء الشمس والقمر تنعكس على صفحتها، ثم شعرت بنوع من النعمة لم أكن أشعر به من قبل، شعرت بكمال شخصيتي، وبقوة أنوثتي.
وعدنا إلى مصر، فألفيت زوجي يصعد إلى الباخرة وهي لا تزال في عرض الميناء، وأقبل علينا وجلس إلينا بعد أن قبل الطفلين وضمهما إلى صدره وقبل يدي وسلم على المربية، وكأنه مشوق إلينا أعظم الشوق، وبعد أن اطمأن بنا المجلس وتبادلنا السؤال عن الصحة وكيف قضينا سفرنا، نظر إلي في عطف وحنان، وسألني: «ألا تريدين أن نعود جميعا إلى القاهرة؟» فأجبته في هدوء وحزم: «أشكرك يا صديقي فلم يبق إلى حياتنا المشتركة من سبيل، وأنا أطلب إليك منذ اللحظة أن تسرحني، ولن أضن عليك بما تطلب لقاء طلاقي، فإن أجبتني إلى ذلك شكرت لك، وإن أبيت فلن تحمد من بعد إباءك.»
ووجم الرجل لما سمع، ولم نتبادل بعد ذلك كلمة حتى خرجنا من الجمرك، وذهبت إلى بيتي بالإسكندرية، وعلى باب البيت ودعنا ولا يزال واجما كئيبا، وعاد إلى القاهرة، وعدت إلى حياتي أنتظر ما الله فاعل به وبي!
الفصل الثامن
بعد ثلاثة أيام من مقامنا بالإسكندرية جاء صديقنا يسلم علينا ويرحب بنا، وإنما علمت بمقدمه حين سمعت طفلي يستقبلانه أول وصوله بالبشر والتهليل كأنه أعز عزيز عليهما، وصعدا معه إلي، وجلسا من حوله ينظران إليه بعيونهما البريئة نظرات كلها الحب الخالص، واهتز قلبي لهذا المنظر غبطة وطربا، وبقي هو يداعبهما تارة ويحدثني تارة أخرى وأنا سعيدة بلقائه أعظم سعادة، واستأذن يريد الانصراف قبيل موعد الغداء، فدعوته ليتناوله معنا، فاعتذر بأنه على موعد مع أصدقائه من أهل الإسكندرية سبقوني إلى دعوته إذ كانوا معه في القطار الذي قدم فيه، ثم قال وهو يودعني: «سأعود إليك بعد الظهر لحديث طويل بيني وبينك.»
وحاولت بعد انصرافه أن أتوهم ما عسى يكون هذا الحديث، فذهبت محاولتي سدى، وأوحيت إلى المربية بعد أن تناولنا طعام الغداء أن تأخذ الطفلين إلى حديقة النزهة، وأن تعود بهما ساعة المغيب ليخلو الجو لصديقنا في أثناء حديثه، وبعد قليل من خروجهم جاء صديقنا فألفاني وحدي فقال: «حسنا فعلت حتى يكون لي مطلق الحرية فيما جئت إليك بشأنه.»
قلت: «كلي آذان صاغية بعد أن حاولت عبثا أن أعرف ما تريد مني.»
قال: «إذن فاسمعي، أنت تعلمين أني لم أر زوجك ولم يرني منذ انتقالك إلى الإسكندرية، فقد اتهمني يومئذ أنني حرضتك ضده، وأعنتك عليه، ولذلك قاطعني وشهر عند أصدقائي بي، وإنني لفي منزلي أول من أمس إذ رأيته يدخل علي محمر العينين، ممتقع الوجه، متهالكا على نفسه، وكأنه لم يذق طعم النوم منذ عدة أيام، وقمت إليه مشفقا عليه راثيا لحاله، فعانقته كما لم أعانقه منذ سنين، ورجوته أن يجلس وأن يطامن من نفسه، وأن يذكر لي سبب همه وكربته، فمكث صامتا زمنا ثم قال: «معذرة يا صديقي أن لجأت إليك بعد أن قاطعتك، لقد فكرت طويلا فيمن ألجأ إليه لتفريج بلواي فلم أجد سواك، فأعني يرحمك الله، ولا أذاقك ما أذوق أنا الآن من مرارة قاتلة، لقد ذهبت أستقبل زوجي وطفلي بالإسكندرية ساعة عودهم من أوروبا، فلما لقيتهم رجوت زوجي أن نعود جميعا إلى القاهرة، فكان جوابها أنه لم يبق إلى حياتنا المشتركة سبيل، وأنها تريد مني أن أطلقها، فإن أبيت فلن أحمد من بعد إبائي، ولست أدري ما ذنبي عندها، لقد أحببتها ولا أزال أحبها حب تقديس، بل حب عبادة، أحبها لنفسها، وأحبها لطفلينا، أحبها وأزداد إعجابا بها كلما رأيت غيري يطري ذكاءها ورقتها وسحر حديثها، لم تأخذني الغيرة يوما عليها لأني أؤمن بشرفها وكبريائها، كإيماني بالله وبشرفي وشرف مهنتي، وقد غاضبتني بعد أن استخلصت بمعونتك ميراث صديقتها، غاضبتني وهي التي كانت تحرضني على ذلك وتدفعني إليه، وأنت تعلم أنه لم يكن بيني وبين صديقتها يوما ما يشينني، وأقسم بالله وبشرفي وبشرفها وبرأسي طفلينا أنه لم يكن بيني وبين هذه السيدة قط ريبة توجب أن تغاضبني زوجتي، فلما غاضبتني صبرت وصابرت مؤمنا بأن الزمن سيفعل فعله؛ لأن حبي إياها لا يزال اليوم كما كان يوم تزوجنا، مع ذلك أصرت على مغاضبتي - كما تعلم - وبعثت إلي ذلك الخطاب الذي أطلعتك عليه، ثم هجرت بيتها، وذهبت إلى الإسكندرية، وعدت فصبرت وصابرت، ولم أقصر قط في حقها أو حق ولدينا، ودفعتها إلى السفر في هذا الصيف الأخير إلى أوروبا لعلها تعاود التفكير في أمرنا وأمر ولدينا، فكانت نتيجة هذا التفكير ما ذكرت لك من إصرارها على الطلاق.»
وسكت زوجك برهة بعد ذلك استرد فيها هدوءه، ثم تابع حديثه قائلا: «أنا لا أريد قط أن ألومها على شيء من ذلك كله، لا أريد أن ألومها على مغاضبتي، ولا على ذهابها إلى الإسكندرية، ولا على طلبها الطلاق، لكني أريد أن أستغفرها ولا أزال أطمع في عفوها، أريد أن أعترف لها في غير موجب للاعتراف، بأني مذنب وبأني هفوت، بل أخطأت، بل أثمت في عنايتي بصديقتها، وفيما تقول من أني أعطف عليها، أو أميل إليها، أريد يا صديقي أن أفرض هذا كله صحيحا! ألسنا جميعا معرضين لأن نخطئ؟
وهل يستطيع الناس أن يعيشوا وأن يتفاهموا إذا لم يغسل العفو بينهم حوبة الخطيئة؟ إن المرأة لتخون زوجها حتى ليرتاب في ولده منها، ثم تطمع مع ذلك في عفوه ومغفرته، ولو أن زوجتي تتهمني بأن الأمر بلغ بيني وبين صديقتها هذا المدى - ولا أحسبها تبلغ من الريبة هذا المبلغ - أفلا أستطيع مع ذلك أن أستغفرها؟ تستطيع أنت يا صديقي أن تذكر لها أنني أقسم بأنني لن أرى صديقتها من بعد قط إذا أعدنا حياتنا سيرتها الأولى، أمن المعقول أن تجزي هذا الحب الخالص لها بكل هذا المقت الذي تواجهني به؟! وهل يبلغ من أمرها وهي الرزينة الحكيمة، أن تنسى ما يجر انفصالنا على ولدينا من ضياع يفسد كل حياتهما؟ إذا لم ترد أن تسمع في أمري إلى صوت الزوجة، فلتسمع في أمر ولدينا إلى صوت الأم، إنني أدع بين يديك يا صديقي بقية رجاء في أن تعيد إلى أسرة بائسة قبسا من نور الأمل في وجه الله، أفتقبل هذا الرجاء؟»
وما كاد زوجك يتم كلامه حتى انخرط في البكاء كأنه الطفل، وانقبض قلبي لبكائه، وكادت الدمعة تنحدر من عيني رثاء له وشفقة عليه، أنت تعلمين كم تعنيني سعادتك وسعادة طفليك، وأستطيع أن أؤكد لك صادقا أنه لم يكن بين زوجك وصديقتك ما يريب، فإن لم تصدقيه ولم تصدقيني، فهو بعد الذي كان منه، وبعد حديثه هذا معي، أهل لعفوك وغفرانك، أفأنت مع ذلك لا تغفرين، إن لم يكن من أجله فمن أجل ولديك؟»
أنصت إلى هذا الكلام، وتأثرت به، فأطرقت وأطلت الإطراق، وفي إطراقي ذكرت يوم قلت لزوجي إنه ممثل بارع، وإنه عطيل وروميو معا، فلما طال بصديقنا انتظار كلمتي نبهني بقوله: «سمعت الآن ما جئتك فيه، فماذا تقولين؟ أم تريدين أن أنظرك إلى غد حتى تفكري في الأمر وتقلبيه على شتى وجوهه؟»
قلت: «لا حاجة بي إلى الانتظار يا صديقي، لقد قلبت هذا الأمر وفكرت فيه شهورا إن لم أقل منذ سنين، وقد عدت إلى تقليبه في أثناء سفري الأخير إلى أوروبا؛ فازداد تصميمي على رأيي ثباتا وقوة، وأنت تعرف هذا الرأي، لست أخفيك أن ما ذكرته لي الآن قد ترك أثره في نفسي، برغم اقتناعي بأن زوجي ممثل بارع، وقد يكون صحيحا ما رواه لك من أنه يحبني، وأنه لم يكن بينه وبين صديقتي ما يريب، ولكن الأمر في هذا الموضوع لا يتعلق بروايته وصحتها أو بطلانها، إنما يتعلق بما أحسه أنا، وأنا أرى هذه المرأة بيني وبينه كلما مرت بخاطري صورته، أراها بيني وبينه في يقظتي وفي منامي، أراها بيني وبينه لابسة ثيابها وعارية كيوم ولدتها أمها، أراها بيني وبينه تنظر إليه بعينيها الساحرتين، وتطوق عنقه بذراعيها العاريتين، أراها بيني وبينه حتى في سرير نومي، أدع هذا الذي أقوله لك ما شئت؛ سمه تخريفا، سمه طائفا من الجنون تحكم في بصري وبصيرتي وفي أعصابي، لكنه الواقع من أمري؛ لقد أصبحت هذه الصورة لا تبارحني، وكأنما سرت مسرى الدم في عروقي، فتأثرت بها أعصابي وتأثر بها عقلي الباطن، فلم يبق لي فكاك منها، أما والأمر ما ترى فإنني أقول لك في شيء كثير من الأسف إن ما تطلب إلي لم يبق إليه سبيل.»
وحاول صديقنا أن يعاود الكلام في الأمر معي فقلت له: «لا تحاول المستحيل، وأبلغ زوجي أنه إن أراد بنفسه وبي وبطفلينا الخير فليسرحني سراحا جميلا، وأنه إن فعل ذكرت له هذه المنة ما حييت، ولن يكون لي عنده مطلب من المطالب.»
وغادرني صديقنا عائدا إلى القاهرة كاسف البال أسفا، فلما استدار الأسبوع عاد إلي ولا يزال الأسف باديا عليه، فلما جلسنا نتحدث قال: أشهد أن زوجك أكرم منك ألف مرة، وأنه رجل مروءة لا حد لمروءته، لقد قصصت عليه ما دار بيننا، وذكرت له أنني رويت لك حديثه كلمة كلمة، وصورت له إجابتك أدق تصوير، فاغرورقت عيناه، وقال: «أما وذلك شأنها فلا أرى الصبر ناجعا في علاجها، وليس لي إلا أن أنزل على إرادتها، وأن أدع لها بعد ذلك حرية الاختيار كاملة»، ثم إنه رجاني أن أحضر صبح الغد لأجد المأذون عنده فيطلقك أمامي طلقة واحدة بائنة لا يمكن معها ردك إليه بغير رضاك، وعدت إليه في الموعد الذي ضربه فألفيت المأذون عنده فأتم الطلاق كما قال، ولما انصرف المأذون أعطاني قسيمة الطلاق لأوصلها إليك، وقال: «أبلغها أنني عند رأيها ما حييت، إن شاءت يوما أن تعود إلى عصمتي فهذا البيت بيتها، وإن أرادت أن تتزوج بغيري فذلك شأنها، ولن أقصر في نفقة ولدينا، كما تقدرها هي، إلا أن يقعدني العجز عن أدائها»، ثم إن صديقنا سلمني قسيمة الطلاق، وقال: والآن فما رأيك يا سيدتي؟ فلم أملك نفسي بعد الذي سمعت منه، وبعد أن أمسكت بقسيمة الطلاق في يدي أن بكيت حتى علا بالبكاء صوتي، فلما عاودني بعض هدوئي قلت: أشكرك، والآن عد أنت إلى القاهرة، فإذا حدثتك نفسك يوما أن تزورنا كنت قد رويت في أمري، فأخبرك بما يستقر عليه رأيي.
وانصرف الرجل وهو يقول: «أرجو لك من الله التوفيق والسداد.»
خلوت بعد انصرافه إلى نفسي فقرأت قسيمة الطلاق، وأعدت قراءتها، وأخذت أفكر فيما يكون بعد أن بلغت غايتي، على أنني سرعان ما سألت نفسي: أينا انتصر بهذا الطلاق، أنا أم صديقتي؟ لقد كنت أراها بيني وبين زوجي، وهأنذي الآن نحيت نفسي فأصبحت وحدها معه، في ثيابها أو عارية كيوم ولدتها أمها، ألا تعسا لها فاتنة الرجال! نعم هي التي انتصرت، أما أنا فأصبحت وحيدة لا سند لي، أعيش من نفقة هذين الولدين ومما اقتصدت، وهانت علي عبرتي من جديد فأسلمت لعيني العنان، وخشيت أن يحضر طفلاي، وأن يرياني على هذه الحال فدخلت غرفة نومي، وأوصدت بابها، ودقت المربية الباب فناديتها من مضجعي: إنني متعبة، وطلبت إليها أن تدعني أستريح.
ولقد شعرت بنفسي متعبة مهدودة بالفعل، ورأيت بعد قليل أنني عاجزة عن التفكير، وكأن ذهني خلا من كل ما يشغله، وإن لم تطاوعني أعصابي إلى الهدوء الذي أبتغيه، فتناولت مسكنا أسرع بي إلى عالم النوم.
استيقظت صبح الغد وأنا أحسن حالا مما كنت، واستعدت حين صحوت ما دار بيني وبين صديقنا من حديث منذ أسبوع، وذكرت ما رواه على لسان مطلقي من أنه لم يحب صديقتي ولا يحب غيري، فخف علي العبء الذي أثقلني أمس، حين تصورت أن هذه المرأة انتصرت علي بطلاقي من زوجي، وشعرت بأن هذا الرجل المسكين قد أصبح بعد تطليقه إياي في عزلة تامة، لا يؤنسه أحد، ولا يؤنسه ولداه وهما بالإسكندرية معي.
وخرجت من غرفتي ألقى الطفلين، فلما قبلتهما ورأيتهما في صحتهما ونضارتهما ازددت هدوءا وطمأنينة، وذكرت صديقات لي مات أزواجهن وهن في ريعان شبابهن، وتركوا لهن صبية ضعافا، فكرسن حياتهن لأبنائهن، ثم سعدن بهم إذ رأينهم يكبرون بعنايتهن ورعايتهن، أما وقد رزقني الله هذين الصبيين الجميلين، فأي سعادة غيرهما أبغى؟ إن واجبي أن أكرس لهما حياتي، ولا أفكر في شيء سواهما لأراهما يكبران أمام ناظري فيصبحان فتى وفتاة ملء العين، ثم رجلا وامرأة يحملان عبء الحياة بأحسن وأسعد مما حملته.
وسكنت نفسي إلى هذا الخاطر، فضاعفت عنايتي بالصبيين، وشغلت بإدخالهما المدرسة، وعاهدت نفسي على أن أنقطع لهما ولمعاونتهما في دروسهما، وأن أنسى كل شيء فيهما، ففي ذلك هناءتي وحسن أداء واجبي في الحياة، وانقضت أيام وأنا على هذه الحال، لا أكاد أفكر في أبيهما، بل لا أكاد أفكر في نفسي، مؤمنة بأنهما أصبحا كل شيء في حياتي ، وبأن ما سواهما لم تبق له أية صلة بي.
وكان لذلك أثره الحسن في صحتي وطمأنينتي؛ أذكر إذ ذاك يوما جلست فيه إلى شاطئ البحر أرقب أمواجه، فمرت بخيالي صورة مطلقي وقد التقى بصديقتي ووقفا يتحدثان، لم تزعجني الصورة قط، بل هززت كتفي وقلت في نفسي: «ليس ذلك شأني، فهذا الرجل لم يبق زوجي، ولم يبق لي أن أحاسبه، لقد أصبح بطلاقي حرا كما أصبحت أنا بهذا الطلاق حرة، وكما أستطيع إن شئت أن أتزوج وأن أختار السيرة التي أرضاها فهو كذلك حر في أن يختار لون الحياة الذي يرضيه، وهذه المرأة حرة هي الأخرى، إن صح أن التقيا يوما فليفعلا ما يشاءان، حسبي سعادة بالطفلين، ولغيري أن يبحث عن سعادته كما يحب ويهوى.»
وبعد أسبوعين رأيت صديقنا يدخل عندي ويسألني بعد أن بادلني التحية: «أما فكرت من جديد في استئناف حياتك مع زوجك؟ لقد لقيته في المعادي منذ يومين فدعاني إليه وسألني: ألك في هذا الأمر رأي؟ ولما قلت له إنني لم أرك منذ أعطيتك قسيمة الطلاق، رجاني في زيارتك والتحدث إليك في الموضوع.» وأدهشني هذا الكلام، فقلت في حدة: «وهل تراني كنت أعبث يوم طلبت الطلاق، ذلك أمر لا رجعة فيه، ولا محل للحديث عنه.» قال: «الأمر في ذلك لك، وقد توقع هو أنك ستجيبين كما أجبت الآن، أما وقد صح تقديره فإنه يستأذنك في أن يرى ولديه، ولا يشك لحظة في أنك تأذنين.» وأجبت على الفور: «هذا حقه ولن أحرمه منه، لكن لي شرطا واحدا، ذلك ألا يراني ولا أراه، فإذا فكر في المجيء ليراهما فليخطرني بموعد حضوره، وعند ذلك أدع له البيت ليلقى طفليه فيه.» قال صديقنا: «أنا أشكرك بلسانه، وسيحضر في الأسبوع المقبل بأول قطار يغادر القاهرة يوم الجمعة، ثم يعود إليها بآخر قطار في اليوم نفسه.»
وانتقل صديقنا بعد ذلك بالحديث يسألني - وقد ذكرت له أنني لن أستأنف حياتي الزوجية مع مطلقي - عما اعتزمت أن أفعل بعد انقضاء عدتي، قلت: «لا شيء ، كرست حياتي لهذين الطفلين اللذين رزقني الله بهما، وأكبر ما أرجو أن يساعدني على القيام بواجبهما على نحو يرضيني، ويطمئن له قلبي.» قال صديقنا: «فليعاونك الله وليوفقك فيما تقصدين إليه.»
وفي يوم الجمعة الذي تلا هذا الحديث غادرت المنزل قبل موعد وصول قطار القاهرة إلى الإسكندرية، وقلت للمربية ساعة خروجي إنني سأتناول غدائي في الخارج، وذكرت لها أن والد الطفلين سيحضر ليراهما فلتبق معهما في البيت حين حضوره؛ حتى تنقل إلي عند عودتي ما يدور بينه وبينهما من حديث، فلما عدت ساعة المغيب ذكرت لي أن الدكتور حضر بعد قليل من مغادرتي المنزل، وأنه ما لبث حين رأى ولديه أن قبلهما وعانقهما طويلا وعيناه مغرورقتان، وأنه دعاهما ودعاها للتنزه ولتناول الغداء في مطعم على شاطئ البحر، وأن الصبيين كانا سعيدين بأبيهما كل السعادة، وأنهم قضوا جميعا يوما من أسعد الأيام وأمتعها، وأنه عاد معهم إلى المنزل، فلما حان موعد سفره ودع الصبيين في تقبيل وعناق تأثرت المربية لهما غاية التأثر، ثم أعطاها ساعة خروجه هدية قيمة هي ثلاث ساعات ذهبية، فلما سألته المربية عن الساعة الثالثة لمن تكون، قال إنها لأمهما، ثم وعد أن يزورنا في مثل موعده بعد أسبوعين، وقالت له بنتنا: ولم لا تزورنا كل أسبوع يا والدي؟ فأجابها بأنه يكون أسعد الناس بذلك إذا أذنت والدتك به.
وأخذت الساعات الثلاث وقلبتها في يدي فإذا هي هدية قيمة بالفعل، وإذا الساعة التي خصني بها أجملها وأقيمها، ولقد دهشت لهذا التصرف من جانبه، فما له وما لي بعد أن طلقني نزولا على إرادتي؟! أولو كان يميل إلى صديقتي، أفما كانت أولى هي بهذه الهدية مني؟ إنها لم تنتصر إذن علي، والموقف لا يزال في يدي.
وابتسمت لهذا الخاطر، وجاء ولداي قبل نومهما يقبلانني ويهديانني مساء الخير، فلما قبلتهما وأذنت لهما بالانصراف إلى حجرة نومهما قالت ابنتي: «لم لا تأذنين يا أماه لأبينا أن يزورنا كل أسبوع؟ إنه ظريف ويحبنا، لقد قضينا معه سحابة هذا النهار أسعد ما نكون، ولعل هدية الساعات الثلاث أعجبتك.» فقبلتها من جديد وقلت لها: «اذهبي إلى مخدعك، وسيكون لي في الأمر رأي.»
وشعرت لساعتي بأنا لن نستطيع أن ننفصل حقا وهذان الطفلان بيننا، وإذا أردت أن أنفصل عنه انفصالا حاسما فيجب أن ينسياه، لكنهما لا يزالان في حاجة إليه، على الأقل لنفقتهما، وليس بمعقول أن أكلفه هذه النفقة وأن أحرمه رؤيتهما، ولست أشك في أنه سينفق عليهما كل ما أطلب منه، ولو أرهقه ذلك من أمره عسرا.
وانقضى الأسبوعان وجاء الرجل من القاهرة يرى ولديه، وقد تركت له البيت كما فعلت المرة الأولى، فلما عدت إلى المنزل بعد انصرافه علمت أنه حمل إلى الولدين من الهدايا ما جعلهما يتصايحان ساعة دخولي، يعرضان علي ما جاء به والدهما، ويذكران كيف قضيا معه نهارا سعيدا، وأعطتني المربية خطابا منه فتحته فإذا فيه تحويل على البنك، ورسالة يذكر فيها أنه آثر أن يحول هذا المبلغ الكبير دفعة واحدة حتى لا يبعث إلي بتحويلات شهرية، وأنه يرغب إلى أن أحيطه علما متى نفد هذا المبلغ ليبعث إلي بتحويل جديد.
وأثار تصرفه هذا حيرتي، فأنا أعلم من حاله المالية ما لا أشك معه في أنه يستدين الكثير من هذه المبالغ التي يبعث بها إلينا، سواء تحويله اليوم، أو تحويله حين سفرنا إلى أوروبا، أو تحويله الأول، هذا إلى جانب ما ينفق لحياته الخاصة، أفلا يحملني ذلك على التفكير من جديد في الأمر حتى لا أشق عليه إلى هذا الحد، ولا أحمله ما لا يطيق؟
وجاء صديقنا بعد أسبوع، فذكرت له ما صنع مطلقي، ورجوته أن يبلغه أنني لا أريد إرهاقه، وأني أفضل أن نتفق على مبلغ شهري لنفقة الطفلين؛ لأنني لا أقبل منه شيئا لنفسي، وأنا مصممة على ألا أعود إلى الحياة معه أبدا.
قال صديقنا: «أولا تزالين تظنين أن له بصديقتك علاقة، أو أن له إليها ميلا، أو أن شيئا من ذلك كان؟»
قلت: «كلا، إني مطمئنة الآن كل الاطمئنان من هذه الناحية وإن لم تعد تعنيني، فلو أنه تزوج صديقتي غدا لما اهتز لذلك مني عصب، ولا طرفت لي بسببه عين.»
قال: «أما وقد زال ما كان قائما بنفسك من هذه الناحية، فما هذا التشبث السخيف بألا تعودي أنت ووالد ابنيك سيرتكما الأولى، فتجمعي بذلك أسرة تشتتين أنت اليوم شملها، وتبددين سعادتها وهناءها؟!»
لم أملك نفسي حين سمعت ذلك منه أن ثارت كبريائي، فقد أصاب كلامه عزتي بطعنة أهاجت كرامتي، وبجرح أدمى نفسي فصحت به: «أوتحسبني طفلة غريرة لا تعرف ما تريد؟ وهل تظنني حفلت يوما بصديقتي إلى حد أثار غيرتي منها لعناية هذا الرجل بها؟ لقد كان الأمر بيني وبين زوجي أعمق من هذا، وإذا كنت قد حدثتك عنها وذكرت لك أنني أراها بيني وبينه فلأنني لم أرد ولن أريد أن أكشف عن مستور نفسي وحقيقة سري، فأرجوك يا صديقي وألح عليك ألا تعود إلى الكلام معي فيما ذكرت اليوم، فلا طاقة لي بسماعه من أحد، ولا طاقة لي بسماعه منك أنت خاصة.»
لست أدري كيف أفلتت هذه الجملة الأخيرة من بين شفتي، فلقد خشيت بعد أن تلفظت بها أن يحملها صديقنا معنى بذاته، فعدت إلى هدوئي وقلت له: «إنني لواثقة بأنك أشد الناس حرصا على شعوري، وأكثر معرفة بما تنطوي عليه نفسي إزاء هذا الرجل، فلو أن غيرك قال ما قلت أنت هان علي سماعه، أما وأنت تعرفني حق المعرفة، وتعلم أنني لا أصدر في تصرفاتي عن طيش ولا عن نزق؛ فقد أثارني كلامك وجعلني أظنك تناسيت ما لا يجب أن تنساه.»
ورحنا بعد ذلك إلى الحسنى، وتناول كلامنا من الشئون ما لا شأن له بي، فلما انصرف صديقنا حمدت ثورتي أن جعلت العود إلى هذا الموضوع محالا.
وتوالت الأسابيع والشهور بعد ذلك، وزادني تواليها اقتناعا بأن المربية أقدر مني على العناية بالطفلين ومعاونتهما على استذكار دروسهما؛ لذلك بدأت أشعر بخلو حياتي، وبدأ الملال يعاودني، كيف أملأ إذن أوقات فراغي؟ لا شيء يستنفد الوقت ما تستنفده القراءة! لذا أكببت أقرأ ما لم أكن قرأت من أمهات كتب الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وما ترجم إلى هذه اللغات من أمهات الأدب في غيرها من الأمم، وأعيد ما كان موضع إعجابي مما قرأت من قبل، وكثيرا ما كنت آخذ كتابي وأجلس إلى شاطئ البحر أستمع مقفلة العينين إلى صريف أمواجه المتكسرة على الشاطئ كما يستمع المغني إلى ألحان الموسيقى قبل أن يبدأ أدواره، فإذا امتلأت أجنحة الخيال فتحت كتابي وأخذت أقرأ فأستغرق في القراءة، فتأخذني روائعها عن كل ما حولي من ضجة الحياة، وأحس أنني اندمجت مع المؤلف ومع أفكاره ومع أبطاله، وأصبحت في جوه هو، وأصبح الجو من حولي مسرحا لهذه الأفكار ولهؤلاء الأبطال لا يعرف غيرها وغيرهم، ولا يتحرك فيه شيء سواها وسواهم.
وطال بي ذلك زمنا استغرق أسابيع بل شهورا، على أني شعرت بعد هذا الزمن أنني في حاجة إلى أن أستجم وأستريح، وما كدت أقضي أياما في راحتي واستجمامي حتى بدأ الشعور بالملال يعاودني، فكرت أنه لا بد من شيء آخر غير القراءة أطرد به هذا الملال وما يجره من سآمة، ودار بخاطري أن أستغني عن المربية وأن أقوم أنا بدورها، لكني أشفقت من هذه الأمانة وأبيت حملها بعد أن سبقت لي تجربتها، واقتنعت بأن المربية أقدر مني على إجادتها، ماذا أصنع إذن لأملأ أوقات فراغي؟
شغلت نفسي بما تشغل به كثيرات من الأمهات وقتهن فبدأت أطرز لطفلي بعض ملابسهما، لكني سرعان ما برمت بهذا العمل وألقيته جانبا، فهو يشغل اليدين ويترك الذهن في حيرة فراغه، وهو بعد ليس الإنتاج الذي يليق بمثلي، وقد تعودت أن أبتاع للطفلين هذا النوع من الملبس الجميل الذي لا يكلف باهظ النفقة، فأي شيء أصنع يليق بي ويملأ أوقات فراغي؟
بدأت أغبط هاتيك النسوة الفقيرات بائعات اللبن أو الخضر، أو العاملات في المزارع والمصانع، أو في المنزل ممن يستيقظن مع الفجر ليؤدين واجب الحياة ولا يشعرن بما أشعر به من ملال وسأم، وبدأت أغبط مربية أولادي إذ تنهض بعبء حياتهما وبتربيتهما وتعليمهما، وتولاني الأسف أن لم أتم دراستي ليكون إتمامها في الموقف الدقيق الذي أقفه اليوم وسيلتي لعمل مثمر يملأ فراغ وقتي؛ فلست أنا من طراز هاتيك النسوة أمثال صديقتي ممن يستطعن أن يقضين نهارهن وجانبا غير قليل من ليلهن في التزين، وفي فتنة الرجال استجداء لعطفهم واستظلالا بحمايتهم، أما وذلك شأني فما عساي أصنع لأملا أوقات فراغي؟
شغلت بهذا الأمر أيما شغل، وزادني اشتغالا به ما أعلمه عن الناس وألسنتهم الحداد يسلقون بها امرأة مثلي تعيش منفردة مع طفلين في حي ناء من أحياء الإسكندرية، ولئن كانت أحاديث الناس لا تعنيني فإنني مع ذلك لجد حريصة على مكانتي، وعلى سمعتي، وعلى ألا يشمت الشامتون بي.
وجاء صديقنا يوما فألفاني في هذه الحال القاتلة كاسفة البال، فسألني ما بي؟
قلت: لا شيء. قال: إن وجهك ينم عن شدة حيرتك وقلقك، فهل يوجد ما يزعجك؟
قلت: كلا، ولكنه الفراغ يقتلني، لقد كنت قبل طلاقي أناصب زوجي الخصومة، وأناضل أوهاما تقوم برأسي، فكان لي من هذا النضال ما يشغل وقتي كله، أما اليوم فلم يبق لي في الحياة شاغل، ولست أطيق هذا الفراغ فهو يأخذ بخناقي، دعك ما يتيحه للناس من فرصة الثرثرة علي والتندر بي فذلك لا يعنيني.
قال صديقنا: أما فكرت في العود إلى القاهرة تستأنفين فيها حياتك الماضية؛ إن لك بها لأصدقاء يسرهم أن يروحوا عنك ويذهبوا ملالك وسآمتك، ولو أنك عدت إليها لسرني أن أكون في مقدمة هؤلاء.
قلت: لم تعد هذه الحياة تروقني، لقد اتخذتها يوما وسيلة لغاية هي أن أثير غيرة زوجي ليعود إلى حظيرتي، أما أن أجعلها حياتي اليومية، وأن أطلق بذلك ألسنة الناس في غير موجب، فذلك حمق لا أرضاه.
قال صديقنا: لا أريد أن أحدثك من جديد في استئناف حياتك الزوجية الأولى بعد الذي سمعته منك في شأنها، فلم لا تتزوجين رجلا آخر تبنين معه بيتا جديدا وحياة جديدة؟
فأطرقت طويلا ثم قلت: ذلك أمر لم أفكر بعد فيه، أنا بطبيعة الحال حرة في أن أفعل إن شئت، لكنني ... لم أفكر في الأمر.
