ثم مسحت دموعها ولبثت هادئة برهة وهي تفكر في أبيها وقالت: «ولكن أبي رباني بعد وفاة أمي وبقي وحده لم يتزوج من أجلي وهو يحبني ويريد سعادتي فكيف أغضبه؟»
ثم قالت: «لا ... إنه خرج في معاملته عن حقوق الأبوة، إن لحسن فضلا كبيرا علينا، ولكن أبي تنكر له، بل أراد قتله من أجل ذلك الفضل، أراد قتل حسن؟! إن أبي ظالم، والظالم لا يحبه الله فكيف أحبه أنا؟! أما حسن فشهم تفانى في سبيل نجاتنا ويكفي أنه يحبني وأني أحبه حبا عذريا نقيا لا عيب فيه. يا إلهي ما هذا الحب؟! إذا كنت ترى أني أخطئ فيما أقول فانزع حب هذا الشاب من قلبي. لا ... لا تنزعه ... أو انزعه يا إلهي ... أو كما تشاء ... آه ما لي أزداد تعلقا وهياما؟ الله هو الذي أراد أن يحب أحدنا الآخر، والحب الذي يكون خاليا من الدنس وغايته شريفة إنما هو من عند الله.»
قضت سمية ساعة في مثل هذه التصورات، ثم تذكرت ما سمعته من تهديد أبيها فخافت أن يتمكن من حسن وهو غافل، فرأت أن عليها أن تحذره حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وحدثتها نفسها أن تفر معه إلى مكة ولكن تعقلها وآدابها زجراها عن ذلك. على أنها أصبحت شديدة الشوق إلى رؤيته لتشكو له ما في قلبها ويتعاهدا على الاتحاد والصبر، فتذكرت عزمه على الخروج من المدينة في تلك الليلة، وأنه خارج حوالي الغروب من الباب المؤدي إلى مكة فعزمت على اغتنام فرصة انشغال أبيها، لكي تخرج وتقف له في الطريق وتخاطبه.
أما عرفجة فقد كان بينه وبين طارق بن عمرو حاكم المدينة يومئذ صداقة. وكان طارق يكرم عرفجة لأنه ثقفي من قبيلة الحجاج، وكان الحجاج لذلك قد أوصاه به خيرا، ولأنه كان قد عرف سمية وطلب الاقتران بها فوعده عرفجة بذلك ولكنه استمهله ريثما يسترضيها. ولم يشأ الحجاج أن يحملها أبوها على ذلك بالكره مخافة أن تشكوه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان فيأمره بالتخلي عنها كما اتفق له مع عبد الله بن جعفر لما خطب الحجاج بنته أم كلثوم على مال كثير ثم أمره عبد الملك بن مروان بطلاقها؛ وجلية الخبر أن الحجاج خطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية، فأجابه إلى ذلك وحملها إليه فأقامت عنده ثمانية أشهر، ثم خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان وافدا ونزل بدمشق، فأتاه الوليد بن عبد الملك (ابن الخليفة) على بغلة ومعه الناس، فاستقبله ابن جعفر بالترحيب، فقال له الوليد: «لكنك أنت لا مرحبا بك ولا أهلا.» قال عبد الله: «مهلا يا بن أخي فلست أهلا لهذه المقالة منك.» قال: «بلى والله وبشر منها.» قال: «وفيم ذلك؟» قال: «لأنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة نساء بني عبد مناف، فعرضتها على عبد ثقيف يتفخذها.» قال: «وفي هذا عتبت علي يا ابن أخي؟» قال: «نعم.» قال عبد الله: «والله ما أحق الناس ألا يلومني في هذا إلا أنت وأبوك؛ لأن من كان قبلكم من الولاة كانوا يصلون رحمي ويعرفون حقي، وأما أنتما فمنعتماني رفدكما حتى ركبني الدين. أما والله لو أن عبدا حبشيا مجدعا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها منه. إنما فديت بها رقبتي.» فما راجعه الوليد كلمة حتى عطف عنان بغلته ومضى فدخل على أبيه فقال له عبد الملك: «ما لك يا أبا العباس؟» قال: «إنك سلطت عبد ثقيف وملكته حتى تفخذ نساء بني عبد مناف!» وقص عليه الخبر. فأدركت عبد الملك غيرة فكتب إلى الحجاج يقسم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يطلقها، ففعل. وخاف إذا فعل مثل ذلك بسمية أن تشكوه إلى عبد الملك بوساطة سكينة بن الحسين، لعلمه أنها تحب سمية ولها منزلة وكرامة عند عبد الملك. •••
وكان حسن قد ودع رفيقه وسار ماشيا وخادمه يقود جمله وراءه قاصدا إلى بيت سكينة، ولما أشرف على بيت عرفجة اختلج قلبه في صدره، ووقف كأن شيئا استوقفه بالرغم عنه، وتصور أنه شاخص إلى مكة وهي محصورة فلا يدري متى يعود منها ولا ما يمكن حدوثه في غيابه، وكيف يسافر وهو لم ير سمية! ثم تمثلت له سمية كما رآها في صباح ذلك اليوم قاعدة إلى جذع النخلة حاسرة رأسها ولم ير غير جانب وجهها. فلما تصور ذلك زاد هياما واضطربت جوارحه برهة كأنه فاقد رشده لعظم ما اكتنفه من الهواجس، ولم ينتبه لنفسه حتى خاطبه خادمه، وهو رجل من ثقيف اسمه عبد الله، وأصله من الطائف، وكان في جملة خدم المختار بن أبي عبيد في أثناء حربه في العراق، فلما قتل المختار سار في جملة الأسرى إلى الشام، ثم دخل في خدمة حسن عندما سمع بعزمه على المدينة رغبة منه في الاقتراب من أهله في الطائف، وكان عبد الله يعرف عرفجة لأنه من قبيلته ولم يكن يحترمه ولا يثق بأقواله، ولكنه لم يكن يعلم ما بين حسن وسمية، فلما رأى سيده واقفا مبهوتا استغرب ذلك منه فخاطبه قائلا: «ما بال مولاي؟ هل يفكر في أمر نسيه فأقضيه؟»
فانتبه حسن لنفسه واستحى من خادمه، ولكنه تذكر ما بين هذا الخادم وعرفجة من رابطة القبيلة، فلاح له أن يستخدمه في ذلك لعله يأتي بفائدة فقال: «أتعرف عرفجة؟»
فأجاب عبد الله ولم يصبر إلى إتمام السؤال وقال: «كيف لا أعرفه وهو أبو سمية؟!»
فلما طرق اسمها سمع حسن خفق قلبه، ولو لحظ عبد الله وجه سيده لرأى الاضطراب ظاهرا في محياه، ولكنه لم يكن يتفرس في وجهه لفرط احترامه له. أما حسن فقال: «وهل تعرف سمية؟»
فضحك عبد الله وقال: «كيف لا أعرفها وهي من قبيلتي؟!»
अज्ञात पृष्ठ