والواقع أن هذه الفكرة كانت قد بدأت بالفعل تداعبني، وأنني كنت أفكر بالفعل في صديقنا، لكن اعتراضات قوية ردتني عن هذا التفكير: أولها ما دأبت صديقتي على إذاعته في جميع أوساطي قبل زمن طويل من طلاقي، من أني أريد أن يطلقني زوجي لأتزوج من صديقنا، فلو أن هذا الزواج تم اليوم لصدق الناس ما كانت تذيعه، ولقال الناس في ما شاءت لهم أهواؤهم فصدقهم الأمر الواقع.
وثاني هذه الاعتبارات وأهمها في نظري أني أريد أن أنسي ولدي أباهما حتى يكون انفصالنا حاسما، ولن يكون ذلك إلا إذا تبناهما من أتزوجه فتسميا باسمه، وليس يسيرا أن يقبل رجل هذه التبعة أمام نفسه وأمام الناس.
ولما ذكرت لصديقنا أنني لم أفكر في أمر الزواج بعد قال: لعلك تفكرين فيه ثم نعود إلى تقليبه معا، وسأعود من القاهرة في الأسبوع المقبل.
ماذا تراني أقول له يوم يعود؟ قضيت طيلة الأسبوع ألتمس جوابا لهذا السؤال، ولم أكن قد اهتديت إلى جواب حين عاد، فلما فاتحني في الموضوع قلت له: لقد فكرت في الأمر فلم يهدني تفكيري إلى رأي، فهل لي أن ألتمس هذا الرأي عندك؟
فمكث طويلا صامتا، ثم قال: لم أكن أحسب الأمر دقيقا بهذا المقدار، فلم يعهد الناس أن تقول سيدة إنها تريد أن تتزوج، وإنما عهدهم أن يخطب الرجل السيدة فتقبل أو تأبى.
قلت: أرأيت؟! هأنتذا وضعت يدك على جوهر الأمر ولبه، أما ولم يخطبني حتى اليوم أحد إلى نفسه فلا يجوز لي أن فكر فيما أريد وما لا أريد.
وأطرق الرجل طويلا ثم رفع رأسه وقال: أصارحك بأنني لست راضيا عن هذه الحياة التي تحيينها، سواء رضيت بها أنت أم برمت بها، فأجيبيني بصراحة: أترضينني زوجا إذا أنا خطبتك إلى نفسي؟
قلت: وما عسى أن تقول صديقتي يومئذ؟ إنني منعتك من زواجها، وبذلت جهدي ليطلقني زوجي حتى تتزوجني؟!
قال: دعك من صديقتك وما يمكن أن تقول، وإذا كان هذا كل اعتراضك فما أهونه! أنت اليوم امرأة حرة من عدة أشهر، فإذا تزوجت دل ذلك على أنك سيدة عاقلة، وأنك تؤثرين الحياة الكريمة على هذه الحياة الماجنة التي تحياها صديقتك منذ سنين.
قلت: إذن فاسمع، إنني أرحب بخطبتك وأشكرك عليها إذا قبلت لي شرطا لا أفكر في أن أتزوج من لا يقبله؛ إنني أريد أن أحسم كل صلة بيني وبين مطلقي، ولا يكون ذلك ما بقي هذان الطفلان منسوبين له، فلا بد أن يتبناهما من أتزوجه، وأن يتسميا باسمه، فإن قبلت أنت ذلك قبلت الزواج منك.
وجم الرجل وتولته الدهشة لهذا الذي طلبت إليه، وبعد أن فكر في الأمر مليا قال: لك ما تطلبين، فالأمر في ذلك أمرك أنت، وإذا وجه الناس فيه لوما فسيوجهونه إليك، على أنني أوثر ألا نعجل في ذلك، وألا نعجل في إعلان زواجنا حتى لا يعرفه مطلقك، فإذا انقضت على زواجنا بضعة أشهر انتقلت إلى بيتي بالقاهرة، ودبرنا أمر الطفلين في هذه الأثناء، عند ذلك أجبته: إذن فأنت وما تريد.
ولم ينقض هذا المساء حتى كان قد أحضر المأذون فأطلعه على وثيقة الطلاق فعقد زواجنا، وانتهت بذلك حيرتي وقلقي؛ إذ أصبحت في عصمة رجل أثق به وأطمئن إليه، وله إلى ذلك الفضل في أنه هو الذي عرض نفسه لينقذني من هذه الحيرة وهذا القلق، برغم ما يمكن أن يتهمه الناس به من أنه خان عهد الوفاء لصديقه، وخفر ذمته وسلبه زوجه.
وعاد الرجل الغداة إلى القاهرة وكأن شيئا لم يحدث، وأخذ يتردد علينا كل أسبوع متحاشيا يوم يجيء مطلقي يرى فيه ولديه، وانقضت الأيام والأسابيع والأشهر بعد ذلك، وقد سكنت نفسي وهدأ بالي واطمأننت إلى الحياة، ولم يعد يشغل بالي من أمرها إلا أن ندبر كيف ننسب الطفلين إلى زوجي، ولم يكن تدبير هذا الأمر مستطاعا قبل أن يعلم مطلقي بزواجنا، وقبل أن نقطع صلته على وجه حاسم بنا.
وبقيت أتناول من مطلقي ما قرره لنا من نفقة حتى عدت إلى القاهرة، وحتى علم بأنني تزوجت صديقنا، هنالك جن جنونه وأيقن أنني لم أفسد زواج صديقتي بصديقنا إلا لأتزوجه أنا، فأنا إذن كنت أحب الرجل الذي تزوجته اليوم إذ كنت في عصمته هو، وأنا لم أغاضبه ولم أناصبه العداوة إلا لهذا السبب، وأن صديقنا حرضني على ذلك وأعانني عليه، كما حرضني على هجر بيت الزوجية والفرار إلى الإسكندرية، ولم يترك مطلقي وسطا من الأوساط التي يغشاها إلا طعن فيها على صديقنا أشد الطعن، ورماه بالخيانة والغدر، وبكل منقصة تنكرها الرجولة وتأباها الكرامة.
ولم يقف أمره عند هذا الحد، إنه يعلم تعلقي بولدينا وحبي لهما حب العبادة لا حب الأم؛ لذا بعث إلي من يخبرني أنني لم أعد أصلح للقيام عليهما بعد أن تزوجت، وأنه يطلب أن أسلمه إياهما بالحسنى، وإلا قاضاني لضمهما إليه، وطلبت إلى رسوله أن يبلغه أنني لا أزال أطمع منه فيما عودنيه من عطف ونبل، وألا يحرم الولدين من حنان أمهما وقد تعوداه، وأنني سأبعث بهما إليه يوما من كل أسبوع يقضيان سحابة نهارهما عنده، وتوسلت إلى الرسول كي يقف مدافعا عني عند مطلقي وقلت له: «بالله عليك، أكان يرضيك أن أبقى بلا زوج فتكثر قالة الناس في وتجرحني بالباطل؟! لقد نذرت نفسي غداة طلاقي لهذين الطفلين أربيهما ثم لا أتزوج ما عاشا، لكنني رأيت نفسي بعد شهر عاجزة عن الوفاء بنذري، معرضة لما تتعرض له امرأة في مثل موقفي من سوء القالة وإثم الظن، ولولا أن عرض صديقنا نفسه ليفتديني مما كنت معرضة له لبقيت ينهشني الناهشون، ويدسون إلى قلبي سمومهم حتى أموت كمدا، لكن هذا الرجل كان صديقا لمطلقي قبل أن أعرفه، ثم كان مطلقي سبب التعارف بيننا وتوثيق صلتنا؛ إذ قدمه لي على أنه أكثر أصدقائه وفاء ومروءة، هذا الرجل أدرك حرج مركزي فقدم نفسه منقذا لي؛ فتشبثت باليد التي مدها إلي إبقاء على سمعة طاهرة ما تعرضت يوما لكلمة سوء، أليس حقا على مطلقي أن يحمد هذا الصنيع؟ أم يكون جزاء ولدي أن يحرما من حنان أمهما، وأن يعيشا مع مربيتهما يتيمين؟ «ناشدتك المروءة يا سيدي إلا ما رجعت إلى صاحبك وأقنعته بأن ولدينا عندي أعز من عيني، بل أعز من حياتي، وأنني سأبقى مدينة له بهذه الحياة لقاء تركهما في أحضان عنايتي، أنا أم يا سيدي فلا تكن علي في حرماني من حبة قلبي، بل كن لي ولك شكري وثنائي، وادع الله معي أن يوفقك فيما أرفع إليك أكف الضراعة فيه.»
كانت نبرات صوتي في أثناء هذا الحديث تصور ما ينبض به قلبي، وكنت في ختامه قد رفعت كفي المرتعشتين ضارعة إلى رسول مطلقي ليكون عوني، فلما أتممت كلامي ألقيت رأسي بين ذراعي أخفي دموعي التي انهملت وفضحها بكائي، ثم رفعت رأسي فإذا الرجل كله التأثر يكاد يبكي لبكائي، فلما استرجعنا بعض سكينتنا قال: «ليتني أستطيع في الأمر شيئا يا سيدتي، ولو أنك رأيت ثورة مطلقك لعذرتني، ولو أنني عرفت قوة حجتك لما قبلت رسالته، صحيح أنه حذرني من سحر حديثك، وحديثك ساحر لا ريب، ولست أدري والأمر ما أسمع وأرى كيف طابت نفسه بتطليقك، على أنه ذكر لي أنك لو كنت تزوجت شخصا غير هذا الذي خان عهده وأبعدك عنه، لما ثار بك هذه الثورة، مع هذا سأكون رسولك إليه، كما كنت رسوله إليك، وأرجو أن أوفق معه إلى ما يرضيك برغم ما في ثورته من عناد وعنف.»
انصرف هذا الرسول ولم يعد إلي، وحسبت أنه وفق في إقناع مطلقي بما أردت؛ لأنني لم أسمع عن هذا الموضوع حديثا أسابيع متعاقبة، بل لقد بعث إلي مطلقي بنفقة الطفلين بعد ذلك مما ثبت عندي الظن بأنه أجاب رغبتي، على أني علمت أنه سافر بعد ذلك إلى الإسكندرية لغير سبب أفهمه، ولم أعن نفسي بالتماس العلة لهذا السفر، ولم أتتبع خطواته فيه، ولم يدر بخاطري أن له بحياتي هناك أيه صلة. وكان من أثر سكوته الظاهر عني أن استراح ضميري إذ قدرت أن أمر الطفلين انتهى إلى ما أريد، وإن اضطرني ما حدث للتنازل عن مطالبة زوجي بأن يتبناهما حتى لا يثور الأب من جديد لإهدار أبوته فيعود إلى المطالبة بضمهما إليه.
وإنني في مخدعي ذات صباح بعد هذه الأسابيع إذ حمل إلي الخادم إعلانا قال إن أحد المحضرين جاء به واستمضاه على أصله، وقرأت الإعلان فإذا هو من مطلقي يطلبني به أمام المحكمة الشرعية لسماع الحكم بضم ولديه إليه لأنني تزوجت وأصبحت لا أؤتمن عليهما. عند ذلك طاش صوتي، وخيل إلي أن انتزاع الصبيين مني معناه انتزاع حياتي من بين جنبي، ولعنت الساعة التي قبلت فيها أن أتزوج من صديقنا، وحسبت أني إذا انفصلت عنه بالطلاق حلت هذه العقدة واستبقيت ولدي في أحضاني، لكن ماذا يقول الناس يومئذ عني؟ ويا لشماتة صديقتي إن حدث مثل هذا الأمر! إنها يومئذ لتدق الطبول وتقييم الأفراح، وتنادي بأن القدر انتقم لها من مؤامرتي عليها، رباه ماذا أفعل وأي سبيل أسلك؟!
وإني لفي حيرتي إذ أقبل صديقنا - زوجي - فناولته الإعلان فقرأه ثم رده إلي، وبعد هنيهة قال: «يا له من دنيء! أيحسب قاضيا يحكم بما يطلب ليقيم الطفلان في بيت لا يرعاهما فيه أحد؟! سأوكل عنك أبرع المحامين الشرعيين يسلقونه في المحكمة بألسنتهم الحداد، ولا يدعون له أديما صحيحا حتى يمزقوه إربا إربا، وسيعلم يوم يحكم القضاء برفض دعواه ومضاعفة نفقة الطفلين أنه اختار أسوأ ميدان يمكن أن ينازلك فيه.»
وبعد الظهر أخذ الإعلان وذهب به إلى محام شرعي من أصدقائه وكله عني، ويومئذ أيقنت أني عدت مع مطلقي إلى خصومة لا تنفع فيها مغاضبة ولا ملاينة؛ لأنها انتقلت إلى عناد عنيف بين زوجي القديم وزوجي الجديد، ولم يخطئ ظني، فقد شغل زوجي بهذه المسألة إلى غير حد، حتى لقد كان يذهب إلى المحامي بعد الظهر من كل يوم، ثم يجيء إلي يقص ما دار بينهما، ويذكر أن المحامي واثق من كسب الدعوى لا محالة.
مع هذا كانت المخاوف تساورني، أولو قضي لمطلقي بضم ولديه فماذا عساي أفعل؟ أؤسلمهما له في يسر وإذعان لأنني إن لم أفعل تسلمهما بقوة القانون؟ لكن حياتي تصبح بعد ذلك جحيما لا يطاق، ويعلم الله بعد ذلك ما يكون بيني وبين زوجي في حياتنا الحاضرة!
وبدأت أعصابي تضطرب لكثرة تفكيري في هذا الأمر، وأدى ذلك بي إلى صنع ما كنت أسخر منه حين يصنعه غيري؛ بدأت أزور الذين يقرءون الكف وينظرون في فنجان القهوة لعلهم يطمئنونني على مصير الولدين، وقيل لي إن شيخا من أولي البركة يستطيع بتعاويذه أن يكفل لي كسب قضيتي، فذهبت إليه من غير أن يعلم زوجي، وكنت كلما رأيت الطفلين أمامي بكيت كأنما أصبحا يتيمين، وكنت أختلف مع زوجي وأغاضبه لسبب ولغير سبب، وكان هو يدرك علة اضطرابي وما أنا فيه فلا يغضبه غضبي، بل يبذل كل جهده ليهون علي الأمر ويرد إلي الطمأنينة.
وتأجلت القضية غير مرة بطلب محامي، ثم جاءت جلسة المرافعة فيها فأردت حضورها، فألح علي زوجي ألا أفعل مخافة أن تصدر مني كلمة من غير قصد تكون سببا في ضياع حقنا، وترافع المحاميان في الدعوى، وقالا في وفي زوجي وفي مطلقي ما قال مالك في الخمر، وحجزت القضية بعد ذلك أسبوعا للحكم فازددت اضطرابا، لقد أفهمني زوجي أن دعوى مطلقي سترفض في الجلسة وفي وجهه، فما هذا التأجيل؟!
وقضيت الأسبوع كاسفة البال كثيرة التفكير، فلن يتغير شيء في حياتي إذا رفضت المحكمة طلب مطلقي، أما إذا حكمت له فالويل لي!
وجاء موعد النطق بالحكم، فإذا هو يقضي بضم الولدين إلى أبيهما، وقعت الواقعة إذن وأقر القضاء ما وجه إلي زوجي من مطاعن، قال زوجي حين رأى جزعي وبكائي: «لا تجزعي فسنستأنف الحكم، وأمل المحامي في الاستئناف كبير.» قلت: «وقد كان أمله كبيرا عندما تسلم الإعلان الأول، وها نحن أولاء خسرنا القضية في الجولة الأولى، ولا أريد بحال أن نغامر أمام الاستئناف فنخسرها مرة أخرى، إنني أريد أن أرى مطلقي بنفسي، وأنا واثقة من مروءته وطيبة قلبه.» قال: «الأمر لك، فاصنعي ما تشائين! لكن الاستئناف يجب أن يرفع بعد أن أصبحت أنا هدفا لمطاعن لا يمكن أن أقبلها.»
وأعلنني مطلقي بالحكم، وكان مشمولا بالنفاذ المعجل، وقال في الإعلان إنني إن لم أسلمه الطفلين لضمهما إليه فسيتخذ إجراءات التنفيذ. قلت في نفسي: أصبح الأمر يقتضي الحكمة وحسن الحيلة، وهبني ذهبت إليه بنفسي فأبى أن يقابلني، أو قابلني في جفاء وأصر على تنفيذ الحكم! أليس خيرا أن أبعث إليه رسوله الذي خاطبني في أمر الولدين، والذي تأثر بحديثي وكاد يبكي لبكائي؟
وبعثت إلى هذا الرسول أرجوه مقابلتي، فلما حضر عندي قلت له: «لقد حسبت سفارتك عني أقنعت مطلقي بالعدول عن ضم ولديه، وها هو ذا قاضاني في أمرهما، وحكم له القضاء بضمهما ورضيت بذلك كرامته، أفأطمع منك مرة أخرى في المرافعة عنده نيابة عني؟ أرجوك أن تؤكد له أنني لم أكن أريد السير في مخاصمته، وأن زوجي هو الذي اندفع فوكل محاميا عني؛ لأن عريضة الدعوى مسته في كرامته وإبائه، وأن تذكر له أنني طوع إرادته في كل ما يريد إذا هو ترك الطفلين يكبران بعيني في رعايتي وحناني، إنه يعلم أنه قاتلي لا محالة إذا انتزعهما مني، فإذا قدر لي أن أعيش قضيت ما بقي من أيامي شقية بائسة، فإن رضيت بذلك مروءته ورحمته وما عودني طول حياتي معه من بر وعطف فذلك شأنه، وذنبي في رقبته، وإن غلبه ما أعرف من بره فترك لي الطفلين، فأنا رهن إشارته، وإن شاء أن يطلقني زوجي فله ما يشاء، وإن أراد أن أهجر القاهرة إلى أي مكان يختاره فأنا طوع إرادته، إنني أقبل كل شيء ما بقي الولدان في أحضان عنايتي وحناني، إنني أم يا سيدي فارحموا أمومتي، ارحموا هذه العاطفة التي أودع الله تكويننا معشر الأمهات، وجعل منها نور أعيننا وسبب حياتنا، ارحموني فإنني اليوم على حافة اليأس، فإن تفعلوا شكرتكم، أو يكون قضاء الله بيني وبينكم.»
ورأيت أن يكون ولدانا رسولي إليه عني وعن نفسيهما.
وإني لأحدثه وعيناي تسحان بالدمع إذا الصبيان يدخلان علينا ولا يكادان يريان ما أنا فيه حتى يرتميا علي يبكيان وهما يقولان: «نحن فداؤك يا أماه»، وبكى الرسول لبكائنا، فلما هدأت ثورتنا قال: «لك علي أن أكون عند مطلقك رسول هذين الصبيين قبل أن أكون رسول أمهما، فإذا أحوج الأمر فسأطلب إليه أن يدعوهما ليسألهما أيبقيان معك أو يعيشان معه، والله يوفقني لما يرضاه وترضينه يا سيدتي.»
وانصرف الرجل بعد أن شكرته في توسل تنطق به دموعي أبلغ مما ينطق به لساني، ولم يبطئ الرجل علي غير ثلاثة أيام ثم عاد إلي متهلل الوجه يقول: «بشراك يا سيدتي! لقد نجحت سفارتي عنك كل النجاح»، ثم أخرج الرجل من جيبه ورقة دفعها إلي وقال: «وهذا هو الحكم الذي صدر لمطلقك بضم ولديه إليه، وقد كتب عليه بخطه وتوقيعه بالتنازل عنه لمصلحتك، وبقبوله إبقاء الصبيين في رعايتك.»
ولقد كدت أطير فرحا حين تناولت منه صورة الحكم وقرأت تنازل مطلقي عليها، وكدت - لولا الحياء - أن أقبل الرسول، ثم إنني شكرته من أعماق قلبي وسألته: «وفيم كان انقطاعك عني كل هذه الأيام الثلاثة؟ أترى مطلقي لم يقتنع لأول ما حدثته؟» وتردد الرجل وطلب مني إعفاءه من الجواب عن سؤالي، فزادني ذلك شوقا لمعرفة ما كان وإلحاحا في السؤال عنه، فكان جوابه: «لم يكن انقطاعي هذه الأيام الثلاثة لأن الدكتور أبى أو تردد منذ اليوم الأول، فقد ذكرت له رسالتك بكلماتها فذرفت عيناه الدمع، وقال: «مسكينة هذه المرأة! لولا غرورها وغيرتها لما جرت على نفسها وعلي وعلى ولدينا كل هذا البلاء، هي تعلم أنني أحببتها ولا أزال أحبها، لكنها لم تطق إلى جانب محبتي إياها أي عاطفة من جانبي لغيرها، ولا عاطفة الصداقة، ولا عاطفة المروءة، وإنني ليعز علي أن تتألم وأن أكون أنا سبب ألمها، ولست أريد منها شيئا قط، لتبق مع زوجها الخائن ليمتعها الله بحياتها وحياته، وتحتفظ بالولدين فلن أحرمها منهما وأنا أعلم أنها من دونهما لن تطيق الحياة.» ومد مطلقك يده إلى مكتبه يريد أن يخرج الحكم منه ليكتب عليه بالتنازل، وإنه ليجر درج المكتب إذ دخلت علينا صديقتك ورأتني، وإذ كانت قد سمعت حديثي إليه دفاعا عنك قبل أن يرفع الدعوى، فقد أدركت أنني جئت إليه بسفارة منك ، لذلك صاحت به وبي: «ماذا تفعلان؟!» وقص عليها مطلقك ما رويت له من حديثك فقالت: «يا للفاجرة! أفنسيت ما صنعته معك كل هذه السنين؟ لقد غاضبتك برغم إكرامك إياها لغير شيء إلا لغيرتها مني غيرة حمقاء، وقد فرت منك إلى الإسكندرية، فلما أردتها على أن ترجع إليك أبت منك هذه الكرامة، مع ذلك بالغت أنت في إكرامها، وبعثت بها وبولديها إلى أوروبا، وأرادت المصادفة أن أكون وإياها على باخرة واحدة، ولو أنك رأيتها إذ ذاك وكيف أدت بها الغيرة إلى حديث السوء عني مع مسافرة فرنسية كانت معنا ونقلت إلي أقوالها لأيقنت أنها أصيبت في عقلها! فقد أنكرت أنها صديقتي، وذكرت لهذه الفرنسية أن أصدقائي يسمونني «الأرملة الطروب»، فلما عادت لم تعترف لك بالفضل، بل ألحت عليك في أن تطلقها، فلما طلقتها تزوجت هذا الوغد الذي خانك وخفر ذمة صداقتك، أهي هذه المرأة التي لا زال حبها يسيل دموعك، وينيلها كل برك وعطفك؟»»
واستطرد الرسول بعد ذلك يقول: «هنالك رد مطلقك درج مكتبه وأقفله، وقال: «بالله عليك يا أخي إلا ما تركتني أفكر في الأمر سحابة هذه الليلة»، فلما عدت إليه الغداة ألفيت صديقتك عنده، وقد أخذت لدخولي عليهما، وظهر عليها بعض الارتباك دليلا على أنها كانت تتكلم في موضوعنا، عند ذلك قلت موجها الكلام إليها، وكأنها معي في الحجرة وحدها: «حنانيك يا سيدتي ورفقا بهذين الصغيرين، إنك أم وتقدرين حاجة الصغير إلى حنان أمه، وإنني لا أخاطب الدكتور باسم مطلقته، وإنما أخاطبه باسم ولديه، باسم هذين العصفورين اللذين لا يزالان في حاجة إلى دفء هذا الصدر وعطفه، صدر الأم الحنون التي ترى فيهما روحها وحياتها، فكري في الأمر يا سيدتي من هذه الناحية، وانسي المرأة التي تكون قد أساءتك، انسي غريمتك التي أثرت غيرتها وأثارت غيرتك واذكري أبناءك أنت! أفتطيقين أن يحرموا من حنانك ثم تطمئنين عليهم؟ واسمحي لي بعبارة قد ترينها قاسية: أولو خيرت - لا قدر الله - بين أن تفقدي جمالك هذا الفاتن أو تفقدي أبناءك فأي النكبتين تختارين؟ أرجوك يا سيدتي أن تكوني مع الصغيرين لا عليهما؛ فهما لم يسيئا إليك إن كانت قد بدرت من أمهما إليك مساءة.» ثم إنني توجهت بالكلام إلى مطلقك وقلت له: «وأنت يا صديقي، أتسيغ رحمتك أم يسيغ عدلك أن يتحمل هذان الصغيران وزر صديقك وخيانته عهدك؟! إنك لن تستطيع أن تنقطع لهما، وعملك يشغل نهارك وبعض ليلك، وليس لك أم تحنو عليهما حنو أمهما، وقد أنصفك القضاء وحكم لك، وهذه مطلقتك لا تطمع إلا في مروءتك وكرمك ونبلك، أفتردني إلى الصغيرين وإليها خائبا؟ حاشاك أن تفعل!»
فنظرت إلي صديقتك ملء عينيها الفاتنتين وقالت: «ما أرى إلا أن حديث هذه المرأة سحرك كما سحر غيرك، وقد أدليت بحجتي وأدليت أنت بحجتك، فلننصرف بسلام، ولنترك الأمر لصاحبه.»
قال مطلقك: «فعد إلي يا أخي غدا نتناول الغداء معا، وعندها أقول لك كلمتي الحاسمة.» وانصرفت وانصرفت صديقتك، فلما دخلت عليه في موعد الطعام سلمني صورة الحكم وعليها تنازله كما سلمتك إياها، فلما قرأتها وشكرته قال: «لا حيلة لي في ذلك يا صديقي، فأنا لا أملك إغضابها وأنا لا أزال أحبها، وبذلك انتهى الكلام بيننا في هذا الأمر».»
فلما أتم الرسول حديثه قلت له: «إنني أكرر شكري لك يا سيدي من أعماق قلبي، ولست أدري كيف أستطيع أن أجزيك بما صنعت، فالله يتولى جزاءك»، وودعت الرجل إلى الباب حين انصرافه أكرر له عبارات الشكر، فوقف قبل أن يتخطى إلى الخارج وقال: «لا تشكريني يا سيدتي بل اشكري مطلقك، اشكري هذا الرجل ذا القلب الكبير الذي لا يعرف الحقد ولا القسوة، ولو اعتقدت أنك تستطيعين لأشرت بأن تذهبي إليه بنفسك وتبذلي له خالص الشكر على سمو نفسه وعظيم مروءته.»
وفاض بي السرور حين رأيت نفسي وحيدة في غرفتي فارتفع صوتي بالغناء، وإنني لكذلك إذ دخل علي زوجي فجأة وسألني ما لي؟ فأعطيته صورة الحكم فقرأ التنازل الذي عليها ثم قال: «لم يبق إذن للاستئناف موضع، ولم يعد في مقدوري أن أنتقم من هذا الرجل الذي أساء إلي بلسان محاميه شر إساءة.» قلت: «لا عليك يا عزيزي، لقد كسبنا الدعوى من غير أن نستأنفها، والخاسر اليوم هما المحاميان، فلم يبق لمحامينا أن يمزق أديم مطلقي، ولم يبق لمحاميه أن يمزق أديمنا، فكفانا ما كان من ذلك أمام المحكمة الابتدائية، ولنحتفل اليوم بأن الولدين ظلا في أحضاننا، فاليوم عندنا هو خير عيد مر بي في حياتي.»
وأسلمت نفسي بعد هذا اليوم إلى فيض من الغبطة أعتاض به عن قسوة الأيام التي مرت بي منذ بدأ الحديث في فصل ولدي عني، وكذلك خلا بالي وغمرني من الحياة نعمة أنستني كل ما مر بي من متاعبها، وما أيسر ما ينسى الإنسان البأساء والضراء إذا مسته نعمة لم يكن يتوقعها!
وأقبل الصبيان فأخذت أقبلهما كأنهما كانا في سفر طويل ثم عادا اليوم منه، أو كأنما كنت فقدتهما ثم لقيتهما، وشعر الصبيان - برغم عبرات جادت بها عيناي - أنني فرحة مستبشرة، فغمراني بقبلاتهما، وأمسكا بيدي يعبثان في نشوة وطرب، ويدعوانني بأعذب الأسماء التي تمر بخاطرهما، وكذلك عمت البيت كله نشوة لم تكن المربية أقلنا غبطة بها واشتراكا فيها.
ومرت الأيام وهذه الغبطة تملأ البيت بشرا وحبورا، وأنا لا أفكر في شيء إلا فيما غمرنا من نعمة الرضا، وأحسب أن أيام الهموم قد ابتلعها اليم في جوفه، وأن المستقبل كله سيكون معطرا بشذا السعادة، بعد أن بدأت أزاهيره تتفتح عن الأمل الباسم.
الفصل التاسع
لم يكن لي بد من أن أشكر مطلقي على ما أسدى إلي من يد وطوق عنقي به من كريم مروءته ونبله، ولم أكن أستطيع أن أذهب إليه بنفسي وأنا في عصمة صديقنا، وأنا معرضة إن فعلت أن ألقى عنده صديقتي فأضطر للفرار من وجهها فلا يحمد الرجل أدبي، وأنا لا أملك في هذه الحال إلا الفرار، لهذا رأيت أن يكون ولدانا رسولي إليه عني وعن نفسيهما، فلما كان الموعد الذي يذهبان إليه فيه كل أسبوع علمت ابنتي ما تقول لأبيها، وجعلتها تكرره حتى حفظته عن ظهر قلبها، فلما عاد الصبيان من عند أبيهما ذكرت لي ابنتي أن أباها بلغ منه التأثر غايته حين قبلت يده وقالت له: «إن والدتي تشكر لك برك ومروءتك من أعماق قلبها»، وأنه ازداد تأثرا حين قبلت هي وقبل أخوها يديه وقالا له معا: «ونحن كلانا نشكر حنانك وعطفك»، فقد أجلسهما عند ذلك إلى جانبه وأوسعهما تقبيلا، ولم يستطع وعبراته تنهمل من عينيه أن يقول كلمة واحدة.
تعاقبت الأيام بعد ذلك وأنا في غبطة بما ظفرت به من بقاء طفلي في كنفي وتحت جناحي، فلقد كنت أراهما نهاري، فإذا جاء موعد نومهما ذهبت إلى غرفتهما أتحسسهما بيدي أريد أن أطمئن اطمئنانا ماديا إلى أنهما بجانبي وتحت سقفي، كأنما كنت أخشى أن يختطفهما أثيم فيحرمني متاع عيشي وموجب حياتي.
وفعل الزمن فعله فهدأت بمرور الأسابيع نفسي، وعدت سابق سيرتي، لكن الزمن لا يرضيه أن يبقى مطمئن في طمأنينته ولا سعيد في سعادته، فقد عاد الصبيان من عند أبيهما يوما فذكرا أنهما رأيا هناك صديقتي ومعها كبرى بناتها، وأنها نظرت إليهما وقالت - توجه الكلام إلى أبيهما: «ما شاء الله! لقد كبر الصبيان وترعرعا.» لقد انتفض جسمي كله حين سمعت ما ذكرا؛ أكان ذلك لأنني خشيت أن تحسدهما عيناها الجميلتان؟ أم أن وجودها مع ابنتها عند مطلقي أثار نفسي وحرك ما كاد يندمل من شجوني؟ لست أدري، لكن عاطفة الشكر لمطلقي بدأت من هذه اللحظة تضطرب في نفسي، وبدأت أشعر بأنني لم أخلق لأكون يوما على وفاق معه.
وأخذ ذهني يفيق من السبات المسعد الذي كان قد استراح إليه، وجعلني أستعيد ماضي حياتنا، وآخر أحاديثه عني للرسول الذي كان سفيره إلي وسفيري إليه، ولقد وقفت عند كلمة قالها لهذا الرسول وقالها قبل ذلك لي: إنه لولا غروري وغيرتي لما جررت عليه وعلى نفسي وعلى ولدينا ما أصابنا من المتاعب، وإنه مع ذلك لا يزال يحبني ولن يحب غيري، وابتسمت حين استعدت هذه العبارة وخيل إلي أنه لولا هذا الغرور وهذه الغيرة لما أحبني، ولما ظل متشبثا بحبي برغم ما أذقته من أهوال، لكن ابتسامتي لم تلبث على شفتي غير لحظة ثم تلاشت؛ لأن طيف صديقتي تعرض أمامي وكأنها تقول: «لا تخدعي نفسك، فما يدور بخاطرك الساعة ليس إلا أثرا من آثار غرورك وغيرتك.» أزعجني هذا الطائف ودفعني لأن أتساءل: «إذا كان مطلقي لا يزال يحبني وإن لم أحبه فما تردد هذه المرأة عليه؟ وما استماعه لها حتى كاد يتردد في إجابة مطلبي بقاء ولدي في كنفي ورعايتي؟!»
واضطربت في نفسي عاطفة الشكر لمطلقي حتى بلغ من اضطرابها أن عدت ألعن يوم تزوجنا، وأسأل نفسي كيف استطعت حينذاك أن أحبه، وكيف استطعت أن أعيش معه السنين التي عشناها جبنا إلى جنب، ولم يكن قد جد ما يحرك هذا الشعور عندي إلا إحساس بأنه يخدعني حين يذكر أنه لا يزال يحبني وإن كنت لا أحبه، فلو كان ما يقوله صحيحا لأقصى عنه صديقتي، ولما سمح لها بزيارته منفردة أو مع ابنتها، ولا سمح لها بأن تتدخل في أخص شئونه. لعلي كنت ظالمة، أو على الأقل كنت مبالغة في ثورتي هذه برجل أحسن إلي ولا يزال يظهر لي خالص الود بإحسان معاملته ولديه، ولعلي كنت يومئذ لا أجد جوابا إذا سألني سائل: وماذا تقولين إذا تزوج مطلقك صديقتك كما تزوجت أنت صديقه؟ وهلا يكون يومئذ قد جزاك أعدل جزاء؟ بل لقد كان حقا أن أذكر أنا ذلك وإن لم يسألني عنه أحد، لكني لم أفعل، وبقي طيف صديقتي يتبدى الحين بعد الحين أمامي ليزيد ثورتي احتداما، وليزيدني حنقا على الرجل ومقتا له وغضبا منه.
على أنني لم أكن أستطيع أن أجاهر بثورتي هذه أو أبرز لها في الخارج أثرا، وهل تراني كنت أستطيع حجب ولديه عنه إعلانا لغضبي؟ إنه لم يقصر قط في حقهما، فلو أنني فعلت لاتهمني الناس جميعا بالجحود وإنكار الجميل، ولم يبق بيني وبينه غير الولدين، فلأكتم إذن حفيظتي في قلبي حتى إذا حانت الفرصة لإظهار هذه الحفيظة من غير أن يلومني الناس لم أتركها وانتهزتها.
لقد كنت أعلم أنه عسير أن تحين هذه الفرصة، فلم يكن الرجل يقصر في حق الولدين ولا في نفقتهما، وكانا كلما ذهبا إليه أغدق عليهما من فيض حنانه وبره ما يجعلهما يعودان إلي ولساناهما يلهجان بالثناء عليه ومحبته، فلا بد لي من أن أصبر، والصبر وحده يحسم الأحداث والنوب.
وتراخت الشهور يتلو بعضها بعضا وتكاد نفسي تضيق بها، وإنني لكذلك إذ عاد ولداي يوما من عند أبيهما متجهمين وفي أعينهما أثر البكاء، قلت: «ما بكما؟» قالا: «إن أبانا مريض اشتدت به الحمى ولم نستطع المكث معه إلا قليلا، ولم نستطع مغادرة بيته قبل الموعد الذي تعودنا أن نغادره فيه.» وخيل إلي أن هذه فرصة سنحت لمنعهما من الذهاب إليه محافظة على صحتهما حتى لا تمتد إليهما العدوى منه، وجاء زوجي فذكرت له ما مر بخاطري فقال: «ليس هذا من حقك إلا أن يمنع الطبيب دخولهما عنده، لقد أكرمك الرجل فلا تشقي عليه في علته، وسأستفهم عن الطبيب الذي يعالجه حتى نستطيع تتبع أخباره، والله أرجو من كل قلبي أن يتم شفاءه.» وبدت علي الدهشة لما قال فأردف: «إننا يا عزيزتي عرضة كلنا للسقم وللعجز وللموت! وليس يشمت بإنسان في هذه الحالات إلا نذل وضيع، وقد كان مطلقك زوجك كما كان صديقي، وإذا جاز لنا أن نخاصمه وهو في صحته، فأقل ما توجبه المروءة علينا أن نتألم لحاله وهو في علته، وأن نرجو له الشفاء.»
وأطرقت لسماعه وتولاني العجب أن تصدر عنه هذه العبارات بعد الذي عرف من اتهام مطلقي إياه بخيانة العهد، وخفر ذمة المروءة، وبعد أن كان حريصا على أن يستأنف الحكم الذي صدر لمصلحة مطلقي لينتقم لنفسه منه في مرافعة محاميه. عند ذلك أيقنت أن في بعض النفوس الإنسانية عنصرا يسمو على الحقد ساعة عسرة الصديق، وأن للصداقة قدسية لا يكفر بها إلا الجاحدون!
وأخبرني زوجي الغداة أنه عرف الطبيب المعالج الذي يتولى العناية بمطلقي، وأنه سأله عن حاله فقال له إن ما به من حمى لا يمكن تبين نوعه قبل بضعة أيام وقبل التحليل، ولما سأله: أتجوز زيارته؟ طلب إليه أن ينظره خمسة أيام ثم يبدي في الأمر رأيا، وفي ختام الأيام الخمسة قال إنه لا يرى بأسا بالزيارة على ألا تطول. ونبهت المربية إلى ذلك وقلت لها إنها إن استطاعت أن يبقى الولدان لا يدخلان على أبيهما حتى يجيء الطبيب فيدخلان معه كان ذلك خيرا، ونفذت المربية ما ذكرت، ثم عادت مع الولدين لموعد الغداء فأخبرتني بأنها تأثرت أشد التأثر حين رأت مطلقي وقد هده المرض وأضنته الحمى.
وبعد أيام دق التليفون وأخبرني المليونير أنه يريد أن يراني، وجاءني في الموعد الذي ضربته له وأخبرني أن مطلقي دعاه إلى سرير مرضه وطلب إليه أن يدفع إلي نفقة الولدين، وأضاف أنه يخشى على حياة الرجل من هذا المرض، فلما رآني المليونير صامتة قال: «ولست أدري إذا أصابه المقدار كيف أقتضي ديني، لقد باع كل ما يملك جزءا بعد جزء، وقد أصبح مستغرقا، ولولا مرضه، ولولا أن ما طلب إلي أن أدفعه اليوم يتعلق بنفقة طفلين بريئين، لما قبلت أن أدفع عنه شيئا إلا أن يجيئني بضمان مليء يتضامن معه في سداد ديونه.» وسكت بعد ذلك هنيهة ثم قال: «أوتقبلين يا سيدتي أن تضمنيه أو يضمنه زوجك ولك ما تشائين؟» فابتسمت ابتسامة ساخرة وقلت له: «ليتك لم تقبل يا سيدي دفع نفقة الطفلين اليوم لتأخذ مقابلها ضمان تضامن مع مطلقي، وأنا أعفيك من دفع هذه النفقة إن شئت.»
قال الرجل: «لقد أسأت فهمي يا سيدتي، إنما أردت أن تتصل العلاقة بيني وبينك، إذا حم القضاء في هذا الرجل المريض.»
قلت: «شفاه الله يا سيدي ولا أحوجك أن تتصل هذه العلاقة، وما أحسب مرضه من الخطورة بما ترى.»
وانصرف الرجل بعد أن دفع نفقة الولدين، كما أراد مطلقي، فلما جاء زوجي وأخبرته بما حدث وأظهرت العجب له، وبخاصة بعد الذي كان يبديه المليونير من محبة لمطلقي وإخلاص لصداقته، قال: «لا تعجبي، إن رجال المال هؤلاء لا يخلصون لشيء غير المال ، ولا يؤمنون بشيء غيره؛ هو دينهم وعبادتهم بعد أن بذلوا للحصول عليه ما يأنف الرجل الكريم من بذله، ولو أن مطلقك مات - لا قدر الله - لرأيت هذا الرجل يظهر أمامك وفي يده من الوثائق التي احتاط بها لنفسه ما لا يدور بخاطرك، وهو إذ طلب ضمانك أو ضماني إنما أراد مزيدا من الاحتياط، ولعله هو الذي اشترى ما كان يملك مطلقك أو أكثره، هذا إذا لم يكن قد ارتهنه قبل بيعه لديونه، وحسنا فعلت إذ رفضت ما طلبه منك حتى لا يكون تردده علينا من بعد مثار شبهة، أيسر معانيها أننا مدينون له، وخير عندي أن يبيع الإنسان بعض ملكه من أن يستدين من هذا الرجل.»
لم يعنني أمر المليونير بعد أن رفضت طلبه، وإنما عناني ما ذكره من أن مطلقي باع ما يملك جزءا بعد جزء، أترى اضطره لذلك ما أنفقه في أسفاري، ولإصلاح البيت الذي كنا نقيم به وتجديد أثاثه، ولغير ذلك من مطالبي؟ أم أنفقه مذ كان يعاون صديقتي لاستخلاص ميراثها وميراث أبنائها؟ وأيا كان سبب إنفاقه، ألم يكن واجبا عليه أن يقدر لمستقبل ولديه حتى لا يتركهما فقيرين عالة على غيرها؟ ولكن لا عجب، فهذا الرجل كما وصفه زوجي من سنين، من طراز الأعيان الذين يبددون كل ثروتهم في سبيل التظاهر بأنهم من أهل الثراء، وكل ما أكسبه إياه تعليمه العالي، وما أكسبته إياه أسفاره وتجاربه، لم يزد على طلاء ظاهر يستر الفلاح الكامن وراءه، ثم لم يغير من طبعه شيئا، أولو حم القضاء فيه فماذا يكون مصير هذين الصبيين؟! أحسبني يومئذ في حل من أن أحمل زوجي على أن يتبناهما وأن ينتسبا إليه، ثم لا يكون لإنسان أن يلومني على ما فعلت وقد أردت خيرهما وكفالة مستقبلهما.
وعنيت بتتبع الأنباء عن مطلقي وسير مرضه، وقد وثق زوجي صلته بالطبيب المعالج، وكان يسأله كل يوم عن حال مريضه، ثم يحمل إلي ما يبلغه من الأنباء، ولقد طال هذا المرض حتى مله المريض نفسه، برغم تردد أصدقائه الكثيرين عليه ، وإبدائهم أرق العواطف نحوه، ودعائهم له بالشفاء والعافية. لقد كانوا مخلصين في دعائهم؛ لأن الرجل كان في نظرهم مثال الطيبة والوداعة ودماثة الخلق، ولأن عطفهم اشتد عليه منذ طلقت منه اقتناعا من بعضهم بأنني كنت ظالمة له، متجنية عليه، ومن الآخرين بأنه كان سيئ الحظ غير موفق في زواجه.
وفكرت حين طال به المرض أن أحجب ولديه عنه، محتجة بأنه يشتد تأثره حين يراهما فيسوء أثر ذلك في صحته، لكن زوجي لم يرض ما أردت، بحجة أن امتناع الولدين عن زيارة أبيهما يدخل في روعه أن الطبيب هو الذي منعهما خوف العدوى من مرض فتاك، وأن هذا الوهم إذا تمكن من نفسه فقد يقضي على حياته. وأهاب بي زوجي - بعد أن ذكر لي حجته هذه - ألا أحمل هذا الوزر لجسامته، فإذا قضى الرجل نحبه - لا قدر الله - بقي ضميري يؤنبني ما بقيت من أيام حياتي.
وقبلت حجة زوجي ونزلت على رأيه إكراما له، لا خوفا على مطلقي، فإن ما عرفته من أنه أصبح مستغرقا لا يملك شيئا، وأنه لن يترك لولدينا ميراثا قل أو كثر، قد زاد حفيظتي عليه وغضبي منه، وإنني لأفكر يوما إذ استأذن علي الرسول الذي كان سفير مطلقي إلي وسفيري إليه في أمر الولدين وحضانتهما، وأذنت له، فلما حياني وتناول القهوة قال: «جئت سفيرا مرة أخرى من قبل مطلقك، ما أشد جزعي على هذا الرجل النبيل ذي المروءة! وما أعظم خوفي على حياته! إنه يذبل يوما بعد يوم، ويرى بعينيه أجله يدنو، وهو طبيب، وهو لذلك أشد جزعا على نفسه؛ لأنه يعرف سر علته، ويذكر في ألم وحسرة أنه لا برء له منها، وهو يشكرك من أعماق قلبه ويكرر هذا الشكر كلما بعثت له بالولدين يزورانه ويؤنسانه، فهو يرى فيهما صورتك أنت مجتمعة إلى صورته، ويذكر كلما رآهما أسعد أيام حياته، ويتولاه الأسى والحزن لأنكما لم تستطيعا أن تعيشا في هذين الولدين ولهما، ولقد كنت أعجب يا سيدتي كلما ذكر لي أيام صحته وعافيته أنه لا يزال يحبك، وكنت أحسبه إذ ذاك يتغنى بحبكما الأول ويتشبث به لأن قلبه لم يعرف حبا بعده، لكن هيامه بك اليوم وهو موشك أن يلقى ربه، يدلني على أنه كان صادقا، وأن قلبه ظل حياته مليئا بك ولم يعرف غيرك، وهو قد أرسلني اليوم إليك في أمر لا أدري كيف أصوره، إنه يريد أن يراك ليستغفرك عن كل ما مضى من ذنوبه، طامعا في عفوك وإحسانك.»
قلت في دهشة: «يريد أن يراني؟!»
قال الرسول: «مهلا يا سيدتي، فلا يأخذ منك العجب، ولا تتولك الدهشة، ولو أنك رأيت هذا المريض، المشرف على الموت، كيف ينسى مرضه، وكيف ينسى الموت كلما ذكرك وخيل إليه أنك زرته، لما ترددت لحظة في زيارته، إحسانا منك تبذلينه صدقة لوجه الله، فهذا الرجل لم يعد يعرف في الحياة سواك، ولم يعد يجري على لسانه إلا اسمك، أنت القبس الباقي له من نور الدنيا، والأمل المرجو عنده في الحياة الآخرة، أنت حلمه في يقظته وفي نومه، أنت مصدر راحته حين تنحدر به علته إلى هاوية الفناء، إنه حين يرى ولديكما يقول إنه يحبهما لأنهما ولداك أكثر مما يحبهما لأنهما ولداه، إنه يناديك باسمك مبتهلا مستغفرا، كما ينادي المؤمن ربه في صلاته، إنه يهذي بحبك هذيان المجنون بليلى، أولا يمس ذلك كله من قلبك أوتار رحمتك وبرك؟ أولا تحسين - وقد وصفت لك حاله - أن من حق المروءة عليك لا أن تزوريه وكفى، بل أن تلازميه حتى يلفظ نفسه الأخير؟»
اشتدت بي الدهشة وبقيت مشدوهة لا أدري ما أقول، فلما رأى الرسول حالي قال بعد برهة: «إنني عائد إليه الساعة يا سيدتي، ولن أقول له إني رأيتك، سأعود إليك غدا في مثل هذا الموعد، وأكبر رجائي ألا تخيبي أمل رجل أبقى على حبك حياته برغم يأسه منك وانفصاله عنك، قد تكون آخر سويعاته في هذه الدنيا حين يقع نظره عليك، وحين يحاول أن يرفع إليك يديه مستغفرا من ذنوب يعلم الله براءته منها، سيقول لك إنه أخطأ ولم تخطئي ، وإن عليه كل الوزر فيما أصابك ولا وزر عليك أنت في شيء قط، سيرفع إليك أكف الضراعة لتسامحيه فيسامحه ربه، إن لك قلبا يا سيدتي يعرف الرحمة وينسى الموجدة، فاستشيري قلبك، وإلى غد في مثل هذا الموعد لنذهب معا إليه.»
قال الرسول هذا الكلام واستأذن وانصرف، ولم أملك التفكير وأنا فيما أنا فيه من دهشة بلغت الذهول، كيف تراني أستطيع أن أفكر وهذا السيل الجارف من عواطف رجل تهدده المنون ينساب نحوي ويكاد يغرقني؟ وخرجت إلى حديقة المنزل أستنشق الهواء لعله يرد إلي بعض سكينتي، ومع هذا بقيت عاجزة عن كل تفكير زمنا غير قليل، فلما أردت أن أفكر انتفض أمامي طيف صديقتي وكأنما تقول: هأنذي. وانتفض إلى جانبه شبح المليونير يطالب بديونه، وأقبل ولداي في هذه اللحظة فقبلتهما على عجل، ثم أسرعت إلى مخدعي مضطربة الذهن لا أرى ما أمامي.
وجاء زوجي وشاهد اضطرابي فذكرت له ما جاء به الرسول، وقصصت عليه حديثه، قال: «الأمر لك يا عزيزتي، إن شئت ذهبت غدا معه، أو شئت التمست لنفسك عذرا من عدم إجابة مطلبه، ليس عندي ما أشير به في موقف تملي فيه العاطفة ولا شأن للعقل به، ولو أنني وجهت إلي مثل هذه الرسالة بوصفي صديق هذا الواقف على أبواب الأبدية لحرت في أمري، ولترددت ماذا أصنع بعد الذي كان بيننا آخر الدهر من قطيعة وخصومة، لكنه أحسن إليك يوم ترك لك ولديك، فأنت في غير موقفي، وهو على كل حال لم يطلب إلي أن أزوره، فلا شيء يحملني على أن أفكر في الأمر أو أعتزم فيه رأيا، فاصنعي ما تشائين ولا اعتراض لي على أي قرار تتخذينه.»
زاد هذا الحديث حيرتي، هبني أبيت أن أذهب فبأي عذر أواجه الرسول؟ أأقول إن قلبي لا يطاوعني أن أراه وقد ترك ولديه معدمين ينفق عليهما من يبعث الله إلى قلبه الشفقة بهما؟ أم أقول له إن ما يهرف به ليس إلا هذيان الحمى، وإنه لو شفاه الله كما أرجو لأسف أن جرى اسمي على لسانه في أثناء مرضه؟ وإن أنا قبلت رجاء الرسول وذهبت معه، فماذا يكون موقفي من هذا الرجل المضطرب بين الحياة والموت؟ ما الذي أستطيع أن أقوله له إذا هو خاطبني باللهجة التي خاطبني بها الرسول؟ لن أزيد على أنني سامحته، ثم أضطر أن أرجوه كي يسامحني فيما لعلي هفوت فيه، وهبه تأثر بلقائي ولفظ نفسه الأخير في وجودي فأية مأساة عند ذلك أواجه؟!
وقضيت ليلي في حيرة من أمري، وأرقت ولم يعرف النوم سبيلا إلى جفني، على أنني كنت كلما قلبت الأمر ازددت اقتناعا بأني لا قبل لي بالذهاب إلى مطلقي، ولا فائدة لمطلقي من ذهابي إليه، سيقدر الرسول حين أرفض الذهاب معه أني لا قلب لي، وسيرى أنني أسأت إلى من أحسن إلي، ولكن ذلك خير من أن أتعرض ويتعرض مطلقي لموقف لا طاقة لي به، ولا جدوى له من ورائه.
وجاء الرسول الغداة لموعده، فلما سلم علي قال: «لعل الله قد هدى قلبك إلى خير تبذلينه لهذا المسكين، لقد رأيته بعد أن غادرتك أمس، فكان أول ما فاتحني به أن سألني إن كنت قد لقيتك وأديت إليك رسالته، فلما أبلغته أن وقتي لم يتسع لما أراد انهملت عبراته وقال: «حتى أنت يا صديقي تتنكر لصداقتي حين تراني على حافة القبر، ما ضرك لو ذهبت إليها فرددت إلي روحي بزيارتها أو بوعد منها أن تزورني!» لست أكتمك يا سيدتي أنني أوشكت أن أفضي إليه بما حدث بيني وبينك أمس دفعا لاتهامه إياي أنني جحدت حتى الصداقة، ولكنني وعدتك ألا أفعل حتى أعود إليك اليوم آملا أن تذهبي معي فتردي أنت روحه، أفتراني أطمع منك أن تكوني كريمة معه كما كان هو كريما ذا مروءة يوم خاطبته باسمك في أمر ولديك؟»
قلت بعد هنيهة: «أرجوك يا سيدي أن تمنحني شيئا من صبرك ومن حلمك حتى أعرض عليك أمري: لقد قضيت ليلة لم أذق فيها النوم أفكر فيما تطلب إلي وأقلبه على كل وجوهه، ولم أنس منذ بدأت تفكيري أنني مدينة بالشكر الخالص لسفارتك الناجحة عني عند مطلقي في شأن ولدي، كما أني مدينة له بالشكر على مروءته ونبله، ولهذا وددت لو استطعت أن أجيبك إلى ما طلبت مني إن كان في إجابته أي فائدة، أنت تطلب إلي يا سيدي أن أزور مطلقي ليسمع مني أني سامحته فيما لعله أخطأ معي فيه إبان زوجيتنا، إذن فأبلغه عني - وهو لا شك مصدقك - أنني سامحته من كل قلبي، وأنني أطلب إليه كذلك أن يسامحني وأن يغفر لي، لعل الله يشملنا نحن الاثنين بعفوه ومغفرته، أقول ذلك صادقة مخلصة عن نفسي، أما ولدانا فأمرهما إلى ربهما ولا أملك أنا من ذلك شيئا، إنه إن اختاره الله إليه سيتركهما فقيرين إلى عطف أجنبي يكفلهما أو يتبناهما، أتراني أستطيع أن أقول ذلك لمطلقي وهو - فيما تقول - موشك أن يلقى ربه؟ وهل يرضيك أن أكتم ذلك فأبوء بإثم الولدين في غير ذنب ولا جريرة؟ وهبني ذهبت معك إليه ورضيت أن أكتم أمر الولدين إبقاء عليه، واندفع هو يذكر أمامي ما قلت أنت لي من أنه يحبني ولا يحب غيري، أفأجيبه صادقة: «لكني لا أحبك»، أم أجيبه كاذبة بأني أحبه وأنه ملء سمعي وبصري؟ إنك تحدثني باسم عواطفه التي تتحكم فيه، فهل تريدني أن أقف أمامه صلدة جامدة أسمع ولا أنطق، أم تريدني باسم الرحمة كاذبة مرائية؟! ثم هبني ذهبت معك إليه فكان ما تقول وقضى نحبه سعيدا بوجودي عنده، فماذا يقول الناس عني؟ إنني أشقيته صحيحا وقتلته مريضا؟! ذلك بعض ما دار بخاطري يا سيدي طول ليلي، وأعفيك من سماع ما بقي مما سواه، فهل تراني أصبت الرأي، أم ترى أن تشير علي بما يخالفه؟»
وظل الرجل صامتا كأني لا أزال أتكلم، وكأنه لا يزال يسمع، فلما فطن إلى سكوتي التفت إلي وقال: «يبدو لي يا سيدتي أنك اتخذت في الأمر قرارا لا سبيل إلى الرجوع فيه، فقد فرضت كل الفروض وأجبت عليها جوابا لا يحتمل المناقشة، ولعلي لو قلت لمطلقك إنك سامحته وصفحت عنه فيما لعله فرط منه أرضاه ذلك وطمأنه، ولعله يزداد اطمئنانا حين أذكر له أنك تريدين أن يغفر لك كما غفرت له، وأن يسامحك كما سامحته، ولكني شد ما أخشي أن يبقى يعذبه ضميره إذا عرف أنك سامحته عن نفسك وأبيت أن تسامحيه عن ولديكما، أنا أفهم ما تقولين من أن أمرهما ليس لك، وأنهما هما اللذان يملكان مسامحته يوم يكبران، وهو لا ريب يفهم ذلك كما أفهمه، ولكنه يطمع في ألا يكون قلبك غاضبا عليه من أجلهما، أفأستطيع أن أبلغه ذلك؟ فلو أنني فعلت لسهل ذلك علي التماس العذر من عدم ذهابك إليه، ولا أحسبك تأبين علي ما أطلب من ذلك وأنت تعلمين أنه لم يبعثر ماله في ترف لنفسه، أو في عبث مما يتلهى المسرفون به، كما أنك تعلمين أنه لو استطاع أن يضاعف ثروته لما أقعده دون مضاعفتها من طريق شريف أي اعتبار.»
قلت: «عزيز علي يا سيدي أن أرفض لك مطلبا في مقدوري إجابته، ولو أنني كنت امرأة واسعة الثراء لأجبتك إلى ما تريد، ولجعلت لولدي من مالي ما يغنيهما عن ميراث أبيهما، أما وليس لي هذا الثراء فلا بد أن يكفلهما غيري، فكيف يرضى قلبي عن بقائهما عالة على الغير وقد ألفا منذ مولدهما حياة النعيم؟! فإن يكن أبوهما قد أضاع ماله مضطرا فإن الله وحده هو الذي يغفر له؛ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه. أما إن كان قد أضاع ما يملك في غير ضرورة فالله يتولى جزاءه، إن شاء غفر له وإن شاء لم يغفر، ذلك غاية ما أستطيع قوله، ولعلك تراني منصفة فيه كل الإنصاف.»
لم يجد الرجل ما يجيبني به، ولم يطمع في إقناعي بتعديل قراري، فاستأذن وانصرف مشكورا.
ولست أدري على أي وجه أبلغ حديثنا لمطلقي، ولكنني علمت من بعد أن هذا المريض المسكين حز في نفسه أن أبيت زيارته، وأن تراخت زيارة ولديه له، وإن كان لا يراهما حين يذهبان إليه إلا لحظات لا تغني ولا تروي ظمأ ظامئ.
مع ذلك استطال من بعد مرضه حتى رحمه شانئوه، وحتى كان أحباؤه يتوجهون بالدعاء إلى الله أن يريحه بالموت من عنائه، وفي الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر من تلك السنة أبلغت أنه مات، فترحمت عليه، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
هدأت نفسي حينا بعد وفاة مطلقي، وخيل إلي أن الموت حسم ما بيني وبينه إلى الأبد، وأقام ستارا كثيفا حجب عني ماضيا ذقت فيه غصصا وآلاما، وتوهمت أن في مقدوري أن أنسى هذا الماضي فلا يبقى له في ذاكرتي ولا في أي مظهر من مظاهر وجودي أثر، وهل شيء كالنسيان ينقذنا مما نود أن نتخلص منه، ويتيح لنا أن نكيف ماضينا على ما نريد، لننعم بما يحويه من خير وإن قل، ونجسم هذا الخير ونمجده، ونمحو ما أصابنا فيه من بأساء وكأنها لم تكن، ونزيف بذلك لأنفسنا تاريخها كما تزيف الأمم تاريخها؟!
وأول ما دار بخاطري، لأجعل هذا الذي توهمت حقيقة واقعة، ولأمحو من ذاكرة الوجود أنني كان لي زوج قبل زوجي الذي يحبني اليوم من كل قلبه، أن أنسب ولدي إلى هذا الزوج الثاني وأمحو نسبتهما إلى أبيهما الذي أنجبتهما منه، ولم يكن ذلك عسيرا والقانون يبيح تغيير الأسماء إذا اتخذت لهذا التغيير إجراءاته، ولكنني لم أكن لأقوم بتنفيذ ما أردت إلا أن يوافق زوجي عليه، وأن يعاونني في الإجراءات التي تحققه.
ولم يكن عسيرا علي أن أقنعه وأن أزيل من نفسه شبهات أبداها حين بدأت حديثي معه في هذا الأمر، فقد ذكرته بأنه قبل شرطي يوم خطبني إلى نفسه أن يتبنى الولدين حتى لا تبقى بيني وبين مطلقي أية صلة، وأنني كنت معتزمة يومئذ أن أنسبهما إليه لولا أن رفع مطلقي الدعوى يطلب فيها ضم الولدين إليه، ولولا أن حكمت المحكمة له بما طلب، فاضطرني حكمها إلى مصالحته على بقائهما في رعايتي، لولا ذلك لما تردد زوجي في تنفيذ شرط قبله، ولم يبد الرجل اعتراضا إلا خشيته من قالة الناس في، وفساد ظنهم بي، وسوء حديثهم عني.
واتخذ المحامي الإجراءات وحكمت المحكمة بتبديل اسم الولدين وجعل نسبتهما إلى زوجي، ومحو اسم أبيهما وإزالته عنهما، وقد اغتبطت يوم صدر هذا الحكم بقدر ما اغتبطت يوم قبل مطلقي أن يتنازل عن ضم الولدين إليه ليبقيا في كنفي، فقد أيقنت أني لن أسمع من بعد اسم هذا الرجل، ولن أقرأه في الشهادات التي تبعث المدرسة بها إلي عن امتحان الولدين، ولن يبقى له فيما يتصل بي أي ذكر أو أثر.
وذكر لي زوجي بعد صدور الحكم بتسمية الولدين باسمه أنه يريد أن يوصي لهما بثلث ماله، وأنه لو وجد في القانون حيلة لأوصى لهما بكل ماله، قلت له: «لا تعجل فهما ولداك، والأب لا يوصي لأبنائه، أطال الله بقاءك وبقائي حتى نراهما شابا وفتاة ملء العين، وحتى تكفل لهما عنايتك مستقبلا يرضيك.» ولقد كنت أعبر صادقة عما يدور بقلبي، فقد أكرم زوجي ولدي منذ تزوجنا إكرام الأب لبنيه، ورعاهما رعايته، فملك بحنانه عليهما كل قلبي، وجعلني أشعر بأن المثل القائل: «رب أخ لك لم تلده أمك» كان يجب أن يضاف إليه: «رب أب لك لم تخالطه أمك.»
وهل الأبوة والأمومة إلا الحنان والعطف؟! أذكر وأنا أكتب هذه العبارة تمثيلية شهدتها في باريس تصور زوجة سامحها زوجها بعد أن أنجبت ولدا من خليلها، ونسب الولد بحكم القانون إلى الزوج الذي أغدق عليه من يوم مولده كل عطفه وحنانه، وشب الولد وكبر وهو يؤمن بأن هذا الزوج أبوه، ثم إنه عثر يوما في أوراق أمه بخطاب عرف منه سر مولده، فثار في عروقه دمه أن حمل هذا الرجل الذي لم يكن أباه كل ما يحمل الأب من عبء لتنشئة أولاده، وتطوع للجندية وندب كطلبه للسفر إلى الهند الصينية فرارا من بيت ليس بيته، عبثا حاول الرجل أن يقنعه بحماقة ما يصنع، وأن طيش لحظة طاف بأمه لا يمحو عطفه هو عشرين سنة أو تزيد. وسافر الرجل يودع الشاب على الباخرة التي تبحر به إلى منفاه ويرجوه أن يعدل من عزمه ، وأبى الشاب، فلما بدأت الباخرة تتحرك ووقف الرجل على رصيف الثغر يودعه ويشير إليه بمنديله الأبيض، صاح الولد: إلى الملتقى يا والدي. وطفح قلب الرجل سرورا بكلمة والدي هذه مقتنعا بأن الشاب آمن برأيه في اللحظة الأخيرة، وأنه لم يقل هذه الكلمة بحكم العادة، ولا بدافع المجاملة.
وهذا الرجل في رأيي على حق، فما قيمة الأبوة أو الأمومة العاقة إلا أن يفرض القانون على هذا الأب أو على هذه الأم أداء الواجب للجيل الناشئ، فإن لم يفعلا لم يكن أيهما حقيقا باسم الأب أو الأم، هذا الاسم الكريم الذي يحمل في طياته أكرم المعاني وأنبلها، وقد حمل زوجي عبء الأبوة لولدي من يوم تزوجنا، فلم أكن مبالغة ولا مغالية في قولي له إنهما ولداه، ولا فيما فعلت من نسبة اسميهما إليه، وإن كان من الحق علي اليوم، وقد مرت السنون على وفاة زوجي الأول، أبيهما، ألا أجحد أنه إلى أن وافته المنية لم يقصر في واجبه إزاءهما، وكان كله الحنان والعطف عليهما.
وتعاقبت السنون وقد وضعت زوجي الأول من ذاكرتي ومن قلبي في قبر سحيق أشد صمتا من القبر الذي يحوي رفاته، فلم يكن اسمه يجري على لساني، بل لم يكن يمر بخيالي، وتعود الولدان أن يخاطبا زوجي مخاطبة الولد لوالده، وألا يذكرا أنهما كان لهما أب سواه، وأن يقدرا ما يحبوهما به من عطف، وما يسبغه عليهما من حنان، ولقد أدهشني منه وأثار إعجابي به أنه لبس ثوب الأب في سلطانه وفي حنانه، وكأن محبته لي أدخلت إلى قلبه من عواطف الأبوة ما احتواه قلبي من عواطف الأمومة، فكان ذلك مدعاة لانسجام الحياة بيننا جميعا كما تنسجم الحياة في الأسرة الواحدة بين الوالدين والبنين.
وظل ذلك شأننا، وظل الولدان يكبران بأعيننا وعنايتنا، لا شيء يكدر صفونا أو يشوب سعادتنا، ولا نطمع من الحياة في خير مما أعطتنا. لم أعد أفكر في السفر إلى أوروبا أو إلى الأقصر، ولم تعد مغريات المجتمع تجذبني إليها، بل أصبحت مملكة البيت مملكتي، والعناية بالبيت ومن فيه مصدر سروري وسعادتي، وقد بلغني في أثناء هذه السنوات الهنيئة أن صديقتي تزوجت فدعوت لها بالتوفيق، ولم يتعرض طيفها لي، ولم يثر جمالها تأثيري، وما لي أنا ولها؟ بل ما لي أنا ولغيري من الناس وقد ظفرت بما كنت أرجو من طمأنينة وسعادة؟ ولقد أنست إلى زوجي وولدي وأنسوا إلي، وقد أصبحت أدعو للناس جميعا بما حباني الله به من فضله.
يقولون إن الأمم السعيدة لا تاريخ لها، ويبدو لي أن الأسرة السعيدة لا تاريخ كذلك لها، إنها تتخطى في هون على متن السنين مألوف حياتها، فلا يثير طلعة أحد، ولا تدعو أحدا للكلام عنها أو للتندر بها، وإن غبطها الناس لما أفاء الله عليها من ستره ورعايته.
وتخطى ولدي الثانية والعشرين من سني حياته، وإنني لجالسة يوما في غرفة نومي إذ دخل علي يبدو على سيماه اشتغال البال، ولم أرد أن أسأله عما يشغله، واثقة أنه لم يحضر هذه الساعة اعتباطا، وإنما جاء يحدثني في أمر يراه جليل الخطر، وللشباب عذرهم إذا اضطربوا لما لا يوجب الاضطراب، فليست لهم من تجارب الحياة مناعة ترد عنهم شتات البال وتبلبل الفكر في كل شأن جل أو صغر. وأمسك الشاب عن الكلام هنيهة بعد أن جلس إلى جانبي، وكأنه يدير الأمر في رأسه ليصوره لي، على أنه ناء بالصمت بعد قليل فاندفع يقول: «جئت أحدثك يا أماه في أمر أجل من كل ما تتصورين خطرا، لقد أعجبتني فتاة تعرفينها وتعرفين أهلها، وأردت أن أخطبها إلى نفسي، ورأيت أن أسألها أتوافقني على أن نتزوج؟ فقالت في حياء وخفر إن الأمر في ذلك لوالديها، ولم أرد أن أفاتحك في الأمر قبل أن أطمئن إلى رأي أمها، فأنا أعلم أن الأم إذا رضيت بعد أن رضيت ابنتها، فقلما يرفض الأب ما رضيتاه، فلما ذهبت إلى تلك الأم الطيبة القلب وعرضت عليها الأمر وقلت لها إن ابنتها تركت الحكم في ذلك لأبويها، قالت: «إنني يا بني لا أعز عليك شيئا، ولا أعز عليك ابنتي، لقد كان والدك - عليه رحمة الله - صديقنا، وكان من خير الناس وأطيبهم قلبا وأكثرهم مروءة، لكنك يا بني محوت اسمه من اسمك، وأبدلته باسم زوج أمك، ولم أكن أنا ولم يكن زوجي راضيين عن ذلك من يوم حدث، فذكرى أبيك أعز علينا من أن تمحى، وأسألك يا بني: إذا تزوجت ابنتي وأنجبت منها وسأل الناس ولدكما عن جده لأبيه فماذا يقول؟ أيذكر أباك الحق أم يذكر زوج أمك؟ فإن شئت يا بني أن أخاطب زوجي فيما تطلب فأعد قبل كل شيء اسمك كما كان، انتسب لأبيك لا لزوج أمك، فإن فعلت فحبا وكرامة، ولك علي أن أحاول إقناع زوجي لتكون زوج ابنته، أما إن أبيت فعزيز علي أن أبلغك أننا آسفون إذا لم نستطع أن نجيبك إلى ما تطلب، ولا أريد منك الساعة جوابا، بل ترو في الأمر واستشر فيه.»
كذلك قالت لي يا أماه، وقد رأيتها على حق، فجئت أعرض الأمر عليك قبل أن أتخذ فيه إجراء أو أخطو فيه خطوة، فأشيري علي.»
بم أجيب؟ ليس الأمر الذي يعرضه علي ولدي نزوة شباب، ولا هو من ضآلة الشأن بما يثير ابتسامتي، بل هو أجل خطرا بالفعل من كل ما توقعت، فلا بد لي من مواجهته بشيء من الحزم يرد عني وعن أسرتنا كلها ما يهددها في صميم كيانها، لذلك لم أتردد في أن قلت: وما لأم هذه الفتاة أن تتدخل في أخص شئوننا وشئونك؟! وهلا ترى من تدخلها اليوم أنك إن صاهرتها غدا فستظل مستبدة بك تحاول توجيهك في الجليل والحقير من أمورك؟ لذلك أنصحك أن تعدل عن التفكير في هذه الفتاة، وأنا كفيلة بأن أجد لك خيرا منها يفرح بها قلبك، ويفرح بها قلبي، هذا إن كنت مصرا على الزواج وأنت لا تزال في هذه السن المبكرة، أما إن أردت الخير لنفسك فأجل تفكيرك في إقامة أسرة قد تنوء اليوم بأعبائها، حتى يعاونك عمل تنهض به، ويدر عليك أخلاف الرزق لتسعد أنت بأسرتك، وتسعد هذه الأسرة بك .
وأجابني الفتى: ليس الأمر الساعة أن أؤجل التفكير في الزواج أو أعجل به، وإنما الأمر في هذا الاسم الذي أحمله بغيا بغير حق، ولقد خاطبت أختي في أن نعود باسمينا إلى اسم أبينا الذي أنجبنا فوافقتني على ذلك، ولم يبد زوجها اعتراضا، هذا لب الموضوع في حديثي لك اليوم، فإن أنت وافقتني ثم اعترضت على زواجي من هذه الفتاة لأسباب تعرفينها فإني عند رأيك، ولا أعصي أمرك، فهل ترين ما يمنع عودتنا إلى التسمي باسم أبينا؟ إننا الآن راشدان أنا وأختي، ونستطيع هذا الأمر من تلقاء أنفسنا، لكنا لا نقدم عليه حتى تكوني راضية عنه مطمئنة إليه.
قلت وأعصابي تضطرب وأكاد أرى أسرتنا تنهار أمام عيني: أنظرني إلى غد أروي في الأمر وأشير بالرأي فيه، فإنني الساعة متعبة وأشعر بالحاجة إلى الراحة.
وقام الشاب وفي نظراته معنى الدهشة وقال: إلى غد إذن يا أماه، وأرجو لك راحة الجسم وطمأنينة النفس.
ولم ألبث حين خرج أن رأيت الدنيا تدور من حولي، وكأنني على زورق في بحر لجي لا شاطئ له، أفأستطيع أن أفاتح زوجي في شيء مما قاله ولدي ليرى كل ما أسداه لأخته وله ينقلب جحودا وعقوقا؟ وهل أستطيع أن أنكر على ولدي حقه في التسمي - إن شاء - باسم أبيه؟ وأي داع دعا هذه السيدة، وهي من أكثر أصدقائنا إخلاصا لنا، أن تثير هذا الأمر، وأن تقفني هذا الموقف؟ لست أعرف بيني وبينها حقدا ولا غيرة، فما كان أجدرها أن تخاطبني في الأمر قبل أن تفضي بما قالت إلى ولدي! وكيف تراني أنقض اليوم ما أبرمته أمس فيظن زوجي أنني خدعته لغاية في نفسي؟!
فلما دخل زوجي إلى غرفة الاستقبال رأى صورة مكبرة لزوجي الأول.
وتوارد طوفان من هذه الخواطر على ذهني فشعرت بقلبي يخفق وأعصابي تزداد اضطرابا، ثم أحسست برعشة كأنها الحمى، ولقد حمدت الله أن كان زوجي مدعوا للغداء ذلك اليوم، ثم كانت عنده مشاغل تمسكه عن الحضور إلى البيت حتى المساء، وقلت في نفسي: لعلي أكون قد تدبرت الأمر ووجدت حلا قبل موعد حضوره.
وأقبل المساء فإذا الحمى تلازمني وتمسكني في سرير نومي، فلما جاء زوجي ورأى حالي أراد أن يدعو الطبيب فقلت له: دعني الليلة فإني أحسبها رعشة طارئة، فإذا أصبحنا ولم تنصرف عني كان لدعوة الطبيب موضع، ورجوته أن يقضي ليله في غرفة أخرى، ولست أدري بعد أن بقيت وحدي ما الذي أصابني، أفنمت فعبث بي كابوس أزعجني، أم أنه هذيان الحمى الذي استبد بي؟ فقد تبدى أمامي طيف مطلقي وهو ملتف في أكفانه، وأخذ يحملق في، وسمعته وكأنه يهتف بي: هأنذا سترينني الليلة وسترينني من بعد، سترينني بينك وبين زوجك في يقظتك وفي نومك، سترينني بينك وبينه في ثيابي وعاريا كيوم ولدتني أمي، سترينني بينك وبينه حتى في سرير نومك، وسترينني حتى يعود ولداي إلى التسمي باسمي، فإن عادا تواريت لا عن رضا، ولكن لأدع زوجك يتم قضاء الله فيكما، والله أعدل الحاكمين.
واستيقظت جوف الليل مذعورة أصيح من هول ما رأيت، وأسرع إلي زوجي من المخدع الذي كان فيه يسألني ما بي؟ قلت والحمى تهزني: «إنه كابوس أزعجني فلا تتركني.» وقضى الرجل بقية ليله على كنبة في الغرفة، وبقيت مؤرقة حتى إذا نادى مؤذن الفجر غفوت فرأيت في غفوتي كأن والدي يقول لي: «فيم تنزعجين يا ابنتي؟ دعي الأمر لولديك يقضيان فيه برأيهما، لا تحملي أنت تبعته، قولي ذلك لولدك إذا جاء اليوم إليك يريد مشورتك، ونبهيه إلى أن الأمر أخطر بالنسبة له ولك من أن يقضي فيه بخفة ومن غير روية.»
نمت بعد ذلك وطاب نومي، ولم أستيقظ إلا قرابة الظهيرة، واستيقظت وقد نزلت عني الحمى وإن بقيت منهوكة الجسم، محطمة الأعصاب، وكان زوجي قد خرج لعمله فأتاح لي فرصة أتدبر فيها الأمر من جديد، ولم أجد خيرا من المشورة التي أسداها إلي طيف أبي، لكني آثرت ألا أبت في الأمر قبل التحدث فيه مع زوجي. وجاء ولدي ورآني ملازمة فراشي، فأبت عليه بنوته أن يعيد الكلام علي ويسألني رأيي حتى أستعيد نشاطي، فلما جاء زوجي ودخل إلي يسأل عن صحتي استبقيته عندي، وذكرت له حديث ولدي، وأن هذا الحديث هو الذي أركبني الحمى وأزعجني، فسكت طويلا ثم قال: «هل نستطيع أن نمنعه أو نمنع أخته وقد بلغا رشدهما ولم يبق لي ولا لك عليهما سلطان؟ ليفعلا ما يشاءان فذلك حقهما، ثم يكون لنا بعد ذلك في الأمر رأي.»
وجاء ولدي الغداة فألفاني على مقعدي الطويل، فجلس عند قدمي وسألني عن صحتي، وحمدت له الله على أن أعاد إلي العافية، ثم قلت له: «إنك شاب عاقل تحسن وزن الأمور، فلك أن تتصرف كما تشاء فيما حدثتني عنه أول من أمس، ولا اعتراض لي على ما تفعل، وكل الذي أريد أن تعلمه أنني يوم بدلت اسميكما إنما أردت خيركما ومصلحتكما، عز علي أن تشعرا كلما دخلتما هذا البيت أو خرجتما منه أنكما غريبان عنه، وأن يشعر زوجي كذلك مثل هذا الشعور، فأردت أن أخلق فيه جو الأسرة بمعناه الكامل، وقد أقرني زوجي على ما أردت وأعانني فيه، ثم ذهب إلى أبعد من المعونة، فأراد أن يوصي لكما بثلث ماله، بل بكل ماله، وعارضت يومئذ إرادته حتى لا يظن أني قصدت إلى منفعة مادية مما صنعت، ولا أراه إذا نفذت أنت عزمك وبدلت اسمك واسم أختك ألا يصر على تحرير وصيته تلك، فهو رجل طيب القلب، عاملكما منذ دخلتما بيته معاملة الأب لأبنائه، بل اعتبركما ابنيه بالفعل وبذل لكما كل عطفه وحنانه، أما وقد بلغتما رشدكما وأصبح من حقكما أن تختارا البقاء على ما اخترت لكما أو تعدلا عنه لما كنتما عليه، فلكما من ذلك ما تشاءان، وأنت قبل أختك خير من يقدر ما يترتب على تصرفه من آثار ونتائج.»
قال ولدي في غير تردد: «أشكرك يا أماه من كل قلبي، ولا تثريب لي عليك فيما فعلته إبان صغري، سواء فعلته غضبا من أبي أو التماسا لخيري ومصلحتي، فإن كانت الأولى فلا أحسب الموجدة باقية في قلبك بعد كل هذه السنين على رجل يذكر عارفوه جميعا مروءته، ويذكرون أنه أكرمك طول حياته بعد غضبك منه وانفصالك عنه، وإن كانت الثانية فما كنت لأبيع اسم أبي بثمن وإن عظم، فاسمه هو الدم الذي يجري في عروقي، والحياة التي ينبض بها قلبي، والنعمة التي يشع بها نور عيني، ولن ينسيني هذا الدم وهذه الحياة وهذه النعمة ما لزوجك الذي ندعوه اليوم أبانا من فضل علينا وبر وحنان ذقنا كل هذه السنين حلاوته، فلسنا يا أماه عاقين، ونحن ابناك وابنا أبينا، وإذا كنتما قد انفصلتما في الحياة لأمر، فذلك طارئ يحدث ثم ينسى، أما الاسم الذي حملناه يوم مولدنا فهو الذي يجب أن يبقى علما على محبتكما وبركما، فالحياة محبة، وما سوى المحبة هباء يذهب مع الريح ولا تبقى منه باقية.
تأثرت بهذا الذي سمعت من ولدي أبلغ التأثر فقبلته من أعماق قلبي، وقلت له: «رعاك الله يا بني، وهداك السداد والحكمة، ألا ترى أن تفضي لأبيك زوجي بهذا الذي ذكرت الساعة عنه؟» وأجاب: «بكل سرور يا أماه، لولا أن أخشى تأويل ذلك بأنني أطمع في وصيته، فأستأذنك في اتخاذ الإجراءات لأستعيد اسم أبي لي ولأختي، فإذا تم ذلك واستقر أمره جئت معها فأدينا لأبينا واجب الشكر وعرفان الجميل.»
وانصرف ولدي مستأذنا في أن يدعني أستريح، وأخذت أفكر في هذا الحديث الجديد ومقدماته ونتائجه، ولعنت الساعة التي عرف فيها ولدي هذه الفتاة حتى ليريد أن يخطبها إلى أهلها، والساعة التي استشار فيها أمها، وقد أدت مشورتها إلى هذا الاضطراب الذي أعانيه اليوم، وقد تؤدي إلى اضطراب أوسع نطاقا تتأثر به صلتي بزوجي، وينتهي إلى تشتيت شملنا بعد إذ كان مجتمعا في انسجام واتساق.
ودخل علي زوجي وهذه الأفكار تتناوبني وترتسم صورتها على محياي، فلما رأى ما يبدو من ذلك علي قال: «لا تجسمي الأمر يا عزيزتي ولا تنزعجي له، فهو واقع غدا إن لم يقع اليوم؛ لأنه نزول على حكم الطبيعة، فما كان الدم لينقلب ماء في يوم من الأيام، وللوراثة حكم لا سبيل إلى مغالبته، وقد أصبحت ابنتك في عصمة رجل، وأصبح ابنك قديرا على الكفاح في الحياة فأغناهما ذلك عنا، وأتاح لهما من الاستقلال في التفكير ما نزع عنهما سلطاننا، وإن استبقى لهما حبنا وعطفنا.» فشكرت له سمو عواطفه وقلت له: «لو أنك سمعت ما قاله ولدي عما يضمره لك من إكرام، ومن اعتراف بفضلك وجميلك، وتقدير لحنانك وبرك كل هذه السنين، لسرك أن أثمرت تربيتنا هذه الثمرة الصالحة، وقد ذكر لي أنه سيؤدي ما عليه لك من واجب الشكر بعد أن يعيد إلى اسمه واسم أخته اسم أبيهما ليكون الشكر خالصا بريئا من كل شائبة.»
وجم زوجي لسماع هذه الكلمات الأخيرة ثم قال: «فليلهمه الله السداد والحكمة.» وعاد الرجل إلى وجومه، ثم انصرف عني إلى مكتبه، فلما آذنت الشمس بالمغيب جاء إلي يخبرني أن أصدقاءه دعوه إلى طعام العشاء وإلى سهرة قصيرة بعده، وأيقنت حين غادر البيت أن حديث ولدي فعل فعله في نفسه، وأنه مضطرب له اضطرابي، حائر في أمره حيرتي، مقدر أنه لا يملك رده، متألم من أجل ذلك له، وأنه ابتكر هذا العشاء وهذه السهرة حتى لا ينكشف لي اضطرابه وألمه، وقد زاد هذا اليقين في حيرتي واضطرابي، وفي خشيتي من المستقبل القريب وما ينطوي عليه من نذر.
وإذ جن الليل وآن لي أن أسكن إلى مضجعي، وأن أطفئ أنوار غرفتي، شعرت بالرعشة من جديد تهزني، وتراجعت عن سريري فزعة مخافة أن أرى الطيف الملتف في أكفانه يندس إلى جانبي ليكون بيني وبين زوجي، عند ذلك همل الدمع من عيني، وعدت حيث كنت على مقعدي، ورفعت أكف الضراعة إلى الله أن يعفو عني، وأن يريح بالي، وأقمت على ذلك زمنا ذهبت بعده إلى مرقدي أحاول النوم فلا يطاوعني، وبعد منتصف الليل أحسست بزوجي يدخل الغرفة ولا يضيء نورها، ويتمطى في مكانه من السرير، وأنا متناومة لا أبدي حراكا، فلما تبينت من صوت أنفاسه أنه نام أخذتني الشفقة عليه لاضطرابه وحيرته، فهو قد حاول أن يقيم أسرة تسعد بها كهولته وشيخوخته، وبذل في سبيل ذلك حر عواطفه وماله، وها هو ذا يرى محاولته تنهار من أساسها ولا يستطيع شيئا لدعمها واستبقاء كيانها، وهأنذي شريكته في محاولته، أشاركه الحسرة لانهيارها، ثم أنا بعد ذلك أشد منه حيرة، أضطرب بينه وبين ولدي أحشائي، ولا أقدر على منع كارثة تهددني!
وبعد أسابيع جاءني ولدي متهللا يذكر أن المحكمة حكمت بإعادة اسم أبيه إلى اسمه واسم أخته، وأنه قد آن له أن يجيء معها إلى زوجي يعترفان له بسابغ فضله، وعظيم حنانه وبره.
قلت: «لقد كنت تخشى أن تفعل ذلك قبل حكم القضاء مخافة تأويله بأنكما تطمعان في وصيته، فهلا تخشى مثل هذا التأويل اليوم؟» وأجابني: «كلا، فالرجل لم يحرر وصيته بعد، فإذا هو حررها برغم ما فعلنا كان ذلك إقرارا منه لعملنا، وإعلانا لإبقائه على محبتنا والعطف علينا، وإن لم يحررها فذلك شأنه، ولن ينقص إحجامه عن تحريرها من اعترافنا بجميله وفضله.»
واستأذن الشاب في الانصراف لبعض شأنه، فلما كان موعد الغداء حضر زوجي، ثم رأيت ابني وشقيقته يدخلان علينا وتقول ابنتي: «لقد جئنا نتناول الطعام معك يا أماه ومع عمنا»، ولاحظت لون زوجي يتغير لسماعه كلمة العم ممن تعودت شفتاه أن يدعوه أبي، وكأنما لاحظ ولدي ما لاحظت فأسرع يقول: «نحن يا عماه ابناك، وقد جئنا إليك نعتذر عن العود باسمينا إلى اسم أبينا، لم يكن ذلك إنكارا لفضلك ولا تنكرا لجميلك، لكنني أعلم أنك كنت أوفى الأصدقاء لأبي، فلما اختاره الله إليه اتخذتنا وديعة عندك، فأسبغت علينا مثل بره وحنانه، وسميتنا باسمك حتى نشعر بأبوتك لنا وبنوتنا لك، فلما بلغنا أشدنا وآن أن ترد الوديعة، أحسست بما في ذلك من مشقة عليك لرقة عواطفك وفرط حنانك، ولأن مر السنين ربط بيننا وبينك بأوثق رابطة، فاحتملت أنا العبء عنك، مطمئنا إلى أنك سترضى صنيعي؛ لأنك رجل أمين لا ترضى أن تحتفظ بما استودعت، وتحرص على رد الأمانات إلى أهلها، أما وقد ردت فقد جئت وشقيقتي الآن نضاعف لك الثناء والحمد على عنايتك بنا، وجميل عطفك علينا، وسمو أبوتك لنا، طامعين في أن تقبل شكرنا لك وثناءنا عليك، والله يتولى جزاءك.»
انفرجت أسارير زوجي لهذا الكلام، فانتقلنا بالحديث إلى جو أكثر طمأنينة، بذلك استأنفنا حياتنا وأنا أرجو أن تعود سابق سيرتها، لكنني شعرت بأن حجابا قام بيني وبين زوجي، وكأن هذا الاسم الذي استعاده ولداي - اسم صاحب الطيف الملتف في أكفانه - قد حال بيني وبينه حتى كاد يجعلني غريبة عنه، ويجعله غريبا عني.
وجاءني ولدي بعد أيام يسألني رأيي في أمر الفتاة التي يريد أن يخطبها لنفسه، واستمهلته حتى أروي في الأمر كما قلت له، وحتى أسأل زوجي لكيلا يزداد الحجاب كثافة بيني وبينه، فلما سألته قال إنه لا اعتراض له على مصاهرة هذه الأسرة فهم أصدقاؤنا ومن طبقتنا، لكنه أضاف: «لكنك توافقينني على أن هذا المسكن الذي نقيم به لا يتسع لأسرتين، وأنا أقترح أن يسكن ابنك وعروسه العمارة التي تقيم بها أخته حتى تسهل عليك زيارتهما كلما هفا لذلك قلبك.»
أحسست من هذه الكلمات الأخيرة أن الرجل لم يعد يطيق حياة ولدي معنا، برغم ما يبديه لي من مجاملة ولطف، فلما حدثني ولدي الغداة قلت له إني أوافق على الزواج، وأقترح عليه أن يسكن العمارة التي تقيم بها أخته، وكذلك فعل، وجهزت العروس مسكنها جهازا حسنا، وأخذت أتردد مع أمها عليه نعنى بنظامه وحسن تنسيقه.
وانتقل الشاب إلى مسكنه الجديد، وكنت أزوره هو وأخته الحين بعد الحين، وكان زوجي يرافقني في هذه الزيارات أحيانا، فيرى في كل مرة جديدا في أثاث ولدي يسره ويعجبه، وإن شعرت دائما بأنه يقوم بهذه الزيارات معي مجاملة لي، لا بدافع من قلبه ووجدانه.
فلما اطمأن ولدي إلى أنه أفاء على مسكنه آخر سمة له، دعانا يوما لتناول الشاي عنده، وذهبنا عنده فاستقبلتنا أخته؛ لأن عروسه شعرت بوعكة لعلها من أثر الحمل، فلما دخل زوجي إلى غرفة الاستقبال رأى فيها صورة مكبرة لزوجي الأول أبي الولدين، فوقف يتأملها ووقفنا من حوله أنا وولدي، فنظر إلينا وإلى الصورة وقال : «هذه هي الأسرة الأولى اجتمعت من جديد.»
وشعرت في نبرة صوته بأسى المنهزم الذي حاول أن يقاوم الطبيعة فلم تنجح محاولته، وحاول أن يرث ما ليس له بحق فلم ينل ما أراد، هنالك أيقنت أنني أصبحت فريسة بينه وبين الولدين يجذبني كل إلى ناحيته، وأني لن يهدأ لذلك بالي، ولن يطيب لي عيش بعد اليوم.
رباه! ماذا أصنع لأنجو من موقف أنوء باحتماله؟! إنني لا قدرة لي على مغاضبة ولدي، ولا قدرة لي على مغاضبة زوجي، فولداي هما ولداي، وزوجي هو الذي افتداني من موقف لم يكن أحد لينقذني منه لو لم يمد هو إلي يده، إنني أضرع إليك، أنا المرأة الضعيفة المؤمنة بقضائك وعدلك، فهبني من لدنك رشدا، وهيئ لي من رحمتك سندا أحتمي به من هول هذا الموقف.
ولم تكذب مخاوفي، فقد بدأ هذا الصراع الصامت بين زوجي وولدي يتجاذبني يمنة ويسرة، وبدأت أشعر كأني الكرة يتجاذبها المتنافسان، وكل منهما في موقفه لا يريم عنه، فكان ولداي يذكران أن اشتغالي براحة زوجي يشغلني عنهما، وكان زوجي يتهكم بي قائلا إن لي العذر أن طغت علي أمومتي فشغلت عنه، وزوجي وولداي لا يبدي أي منهم للآخر إلا المودة والحسنى، والقلوب مطوية على التنازع على هذه المرأة المسكينة المغلوبة على أمرها؛ لأنها زوج تقر لزوجها بفضله ومروءته ونبله، وأم تحب ولديها حب العبادة.
رباه! ماذا أصنع؟! عاودني إذ ذاك رجع من تقوى صباي يوم كنت رضوان الجنة، فأعددت في بيتنا مصلى عنيت به كما كنت أعنى بمصلى المدرسة، وأكببت على فروضي أصليها لأوقاتها، أستيقظ مع الفجر أصليه حاضرا قانتة إلى ربي داعية إياه، أستغفره وأتوب إليه، وألبي داعي المؤذن كلما نادى: «حي على الصلاة»، فأهرع إلى مصلاي فأجد في الصلاة سكينة نفسي وطمأنينة قلبي بانقطاعي إلى ربي.
وذكرت يومئذ عمتي الحاجة وطرحتها البيضاء، وكانت قد انتقلت منذ سنوات إلى جوار الله، فاتخذت للصلاة طرحة بيضاء كطرحتها، وإنني لأصلى الفجر يوما وأقرأ القنوت إذ هتف بي هاتف: «ما لك لا تحجين بيت الله أداء لفرضه؟ إنك إن تفعلي يغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وتبعدين بذلك عن صراع أنت وحدك فريسته وضحيته.»
ما أرحمك يا رب، وما أعظم فضلك! لقد اطمأن قلبي لهذا الهاتف، واعتزمت لساعتي أداء هذه الفريضة الخامسة من فرائض ديني، فلما جاء زوجي أفضيت له بعزمي فقال: أنت وما تريدين. وأخبرت ولدي كذلك بأني خارجة إلى الحج، وما كان لهما أن يصداني عنه.
وبدأت أتجهز للحج وأعد له عدتي، ومن يوم بدأت هذا التجهز شعرت بالإيمان يطرد الهم من قلبي ويحل محله النور والطمأنينة، وشعرت بزوجي وولدي يحوطونني بعناية سعدت بها من قبل ثم نسيتها من يوم حملق في هذا الطيف الملتف في أكفانه وصاح بي مهددا ونذيرا.
ما ألذ حلاوة الإيمان، وما أعظم سعادة المؤمنين! فمنذ نذرت الحج وشغلت بالتجهز له تقشعت من حولي كل سحابة داكنة، وأقبل علي أهلي وأصحابي يهنئونني بما اختار الله لي، ويطلبون إلي أن أدعو لهم بالخير وأنا عند بيت الله المحرم، وجاءني زوجي يوما يقول: «ناشدتك الله إلا ما استغفرت لي ربي وأنت تلبين على عرفات للصفح عني إن كنت قد أخطأت في حق صديقي زوجك الأول»، وأخذ ولداي يسألاني عما يكملان به جهاز سفري، ويطلبان إلي أن أباركهما، وأن أدعو الله لهما، وسمت بي صلواتي في هذه الفترة فوق نوازع النفس كلها، فهانت علي الدنيا وما فيها، وأيقنت حقا أنها متاع الغرور!
واقترب موعد السفر وتلاحقت زيارات المهنئين والمودعين، فلما كانت ليلة البرزة وهفا بي النوم إلى مرقدي، رأيت أبي وأمي وهما في ثياب الآخرة، وكأنهما ملكان يرفرفان بأجنحة من نور فوق رأسي، ويحمدان الله أن رضي عني بما وهبني من تمام الإيمان بتقواي وبحجي، ثم رأيت الطيف الملتف في أكفانه يبدو وعلى ثغره ابتسامة، ومحياه كله الضياء، وهو يقول: «غفر الله لك وغفر لي، وسعت رحمته كل شيء، إنه رب التقوى ورب المغفرة.»
واستيقظت الفجر وصليته، ثم إذا زوجي وولداي وطائفة من أهلي يحيطون بي ويقبلونني، وليس في قلوبهم جميعا إلا المحبة الخالصة، وركبوا جميعا معي قطار السكة الحديد إلى السويس، وظلوا جميعا معي على ظهر الباخرة المسافرة إلى جدة، فلما آن لها أن تبحر ودعوني وكلهم يرجون الله لي حجا مبرورا وذنبا مغفورا، وأنا أرجو لهم جميعا من الله الهدى والرحمة.
الفصل العاشر1
أبحرت الباخرة بمن عليها من الحجاج قاصدة بيت الله الحرام، فلما حاذت رابغ أحرمنا جميعا، وفي بكرة الصبح من غدنا وصلنا إلى جدة فنزلنا من الباخرة إليها، ثم تخطيناها إلى مكة، وهنا طفنا بالكعبة الشريفة طواف القدوم في انتظار يوم التروية الذي يسبق وقفة عرفات.
وكانت حالتي النفسية تمور في هذه الأثناء مورا جاوز كل ما تصورت، لقد كنت قبيل سفري أشعر حين صلواتي بأنني قريبة من ربي، وأنه يسمع دعائي أكفر به عن ذنبي ليغفر لي ويرحمني، فلما لبست ثوب الإحرام شعرت بأنني تجردت لله - جل ثناؤه - ودخلت واسع رحمته، ولم يبق عندي شك، وقد جئت بيته خالصة القصد في التوجه إليه، في أنه غفر لي قبل أن أؤدي شعائر الحج؛ لأنه رب القلوب، ولأن الأعمال عنده بالنيات، ولأني قصدت بابه الكريم قانتة تائبة عابدة مسلمة إليه وجهي، آسفة على ما أسلفت من ذنوبي وأوزاري، فهو لا يرد من قصده من عباده ما خلصت نيته في قصده.
وبينا أنا في هذه الحال من الطمأنينة والغبطة إذ فوجئت بما أخرجني منها، فقد وقفت يوما عند مدرسة من مدارس الحرم، فسمعت أستاذا يحاضر الناس في الحج ويقول: «ليس الحج شعائر ومناسك وكفى، بل هو قبل كل شيء حساب النفس أمام بارئها عما قدمت في حياتها، وهل أدت للحياة واجبها بما يرضي الله ويرضي الضمير، فلم يحملها غرورها على اجتراح الآثام إرضاء لأهوائها، ولم يوسوس لها الشيطان بأن الحياة حق للحي وليست واجبا عليه لله وللناس ولنفسه.»
زلزل هذا الكلام نفسي، وأخرجني من بلهنية الطمأنينة التي كانت تشتملني، وعاد بي إلى ماضي حياتي أنشره أمام بصيرتي ليكون صحيفتي عند ربي، وليكون ما أذرف من دمع التوبة عما فرط مني شفيعي إليه تعالت أسماؤه. صدق الأستاذ، ليس الحج شعائر ومناسك وكفى، ولكنه حساب النفس واعترافها بذنوبها قبل أن تحاسب حين يتوفاها ربها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كانت هذه المرحلة من مراحل نفسي أشق المراحل على وجداني، لكنني صمدت لها واجتزتها بإذعاني وإسلامي، وبإقراري بعجزي وضعفي، وباعترافي الكامل بذنوبي، وضراعتي إلى الله أن يغفر لي بعد الذي بلوت في حياتي من محن كانت الجزاء العادل عما كسبت نفسي. ولقد شعرت بعد اجتيازي هذه المرحلة برضا ملأ جوانحي وانتشر في كل وجودي، كما أضاء أمام بصيرتي نور يهديني السبيل إلى بارئي، فحمدته - جل شأنه - وازددت تواضعا لله وثناء عليه، وتسليما بقضائه، وإسلاما لأمره.
وإنني لسعيدة بما أنا فيه من حال الرضا، أصلي بالحرم الشريف كل فروضي، وأطوف بالكعبة كل يوم، إذ رأيت ما لم أكن أتوقع، فقد صليت العشاء الآخرة ذات مساء ثم ذهبت إلى مضجعي، فرأيت فيما يرى النائم أني هممت بأن أسعى بعد طوافي، فقصدت إلى باب الصفا لأخرج منه إلى المسعى، فإذا سيدة تقبل علي تقبلني وتعانقني، فرفعت إليها عيني لأتبينها، فلما رأيتها لم أملك نفسي من الدهشة؛ فتلك صديقتي! نعم صديقتي التي اشتهرت بالخفة إلى حد الطيش، وقلت لها والدهشة لا تزال تملكني: «أنت هنا؟!» قالت: «نعم، مع زوجي، وقد رأيتك مقبلة علي فشعرت ونحن في بيت الله بأنا أختان إن فرقت بيننا أهواء الدنيا في بلادنا، فلا شيء يفرق بيننا في هذا البيت العتيق!» وزادني كلامها هذا دهشة، فما عهدتها تنطق بمثل هذه الحكمة من قبل، وقبلتها كما قبلتني، وأردت أن أستأذنها لأخرج فأسعى فأمسكت بيدي وقالت: «سأسعى معك.» وسعينا وكلتانا تدعو وتستغفر ربها، وتتلو ما ألقي علينا أن نتلوه في رواحنا وجيئتنا بين الصفا والمروة، فلما أتممنا سعينا سألتني عن موعد طوافي الغداة، وقالت: «سأكون إلى جانبك نطوف معا كما سعينا اليوم معا.»
ثم رأيتني عدت إلى مسكني، ولم تنقض دهشتي ولا أكاد أصدق ما رأته عيني، فلما ذهبت صبح الغد للطواف ألفيت صديقتي في انتظاري، وتقدمت نحوي حين رأتني وقالت: «إن لي معك حديثا قصيرا قبل أن نبدأ الطواف، لقد هتف الليلة هاتف بي تبينته طيف زوجك الأول استحلفني أن أقسم لك أمام هذا البيت المحرم أني ما كانت بيني وبينه قط ريبة، وأني ما أحببته ولا أحبني، وأنا لم تزد مودتنا على موجب الصداقة البريئة الطاهرة أملاها علي واجب الاعتراف بجميله لما صنعه لي ولأولادي من استخلاص ميراثنا، وأملتها عليه مروءته وشهامته.» ثم إنها جذبتني من يدي قبل أن أتمكن من أن أؤكد لها اقتناعي بصحة قولها، فلما كنا قبالة الحجر الأسود أقسمت هذه اليمين ثلاثا، ثم قالت: «والآن سامحيني يا صديقتي ليغفر الله لك ولي»، وأجبتها: «بل سامحيني أنت فيما كان من سوء ظني بك، وإفساد زواجك بمن تزوجته أنا، وأقسم لك كما أقسمت لي أمام هذا البيت أنني يوم أفسدت هذا الزواج لم أكن أفكر في التزوج من صديقنا برغم ما أذعت أنت من ذلك»، قالت: «فسامحيني في هذه كذلك، فإنما كنت أدافع عن نفسي وعن شرفي.» وسامحتني وسامحتها، وأقسمنا على أن نعود لصداقتنا الأولى، ثم طفنا حول الكعبة أداء لواجبنا وتوكيدا لقسمنا، وافترقنا وكلتانا تحمد الله أن طهر الله قلبينا وغسل برحمته ما غسل من ذنوبنا، وتدعو الله لبنيها ولذويها أن يكلأهم برحمته وعنايته.
واستيقظت لصلاة الفجر وأنا أسائل نفسي عن سر ما رأيت في نومي، ثم ذهبت بعد أن أسفر الصبح ألتمس الأستاذ الذي يحاضر الناس في الحج فقصصت عليه حالي، وكيف اطمأنت نفسي وبلغت من الرضا غاية ما أطمع فيه، ورغبت إليه أن يفسر لي ما طاف بي وأنا مستغرقة في نومي، فقال: «إنه من الوضوح يا سيدتي بما لا يحتاج إلى تفسير، فمن أنعم الله عليه فبلغ مثلك حال الرضا يجب أن يطهر قلبه، وأن يطهر عقله الباطن من كل موجدة على أي إنسان، وأن يغفر للناس خطاياهم كما يطمع في أن يغفر الله له خطاياه، ولا يزال قلبك واجدا على هذه السيدة، ولا بد لك إن شئت لحال الرضا أن تدوم أن تطردي هذه الموجدة من قلبك ومن ذاكرتك، ليكون تجردك لله خالصا صادقا مصدره حب الناس جميعا، والمغفرة لكل مخطئ، والاستغفار عن كل خطيئة، ومن أتم الله ذلك له دام له الرضا في الدنيا وفي الآخرة.»
وتخطيت فناء الحرم والدمعة تنحدر من عيني، ووقفت في مقام إبراهيم ورفعت يدي إلى السماء، وهتف قلبي: «ما أكرمك ربي! أجديرة أنا بكل هذه العناية؟ أم أن أعظم الناس ذنوبا أدناهم إلى عفوك وبرك؟ رب إني لأشعر في أعماق روحي بأن قلبي لا يزال في حاجة إلى أن يتطهر ليكون خليقا بأن يسمو إلى حضرتك، ويشرف بالمثول في مقامك الكريم.»
وطال وقوفي وابتهالي إلى الله ودعائي إياه أن يهبني القدرة حتى يتطهر قلبي ووجداني ليدوم لي رضاه عني، فلما أتممت ابتهالي جلست مع الجالسين في مقام إبراهيم، حتى إذا سكن روعي وهدأت نفسي وعاودتني طمأنينتي قمت فصليت، ثم طفت بالكعبة، ثم انتحيت جانبا قريبا من باب الصفا، هنالك ذكرت ما رأيت في نومي، فقمت فسعيت بين الصفا والمروة، وتلوت ما ألقي علي أن أتلوه وأنا أسعى، وسمعت المؤذن ينادي لصلاة الظهر وأنا في آخر أشواط السعي، فدخلت الحرم من جديد فصليت وراء الإمام، ثم انصرفت إلى مسكني.
وشعرت حين خلوت إلى نفسي بأنني خلوت إلى حال جديدة من حالات نفسي، فلا بد لي إن أردت أن يديم الله ما أنعم علي من حال الرضا، أن أمحو كل موجدة من قلبي، وأن أحب الناس جميعا، وأن تكون محبة كل ما خلق الله شعاري ليشرح الله لي صدري، ويرفع عني وزري، فتطمئن نفسي وأرجع إلى ربي راضية مرضية، أتراني أستطيع أن أفعل؟ ذلك ما ابتهلت فيه إلى الله ليهبني القدرة عليه، والله سميع مجيب.
فلما كان المساء وصليت العشاء الآخرة نشرت صحيفتي أمام بصيرتي راجية أن يمحو الله منها كل شائبة من وزر أو شبهة من هوى، وقرأت في هذه الصحيفة أول ما قرأت ما كرره لي زوجي الأول من أن الغيرة والغرور هما مصدر علتي، وسبب ما أرهقته وأرهقت نفسي وولدي به من متاعب وبلاء، وسرعان ما تيقنت أنه - رحمة الله عليه - كان ثاقب النظر، وأن غيرتي وغروري جسما أنانيتي فصرت لا أرى غير نفسي، وأفرغت كل ما في نفسي من حب على هذه النفس الأمارة بالسوء، ولولا أمومتي وحبي ولدي - وهما بعض نفسي - لأنكرت الحب، وأنكرت كل ما يتصل بالحب من عواطف، فأنانيتي هي التي دفعتني للغيرة من صديقتي لأنني لست جميلة جمالها، ولست فاتنة فتنتها، وأنانيتي هي التي دفعتني للاغترار بنفسي والإيمان بذكائي وسحر حديثي، وإيثار من يؤمنون بهذا الذكاء وهذا السحر، فيدفعهم إيمانهم إلى الإعجاب بهما وإنكار ما سواهما، وأنانيتي هي التي جعلتني كذلك أسيرة نفسي فأذلتني لها، وضربت حولي نطاقا من سجنها وحالت دون تبادلي مع الناس جميعا أكرم العواطف، فلو أنني محوت بفضل من الله أنانيتي أو تغلبت على الأقل عليها، لحطمت جدران سجني، ولخرجت من عزلتي، ولأحببت كل ما حولي ومن حولي، ولتطهر قلبي ودامت علي نعمة الرضا من ربي.
وجاهدت منذ ذلك اليوم نفسي، فلم أكن أرى في الحرم امرأة تبدو عليها مظاهر الهم والألم إلا سكبت فيها من روحي ما يزيل همها وألمها، سواء علي عرفتها أم لم أعرفها، ولم أكن أسمع أنة مريض أو مكلوم القلب حتى أخف لشفاء مرضه أو لشفاء قلبه، ولم أكن أشعر بأنانيتي تتحرك فيما استبطن من أعماق وجودي حتى أقطب جبيني لها، وأردها إلى أعماق سجنها، بذلك صرت أفرح لأفراح الناس ممن حولي، وأتألم لآلامهم؛ ولذلك رجوت أن يشفيني الله من علتي، وأن يقبل بفضله خالص توبتي.
وجاء موعد الحج فقضينا مناسكه: صعدنا إلى عرفات نلبي داعي ربنا ونشهد بوحدانيته لا شريك له، وأن الحمد والنعمة والملك له تعالت أسماؤه، وهناك ابتهلت إليه ودعوته لكل من رغب إلي أن أدعو الله ليبارك عليه وليهديه ويغفر له ويرحمه، وكان أحر دعائي لولدي أن ينجيهما الله من شر نفسيهما، ومن الوقوع في مثل آثامي، وإلى والدي أن يجزيهما الله بما أحسنا إلي، وإلى زوجي أن يبلغه الله مراتب الرضا، وإلى الطيف الملتف في أكفانه زوجي الأول أن يثبته الله وأن يسكنه الجنة جزاء عفوه عني برغم ما أسأت إليه، ودعوت الله كذلك إلى الأقربين من أهلي وذوي رحمي كل باسمه، وإلى الناس جميعا أن يرفع الله عنهم مقته وغضبه، وأن يديهم سواء السبيل.
وآن لنا بعد أن طفنا طواف الوداع وسعينا سعيه أن نذهب إلى مدينة الرسول - عليه السلام - وأنا أرجو أن أظل في رحابها حتى يقبضني الله إليه بها، وأن أدفن في ترابها.
لا قدرة لي على تصوير شعوري حين أهلت المدينة وطالعتنا أعاليها ونحن منها على مدى النظر، لقد كانت عمتي تحدثني بعد حجها أنهم لما شارفوا المدينة رأوا النور يتلألأ فوق القبة الخضراء من قباب المسجد النبوي، أما أنا فلم تر عيني حين شارفت المدينة إلا ما يراه من يقبل على أية مدينة في العالم، وكنت كلما اقتربنا منها ووضحت معالمها وتبينا قبابها تمنيت لو كانت أدق نظاما وأحسن عمارة، وكذلك كان شعوري منذ دخلتها، ولا يزال هذا الشعور آخذا بنفسي إلى اليوم، ولا أزال أدعو الله في صلواتي أن يهيئ لها من يحسن عمارتها، ومن ينهض بكل مرافقها إلى مستوى الحضارة في أرقى صوره.
لم تر عيني حين شارفت المدينة نورا يتلألأ فوق القبة الخضراء، لكنني أحسست بقلبي يملؤه النور أول ما علمت أننا نقترب من قبر الرسول الكريم، وقبل أن تطالعنا قباب مسجده، وانتشر النور من قلبي في كياني كله، وأعاد إلى ذاكرتي كل صفحة من حياة النبي العربي قرأتها قبل حجي، ولعل هذا النور الذي أضاء روحي وانتشر في كل وجودي كان ينتقل من قلب عمتي وأمثالها إلى أبصارهم فيرونه متلألئا فوق القبة الخضراء، ولا تخالج نفوسهم إثارة ريب في أنه منبعث من قبر الرسول الكريم الكائن تحتها، والإيمان ينير البصائر كما ينير القلوب، فترى الأبصار بفيض من قوة هذا الإيمان ما لا نرى، وتقص صادقة ما لا ريب عندها في أنها رأته رؤية مادية كما رأت القبة الخضراء نفسها.
ودخلنا المدينة وأزلت عني غبار السفر، وقصدت لتوي إلى مسجد الرسول، فصليت في الروضة النبوية الشريفة صلاة القدوم، ثم إنني زرت الحجرة النبوية الشريفة ووقفت قبالة قبره
صلى الله عليه وسلم
أسأله الشفاعة يوم الدين، وما لبثت حين بدأت أدعو ربي ليقبل شفاعة رسوله في أن انهملت عبرتي وخفق قلبي وانعقد لساني كأني في حضرة ملك عظيم، بل كأني في حضرة أعظم الملوك وأجلهم قدرا وأوسعهم سلطانا، وإن يكن سلطانه سلطان بر ورحمة، لا سلطان جبروت ونقمة، ولم أستطع وتلك حالي أن أغادر مكاني، فتشبثت بأعواد الحجرة حتى دفعني الزائرون والزائرات عنها ليلثموها تبركا بها، هنالك جلست قبالتها وأطلت التحديق فيها، وقلبي مأخوذ عن كل شيء إلا عنها، ونظري ثابت نحوها لا يتحول يمنة ولا يسرة، فلما انحلت عقدة لساني أخذت أدعو من أعماق قلبي رسول البر والرحمة والتوبة والمغفرة أن يديم الله ما أنعم به علي من حال الرضا، وأن يفتح قلبي لمحبة الناس جميعا، ولمحبة أمثالي الذين أسرفوا في حياتهم على أنفسهم، وأن يسعنا جميعا في رحابه، وأن يتقبل توبة التائبين وأن يدخلهم فسيح رحمته.
واتخذت لي مكانا في الروضة الشريفة أصلي فيه كل يوم فرائضي الخمس، وأدعو الله مخلصة أن يقبل توبتي، وأتلو فيه من سيرة الرسول ما أتخذ منه الأسوة الحسنة، مع إقراري بعجزي عن السمو إلى ذياك المقام وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه.
وشعرت بقلبي يزداد كل يوم طمأنينة، وبنفسي تزداد كل يوم هدى، فدفعني ذلك إلى التفكير في المقام بالمدينة أجاور الرسول الكريم ما بقي من أيامي، لكني تركت بالقاهرة زوجا أحسن إلي وولدين يشتاقهما قلبي، وتحن إلى نظرة منهما نفسي، ولئن استطعت أن أدعو الولدين لأراهما بالمدينة ولو مرة في كل عام، فليس من حقي أن أقيم بها إلا أن يأذن لي زوجي؛ لذلك كتبت إليه كتابا رقيقا أشرح له فيه ما مر من أحوالي ، وأشكر الله ما أنعم به علي، وأستأذنه في المقام مجاورة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يختارني ربي، وأقمت أنتظر الجواب على خطابي، ولدهشتي وفرحتي جاءني بعد قليل كتاب زوجي ينبئني بأنه قادم إلي ومعه ابنتي، وأن ابني كان يود أن يحضر لولا أن أمسكته مصالحنا في مصر ليرعاها.
ولم يطل انتظاري مقدمهم، فبعد أيام من تناولي كتاب زوجي تسلمت برقية بأنهم أبحروا من السويس إلى ينبع في طريقهم إلى المدينة، أتراني أنتظرهم حتى يحضروا إلي أم أخف للقائهم بينبع؟ كان الجواب على هذا السؤال مدار نزاع حامي الوطيس بين روحي وقلبي: قلبي يحركه الشوق إليهم فيدفعني دفعا عنيفا لأذهب إلى ينبع، وروحي تحدثني بوحي من عقلي أنهم سيبلغون المدينة مساء اليوم الذي تستقبلهم ينبع في صباحه، وليس يشق علي أن أنتظرهم هذه الساعات فلا يخلو مكاني في أثنائها في الروضة النبوية، ولا أشغل خلالها بشيء عما أخذت به نفسي من عبادة ربي، وغلبت روحي آخر الأمر فأذعنت مؤمنة بأن غلبها كان بقضاء من الله وقدره، وبقيت بالمدينة أنتظر القادمين العزيزين من غير أن أنقطع عن أداء ما لله علي من حق.
واستقبلتهما وأنا في ثيابي الناصعة البياض، وحياني زوجي في شوق وإكرام، وتمنى لي حجا مبرورا، وقابلت تحيته بمثلها في تواضع واحترام، أما ابنتي فاندفعت إلي تقبلني وتعانقني وتضمني إلى صدرها، فأشعر في هذه الضمة البنوية الصادرة من أعماق قلبها وكأنها تريد أن تعود بضعة مني كيوم كنت أحملها في أحشائي، فيزداد قلبي وقلبها امتزاجا، وأحس بأننا روح واحد في جسدين، فلما فرغنا من تحياتنا وقبلاتنا وعناقنا، وذكرت لهم أني دعوت الله لهم ولأهلنا جميعا، سألت ابنتي: وكيف أخوك؟ قالت: بخير يا أماه، وهو يسأل متى تعودين إلى القاهرة؟ ولمحت زوجي فإذا هذا السؤال مرتسم على وجهه، وإذا هو ينتظر أن يسمع جوابي عليه، قلت: ذلك ما سنتحدث فيه بعد أن تقيما معي أياما. وبعد برهة صمت قال زوجي: أولا يجب علينا أن نذهب إلى الحرم نؤدي لصاحبه - عليه الصلاة والسلام - تحية القدوم. قلت: ذلك لكما، وسأرافقكما، لكن الواجب عليكما أن تقرأ سيرته لتقدرا شرف مثولكما في حضرته حق قدره، وهذه السيرة عندي يستطيع أيكما أن يقرأها إذا قام الليل إلا قليلا، فإذا هو زار الحرم بعد ذلك ووقف أمام الحجرة الشريفة استنار قلبه بنور صاحبها، وعرف كيف يجتمع الحق والخير والإيثار وإنكار الذات وسائر المعاني الرفيعة في نفس واحدة، هي ملاك المعاني السامية كلها، وهي القدوة خير قدوة لمن شاء أن يتبع خطاها، ويسير في أثرها.
وقرأ زوجي وقرأت ابنتي السيرة، وأخذا يصحباني كل يوم إلى مسجد صاحبها، ويجلسان معي في الروضة يصليان ويتعبدان، على أنني شعرت بعد أيام أنهما يحسباني أبالغ في تقواي، فلم أعر حسبانهما هذا بالا؛ لأنني أدركت مما رأيت منهما أن أمرا خاصا يشغلهما، وخلا إلي زوجي يوما بين صلاتي العصر والمغرب إذ كانت ابنتي في الحرم فسألني: والآن هل أستطيع أن أعلم متى اعتزمت العود إلى القاهرة؟ فقلت: أوتذكر لي أنت ما حدث بين ابنتي وزوجها؟ فأجابني وقد علته الدهشة: وكيف علمت؟ وهل كتب إليك أحد من مصر بما حدث؟! قلت: كلا، ولكنه إحساس خامر قلبي، وشهد به عندي ما كانت تنم عنه أساريركما كلما جاء ذكره في حديثي معكما. قال مبتسما بدء حديثه، بادية عليه سيما الأسف حين استطرد فيه: «لا يزال ذكاؤك لماحا برغم تقواك، وكنت أحسب أن الذكاء والتقوى لا يجتمعان، أما وقد اجتمعا فلن أستطيع أن أخفي عنك شيئا، والأمر يحتاج في معالجته إلى حكمتك وبصيرتك. إن ابنتك وزوجها يكثر اختلافهما حتى لأضيق أحيانا بهما حين يحتكمان إلي فأحاول إصلاح ذات بينهما، وقد استطعت إلى عهد قريب أن أتغلب على منازعاتهما، وأن أردهما إلى حمى الصلح والسلام، ثم استفحل خلافهما في الفترة الأخيرة حتى خشيت انفصالهما، وكدت أيأس من إمكان تفاهمهما، وإنا لكذلك إذ جاءني كتابك تستأذنينني في البقاء بالمدينة هنا، وقد انتهزت فرصة تناوله واتخذت منه حجة للكلام في غير ما يشتد جدلهما حوله ، ثم رأيت حين قررت المجيء إليك أن تصحبني ابنتك راجيا أن يبعث بعدها شوق كل من الزوجين إلى صاحبه، فينسيهما الشوق خلافهما. هذه قصتهما وقصتي معهما، ولن يستطيع أحد ما تستطيعين أنت علاجا لحال يعصي علي أمرها، وأخشى أن يفلت من يدي زمامها.»
قلت: «فلنستعن بالله فيما يعصي عليك، فإذا جاءت ابنتي خاطبتها آملة أن أردها إلى صوابها لترد هي زوجها إلى صوابه.»
وذهبنا إلى الحرم وصلينا المغرب والعشاء وراء الإمام، ثم عدنا وعادت ابنتي معنا، فلما تناولنا طعامنا، واستقر بنا المجلس، قلت لها: لقد دار بظني أنك على خلاف مع زوجك إذ كنت أراك وعمك تنقبض أساريركما كلما جرى اسمه على لساني، وقد سألت عمك عن ذلك فأخبرني أنكما بلغ من أمركما أن خشي انفصالكما، وأن كاد ييأس من إصلاح ذات بينكما، ففيم تختلفان؟ قالت وهي تحبس دمعة ترقرقت في عينيها: «لقد أصبحت حياتنا لا تطاق يا أماه؛ إن زوجي يريد أن يستأثر بكل شيء داخل المنزل على حين لا أسأله أنا شيئا فيما خرج عن دائرة المنزل، إنه يريد أن يكون السيد المطاع، وأن تكون كلمته أمرا لا أناقشه فيه، فإذا أردت أن أبدي له ملاحظة عن لون ثيابه أو زيه قال: ما لك أنت وذاك؟ هي ثيابي أنا، متناسيا أن ما يوجه إلى ثيابه من نقد موجه إلى ذوقي وحسن عنايتي، وهو يريد مع ذلك أن يكون صاحب الرأي في ثيابي، في لونها وقماشها وتفصيلها، وأنت يا أماه تعرفين أن الرجال لا يعلمون شيئا عن ثياب النساء، فالنساء يغيرن أزياءهن، والرجال معجبون دائما بكل ما يصنعن، حسب المرأة أن تملق غرور الرجل فتسأله رأيه في ثوبها ليبدي غاية الإعجاب بالثوب وبها، وهذا وإن أوهمت المرأة زوجها بأنها تستشيره قبل أن تختار القماش وطراز الثوب، وبلغ من أمر زوجي معي حين ثرت باستبداده أن قال يوما: «إنني لا أريد أن تصيري إلى ما صارت إليه أمك!» عند ذلك رأيت الكأس قد طفحت، وأنه وقد تخطاني إليك اليوم، فإنه سيتخطاك إلى أبي غدا، وإذا لم تقم الحياة بين الزوجين على تبادل الاحترام فلا خير فيها، فالحب الذي يتجاوز الاحترام لا يكفي وحده لاتصال الحياة بين الزوجين.»
شعرت بأن ابنتي ذكرت إشارة زوجها إلى مصيري لتثير حماستي، لكنني كنت أشد حرصا على مصيرها هي؛ لذلك سارعت فأجبتها: «لا تحسبي رجلا يستطيع أن يستبد بامرأة إلا أن يكون وحشا كاسرا، أو تكون المرأة عنيفة فقدت كل معاني الأنوثة، أو مغرورة عبثت بها أنانيتها فلم يبق لزوجها إلا أن يفرض وجوده عليها.»
قالت ابنتي: «فأشيري علي يا أماه، أنت تعلمين أنني أحب زوجي وأنه يحبني، لكنني أرى أن مشاركته في الصغير والجليل من الشئون فقدان ثقة بي، ولشد ما أخشى أن أبادله عدم الثقة فيكون لذلك من سوء الأثر في حياتنا ما أريد جهد طاقتي تجنبه.»
قلت: «فاسمعي يا صغيرتي، لا تطلبي إلى زوجك أن يثق بك ثقة عمياء، وهو لن يطلب إليك مثل هذه الثقة به، أنتما شريكان في كل شيء، ومن حق الشريك أن يحاسب شريكه، لقد خبرت هذا الأمر وبلوت من مره علقما، فثقة أبيك العمياء بي هي التي أضلتني، وسبقه إياي إلى رغباتي هو الذي جر عليك وعلى أخيك أبلغ الضرر، فهو لم يكن يراجعني أو يصدني عن شيء، وقد كنت معرضة للخطأ فيه، حسبه مني أنه كان يحبني، وكنت أول سني زواجنا أحبه، وأنني لم أكن أسأله عن شيء في عمله؛ لأنني لم أكن أعرف ألف الطب ولا باءه، وكان ذلك دافعي يومئذ لأرغب إليه في الانتقال من الطب إلى السلك السياسي؛ ليكون سلطاني أفسح مدى، لكنه أبى وأصر على إبائه، عند ذلك بدأ حبي إياه يضطرب في نفسي، والحب إذا اضطرب فمصيره إلى الاحتضار والموت، وما قيمة حب لا مظهر له إلا أن يقول الرجل للمرأة، أو تقول هي له: إنني أحبك، وألا يلتقيا إلا لإنجاب ذريتهما، وألا يحاول كل منهما أن يكمل نقص صاحبه ليسمو به إلى ما يقربه من الكمال، ولو أن أباك راجعني بدء زوجيتنا فيما يخشى أن أتعرض للخطأ فيه، وردني برفق لا يعرف العنف الذي كنت أراجعه به بعد أن فتر حبي له، لما بلغت الأمور بيننا إلى ما تعلمين من انفصالنا، فلا تبالغي يا صغيرتي إذ تتحدثين عن حرص زوجك على الاستئثار بشئونك، بل تسامحا وتشاورا، وتشاركا في كل ما تستطيعان فيه تسامحا أو مشورة أو اشتراكا، ينتقل ذلك بحبكما من القلب إلى الروح، ولا حب كالحب بالروح بقاء ودواما.»
أحسنت ابنتي الإنصات إلى حديثي، فلما فرغت منه قالت، وعلى ثغرها ابتسامة تشوبها السخرية: «سامحيني يا أماه إذا قلت إنك لم تعرفي الرجال بعد برغم خبرتك الطويلة، إنهم لا يكفيهم أن يستأثروا بأجسامنا، فهم يريدون أن يستأثروا بقلوبنا وعقولنا وأذواقنا وكل شيء في وجودنا، إنهم لا حد لأنانيتهم، وهم أشد حرصا على أن يستأثروا بكل ذلك من المرأة ما كانوا أشد لها حبا، وحرصهم يتجاوز كل حد إذا بلغ حبهم العبادة، فإذا لم تصدهم المرأة عن غيهم في الاستئثار المطلق بها فني أمامهم وجودها، وأصبحت أمة رق لهم، وهذا ما لا أرضاه ولن أرضاه مخافة الغد، وما أخشاه من مذلتي فيه.»
وابتسمت كما ابتسمت وقلت: «أنت على حق يا صغيرتي، أنا لم أعرف الرجال بعد كما عرفتهم أنت، ولكنما عرفت أن الرجل ضعيف عنيف، وأن المرأة ضعيفة قادرة، فالرجل إذا استثير جابه الخطر ولو كان في مجابهة الخطر حتفه، وجابهه مضطرب الروية زائغ البصر، غير مؤمن بسلاح غير سلاح العنف. أما المرأة فالعنف ألد أعدائها، هي حمامة السلام، فإذا نصبت نفسها للقتال فويل لها وويل للسلام، وقدرة المرأة في ذكاء أنوثتها، هذه الأنوثة الذكية هي السلاح الحاسم الذي تستطيع به كل شيء، وتستطيع به أن تملك عقل الرجل وقلبه وروحه وكل حواسه، والأنوثة الذكية تأنف العنف في كل مظاهره؛ لأنها تدرك ما للرفق والمحبة من سلطان قاهر يعنو له العنف ويتلاشى أمامه. بالرفق والمحبة تجعل المرأة هزيمتها نصرا، وإذعانها أكبر من النصر، فعالجي يا صغيرتي زوجك بذكاء أنوثتك، وأنا كفيلة لك بأنه سيكون طوع إرادتك في كل ما تطلبين.»
قالت ابنتي في استسلام مصطنع: «سأحاول يا أماه، ولعلي أجد في حياتك درسا لي، وإن كنت أخشى أن تغلبني كبريائي يوما فلا أبلغ ما يشتد حرصي اليوم عليه.»
وقاطعتها في عنف قائلة: «تعسا لباطل الكبرياء الذي ينفث فينا سموم الغرور، إنه هو الذي يهزمنا ويذلنا حين يكون النصر في قبضة يدنا، لا شيء يا ابنتي خير من التواضع ما لم ينزل بصاحبه إلى هوان المذلة، وإنني لأدعو لك من كل قلبي أن تبلغ أنوثتك من الذكاء ما يفتح لك بالتواضع أبواب السعادة والهناء.»
قالت: «ومتى تحضرين إلى القاهرة يا أماه لتسددي من خطاي ما أخشى أن يتعثر، ألا تعودين مع عمي ومعي؟»
وأجبتها: «ذلك ما سأحدث عمك فيه، فأنا لا أستطيع أن أبقى هنا أو أعود إلى هناك بغير إذنه، وسأكشف له عن مكنون صدري، ولا مرد بعد ذلك لحكمه.»
وأدركت ابنتي من عبارتي أنني أريد أن أخلو إلى عمها أحدثه فانسحبت متلطفة وقالت: أنا ذاهبة إلى مخدعي، فلتمسيا بخير. ورددنا تحيتها بمثلها.
فلما خلونا قال زوجي: «أخشى أن يكون حوارك مع ابنتك قد أجهدك وجعلك في حاجة إلى الراحة، فإن شئت تحدثنا عن عودك إلى القاهرة بعد صلاة الفجر.»
وأجبته: «الأمر على عكس ما تظن، فقد أيقظ هذا الحوار كل حواسي، وأطار كل خاطر للنوم من رأسي، فإن لم تكن أنت بحاجة إلى الراحة فإني مفضية إليك بذات نفسي، أما إن آثرت أن تستريح فأنا وما تريد.»
وآثر هو أن يستريح فنمت بجواره، وألصقت جسمي بجسمه، وشعرت بالدفء يسري منه إلى كل وجودي، ويبعث إلى قلبي من الطمأنينة ما سكن من يقظة أعصابي وهفا بي إلى النوم، واستيقظت مع الفجر وأيقظته، وصليت مؤتمة به، فلما فرغنا من صلاتنا ومن دعائنا قال: «ألا ترين أنك تظلمينني إذا بقيت هنا وتركتني أعود إلى القاهرة أعاني الوحدة وآلامها، إنني أدرك بعد الأيام التي أقمتها بالمدينة حلاوة هذه الحياة التي تحيينها، تقضين معظم نهارك وطرفا من الليل في الحرم على مقربة من الرسول الكريم، وكم تمنيت لو استطعت أن أجاوره كما تجاورينه، لكنك تعلمين أن مصالحنا بمصر تحول بيني وبين هذه الأمنية العزيزة، ولك علي إن أردت أن تحجي كل عام وأن تزوري أن أعاونك على ذلك، وأن أصحبك فيه كلما استطعت إلى صحبتك سبيلا.»
قلت وقد ازداد قلبي رقة لهذا الرجل المحسن الكريم: «عزيز علي أن أدعك تعاني الوحدة في مصر وأنت الذي أنقذتني منها، وكم نازعتني نفسي إلى العود معك، ولو أننا تحدثنا في هذا الأمر يوم مقدمك إلى هنا لهفت نفسي إلى ما تريد، فقد كنت أشعر يومئذ أني بلغت من تطهير قلبي إلى ما يديم علي حال الرضا التي أكرمني الله بها، لكن الأيام التي قضيتها معي هنا أرهفت حسي نحوك، وجعلتني أشعر لك في أعماق قلبي بما لم أشعر من قبل بمثل بأسه وسلطانه، نعم، إني أحبك الآن حب امرأة لرجل، فجسمي يهواك كما يحبك قلبي، وأخشى أن ينسيني هذا الحب وهذا الهوى محبة غيرك ممن خلق الله، وما خلق الله، فإن حدث ذلك - وشد ما أخشى أن يحدث - زالت عني حال الرضا، وعدت أعاني من حساب الضمير عن ماضي حياتي ما أنوء به. قد يكون هذا الحب العنيف من نزغ الشيطان، وقد يكون اختبارا يريد به ربي أن يبلوني، وأن يشهدني على ضعف نفسي وباطل غروري؛ إذ أظن أنني سموت إلى مرتبة رضاه وروحي لا تزال تتجاذبها الأهواء، ويختلط فيها الخبيث بالطيب، فهل لي أن أرجوك - وأنت الزوج المحسن الكريم - أن تدعني هنا أتابع ما بدأته من تطهير قلبي حتى أطمئن إلى نقائه؟ ولعلك إن عدت للزيارة في شهر رجب ألفيتني في طاعة الله وطاعتك سباقة إلى مرضاتك!»
كنت أنظر إليه وأنا أخاطبه بعينين ملئتا عطفا ومحبة، ثم كنت أراه مع ذلك مشدوها كأنما أخاطبه بلغة غير مفهومة، وقد ظل بعد أن فرغت من حديثي تعلوه الدهشة، وكأنما يريد أن يتبين ما أريد فلا يسعفه ذكاؤه، وبعد برهة ساد فيها بيننا الصمت قال: «أصدقك أنني لم أفهم كل ما قلته، لكنك ذكرت أنك أصبحت تحبينني الآن حب امرأة لرجل، أوأفهم من ذلك أنك لم تكوني تحبينني قبل أن تحضري إلى المدينة؟» وسارعت فأجبته: «لا تبالغ يا عزيزي، ولا تحمل ما قلته معنى لا يحتمل، إنما قلت إنني أحببتك منذ جئت إلى هنا حبا لم أشعر من قبل بمثل بأسه وسلطانه، ولا أخالك تريدني على أن أقص عليك قصة عاطفتي نحوك من قبل فأنت تعرفها، وتعرف ما كان من حديث بعضهم عنها، وكل الذي أرغب إليك فيه ألا تأخذك النشوة بحبي إياك اليوم، وأن تدعو الله معي أن يديم علي هذا الحب سلطانه من غير أن يحبسني في سجنه، وأن يدع قلبي مفتوحا لحب كل ما خلق ومن خلق حتى يدوم لي عفوه عني، فأبقى في حال الرضا التي أنعم بها علي.»
لم يدعني الرجل أستطرد في الحديث، بل قال: «بل أريد أن تقصي علي قصة عاطفتك نحوي؛ فذلك أدنى لفهمي، وأحب إلى نفسي.»
قلت: «أتراك راجعك شبابك يوم كنت تريد أن تتزوج صديقتي؟ ولكن لا بأس بأن أجيبك إلى ما يرضيك، أنت تعلم أنني عرفتك أول ما عرفتك الصديق الوفي لزوجي الأول، كما كنت الصديق الوفي لصديقتي، كنت يومئذ أستريح إلى مجلسك، وآنس بحديثك، وأغتبط بحسن إصغائك إلى حديثي، فكنت إذا جئت إلينا سررت بلقياك، وحرصت على استبقائك عندي أطول زمن ممكن، فلما أشركت زوجي الأول معك في معاونة صديقتي على استخلاص ميراثها لم أجد بذلك أول الأمر بأسا، لكنكما بالغتما من بعد في عنايتكما بهذا الأمر مبالغة أثارت نفسي بكما، وأقنعتني بأن جمال صديقتي، لا الوفاء لأولادها أو لذكرى زوجها، هو الذي يدفعكما إلى هذه المبالغة، ولقد كدت - لمبالغة زوجي الأول ولكثرة تردده على صديقتي - أحملك أنت التبعة؛ لأنك شجعته على هذه المعاونة، ودفعته إليها، فلما أردت أن تتزوج صديقتي عرضت لي فرصة نادرة للانتقام منك ومنها فأفسدت هذا الزواج، ومرضت أنت بعد ذلك، واستبد بك المرض فتولاني الندم على ما فعلت، وبدأت عواطفي نحوك تحرك قلبي، وازدادت هذه العواطف حين أكدت لي غير مرة أنك لن تتزوجها، وحين انقطعت كل صلة بينك وبينها، على حين بقي زوجي متصلا بها، وبدأ العطف إذ ذاك يشوبه الود وإن لم ينقلب حبا؛ لأننا وقفنا صفا واحدا، تنكر أنت على صديقتي التي قاطعتني وأذاعت أنني أفسدت زواجها منك لأتزوجك، ولا أحب أنا زوجي؛ لأنه أبقى على ود صديقتي التي قاطعتني وطعنت علي. وتضاعف ودي لك بعد أن هدك المرض بسبب فعلتي، وإنك واسيتني في محنة احتضار حبي لزوجي مواساة استراح لها قلبي، فاعترف بجميلك، وأقر في أعماقه بعظيم فضلك، وازددت أنا إقرارا بهذا الفضل حين حاولت أنت غير مرة أن تعيد الصفاء بيني وبين زوجي وفاء منك لصداقته، مع يقينك إذ ذاك بأنك تحاول المستحيل.
من يومئذ وقفت إلى جانبي فخففت عني عبء عزلتي بعد أن انتقلت إلى الإسكندرية، ثم إنك أقنعت زوجي فطلقني فضاعف ذلك ودي لك، فلما رأيتني أضطرب في حياتي الجديدة كما تضطرب الخشبة الضئيلة ألقي بها في لج البحر المتلاطم، مددت يدك إلي فأنقذتني وتزوجتني غير عابئ بإثم الظن وقالة السوء! يومئذ غمرني فضلك؛ فأصفيتك كل قلبي، فلم يبق لك من شريك فيه غير ولدي، وزاد ملكك هذا القلب حين اعتبرتهما ولديك، وبقينا من بعد ذلك السنين وأنا في رحاب فضلك، منسوبة أنا وولداي إليك، نعيش في ظل عطفك وسابغ برك، فلما ارتد ولداي فتسميا باسم أبيهما تصارع في قلبي حبي إياك وحبي إياهما، فهرعت إلى البلد الأمين لائذة بربي لاجئة إلى حماه، وأقمت في هذه الأرض المقدسة أدعو الله وأتوب إليه وأستغفره حتى اطمأن قلبي إلى أنه غفر لي وعفا عني، ومحا بفضل منه ما سلف من ذنوبي، عند ذلك شعرت بأن قلبي وروحي عاودهما شبابهما، وانفتحت لهما صفحة جديدة مبرأة من الذنوب، فلما جئت أنت إلى هنا أحسست بهذا الشباب ينتقل من قلبي، بفضلك وجميلك انقلب حبا جارفا، حب امرأة لرجل، بل عشق فتاة لشاب، عند ذلك أيقنت أن هذا الحب لم يكن وليد يومه، وأنه لم يكن حبا من أول نظرة كما يقولون، بل نشأ منذ عهد بعيد نطفة، ثم مضغة، ثم علقة جعل ينمو حتى بلغ اليوم فتوة شبابه، ولقد كنت أسمع ولا أصدق أن حب الكهولة أعنف الحب، وهأنذي اليوم وقعت في براثنه بعد أن عشش في قلبي وأفرخ، وبعد أن حملته في قلبي كل هذه السنين كما تحمل المرأة طفلها في أحشائها تسعة أشهر، فإذا وضعته نسيت كل شيء، بل نسيت حياتها من أجل وليدها، وأكرر الآن أنني أخشى أن يبلغ من طغيان هذا الحب علي أن يحبسني في سجنه، وأن ينسيني محبة ما خلق الله ومن خلق؛ ولذا أعود فأرجوك باسم هذا الحب أن تدعني هنا أتابع ما بدأت من تطهير قلبي حتى يسع إلى جانب حبك حب خلق الله؛ لأنه وسيلتنا إلى محبة الله ودوام عفوه وعطفه، فإن أذنت - ولا أخالك إلا آذنا - أسديت لي يدا تنفعني وتنفعك عند ربي، فإذا عدت بعد ذلك يوما إلى القاهرة عدت بريئة مطهرة، وكنت النفس المطمئنة التي تطمع في أن يدخلها الله في عباده، وأن يدخلها جنته.»
كان زوجي يسمع قصتي مستريحا لها راضيا عنها، وتزداد أساريره انفراجا كلما أمعنت فيها، فلما فرغت منها، وهز رأسه وكأنما تولاه العجب وقال: «لشد ما تختلف الصور لتنتهي من بعد إلى التقاء، بل إلى امتزاج! فقصتي معك تختلف عن قصتك معي كل الاختلاف، والقصتان تنتهيان مع ذلك إلى امتزاج قلبينا أشد الامتزاج، لقد أحببتك أنا من أول نظرة، يوم قدمني زوجك الأول إليك على أنني صديقه الوفي، وقد تمنيت يومئذ لو لم تكوني زوجه لأتزوجك، ولعلك تذكرين أنك أنت التي طلبت إلي أن أعنى بميراث صديقتك وأبنائها، فاعتبر قلبي طلبك أمرا لا مفر من نفاذه، ولا تنسي أنني استشرتك في الاستعانة بزوجك فأذنت لي، بل ألححت عليه في معاونتي، وأتاح لي ذلك فرصة الإكثار من التردد عليك، وإرضاء قلبي وروحي بجاذبيتك وسحر حديثك، وكان ذلك يلهب حبي ، ويضاعف الصراع بينه وبين الوفاء لصديق ائتمنني على بيته وشرفه.
عند ذلك فكرت في التزوج من صديقتك وأنا أعلم الناس بخفتها ونزقها؛ لأجد في جمالها وفي حواسها بعض ما يسكن شغفي بك وحبي إياك، فلما أفسدت أنت هذا الزواج آمن قلبي بأنك تحبينني كما أحبك، لهذا عاد الصراع بين الحب والوفاء للصداقة أعنف مما كان، لكنني كتمت ما في نفسي إبقاء على شرفك وشرفي، وحاولت جهدي أن أعيد الحياة لحبك المحتضر، مكتفيا من حبي إياك بالنظر إليك، والمتاع بسحر حديثك، فلما ذهب جهدي عبثا، وطلقت من زوجك لم أرد أن أفاتحك بحبي حتى لا يصدق ما أذاعته صديقتك من أنك أردت الطلاق لتتزوجي مني، لكن رأيتك بعد ذلك ريشة في مهب الريح، فمددت يدي إليك إرضاء لحب تأجج في صدري كل هذه السنين، فتزوجنا. يومئذ اطمأن قلبي، ولم يعنني من بعد أن يقول مطلقك إنني خنت عهد صداقته، فالله يعلم وأنت تعلمين كم وفيت له، وكم قاسيت في سبيل هذا الوفاء؛ ولهذا أمتعنا الله سني زواجنا بالسعادة والنعمة، وكذلك امتزج قلبانا بعد أن بقيا متحاذيين على طريق الحياة السنين الطوال.»
وسكت الرجل بعد ذلك هنيهة، ثم قال: «على أنني يزداد يا عزيزتي عجبي حين تذكرين أنك لم تشعري ببأس الحب وسلطانه ما تشعرين اليوم، ثم تريدين مع ذلك أن نفترق! أصدقك القول إنني لم أفهم هذا التصوف الذي تلبسين اليوم لباسه، وكنت أحسب أن سلطان الحب الذي حدثتني عنه سيدفعك إلى مصاحبتي، والعود معي إلى دفء عشنا الجميل بالقاهرة.»
قلت وفي صوتي نبرة التوسل والاستجداء: «أنت تعلم أنك إن أمرتني أن أعود معك فلن أعصي لك أمرا، وأني لن أقيم هنا إلا بإذن منك تبذله عن رضا وطيب نفس، وإنما أضرع إليك أن تدعني هنا في جوار الرسول إلى رجب المقبل حتى يطهر قلبي، ويتقبل مني ربي، وتصدق عنده توبتي، فلا تشوب نفسي بعد ذلك شائبة من وزر أو هوى، ولك علي عهد الله وميثاقه إن أنت رغبت إلي خلال هذه الأشهر الستة أن أعود إلى القاهرة، ولو بعد أيام من وصولك إليها، فستجدني حاضرة عندك؛ إيمانا مني بأن قلبك هو الذي دعاني.»
وبعد هنيهة أضفت: «والآن أطلب إلى هذا القلب الكبير أن يأذن ببقائي، ذلك رجاء أتوسل إليك في ضراعة أن تقبله، والأمر بعد الله لك جزاء حبك وإحسانك وبرك.»
كان زوجي مطرقا وأنا أتكلم، فلما فرغت من حديثي رفع إلي رأسه، وقد ارتسمت معاني الطيبة والحب على محياه، وقال: «ما كنت لأحول بينك وبين ما تطمعين فيه من مغفرة بارئك وعفوه، فأنت وما تريدين، أقيمي إلى جوار الرسول الكريم ما طاب لك المقام، ولا تنسي الدعاء لي أن يغفر الله ذنوبي! أقيمي راضية عني مرضية مني، وأرجو الله أن يجمعنا هنا في زيارة رجب، وأن تطيب نفسك يومئذ بالعود إلى أرض الوطن طاهرة مطهرة.»
عقدت غبطتي بكرم عواطفه لساني، فلم أجد الألفاظ التي تكفي للثناء عليه، فقمت إليه فقبلته قبلة شكر ومحبة، ثم قلت له: «فليتول الله جزاء إكرامك إياي وإحسانك لي!»
وانتقلنا بالحديث إلى مألوف القول، ثم إنني بعثت بالخادم، فدعت ابنتي فتناولت فطورها معنا، فلما فرغت منه سألت: أوتعودين معنا يا أماه؟ وأجبتها: قد أذن لي عمك يا ابنتي في المقام هنا إلى زيارة رجب على أن أخف بالعودة إلى القاهرة ساعة يدعوني إليها، وإن لساني ليعجز عن شكره على جميل صنيعه. أما وقد علمت منه أنكما تعودان إلى مصر على الباخرة التي تبحر من ينبع بعد غد فإني أرجو لكما السلامة، وأحملك إلى أخيك قبلات شوقي ومحبتي، وكم أتمنى لو أتيح له أن يحضر إلى هنا لأراه كما رأيتك، وأروي برؤيته شوقي الظامئ لضمه إلى صدري، وهو لا ريب أحكم من أن يحتاج الأمر بيني وبينه إلى حوار كالذي دار بيني وبينك.
وابتسمت الشابة وقالت: «إن طيبة قلبه، وكرم خلقه، وشدة حبه لزوجه يغنيه عن مثل هذا الحوار.
ولقد فكرت هذه الليلة طويلا فيما أسديت لي يا أماه من نصائح فرأيتك على حق، أهو عقلي الذي هداني إلى تبين هذا الحق، أم هو وحي هذه المدينة المنورة، أم أنهما تآزرا على هدايتي؟! أيا كان الأمر فإني شاكرة لك من أعماق قلبي، مستغفرة عما لعله فرط مني في أثناء حديثي.»
وقبلتها وقلت: «إن الهدى يا ابنتي هدى الله، أمتعك الله بالسعادة والهناء.»
وفي الغد تأهب زوجي وابنتي للسفر إلى ينبع فصحبتهما إليها، وودعتهما حين أبحرت الباخرة، وعدت في رفقة إلى المدينة، واتخذت مكاني من الروضة، وحمدت الله أن هدى ابنتي إلى الحق، وهدى زوجي ليدعني في جوار الرسول الكريم.
الفصل الحادي عشر
عدت إلى المدينة وإلى مكاني من الروضة في المسجد النبوي، وقلبي مفعم غبطة أن أتاح الله لي فرصة كاملة لتطهير روحي من كل شائبة، ورآني خادم المسجد أعود وحدي إلى مكاني بعد أن كان زوجي وابنتي يصحباني إليه، فتلطف في السؤال عنهما، فلما علم أنهما عادا إلى مصر، وأنهما سيحضران إلى المدينة في زيارة رجب دعا لهما بالخير، وأثنى عليهما أجمل الثناء، وتمنى لهما زيارة رجب موفقة، وكذلك عدت إلى مألوف سيرتي قبل مجيئهما من مصر، ولا أشك في أن الله قد رضي عني، وأن بقائي بالمدينة بإذن بذله زوجي طيب النفس ببذله خير مظهر لهذا الرضا.
وأقمت الأيام والأسابيع والشهور من يومئذ أمعن في تطهير نفسي وقلبي، وأطمئن إلى من بمصر من رسالاتهم إلي، وأدعو لهم وللناس جميعا بالخير. وإن شهر رجب ليقترب، وإن نفسي لتهفو لرؤية الأعزة ولصحبتهم في زيارة مدينة الرسول ومسجده وآثاره، إذ تناولت من ولدي برقية نصها: «صحة عمي توجب حضورك فورا.» ولشد ما أزعجتني هذه البرقية، وجعلتني أضرب أخماسا لأسداس أحاول أن أحدس ما أصاب زوجي! لقد كان في كمال صحته يوم كان هنا، ويوم ودعته بينبع، ترى أصابته نوبة من تلك النوبات التي تخشى مغبتها، فدفعت ولدي ليبعث إلي يدعوني إلى القاهرة؟ فأنا أعرف ولدي، وأعلم أنه لا يزعجني هذا الإزعاج لطارئ لا تخشى عواقبه، لا بد إذن من السفر على أول باخرة تبحر من ينبع.
وتجهزت للسفر، واتخذت له كل عدته، وذهبت إلى ينبع وأبحرت منها إلى مصر، وكان زوج ابنتي في انتظاري بالسويس، فلما رأيته سألته في لهفة عن أنباء عمه، وحاول الشاب أن يطمئنني لكن محاولته لم تزل مخاوفي؛ لأن سؤالي جعله في حيرة اضطرب لها هنيهة قبل أن يتكلم، ثم لم تكن عبارته حين تكلم عبارة الواثق بنفسه، وقلت له: «لا تخف عني شيئا يا بني، إنني سأرى الرجل بعد ساعات إن كان لا يزال على قيد الحياة، فاصدقني ولا تزد بمحاولتك اضطراب نفسي.» وكان جوابه: «لقد أصابته يا أماه نوبة قلبية شديدة هي التي دفعتنا لاستدعائك على عجل، وكانت صحته قد بدأت تتحسن حتى لقد عاتبنا أمس على إزعاجك، لكنه استيقظ فجر اليوم متعبا فدعونا له الطبيب قبل أن تطلع الشمس، ولم أستطع البقاء لأعرف رأي الطبيب مخافة ألا أدرك الباخرة أول وصولها، وكلنا ندعو الله من أعماق قلوبنا أن يمن عليه بالشفاء، وأن يرد إليه العافية.»
وأطرقت لما سمعت، ورفعت رأسي أدعو الله من أعماق قلبي ألا يسيئني في هذا الرجل الطيب الذي أحسن إلي وأنقذني، ثم أحسن إلي سنوات طوالا بعد زواجنا، ثم أحسن إلي مرة ثالثة، فأذن لي في مجاورة الرسول الكريم.
وأقلتنا السيارة تنهب طريق الصحراء إلى القاهرة، فلما دخلت غرفة المريض العزيز وأنا في ثوب الإحرام الناصع البياض، نظر إلي بعينين ملأهما الدمع نظرة شوق ويأس، وأقبلت عليه فقبلت جبينه ويده وأنا أرتجف لشدة ما أصاب قلبي من الخفقان، فلما هدأ روعي بعض الشيء أمسكت بيده وقلت: «شفاك الله يا حبيبي وعافاك، إنها دعوة يهتف بها قلبي منذ عرفت وأنا بالمدينة بعض ما أصابك، وظل يهتف بها في كل صلواتي وخلواتي، وساعات قنوتي وتهجدي، وأرجو أن يسمع الله لي، إنه سميع الدعاء.» فنظر إلي بعينين ملئتا يأسا، وقال في همس: «شكرا يا حبيبتي، لكني أحس دنو الأجل! نعم، إنها النهاية؛ فاستغفري لي ربك هنا، واستغفريه حين تعودين إلى المدينة تجاورين رسول الله الأكرم»، وسكت بعد ذلك برهة ، ثم قال في صوت خافت لا يكاد يبين: «وداعا وحمدا لله أن رأيتك قبل أن ألقاه لتستغفريه لي؛ فأنت ولية الله الصالحة!»
قلت: «بل أنا يا حبيبي المذنبة التائبة، فليغفر الله لك ولي، وليرحمك ويرحمني، إنه رب التقوى ورب المغفرة!»
وأسبل الرجل عينيه؛ أتراه ودع الدنيا؟ أتراني حضرت من المدينة إلى القاهرة لأراه هذه اللحظة القصيرة؟ أتراه ودعني حقا وداع الأبد؟!
عاد إلى قلبي خفقانه، وعادت إلى جسمي رجفته، ولم أشعر ويده لا تزال في يدي أأثلجها الموت أم أنها لا يزال فيها دفء الحياة! وإنني لفي هذه الحال من الحيرة والاضطراب إذ دخل الطبيب الذي عاده وأنا لا أزال بالسويس، فلما رآني استأذنني وأخذ يد زوجي من يدي، ثم وضع أذنه على قلب الرجل، ثم قال: البقية في حياتك يا سيدتي. وانصرف.
رباه ماذا أصنع؟! هذا قضاؤك لا مرد له، أأصيح كما تصيح النساء؟ أأخلع ثياب إحرامي لألبس السواد؟ خنقتني العبرة وهوى قلبي إلى قرار سحيق، وحبس صوتي فلم أجد إلى الصياح سبيلا، ولقي الطبيب ابنتي صاعدة إلى الغرفة التي أنا بها فأسر إليها النبأ الفاجع فدخلت علي والدمع يملأ عينيها، وقبلتني وفي نبرات صوتها حزن لم تعرفه يوم مات أبوها، وأقبل ولدي ومعه زوجه وزوج ابنتي، واجتمعنا كلنا حول هذا الميت المسجى في فراشه، وأنا لا تنفرج شفتاي عن كلمة، وانهملت عيناي بالدمع الهتون، وجاء جيراننا يشاركوننا مصابنا فتلقيناهم في حجرة أخرى.
وخرج ولدي وزوج ابنتي يعدان لدفن الميت، وذهبت ابنتي وزوج ولدي فلبستا السواد وعادتا، أما أنا فبقيت في لباس إحرامي؛ لأن وجيعة قلبي لم تكن بحاجة إلى لباس يعبر عنها، بل كانت تعبر عن نفسها بأبلغ مما يعبر عنها أي مظهر.
وأي وجيعة لقلب امرأة في كهولتها أقسى من أن ترى حبها الذي اكتمل وملأ دمها وأعصابها كما ملأ قلبها يتحطم على صخرة الموت، فلا يبقى له في متاع الحياة أمل أو رجاء.
ودفن زوجي - عليه رحمة الله - قبيل المغيب من يوم وفاته ، فلما ذهبت إلى مرقدي بعد أن صليت العشاء الآخرة ذكرت، ويا لهول ما ذكرت! ذكرت يوم رجاني رسول زوجي الأول أن أذهب إليه وهو في ساعات احتضاره ليسمع مني بأذنه أنني سامحته فأبيت! ألا كم كنت قاسية يومئذ! أويغفر لي ربي هذه القسوة؟ وغفوت فإذا الطيف الملتف في أكفانه؛ طيف زوجي الأول، يتبدى لي قائلا: لا عليك مما صنعت يومئذ، لقد سامحتك كما سامحتني، فليغفر الله لك ولي، فنامي هادئة مطمئنة.
واستيقظت الصباح بعد غفوة غفوتها بعد صلاة الفجر، فلما تقدم النهار انتقلت إلى بهو الاستقبال أتلقى العزاء ممن جئن مواسيات، فإذا بينهن صديقتي، فلما مال ميزان النهار وانصرف الناس بقيت هي حتى خلت إلي، عند ذلك قالت: «جئتك يا صديقتي معزية في زوجك الذي اختاره الله إليه أمس، وفي زوجك الأول، ولأقسم لك أنني ما كان بيني وبين أيهما إلا المودة البريئة الطاهرة أملاها علي اعترافي بجميلهما في استخلاص ميراثي وميراث أبنائي، وأملاها عليهما شهامتهما ومروءتهما، أما وأنت اليوم ولية الله الصالحة التي جاورت رسوله الكريم فقد جئت إليك مستغفرة عما فرط مني في حقك، راجية أن تسامحيني ليغفر الله لي.»
وذكرت لحديثها ما رأيت في نومي وأنا بمكة حين سعينا معا، وطفنا معا، وأقسمنا أن نعود صديقتين كما كنا، فقصصت عليها رؤياي تلك، وتفسير الأستاذ الذي يحاضر الناس في الحج مغزاها، وكيف أني طهرت نفسي من كل موجدة عليها، فعدنا صديقتين كما كنا، ثم قلت لها: «وأنا يا صديقتي لست ولية الله الصالحة كما تذكرين، وكما ذكر زوجي أمس وهو في احتضاره، إنما أنا المذنبة التائبة التي ترجو عفو ربها ومغفرته ذنوبها.»
وقامت صديقتي فقبلتني قبلة شعرت بها صاعدة من أعماق قلبها، وقالت: «شكرا لك، والحمد لله أن عدنا صديقتين كما كنا، وإني لشاكرة من كل قلبي أن أكون من جديد صديقة لولية الله الصالحة»، وقلت من جديد: «بل للمذنبة التائبة، ولعلنا نلتقي يا صديقتي عما قريب في بيت الله فنطوف معا ونسعى معا لتصبح رؤياي حقا، ولتزوري معي مدينة الرسول الكريم، وتتبركي بمسجده والصلاة في روضته.»
وقبلتني صديقتي من أعماق قلبها قبلة أخرى، وقالت: «فليسمع الله منك، وليهيئ لي بفضله حج بيته وزيارة نبيه ورسوله»، وودعتني وودعتها وقد امتلأ قلبي حبا لها، وعطفا عليها، وبرا بها، فلما عدت إلى مجلسي بعد انصرافها رفعت كفي أشكر الله على تطهير قلبي وروحي ووجداني.
وانقضت أيام العزاء، فلما كنا عشية الجمعة الذي تلا الوفاة أوصيت بشراء قدر كبير من الورود وأغصان الشجر ومما يوزع على الفقراء في المقابر من الطعام. وفي صباح الجمعة صحبني ولدي وابنتي وزوجاهما إلى قبر المتوفى، وهناك قمنا بمراسم تحيته، والدعاء أن يرحمه الله ويغفر له، ووضعت نصف ما معنا من الورود وأغصان الشجر على قبره، ووزعت على الفقراء الذين أحاطوا بنا ساعة خرجنا من عنده نصف ما معنا من طعام، ثم قلت لولدي: هيا بنا إلى قبر أبيكما، فأقبل ابني وابنتي يقبلانني في لهفة وقد ملأ الدمع أعينهما، وبلغنا مقام القبر ودخلناه وحيينا صاحبه، ودعونا الله أن يغفر له ويرحمه، ووضعت الورود وأغصان الشجر على قبره، ووزعت ما بقي معي من طعام على الفقراء. وقبيل خروجنا لم أملك عبرتي، فقد ذكرت الطيف الملتف في أكفانه يوم هتف بي أن الله غفر له ولي، وقلت مناجية ربي: «رب ما أعدلك، وما أرحمك، وما أعظم فضلك! رب لقد بلوتني حتى طهر قلبي، رب فاعف عني، وسعت رحمتك كل شيء.»
ومن المقابر عدنا إلى بيت ولدي، فلما دخلنا بهو الاستقبال وواجهتني في صدره صورة زوجي الأول، شعرت لمرآها بصدمة لم أكن قط أتوقعها بعد أن كنت منذ قليل على قبره وأديت له واجبه، فقد أثارت هذه الصورة أمام بصري منظره الكامل في حياته، كما رأيت عينيه تنظران إلي وكأنما تريدان أن تخترقا شغاف قلبي إلى دخيلة ضميري لتريا فيه الدافع الصحيح لذهابي إلى قبره، وقيامي بما قمت به عنده، إذ ذاك رأيتني أضطرب في موقفي، وشعرت بالرعشة تسري في جسمي، وخيل إلي أن ماضي حياتنا يرتسم كاملا أمام بصيرتي، ولم يغنني ما ذكرت من صفح هذا الرجل الكريم عني، بل تضاءلت نفسي أمام هذه الذكرى، وبدا لي أن أوهامي تخدعني، وأنني لم أبلغ بعد من طهر قلبي والضمير ما حسبت أن الله أكرمني به، وأفاء علي من أجله حال الرضا.
وعدت في المساء إلى بيت الزوج الذي أصفيته حبي إلى آخر نسمة من حياته، واتخذت من أصغر حجرة فيه مصلى أخلو بها إلى نفسي ساعات وحدتي، وأحاسب فيها نفسي بعد صلواتي، وكانت كثيرات من صديقاتي يزرنني يسرين عني بعض ما أمضني من عميق شجني، وكن جميعا يجئن لابسات السواد المألوف في مصر، فرأيت ناصع البياض الذي ألبسه غير متفق مع مظهرهن، فلبست السواد مثلهن، وإن استبقيت طرحتي البيضاء لصلواتي، ولأذكر بها أيام سكينة النفس وطمأنينة الضمير، وكان ولدي وابنتي يقضيان معي أوقات فراغهما حتى لا تثقلني الوحدة بهمومها فتزيد اضطراب نفسي ووجيعة قلبي.
وبدا لي بعد زمن أن أعود إلى المدينة المنورة؛ لعل في حياتها ما يخفف عني، ويهون علي مصابي، لكني خشيت أن يبلغ ما كان يعاودني من تخاذل النفس واضطراب الأعصاب مبلغ الخطر على حياتي وأنا في وحدتي وغربتي، وقد استشرت الطبيب فأقر مخاوفي، وأشار بضرورة تريثي، فآثرت أن أبقى حتى تهدأ ثائرتي وتثوب إلي سكينتي، فإذا ذهبت بعد ذلك إلى المدينة استطعت أن أؤدي لله حقه، وأن أرجو عفوه ومغفرته.
وأقمت في بيت زوجي أستقبل زائراتي، وأستريح إلى صحبة ابني وابنتي، فإذا لم يبق بالمنزل جليس ذهبت إلى حجرة خلوتي أؤدي فرائضي، وألتمس عون الله في محنتي، وكنت أحسب أن مضي الزمن كفيل بشفاء نفسي من الاضطراب الذي كان يعتادني، لكني شعرت بعد لأي بأن نفسي تزداد اضطرابا، وبأن الأرق يتولاني، وبأن الهواجس تعصف بفؤادي، ثم إنني ما لبثت أن استبد بي الفزع حين شعرت بأن صلاتي وخشوعي وتهجدي وقنوتي لم تبق خالصة من الشوائب، فقد جعل زوجي الذي أصفيته كل حبي تتبدى لي ذكراه؛ فتنهمل من مآقي عبرات سخينة، وأذكر ما قلت له حين زارني بالمدينة من أنني أصبحت أحبه حب امرأة لرجل، وأحبه بحواسي وبدمي وبأعصابي، فيزداد دمعي هملانا على حب ملك علي كل وجودي، ثم أتى عليه الموت حين بلغ عنفوانه، وقبل أن أستمتع بثمراته.
ولم تكن هذه الذكرى المريرة بعض أحلامي وكفى، بل كانت غصة يقظتي، وكانت تساورني وأنا في صلاتي، وقد حاولت مغالبتها بالفزع إلى ربي كي ينقذني منها، فإذا هي تزداد تمكنا من نفسي، وورودا إلى خاطري، وتبلغ من ذلك أن تخرجني من صلاتي فأستغفر ربي، ثم أعود إلى الصلاة، فلا يلبث شيطان الذكرى أن يثير أشجاني، ويفسد من جديد صلاتي.
ذكرت وأنا في هذا المضطرب النفسي ما كنت قطعته لزوجي من عهد أن أعود معه إلى مصر بعد زيارة رجب لنستمتع بهذا الحب الذي استوفى كماله، وكيف اضطررت إلى العودة قبل هذا الموعد بأيام لأشهد احتضاره، ولأودعه الوداع الأخير، ترى لو أن الله قد غفر لي حقا، وكانت الرؤى التي رأيتها شاهدة بهذه المغفرة صادقة، أفكان الله يمتحنني هذا الامتحان القاسي الذي لا يصبر عليه قلب إنسان؟ أم أن تلك الرؤى كانت من أفانين الخيال، وأن هذا المصاب الذي حل بي كان بعض الجزاء الذي ادخره القدر لي عن ماضي حياتي؟
وكنت أزداد كل يوم شعورا بالوحدة والعزلة، وبأنني لم يبق لي في هذا العالم صديق أو أنيس بعد أن فقدت هذا الصديق الأنيس والزوج الحبيب. ولم يدر بخلدي في هذه الساعات التي كوت لواعج الحزن فيها شغاف قلبي أن الله وهبني ابنا وابنة يؤنسان وحدتي، ويضمدان جراح قلبي، بل كدت أنسى هذين الولدين اللذين أراهما كل يوم، وأنسى أنهما بضعة مني، وأنهما امتداد حياتي.
وكذلك كان شعوري بالفاجعة يزداد عنفا على الأيام، حتى لقد كنت في كثير من الأحيان أقضي الليل مسهدة محزونة، فإذا أوشك الليل أن يولي غفوت وطالت غفوتي فلم أستيقظ لصلاة الفجر، ثم لم يسعفني أن أستغفر عما فرط مني؛ لأنني كنت لا أكاد أتم استغفاري حتى أعود إلى بثي وحزني، وأندب ما قضى عليه الموت من حبي، وأعود على نفسي باللائمة أن لم أعد مع زوجي من المدينة المنورة إلى مصر يوم دعاني للعودة معه؛ لأمتع هذا الحب بما يشفي غلته خلال الأشهر الخمسة التي عشتها بعيدة عن هذا الحبيب، ومن يدري؟ فلعلي لو صحبته يومئذ وعدت معه لما دهمه الموت مستعجلا، ولكنت قد بعثت إليه من حيويتي وحياتي ما أطال في حياتي وحفظه لي!
وكانت تقواي تعاودني فأحاول التغلب على هذه الحال، فكنت أمرغ وجهي في التراب لعل روحي تطهر بتعذيب جسمي، وكنت أصوم الأيام المتعاقبة راجية أن يعيد إلي الصوم طمأنينة النفس، وكنت أهرع إلى البؤساء والمساكين الذين يقفون على أبواب المساجد أستجديهم كلمة عطف لعل الله أن يغفر لي، ثم كنت بعد كل ما أصنع من ذلك أشعر بنزغ الشيطان، وكأنما يقول: «وماذا أفدت من تقواك وصلواتك، وقنوتك وعبادتك، إلا أن قضيت على الرجل الذي كان يحبك حب العبادة؟! عودي إلى صوابك، وفكري لغدك أكثر مما تفكرين في أمسك، ولعل الحظ الذي أتاح لك من أنقذك من وحدتك يوم طلقك زوجك الأول يمد إليك يده مرة آخرة، ويهيئ لك من ينقذك من شجنك ومن هموم كهولتك!»
ولقد سخرت من نفسي حين نزغ الشيطان لي، ونظرت مع ذلك إلى وجهي في المرآة، فرأيتني ولا تزال في عيني جاذبية شبابي، وإن خطت الكهولة على جبيني بعض سطورها، وسرعان ما استعذت بالله من الشيطان ونزغه، وهتفت به - جل شأنه - ضارعة إليه أن ينقذني من شر نفسي، وأن يهديني إلى سواء السبيل.
وإنني لتساورني هذه الهواجس، وتعبث بي هذه الهموم إذ جاء إلي ولدي ذات صباح مقطب الجبين، يذكر لي أن أخته تركت بيت زوجها، وجاءت إلى بيته تقيم به، وأنه حاول أن يعيد الصفاء بين الزوجين فلم تفلح محاولته، وأن هذه لم تكن أول مرة اشتد الخلاف فيها بينهما، وأنه يلجأ إلي لأتدبر الأمر بحكمتي بعد أن تولاه اليأس منه، وبعد أن خشي أن يؤدي إلى نتائج لا تحمد عاقبتها.
وتولتني الدهشة لما سمعت، فقد كنت مقتنعة إلى يومئذ بأن ما دار من حديث بيني وبين ابنتي حين زارتني مع عمها بالمدينة قد ردها إلى صوابها، وأن ما قلته لها عن ذكاء الأنوثة وسلطانه القاهر قد مكنها من التغلب على نزواتها ونزوات زوجها، وكان مصدر اقتناعي هذا أن ما كان يرد لي من خطابات، خلال الأشهر الخمسة التي كنت فيها بعيدة عنهم، لم يرد فيه شيء يزعزع هذا الاقتناع، بل كانت كلها تتحدث عن هناءتهم وسعادتهم في انتظار عودتي إليهم، أفجد بعد عودتي إلى مصر جديد أثار منازعات الزوجين؟ وهل يحدث مثل ذلك ونحن نعالج همنا، ونحاول أن نداوي مصابنا؟
وأطرقت برهة أفكر في الأمر وكيف أتدبره، وفجأة انحدرت من عيني دمعة لخاطر مر بخيالي؛ أولم تكفني وفاة زوجي عقابا لي على ما سلف من أوزاري؟ أم يريد القدر أن يضاعف عقوبتي في شخص ابنتي؟ أين إذن ما كان من توبتي واستغفاري؟ لست أنا إذن ولية الله الصالحة، بل لست إذن المذنبة التائبة، فها هي ذي توبتي لم تقبل، وهأنذي أواجه من قسوة القدر ما لا قبل لي به، ولا طاقة لي باحتماله.
وبصر بي ولدي والدمعة تنحدر من عيني، فزايل جبينه قطوبه وأقبل علي يواسيني ويخفف الهم عني، ورفعت عيني ونظرت إلى وجهه، فإذا الطيبة بكامل معناها مرتسمة على أساريره، طيبة أبيه زوجي الأول، وإذا هو يقول لي: «لا تجزعي يا أماه، سأبذل لراحة أختي كل ما أستطيع بذله، وإذا لم يكن إلى مصالحتها مع زوجها من سبيل، فسأحمل عبء حياتها، لتعيش كريمة ما حييت وما استطعت إلى ذلك سبيلا.»
وقبلته وقد ازداد تأثري لمشابهته أباه في طيبته، كمشابهته إياه في ملامحه، ألا كم جنيت عليه وعلى أخته بانفصالي عن أبيهما بعد أن بذل في سبيل رضاي كل ما يستطيع إنسان بذله! وبعد هنيهة قلت له: «عد إلى منزلك، وسألحق بك فيه عما قريب.»
وانصرف الشاب وذهبت أنا إلى خلوتي أصلي بها ركعتين لعل الله يهديني الرشاد في أمر ابنتي، وما كدت أتم صلاتي حتى امتلأت عيناي بالدمع مرة أخرى؛ إذ خيل إلي أن شواظا من جهنم قد سلط على ضميري يعذبه، وأن هذا الشواظ قد صور في شخص ابنتي، وأنني لن يهدأ لي بعد اليوم بال، ولن تطمئن لي نفس؛ لأنني عذبت أباها، فحق علي أن أوفى جزاء ما قدمت يداي فأتعذب لعذابها، وأتألم لألمها. وعبثا حاولت أن أطرد هذا الهاجس الذي استبد بي زمنا لم أدر أطال أم قصر، ولولا أنني خشيت أن يطول على ولدي غيابي لأمسكني هذا الهاجس، فلم أستطع من خلوتي حراكا، لهذا قمت وارتديت ملابس خروجي، وذهبت إلى منزل ولدي.
ودخلت على أهله فألفيت زوج ولدي تحدث ابنتي في رفق تحاول إقناعها بالعود إلى زوجها، وجلست إليهم وسألت ابنتي: ما أغضبها؟ قالت وفي نبرة صوتها حدة لم آلفها يوم تحدثت إليها وأنا بالمدينة المنورة لأعيد الصفاء بينها وبين زوجها: «لم يبق يا أماه في قوس صبري منزع، ولم يبق من انفصالي عن زوجي مفر، لقد كنت أشكو من قبل تدخله في أخص شئوني، وقد استطعت بفضل نصائحك أن أتغلب على ذلك بتمليق غروره تارة، وبالتظاهر بموافقته أخرى، أما اليوم فالأمر مختلف، لقد تمكنت الغيرة من نفسه على نحو يشبه الجنون، وهو لا يغار من رجل بذاته، بل يغار من كل رجل يتجه إلي نظره، وإن له لصديقا يزورنا بين الحين والحين ويجاملني بالثناء على ثوبي، أو يبدى إعجابه بحسن حديثي، فإذا انصرف رأيت زوجي انقلب شيطانا يحاسبني على كل كلمة قالها صديقه، وقلت له حين تكرر ذلك منه: «إذا جاء صاحبك هذا إلى هنا فلا تدعني لألقاه حتى لا تثور غيرتك»، وكان جوابه: «وما تريدينه أن يقول عني؟ أتريدين أن يتهمني بالتأخر؟ لكن واجبك ألا تتزيني زينة تثير إعجابه، ولا تتحدثي حديثا يستدعي طول إنصاته.» وأجبته إلى ما أراد، فلما جاء صديقه يوما ودعاني هو إلى مجلسهما ذهبت إليه في ثياب أشبه ما تكون بثياب المنزل، ولم أزد في الحديث على أن أجيب بإيجاز عما أسأل عنه، ولم يزد صديقه في أثناء ذلك على أن جاملني بكلمات من مألوف القول، ومع ذلك اشتد زوجي في تأنيبي على إهمال ثوبي، ثم اتهمني بأني أردت بثوبي وبحديثي أن أثير عجب صديقه بدل أن أثير إعجابه، وليس هذا يا أماه إلا مثلا مما يدور بيننا كل يوم، أترين حياة كهذه يمكن أن تطاق؟ أوليس انفصالنا خيرا من الصبر عليها أو انتظار ما هو شر منها؟!»
دار بخاطري وأنا أسمع حديث ابنتي أن القدر ينتقم في شخصها من مثل غيرتي، حين كنت ألوم أباها على العناية بصديقتي، أفقدر لهذه المسكينة أن ترث كل حظي، وأن تعاني في حياتها ما عانيت في حياتي؟ أفحق أن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون؟ وهل تجمع هذه العبارة القديمة في ألفاظها القليلة قوانين الوراثة التي تحدثنا الكتب الحديثة عنها؟ مهما يكن من أمر فمن واجبي اليوم أن أعالج ما حدث بين ابنتي وزوجها، فإن نجحت فذلك ما أرجو، وإن لم أنجح فمن حسن حظ ابنتي أنها لم تنجب بعد، فهي لذلك غير معرضة في مستقبل حياتها لما تعرضت وأتعرض له من تبعات تثقل الضمير وتبعث إلى النفس الأسى والشجن.
أتمت ابنتي كلامها فقلت: «أريد قبل أن أحكم لك أو عليك أن أسمع كلام زوجك لأكون أدنى إلى العدل بينكما، فدعينا أنت الآن، واذهب يا بني فادع زوج أختك إلى هنا، وقل له إنني أريد أن أتحدث إليه.» ولم يبطئ ولدي في العود مع زوج أخته، فهما يسكنان عمارة واحدة، وحياني الشاب تحية حسنة، وإن بدا الجد على وجهه، فلما اطمأن به المجلس قلت له: «أنت يا بني شاب حصيف عاقل، وابنتي في عصمتك، فأنت الذي تعصمها من خطئها إذا أخطأت، وأنت الذي تعصمها من الغير إذا حاول الغير أن يسيء إليها، وأنت كذلك الذي تعصمها من غضبك إذ بلغ هذا الغضب أن يعرضكما لسوء، فكيف - وذلك مكانك منها - يبلغ النفور بينكما مبلغا لم يستطع زوجي - عليه رحمة الله - في وقت من الأوقات أن يتغلب عليه ، ولم يستطع ولدي أخيرا أن يصلح منه؟ إني ألجأ يا بني إلى حكمتك وحسن رأيك، فإن تكن زوجك مخطئة عاونتك عليها ورددتها إلى صوابها.»
أمسك الشاب برهة عن الكلام وكأنه يريد أن يبحث في ذاكرته عن تهمة يلصقها بزوجه، وأحسبه لم يجد شيئا معينا يذكره، فاندفع يقول: اسمعي يا أماه، يجب أن تعلمي أنني رجل شديد الغيرة، وفي ابنتك جاذبية شديدة أحببتها من أجلها لأول ما رأيتها، ولا أزال أحبها أشد الحب وأعنفه، لكن هذه الجاذبية تجعل غيري من الرجال يحاولون التقرب منها، بل التمسح بها، أنا أعلم أنها لا ذنب لها في ذلك، فجاذبيتها بعض خلقها، لكن هذا التقرب يثير غيرتي إلى أبعد حد، ويدعو إلى ما يقع بيني وبينها من خلاف، وقد خيل إليها أن انفصالنا بالطلاق هو الدواء لما أشكو منه، وأنت تقدرين أن ذلك أسخف الرأي، وأنه وهم باطل، فحبي إياها سبب غيرتي عليها، ولولا هذا الحب العنيف لهان علي أن أنفصل عنها، فهل لديك لهذا الموقف الشاذ دواء؟»
وسارعت إلى إجابته بقولي: «نعم يا بني، الدواء الناجع أن تنجبا أطفالا تشغل أنت وتشغل أمهم بهم، فيقسم حبك بينها وبينهم، وتخف بذلك غيرتك عليها، وتتجه جاذبيتها إليهم، فتقل عناية الرجال بالتقرب إليها.»
ونظر إلي الشاب في دهشة، وكأنما خيل إليه أني أمزح معه أو أسخر منه، وقال: «هذا اقتراح مفيد لعلاج طويل الأجل، وهو كذلك إذا افترضنا أن إنجاب الأطفال رهن مشيئتنا، إنما أريد دواء سريع المفعول للتغلب على الموقف الذي نقفه اليوم، ومحال أن يكون الانفصال بالطلاق هو هذا الدواء، فأنا أحب زوجتي، ولن أتيح لغيري فرصة الاستيلاء عليها برد حريتها إليها، وأنت يا أماه سيدة مجربة تعرفين ما لا نعرف، وتستطيعين أن تصفي الدواء السريع المفعول، فنحن في أشد الحاجة اليوم إليه.»
قلت: «هذا الدواء في يدك ولدي، وابنتي طوع بنانك إذا عالجتها وعالجت نفسك به؛ ذلك أن تجعل الحكم في غيرتك لعقلك لا لهواك، ولو أنك فعلت لأدركت أنك تبالغ في لوم زوجك على ذنب تعترف أنت بأنها لم تجنه، ثم لأدركت أن القدر وهبك سعادة تريد أن تدس إليها السم بدل أن تستمتع بها صافية سلسبيلا، أنت تلوم زوجك، بل تؤنبها، بل تعاقبها لأن الرجال يتملقونها أو ينظرون إليها مفتونين بجاذبية أسبغها عليها بارئها، وأنت مع ذلك تعلم أن هذه الجاذبية في ملكك أنت، أنت وحدك الذي تستمتع بها نهارك وليلك، في يقظتك وفي أحلام نومك، وأن نصيب غيرك منها لا يزيد على غبطتهم إياك أو حسدهم لك عليها.
أنت كمن يملك قصرا منيفا يقف عنده من يمرون به ويتمنون أن يكون لهم مثله، وهم لا يملكون إلى ذلك الوسيلة! أفتلوم أنت هذا القصر وتحاول هدمه؟ أم تزداد اعتزازا به وحمدا لله على أن جعله لك؟ هذا إلا أن تتهم زوجك في وفائها أو في عفافها، وذلك ما أعيذك وأعيذها بالله منه، فإن يكن ذلك ورددت الأمر إلى حكم عقلك ولم ترخ فيه العنان لهواك، استرحت وأرحت زوجك، وهيأت خير مكان للسعادة من بيتك. هذا دوائي الذي أقترحه أملته علي تجربة قاسية، أود ألا تعصف بحبكما تجربة مثلها.»
وأطرق زوج ابنتي هنيهة ثم قال: «إن منطقك دقيق يا أماه، وسأحاول جهدي أن أغالب غيرتي، لكني بحاجة إلى معاونة زوجي في هذه المحاولة.»
قلت: «فعد إلي يا بني ساعة الشاي، وإنني لعظيمة الرجاء أن تعود الحياة الزوجية بينكما مصدر هناء وسعادة.»
ودعوت ابنتي بعد انصرافه، وطالعتها بكل ما دار بيني وبين زوجها، وأعدت عليها ما ذكرته لها حين زارتني بالمدينة عن ذكاء الأنوثة وسلطانها، قالت: «أؤكد لك يا أماه أني أجهدت هذا الذكاء، وابتكرت لزوجي من حيله ما كدت أضيق ذرعا به، ألم أقل لك ونحن بالمدينة إن الرجل إذا بلغ حبه المرأة حد العبادة لم يكفه أن يملك منها قلبها وعقلها وذوقها وكل شيء في وجودها، وإن غيرته عليها تشوبها عند ذلك وحشية تخرج بالرجل عن منطق العقل وعن منطق القلب، إلى حال أقرب ما تكون إلى الجنون، فكيف ترينني قادرة على معاونة زوجي كي يتغلب على جنون حبه؟»
قلت: «هبي يا ابنتي هذه الحال مرضا، أوليس واجبا على الزوجة أن تسهر على زوجها إذا مرض حتى يشفى؟ وقد وصفت أنا الدواء واقتنع بفائدته إذا أنت عاونته بذكاء أنوثتك على الاستفادة منه، فحاولي مرة أخرى لعل هذه المحاولة تكون موفقة، فإذا جاء ساعة الشاي فعودي معه إلى بيتك كأن لم يكن بينكما شيء، وسأدعو لكما الله من كل قلبي أن يهديكما ويوفق بينكما.»
وكذلك كان، جاء زوجها ساعة الشاي، وتحادثنا كأن لم يكن شيء، ثم عادا بعد الشاي إلى مسكنهما، وعدت أنا إلى بيت زوجي فأويت فيه إلى خلوتي، ودعوت الله من كل قلبي أن يرزق ابنتي أطفالا تسعد ويسعد زوجها بهم، ويشغلونهما عن منازعاتهما بما يبعثون إلى حياتهما من روح الأبوة والأمومة، ومن عواطف الحنان والمحبة والرحمة. وتفتح قلبي إثر هذا الدعاء، ورجوت الله مخلصة أن يحققه، ففيه لي كذلك عزاء وسلوى إذ يعود الأطفال بنا معشر الجدات إلى أيام طفولتنا وشبابنا، ويبعثون إلى حياتنا من براءة طفولتهم ما ينبت على أغصان كهولتنا التي كادت تجف وتذوى أوراقا جديدة تبتعث حيويتنا إلى نشاط كادت تنساه، وكادت لذلك تنظر إلى المستقبل بعين زايلها كل أمل أو رجاء؛ لأن المستقبل يصبح في نظرها المنحدر الذي يهوي بنا إلى الفناء.
والحق أنني لم أكن أمزح مع زوج ابنتي ولا كنت أسخر منه حين قلت له إنه إن أنجب هو وزوجه أطفالا شغل هو بهم عن غيرته، وشغلت هي بهم عن تمليق الرجال جاذبيتها، وظل ذلك دأبهما سنوات عدة حتى يكبر الأطفال، وفي هذه السنوات يصبح هو أقل غيرة، وتشغل زوجه عن نفسها بأبنائها، وتتغير حياة الأسرة كلها تغيرا أرجو أن يفيء عليهما الرضا والطمأنينة!
وانتقلت من حجرة خلوتي إلى غرفة نومي، فلما دخلت سريري وأطفأت الأنوار ذكرتني غيرة زوج ابنتي بما كان من غيرتي أيام شبابي، وما كان لهذه الغيرة من أثر في حياتي، وما أدت إليه من انفصالي بالطلاق عن زوجي، وأن طفولة ولدينا لم تمنع يومئذ الانفصال، ولم تشغلني عن هذه الغيرة، على أنني دفعت ما أثارته هذه الذكرى من مخاوفي بأن غيرة المرأة ليست كغيرة الرجل؛ حسب الرجل من المرأة أن يؤمن بوفائها له، ومحافظتها على عهده؛ ليطمئن قلبه، وليستريح إلى أن مجاملة الرجال لامرأته بالثناء عليها، بل بتمليق مزاياها ومواهبها، لا أثر لهما في وفائها وإخلاصها له ولأسرتهما. أما غيرة المرأة فمرجعها إلى أن الرجال لا وفاء لهم إلا ما ندر؛ لأن تعدد النساء في طبعهم، ولأن عدم وفائهم لا يدخل على أسرتهم من ليس منها، فمن حق المرأة أن تكون دائمة اليقظة دفاعا عن نفسها، ولها عذرها إن دفعتها الغيرة إلى مثل ما دفعتني إليه، مع ما في ذلك من مضرة بها وبأبنائها، وأقنعتني هذه الحجة بأن ابنتي ليست معرضة لمثل مصيري ما وفت هي لزوجها، فاطمأننت لهذا المنطق، وذهبت بي الطمأنينة إلى عالم النوم.
تنصف شهر شعبان، فأديت لزوجي واجبه، فذهبت إلى قبره، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر، وتلا قارئ القرآن هناك ما تيسر منه، ووزعت الطعام على الفقراء، ثم عدت إلى بيتي، ولا يزال أثر البكاء في عيني، وفي الأيام الباقة من هذا الشهر أخذت أعد لسهرة رمضان، وأفكر في نظام حياتي بعد نهايته.
وكان هذا التفكير في سهرة رمضان جديدا علي، فلم يعتد زوجي - ولا اعتاد زوجي الأول قبله - إحياء هذه السهرة، ولا أخالني كنت أفكر في إحيائها لولا ما عاودني من تقوى صباي مما دفعني بعد ذلك للحج وللمقام بالمدينة، ولولا وفاة زوجي وفاة حزت في كبدي. فلما بدأ رمضان، وأخذت القارئة التي اخترتها ترتل القرآن بصوتها الرخيم، شعرت لسماعه بطمأنينة النفس إلى قضاء الله وقدره، وازددت يقينا بمغفرة الله للتائب الذي صدقت توبته وإنابته، وإن أيقنت كذلك بأن التوبة الصادقة تقتضي صاحبها التكفير عن خطاياه بصدق الندم عليها، والإيمان بأن ما أصابه وما يصيبه من جرائها ليس إلا الجزاء العدل عنها جزاء يجب أن نتقبله شاكرين.
وقضيت رمضان في العبادة والتهجد، أقوم الليل، فإذا تناولت طعام السحر وصليت الفجر، أويت إلى مضجعي لأستيقظ لصلاة الظهر، أو للجمع بين الظهر والعصر، وقبيل المغرب تجيء القارئة تتلو ما تيسر من القرآن، فإذا غابت الشمس صليت ثم أفطرت، ثم صليت العشاء وبدأت السهرة، فجاءني بعض صديقاتي وزارني أبنائي، وأقمنا نستمع للقرآن ونتداول الحديث، حتى إذا انصرفوا قبيل موعد السحر أقمت أتحدث مع القارئة حتى نتناول طعام السحر معا، ثم ذهبت إلى حجرة خلوتي، وأقمت بها حتى أصلي الفجر لأذهب بعد الصلاة إلى مضجعي.
وانقضى رمضان وأديت في فترة العيد واجباته لزوجي ولزوجي الأول، فذهبت إلى قبريهما ومعي أولادي، وهناك قمنا بالمراسم المألوفة في هذه المواسم.
وأخذت أفكر في المستقبل القريب وما أصنع فيه؛ ذلك أنني جال بخاطري غير مرة في أثناء رمضان أن أحج البيت وأهب حجي لزوجي لعل الله يغفر له، وأن أحج العام الذي يليه وأهب حجي لزوجي الأول عسى الله أن يرحمه. وإنني لكذلك إذ تناولت مع البريد رسالة فضضتها فتولتني الدهشة، وأخذ مني العجب، فهي مكتوبة بالألمانية، ونظرت في التوقيع فإذا هي من زوج السفير الألماني الذي عرفت منذ أكثر من عشرين سنة، والتي اعتزت يوما بمركزها وجنسيتها فنال ذلك من كبريائي ومن قوميتي، فأتقنت الألمانية وقرأت أمهات أدبها، حتى لا تزعم أنها خير مني في المجتمع مكانا، وابتسمت لهذه الذكرى، ذكرى الشباب وكبريائه وغروره، وتلوت الرسالة فإذا صاحبتها تذكر سابق معرفتنا، وأنها جاءت إلى القاهرة إثر وفاة زوجها تتسلى عن شجنها بذكريات سعيدة نعمت بها في عاصمة مصر مع ذلك الزوج الذي كان يحبها من كل قلبه، وتطلب إلي أن نلتقي في الموعد الذي أحدده لنجدد بالتقائنا عهدا تنافسنا فيه، ثم تصافينا ولم يطرأ بعد ذلك على صفائنا ما يشوبه.
وابتسمت بعد أن فرغت من تلاوة الرسالة، فقد أثارت أمام خاطري عهد الشباب ونضارته، ورسمت أمام كهولتي تلك المرأة الشابة الجذابة الساحرة الحديث التي كنتها، والتي أثارت إعجاب المعجبين، وتمليق المملقين، وذكرتني لغة الخطاب بذلك الألماني الذي عرفت في الأقصر، والذي زارني بعد ذلك في القاهرة، بعد أن بلغ إعجابه بي أن قال إنه يراني على الأرض كما يرى الله في السماء، ألا ما أجمل الشباب وبراءة غروره! ما أجمل تلك الأيام التي يشعر الإنسان فيها بأنه محور الوجود، وأن كل ما في الكون يتجه بنظره نحوه ويتحدث إليه! بل ما أجمل أخطاء الشباب وخطاياه وأوزاره! إنها مصدر سعادتنا في شبابنا، والتكفير عنها والتوبة منها مصدر نعيمنا في كهولتنا. ترى لو أن الشباب لم يندفع مع غروره إلى الخطأ وإلى الخطيئة، فهل تكون الكهولة وهل تكون الشيخوخة إلا فراغا ثقيلا لا معنى له، إلا أنه غرفة انتظار للأجل المحتوم؟!
ترى كيف حال هذه السيدة الألمانية زوج السفير الذي سبقها إلى العالم الآخر؟ ألا تزال فيها بقية من ذلك الجمال الذي كانت تتيه به، وتلك الكبرياء القومية التي كانت تدفعها إلى التعالي على الناس؟! وما لي أسأل نفسي عن ذلك وحسبي - لأراه رأي العين - أن أضرب لها موعدا كما طلبت في كتابها، وعندئذ يصبح الخبر خبرا، إذ أراها وأتحدث إليها، وأذكر معها عهدا سعدت به ثم شقيت، ونعمت به ثم استغفرت الله عنه.
وكتبت إليها أدعوها لتناول الشاي معي في يوم قريب عينته، وجاءت لموعدي فكدت أنكرها لأول ما رأيتها؛ لقد ابيض شعرها، وتجعد وجهها، وأطفأ منظارها الأزرق بريق عينيها، وأثقلت سمنتها جسمها، وبدت وكأنها تكبرني بأكثر من عشرين سنة، وحمدت الله حين رأيتها لما أنعم به علي، ثم أخذت أحدثها عن سالف أيامنا وفتوة شبابنا، فتنهدت ثم قالت: «وا رحمتاه لذلك العهد السعيد! لم أكن أصدق ما قيل من أن مصرية في عهد الفراعنة كتبت على قبر ولدها: «من انتهك حرمة هذا القبر فليكن آخر من يموت ممن يحبهم»، وكنت أحسب أن الحياة لذاتها أحب إلينا من كل من نحب، لكني رأيت أمي وأبي وإخوتي وأعز صديقاتي وأصدقائي يتهاوون إلى قبورهم كما تهوي ريح الخريف بورق الشجر إلى الأرض، فكنت أشعر لكل صدمة بجانب من نياط قلبي ينقطع، وبنفسي تساقط أنفسا، وبحيويتي يغيض معينها، وكأنما يذهب جزء منها مع كل واحد منهم إلى مثواه الأخير، فلما مات زوجي العام الماضي كانت الضربة القاضية، حتى لقد شعرت بأن حياتي كلها تذبل وتذوى، وأنني أصبحت كالشجرة التي سقط عنها كل ورقها، وانحدر منها ماء حياتها، فهي تجف وتجف لتسقط مع أول ريح تعصف بها، وقد جمعت كل قوتي لأقاوم أحزاني ومصائبي، وجئت إلى هنا ألتمس في الذكريات السعيدة الماضية ما يزيد في هذه القوة لأتمكن من مغالبة الحياة، والتغلب على همومها، أتراني أنجح فيما قصدت إليه؟ أم أن لعنة هذه المصرية القديمة ستحل بي بعد موت أحبتي، وسيكون ما بقي من حياتي بعدهم أنشودة بؤس وشجن؟!»
قلت: «لا تذهب نفسك حسرات على الماضين يا صديقتي، وليكن لك في إيمانك بالله وعفوه ومغفرته لك ولهم ما تتسلين به عن همك وشجنك.»
قالت: «ليتني عرفت الإيمان يا صديقتي في شبابي لألجأ إليه اليوم! أما ولم أعرفه إذ ذاك فإنني أخجل من نفسي أن أستعيره اليوم لأجعل منه وسيلة سلواي وعزائي، ولو فعلت فمن ذا أخدع؟ أأخدع رب السموات، والمؤمنون يذكرون أنه يعلم السر وأخفى؟ أم أخدع نفسي وأتخذ من هذه العارية علالة أعالج بها سقم حياتي كما يخدع الطفل باللعبة يقدمها إليه أهله ليتسلى بها عن مرضه أو عن ألمه؟»
لم أدر بم أجيبها فصمت برهة جالت بخاطري في أثنائها حكمة لقاسم أمين: «أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته، فيفسد عليه لذتها، وينغص عليه شهوتها.» ودعاني تذكر هذه الكلمة للعدول بالحديث إلى أمور لا تثير نفسها، فسألتها: كيف تريد أن تقضي إقامتها في مصر؟ وأجابتني أنها تريد أن تقضي ستة أسابيع بأسوان، وأنها كانت تود لو نصطحب في هذه الرحلة، واعتذرت بأن عاداتنا القومية لا تجيز لحزينة مثلي أن تغادر المدينة التي تقيم بها، إلا أن تذهب لأداء فريضة دينية، عند ذلك سألتني عن ولدي وما صارا إليه، فذكرت لها أنهما تزوجا. قالت: «أسعدك الله بهما، وكم أتمنى اليوم لو كانت لي ابنة تجعل المستقبل أملا أرجوه، وتكون لي في هذا الحاضر عزاء وأنسا. لقد كنت صدر شبابي أعجب لبنات وطنك كيف يحز في كبدهن ألا ينجبن، وكنت أسائل نفسي: ما لهن يردن أن يحملن في الحياة أعباء ما أغناهن عن حملها؟! وكان عجبي يزداد حين أسمع الآباء؛ إذ يكفل الواحد منهم عدة أبناء، وينفق على كل ابن وابنة أضعاف ما أنفق عليه أبوه ليكون خيرا منه في المجتمع مكانا.
أما اليوم فإني أشعر بالحزن أن لا ولد لي كشعوري بالحزن لفقد زوجي، لقد أظلم ماضي بموت زوجي والأحبة من أهلي وأصدقائي، وأظلم مستقبلي لأنني لا أرى فيه طفلا يمت إلى أحشائي، وتبعث براءة ابتسامته إلى نفسي أجمل الرجاء في أن أسعد بسعادته، لم يبق لي إذن ماض ولا حاضر، ولم يبق لي إلا أن أجاهد الحياة بعزيمتي المفردة ما بقيت، وسأجاهدها وسألتمس في ظلمائها قبسا من نور، لا أدرى كيف أجده ولكني موقنة بأن العزم القوي الصادق قدير على كل شيء، بل قدير على المستحيل!»
لا أريد أن أقص هنا ما دار بيني وبين صاحبتي من حديث عن ذكريات شبابنا، فالحديث في أيام الكهولة عن ذكريات الشباب يوجب الحسرة، وحسبي - وأنا موشكة أن أختم قصتي - ما سطرت فيها مما أثار ألمي وتندى له جبيني، ثم حسبي أن أذكر أني زرت صاحبتي هذه وزارتني من بعد غير مرة، وأني رأيتها - برغم صلابة عزمها في مجالدة الحياة - تضعف أحيانا حتى تنحدر الدموع من عينيها حين تذكر أحبتها، وحين تذكر زوجها، وحين تذكر عقمها، وكم قبلت بعد كل زورة من هذه الزورات ظاهر يدي وباطنها شكرا لله على ما أنعم به علي من ولد، وما أبقى لي في كهولتي من صحة وحيوية لا تخجلان حين يذكر الشباب. أما الأحبة الذين انحدروا إلى ظلمات القبور فهم السابقون، ونحن اللاحقون، وشكرا لله أن أنعم علي في صباي وكهولتي بنعمة التقوى والإيمان؛ لأستغفر لهم الله، ولأتوب إليه لعله يشملهم ويشملني برحمته.
وكم أدخلت هذه المقارنة بين حظي وحظ هذه الألمانية من الطمأنينة إلى نفسي، وذكرتني بأن متاعب الحياة ومصائبها لا تحصى، فحق علينا أن نحمد الله، كلما رأينا حظنا من ذلك خيرا من حظ غيرنا.
وذكرت لي الألمانية حين زارتني للمرة الأخيرة أنها مسافرة إلى أسوان بعد ثلاثة أيام بقطار عربات النوم، وذهبت إليها قبيل الغروب من يوم سفرها أودعها فرأيتها في بهو الفندق الذي تقيم به، فندق سميراميس، ورأيت معها رجلا يتحدث إليها وكأن بينهما معرفة قديمة، فلما اقتربت منهما قام الرجل فأقبل نحوي مبتسما وهو يقول: هذه أنت! وحدقت به فإذا هو الألماني الذي عرفت بالأقصر منذ أكثر من عشرين سنة، ولا تزال تبدو عليه مع ذلك مخايل الفتوة؛ برغم بياض فوديه وبياض شعرات في شاربه وحاجبيه، واغتبطت لمرآه، وذكرت إعجابه بي كما ذكرت الهدية التي قدمها لي من صنع يده، وابتسمت حين حييته وقلت: «ألا ترى أن العالم ضيق الرقعة، وأن الزمن سريع الدوران؟!» قال وهو يبتسم كذلك: «كما أرى أن كهولتك لا تقل جاذبية عن شبابك، ألا تسافرين الليلة مع السفيرة؟ أنا مسافر في القطار الذي تسافر به، ولكني سأغادره بالأقصر أقضي بها أياما أستعيد بها أسعد ذكرياتي قبل أن أذهب إلى أسوان.» وأجبته: «أمتعكما الله بالسلامة، أما أنا فإني أعد منذ الآن عدتي للسفر إلى الحجاز.»
وجلست معه إلى السفيرة فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث، ونذكر خلاله ما بالأقصر من روائع الفن الفرعوني، وفيما نتحدث سمعنا ضجة إعجاب في شرفة الفندق، فأسرع الألماني يرى سببها، ثم نادانا قائلا: «هلما، إن مغرب الشمس اليوم بديع، وهي تلقي من أشعتها على صفحة النيل وعلى أشجار الجزيرة ما يحيلهما سحرا رائعا»، وقمنا في بطء؛ السفيرة لسمنتها وشيخوختها، وأنا لزهدي وتقواي، لكنا ما لبثنا حين رأينا هذا المنظر البديع أن وقفنا نستمتع بروعة جماله في مثل حماسة الشباب، وكأنا لم نر من قبل مثله على كثرة ما تنعم به مصر من مغارب الشمس الرائعة، فلما آن للشفق أن يولي، والليل أن يسحب على هذا المنظر البديع رداءه ، بدأ الناس يعودون إلى مجالسهم، وبدأت أستدير لأدخل بهو الفندق من جديد، لكني شعرت بيد ناعمة على كتفي، فنظرت فإذا صاحبتها صديقتي، وما لبثت حين استدرت إليها أحييها أن قالت: «أنت هنا! ذلك ما لم أكن أصدقه!» على أنها رأت صديقنا الألماني مقبلا نحونا وسرعان ما عرفته، وقالت: الآن فهمت، وسألتها: ماذا فهمت؟ ولم تجب، ولم يذكر الألماني شيئا عن سحر عينيها، وكأنه لم يفتن بهما في شبابها، فسرني ذلك منه، واعتبرته خير جواب على سوء ظنها، وجاءت السفيرة بخطاها المتثاقلة فقدمت إليها صديقتي، ثم قلت: أخشى أن يحول وجودي دون إلقائك النظرة الأخيرة على متاع سفرك، ووجهت الكلام إلى صديقتي قائلة: «لقد جئت أودع السفيرة في سفرها هذا المساء إلى أسوان، فألفيت صديقنا الألماني معها، فسررت لهذه المصادفة كسروري لمقابلتك الساعة مصادفة كذلك.»
واستأذنت السفيرة وصاحبنا الألماني، ورجوت لهما سفرا سعيدا، واستأذنت كذلك صديقتي، وعدت إلى بيتي، فلما خلوت إلى نفسي أثارت هذه الزيارة بمصادفاتها أمام خاطري منظرا تعدل روعته منظر مغيب الشمس الليلة على صفحة النيل وعلى أشجار الجزيرة، ذلك منظر مغيب الشمس الذي كنا نشهده ونحن في شرفة «ونتر بالاس» بالأقصر، ونرى النيل، ونرى هضاب «طيبة الأموات» تتابع عليها ألوان هذا المغيب، فتبعث إليهما من الجلال والجمال ما يثير في النفس أعظم الإعجاب. عند ذلك ذكرت الإنجليزية التي لقيتني عامين متتابعين بونتر بالاس، والتي أخذ المنظر بمجامع قلبها فحدثتني - وهي تحدق بي - عن إعجابها الذي لا حد له بالفراعنة وحضارتهم، وقلت في نفسي: من يدري؟ لعلها كانت بين الحاضرين في شرفة سميراميس الليلة، هذا إن لم تكن قد تخطت حدود عالمنا إلى عالم الأرواح.
وهاجت هذه الذكرى خواطر شبابي، فأردت كبتها فأويت إلى حجرة خلوتي، وقسرت نفسي على التفكير في جهاز سفري إلى الحجاز، فقد كنا إذ ذاك في منتصف ذي القعدة، ولم يكن باقيا على سفر الباخرة التي أبحر عليها غير أسبوعين اثنين، وإنني لأفكر في ذلك إذ دخلت علي ابنتي ومعها زوجها، وقالت بعد أن قبلتني: جئت يا أماه أزف إليك البشرى، لقد استجاب الله دعاءك أن تصبحي جدة لطفلنا المنتظر.
لم أشعر منذ عهد بعيد بمثل هذه السعادة التي شعرت بها لسماع هذه البشرى، وقمت إلى ابنتي أقبلها، وأقبل زوجها، وأنا في فيض من الغبطة أنساني كهولتي، وأنساني خلوة عبادتي، وفتح أمامي آفاقا من الأمل الحلو، وصور لناظري الطفل المرجو باسم الثغر والعينين، ورأيته يكبر بعناية أمه وعنايتي، فيملأ البيت على أبويه وعلي بشرا وحبورا، وخرجت من خلوتي ومعي ابنتي وزوجها، وذهبنا إلى غرفة نومي وقد عقد السرور لساني، فلما اطمأنت الأنفس قلت: كنت أفكر الساعة في جهاز سفري إلى الحجاز لأهب حجتي إلى عمكما، ولأقيم بالمدينة حتى عامنا المقبل لأحج كرة أخرى، وأهب حجتي لأبيك يا ابنتي، ثم أبقى بعد ذلك بالمدينة راجية أن أظل في رحابها حتى يقبضني الله إليه بها، وأدفن في ترابها، أما وقد وهبنا الله هذه النعمة التي بشرتني الساعة يا ابنتي بها، فسأعود بعد حجي وزيارتي هذا العام أنتظر إلى جوارك حتى أطمئن عليك وعلى وليدك، ثم أعود العام المقبل فأحج وفاء بنذري، وراحة لضميري، وعند الله حسن الثواب.
وأخذنا نتحدث، وجعلت أذكر لابنتي وقد حلت عقدة لساني ما يجب عليها لنفسها ولجنينها في أثناء حملها، وكان زوجها يسمع لحديثنا، وعلى محياه أمارات السعادة ولا يقول شيئا، وفيما نتحدث دخل علينا ابني وزوجه، وكانا قد عرفا النبأ السعيد قبلي فشاركانا في حديثنا، وأراد ابني لهذه المناسبة أن يصرفني عن الحج هذا العام لأبقى إلى جانب أخته، فقلت له إن حجي وزيارتي لن يطولا أكثر من ستة أسابيع، وإن أخته لا يزال أمامها في الحمل أكثر من ستة أشهر، وما كنت لأعدل عن الوفاء بنذر نذرته والسبيل مهيأ للوفاء به.
وحججت وزرت ووهبت حجي وزيارتي لزوجي، ولم يستغرق ذلك كله ستة الأسابيع التي ذكرتها لولدي، ووقفت ساعة الوداع أمام المقصورة النبوية، وهتفت بصاحبها - عليه أفضل الصلاة والسلام: «معذرة نبي الله ورسوله! لقد حرصت على أن أبقى في جوارك حتى يختارني الله إلى جواره، فأنعم في عالم الأرواح بطمأنينة السكينة الأبدية، فأبى القدر إلا أن أعود إلى وطني وأهلي، وأنتظر هذا المولود ليرد إلى أهله وإلي نعمة الحياة، وليحملني من جديد أعباءها، فكن شفيعي عند ربي ليجعل لنا من هذا الحفيد سعادة ونعمة.»
وعدت إلى مصر وبقيت إلى جوار ابنتي حتى تم وضعها، فأسمت الوليد باسم جده - أبيها - واستأثر هذا الوليد البريء بكل ما في قلبي من حنان وبر، ونظرت إليه يوما وهو بين ذراعي، وقلت في نفسي: ترى لو أن جده زوجي الأول كان اليوم حيا، أفما كان قلبانا يجتمعان حول هذا الطفل يحوطانه بأجمل ما ينبضان به من عواطف؟ ولم ألبث حين مر هذا الخاطر بخيالي أن سألت نفسي: كيف سولت لي يوما أن أفكر في فصم كل صلة بيني وبين هذا الرجل، وأن أنسى أننا إذا انفصل جسمانا فمصير قلبينا إلى اجتماع حول حفيدنا، وأن الحكمة تقتضينا لذلك أن نعالج بالصبر أهواء الحياة؟ فأهواء الحياة قلب، وأساس الحياة الحق المحبة، فإذا استبقيناها في قلوبنا أبقينا على خير ما في الحياة، بل أبقينا على أساس الحياة وسر وجودنا فيها.
وجعل الطفل ينمو فيزيد نموه في محبتي إياه، فلما انقضت أشهر على مولده، وآن موعد الحج وفيت بنذري فحججت وزرت، ووهبت حجتي وزيارتي لجده، ثم عدت إلى مصر متشوقة أشد الشوق لاجتلاء ابتسامته. وجاء ولدي إلى السويس يستقبلني، وفيما نحن في طريق الصحراء إلى القاهرة زف إلي البشرى بحمل زوجه، وبأنني سأصبح عما قريب جدة لولده كما أنني اليوم جدة ابن أخته، واغتبطت وقبلته ونحن في السيارة تنهب بنا الأرض إلى غايتنا، فلما بلغت بيتي ألفيت ابنتي وزوجها وابنها وزوج ولدي في انتظاري، ثم ألفيتهم جميعا يقبلون علي يقبلونني ويرجون لي حجا مبرورا، وتناولت الطفل العزيز من أمه وقبلته وضممته إلى صدري، وشعرت به فلذة من قلبي.
وفي المساء ذهبنا جميعا نتناول العشاء في بيت ولدي، وجلسنا كلنا في بهو الاستقبال وفيه صورة زوجي الأول، وكأنه ينظر بعينيه الثابتتين إلى بنيه وحفدته .
عند ذلك أيقنت بأن الله أكرمني بأن لم أعقب من زوجي الثاني، وإن حز في نفسي ما تيقنته من أن هذا الرجل الذي أنقذني وأكرمني سيصبح عما قليل نسيا منسيا.
أتراني أستطيع بعد اليوم أن أفكر في العود إلى المدينة المنورة لأقيم في رحابها حتى يقبضني الله إليه بها فأدفن في ترابها؟ أم أن الحياة أمسكتني هنا مع أبنائي وحفدتي الأبرياء حتى أرقد الرقدة الأخيرة في صحراء القاهرة؟
وهل أنعم الله علي بهؤلاء الحفدة ليكونوا عزاء كهولتي وشيخوختي؟ أم أن الحياة لا تزال تعد لي من بأسائها ما يضطرب قلبي لمجرد تصوره؟
علم ذلك كله عند ربي، والحمد لله الذي وهبني على الكبر نعمة العود إلى الحياة والمتاع بها من جديد مع حفدتي الأطفال الأبرياء.
خاتمة
فرغت الآن من تدوين قصتي، متوخية فيها الصدق جهد طاقتي، أتراني أستطيع أن أغامر فأنشرها على الناس؟
لقد كان جبيني يندى وأنا أسطر بعض صفحاتها، ولشد ما أخشى إذا هي نشرت أن يندى هذا الجبين كلما لاح لخيالي قارئ يحاول أن يستشف من خلالها ما يرضي طلعته، أو يقف منها على أسرار لا شأن لغيري بها، ولا علم لغيري بدوافعها وملابساتها!
ولست آسف مع ذلك على ما أنفقت من وقت في تدوينها، فقد متعت في أثناء كتابتها بألوان من المسرة، سواء وأنا أجلو الصحف المضيئة أو الأركان المظلمة من حياة قلبتني على ورود وعلى أشواك يثير مسها في النفس أحاسيس متباينة تبعث إليها الرضا برغم تضاربها؛ لأنها مظهر حياتي خلال عشرات السنين التي طويت من عمر الحياة، والتي أذاقتني كل ما في الحياة من هناء وشقاء، ومن سعادة وبؤس، ومن لذة وألم، ومن أمل ويأس.
وكيف آسف وإني لتهزني الغبطة كلما عدت إلى هذه الصورة التي رسمتها من حياتي، ورأيت هذه الحياة كاملة أمامي، لا يحجبها عني تعاقب الأزمنة ولا تغير الأمكنة التي مررت بها؟! فأنا أرى فيها الطفلة التي كنتها، والصبية التي ترعرعت على أعواد هذه الطفلة، والشابة والزوج والأم ، وأرى انسياب الأيام يندس إلى هذا الشباب رويدا رويدا فيحيله كهولة تتخطى على هون إلى ما بعد الكهولة، وإني لأبتسم لهذه الأطوار جميعا، وأبتسم لآلام حزت يوما في نفسي، وأوقفتني على حافة اليأس، ثم مر الزمن بيده المحسنة على هذه الآلام فأصبحت اليوم موضع عطفي، ومدعاة تقديري وغبطتي.
يذكر الذين ترجموا للمثال الإيطالي الخالد ميكل أنجلو أنه لما أتم تمثاله «موسى» ورآه بلغ الكمال، خاطبه مبديا إعجابه بكماله، فلما لم يجد لكلامه من جانب التمثال صدى، نظر إليه مغضبا وضربه بإزميله وصاح به: ما لك لا تتكلم؟! ولست من الغرور بحيث أنظر مغضبة إلى هذه الصفحات التي كتبت وأنا أعجب كيف لا تخرج من بينها الصبية والمرأة التي رسمت ممتلئة حياة ونشاطا، فلم يبلغ إيماني بالفن ما بلغه من نفس المثال الإيطالي الخالد، وأنا أقل إيمانا بفني من أن يدور مثل هذا الخاطر بخلدي.
ولهذا لا أحسبني أغامر فأدع هذه القصة تنشر يوما على الناس، وما جدوى نشرها؟ لست من السذاجة بعد الذي قطعت من عمر الحياة وقطع الوجود من عمري لأتوهم ما يذهب بعض الكتاب إليه من أن قراءها سيجدون فيها عبرة تنفعهم في حياتهم، فالعبرة كلمة نقولها ولا مدلول في الواقع لها. وهل اعتبرت الإنسانية بما يصيبها من أهوال الحرب وويلاتها فأقلعت عنها؟ وهل يعتبر الشباب بما أصاب آباءهم وذويهم؟ إذن لاحتاطوا فلا يقعون فيما وقع هؤلاء الآباء فيه، وكيف تنفع العبرة وفي الحياة من الغيب المستور ما تتغير معه المقدمات والنتائج تغيرا لا يستطيع أكثر الناس ذكاء وعلما توقعه، بله التقدير له.
وكيف يستطيع الشباب أن يتخذ العبرة من المشيب ولما يعرف من أمر المشيب قليلا ولا كثيرا؟! لقد طالما اطلعت في شبابي على مثل هذه القصة فوجدت في مطالعتها تسلية ولذة لم يتعديا حدود اللذة والتسلية، وكان لأصحاب هذه القصص من البراعة ما ليس لي، فإذا لم تظفر قصتي بتسلية قرائها فمن حقهم أن ينقموا مني، وأن يلعنوا غروري، وخير لي أن أتقي النقمة واللعنة كلتيهما ، فلا أطالع الناس بما يدفعهم إليهما، ذلك خير لهم ولي، وأدعى أن ينفقوا وقتهم فيما يعود عليهم بما يلذهم ويرضيهم.
ولا أحسبني أبالغ حين أذكر أن العبرة بما يصيب الغير كلمة لا مدلول لها في الواقع، فنحن لا نعتبر إلا بما يصيب ذاتنا.
كانت لي أخت طفلة لما تبلغ عامها الثاني، وكانت بادية الذكاء منذ طفولتها، وكان أبي مغرما بها، يغتبط بمداعبتها، ويقضي في ذلك سويعات كل يوم، وقد أدنى من إصبعها يوما عودا من الكبريت ملتهبا، ثم سحبه في حركة تدل على خوفه من أن يحرقها، لكن الصغيرة لم تفطن لهذه الحركة ولم تعتبر بها حتى أدنى والدي عود الكبريت الملتهب من إصبعها فكاد يحرقها، هنالك أدركت أن النار تحرق، وصارت تسرع إلى سحب يدها كلما أدنى أحد النار منها، وذلك شأننا جميعا في الحياة؛ إذا لم نكن نحن موضع العبرة لم يكن للعبرة مدلول في نظرنا، وكثيرا ما نخطئ في تقدير مدى العبرة مما يصيبنا نحن، فلا نفيد منها إلا القليل.
وليس عجيبا أن تكون العبرة كلمة لا مدلول في الواقع لها، فنحن نحكم على الأشياء بمجموعة من العناصر الذاتية، يختلف الحكم باختلاف تأثرها بما في الحياة وتأثيرها فيها، نحن نحكم بعقلنا وعلمنا وعواطفنا، وميولنا وإحساسنا وأعصابنا، وهذا المزاج من العناصر يتأثر بما نكون عليه من أحوال الغضب والرضا والطمأنينة والقلق، كما يتأثر بالبيئة المحيطة بنا، ولا سلطان لنا عليها، فأي هاتيك العناصر تكون أقوى أثرا في اعتبارنا بما نقرأ؟ وقد تكون البيئة أقوى من كل تلك العناصر أثرا.
كنت في العاشرة من سني، وكنت تلميذة بالمدرسة السنية للبنات في العشرة الأولى من هذا القرن العشرين، فلم يكن يومئذ للبنات مدارس مصرية غير السنية وأم عباس، وإني لأمر بفناء الدار دعاني والدي فدخلت غرفة الجلوس وحوله فيها جماعة من أصدقائه ومعارفه، بينهم مطربشون ومعممون، وسألني والدي عما ندرسه في الجغرافيا والتاريخ، وخرجت من عنده وانتحيت جانبا في الفناء فلم ألبث أن سمعت مناقشة حادة بين الموجودين مع أبي ؛ يبدي أحدهم إعجابه بما سمع مني، ويعترض آخر على ذهابي إلى المدرسة اعتراضا شديدا، ويعترض على تعليم البنات بوجه عام قائلا: إن مصير البنت أن تتزوج، فما فائدة أن تتعلم القراءة والكتابة؟! بل إن في تعليمها لضررا أبلغ الضرر، إنه يمكنها من قراءة الروايات وما فيها من قصص الحب ومن كل ما يفسد الأخلاق، وهي بعد في غير حاجة إلى هذه المعرفة، فنحن لا نعدها لوظيفة في الحكومة، ولا لعمل من الأعمال يحتاج إلى القراءة والكتابة. واستمر الرجل يؤيد هذا الرأي، ويزداد حماسة في تأييده كلما ازداد مناقشه تأييدا لضرورة تعليم البنت لتستكمل وجودها الإنساني، وقد كان يؤيد ذلك المعارض في تعليم البنت يومئذ كثيرون حتى من المتعلمين تعليما مدنيا، وكانت البيئة تسيغ يومئذ مثل ذلك التفكير. ترى أيمكن أن يدور مثل هذا التفكير اليوم بخاطر أحد أو يجرؤ على الجهر به وقد أخذت البنات مجلسهن من مقاعد الجامعة، وقد غصت وظائف الحكومة بالكثيرات منهن، وقد أصبحت ميادين العمل الحر مفتوحة أمامهم؟ أفلا يشهد ذلك بأن آراءنا وأحكامنا تتأثر بالبيئة إلى حد كبير؟ وهي تتأثر كذلك باعتباراتنا الذاتية، وقتية كانت هذه الاعتبارات أو غير وقتية، مما يدل على أن العبرة التي نتلمسها في القصص قليلة الأثر في الواقع، إن كان لها من هذا الأثر أي حظ!
لم أعن نفسي بهذا الحوار حول تعليم البنت يوم سمعته وأنا في موقعي على مقربة من باب غرفة الجلوس، بل فررت مسرعة إلى داخل الدار خيفة أن يراني أحد ويتساءل عن سبب وقوفي، وما كنت لأفكر يومئذ أي المتحاورين على حق؟ فقد كان أبي هو الذي يفكر لي، وهو الذي ينفذ تفكيره، إن شاء أن أبقى بالمدرسة بقيت، وإن شاء أن أغادرها وألزم البيت كان الرأي رأيه، ولقد مر هذا الحوار من بعد بخاطري فأثار مني ابتسامة إشفاق حينا، وابتسامة تخالطها المرارة أحيانا، أما الإشفاق فعلى هذا الذي توهم أن البنت تتعلم الحب في قصص الحب، وهل تقرأ الطير قصص الحب وهي في عشها وفي سمواتها، وللطير على اختلاف أجناسها قصص في الحب أروع من قصص بني الإنسان؟ فالحب غريزة ركبت في الذكر والأنثى يلتمس كلاهما في سبيلها تخليد النوع، والفتى الساذج في الحقل وفي المصنع والفتاة الساذجة التي تشاركه العمل؛ ينجذب أحدهما نحو صاحبه في غير حاجة إلى كتاب يقرؤه، مندفعين في ذلك بحكم الغريزة التي لا تقهر، وهما يسمعان من قصص الحب ما يغنيهما عن قراءة شعر «المجنون»، أو قصة «روميو وجولييت»، فإذا توهم أحد أن قراءة قصص الحب مفسدة للأخلاق فهو جدير بالإشفاق وبأكثر من الإشفاق.
وأما المرارة التي خالطت ابتسامتي أحيانا، فقد أثارها في نفسي شعور ذاتي لاعتبار قل أن يرد بخاطر أحد، فإن كثرة القراءة وإدمان القراءة يدعو إلى شيء من العمق في التفكير وإلى عزلة لا مفر منها يدفع إليها التفكير العميق، فهذا التفكير فيما حولنا يكشف لنا عما في حياة المجتمع من حمق وسخافة، ويدفعنا للتعالي على هذا المجتمع، بل إلى ازدرائه في كثير من الأحيان.
هذا لون من الغرور لا ريب، وهو غرور يجعلنا ننطوي على أنفسنا، ونتذوق في دخيلتنا غبطة كبيرة بتفوقنا، ولكنه يدس إلينا مع هذه الغبطة مرارة سببها انكماشنا عن الناس، وتعذر التفاهم بيننا وبينهم في كثير من الأحيان، وقد تبلغ هذه المرارة أن تدفعنا إلى حافة اليأس فلا ينجينا منه إلا أن ننزل إلى المستوى العام، وأن ننسى أنفسنا في ألوان من المسرة يمجها ذوقنا، لولا هذه المرارة التي تضطرنا للرضا بما لا نرضاه بحكم عقلنا وثقافتنا.
وإذا كان للبيئة من السلطان على أحكامنا ما قدمت فلظروفنا الخاصة سلطان لا يقل عن سلطان البيئة، فهذه الظروف هي التي تكيف اتجاهنا في الحياة، وهي التي تكيف أحكامنا على ما رأينا وما نرى، أليس يختلف حكم الأغنياء عن حكم الفقراء على الأشياء؟ وهلا يختلف حكم الأذكياء عن حكم الأغبياء، ويختلف حكم أبناء الحرفة الواحدة عن أبناء الحرفة الأخرى على ما يرون؟ أولا ترى شخصا يوهب منذ مولده أذنا واعية للأنغام والألحان، وآخر يوهب عينا بصيرة بالصور والألوان ، وثالثا لا يعنى من الأنغام ولا من الألوان بأكثر من التسلية، برغم ما له من ذكاء نفاذ وحسن بصر بالأمور؟!
وليس يسيرا أن نحيط بظروف الناس الخاصة، فهي لا تحصى، ولكني طالما سألت نفسي: أترانا برغم هذه الظروف نزعم أن لنا في هذه الحياة اختيارا بأي مقدار؟ وهل كان لي اختيار أن أولد أنثى، وأن أولد في المدينة وأبواي من أهل الريف، وأن أكون على حظ قليل أو كثير من الجمال أو الذكاء أو الجاذبية، وأن يكون أبواي من طبقة معينة من طبقات المجتمع، وأن يقيدني كل واحد من هذه الظروف بقيود لا فكاك لي منها، ولا سلطان لي عليها؟ وما هذا الاختيار الذي يحدثوننا عنه إذا كان الإنسان مهددا بالعقاب لعمل يجترحه موعودا بالمثوبة إذا عمل صالحا؟ أم نحن مختارون حين يشتهي أحدنا صنفا من الطعام، ويشتهي صاحبه صنفا آخر لأن معدة الأول لا تطيق ما تطيقه معدة الثاني؟! الحق أشهد أنني لم أشعر بأنني كنت مختارة في يوم من الأيام، وإنما فرضت الحياة نفسها علي، فلم يكن لي اختيار في قبول ما فرضت مذ كنت طفلة إلى هذا اليوم، وإلى أن أموت.
وإذا لم يكن لنا في الحياة اختيار، فهل يبقى لكلمة العبرة معنى أو مدلول في الواقع؟ لقد عدت غير مرة إلى كتب قرأتها منذ سنوات عديدة فتغير حكمي على ما فيها عما كان عليه يوم قرأتها أول مرة، فأيقنت أن أحكام شبابنا تختلف عن أحكام كهولتنا، لأن عناصر الحكم الكمينة فينا يختلف مزاجها بتقدم السن، أو بتغير أحوالنا المعيشية، أو باختلاف البيئة التي تحيط بنا، أو بما يمر بنا من حالات الصحة والمرض والنجاح والفشل والرجاء واليأس، وبعض هذه الكتب التي عدت إلى قراءتها ليست قصصا جانب التسلية فيها أوفر من جانب العبرة، بل هي كتب تفكير ورأي، أو كتب علم أو فلسفة، فإذا كانت صور الأشياء تتغير أمامنا على هذا النحو، فهي إذن وهم وليست حقيقة، وهي صورة لما نشعر به في دخيلة أنفسنا أكثر منها حقيقة كونية مادية يمكن الاطمئنان إليها.
وبعد فهل في الحياة حقيقة ثابتة؟ أم أن ما في الحياة كله حقائق وإن كانت لا ثبات لها؟ أترى الحقيقة هي النور أم الظلام؟ وهي السعادة أم الشقاء؟ وهي الرجاء أم اليأس؟ وهي الحياة أم الموت؟ لقد طالما تبدت لتفكيري صور وألوان من هذه الحقائق التي لا ثبات لها، والتي نمر بها على دوام تغيرها متفانية متجددة، فأوقعني التفكير فيها في حيرة كانت بعض أسباب المرارة التي اندست على حياتي، وبعض أسباب العزلة التي باعدت بيني وبين الناس، ثم وجدت الوسيلة في بعض الأحيان إلى التغلب عليها بأن اندمجت في غمار الناس، وسرت سيرتهم، وطلقت التفكير حتى اهتديت آخر أمري، وفي موليات عمري، إلى أن الحقيقة فوق هذه الصور جميعا، وإلى أن التماسها يقتضينا السمو فوق صور الحياة في انهيارها وتجددها لنطالع وجه الله الأكرم ذي الجلال.
وما لي أطيل التفكير فيما كتبت؟ وهل ينشر على الناس أو لا ينشر؟ وفيما إذا كان لكلمة العبرة مدلول في الواقع أو أنها ليس لها هذا المدلول؟ أليس خيرا أن أدع التفكير في هذا لغيري، فإذا رأى قصة حياتي حقيقة بأن يطالعها غيري فيجد فيها متعة أو عبرة فلينشرها، وإلا فليلق بها في سلة المهملات كما يقولون.
إنني قد اعتزمت مغادرة مصر إلى حيث أستطيع التوجه إلى الله بكل قلبي ألتمس عنده المغفرة من ذنوبي، وأجد منه الهدى إلى الحقيقة التي يستريح لها وجداني، ويوم يتاح لي تنفيذ غرضي فسأدع هذه القصة بين يدي من يستطيع أن يحكم عليها بأعدل مما أستطيع، وله يومئذ أن يفعل بها ما يشاء، فإذا نشرت فلن أستطيع قراءتها مطبوعة؛ لأنني سأكون بعيدة عن مصر، بعيدة عن هذا المجتمع الذي نعمت به وشقيت، والذي عرفت بين أحضانه ألوانا من السعادة والبأساء، ومن اليأس والرجاء، أكثر مما عرفت كثيرات من بنات جنسي!
والله أسأل أن يهيئ لي فيما بقي من أيام حياتي سبيلا أهدى من السبيل التي اخترت إلى اليوم، وأن يكتب لي أن أموت راضية مرضية، وأن يجعل من توبتي ومن أيام شقوتي شفيعا عنده، إليه المرجع والمآب، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير. •••
أتممت كتابة ما تقدم عشية الحج أول مرة، وكنت أحسب يومئذ أني فرغت من تدوين قصتي، ورسمت الطريق لما بقي لي في الحياة من أسابيع أو شهور أو سنين كثيرة أو قليلة، لكن القدر سرعان ما أثبت لي مرة أخرى أنه لا يعبأ بإرادتنا الإنسانية، وما نرسم أو نصور، وأنا أضعف أمامه من أن نثبت بإرادتنا شيئا في لوحه.
صحيح أني حججت وزرت مدينة الرسول، وعزمت أن أجاوره، لكن هذا العزم ما لبث أن عبثت به الأقدار، واضطرتني للعود إلى القاهرة لأواجه بها أقسى ما يواجه إنسان في حياته، وعدت فعزمت أن أقيم بالمدينة آملة أن أظل في رحابها حتى يقبضني الله بها، وأدفن في ترابها، فإذا هذا العزم لا يثبت للمرة الثانية أكثر مما ثبت للمرة الأولى، وإذا بي أضطر للمقام في مصر في جوار أحفادي، سعيدة بهذا الجوار، مشفقة من هذه السعادة، خائفة أترقب ما يخبئ الغد في طياته مما قد أنوء به.
وقد قصصت ذلك كله بعد زمن طويل من تدوين ما جرى في شبابي وبوادر كهولتي، ولست أدري أيعنى أحد بأن يطلع عليه، ولذلك تركته مع ما سبقه إلى من يستطيع أن يقطع فيه بحكم فينشره أو يهمله.
وسواء علي أنشرت هذه القصة أم لم تنشر، فحسبي أن دونتها، ولن أعود إلى قراءتها من بعد، فلي من هؤلاء الأحفاد ما يشغلني عنها، وعما كان زوجي الأول يسميه غيرتي وغروري.
والله أرجو أن يتوب علي ويغفر لي، إنه الغفور الرحيم.
अज्ञात पृष्ठ