فلما سمعت سمية كلامه اقشعر بدنها وامتقع لونها، ونظرت إلى أبيها والدموع ملء عينيها كأنها تستعطفه ولا تصدق أنه يعني ما يقول، ولكنها ما لبثت أن رأته نهض وجعل يتمشى في أرض الحجرة ولحيته ترقص أمام عنقه وعيناه محملقتان وأنامله ترتجف. فتهيبت وأطرقت ودموعها تتساقط على ثيابها وبقيت هادئة لا تحرك ساكنا ولسان حالها يقول: «ويلك يا ظالم.»
أما هو فبعد أن تمشى هنيهة عاد فوقف أمامها وقال لها: «لو كنت تحبين أباك، ما رضيت أن يكون لمثل هذا الغلام فضل علينا، كيف نعيش ولهذا الغلام منة علينا؟ وتقولين ذلك جهارا؟ لا شك أنك تحبينه أكثر مما تحبينني.»
فقالت والبكاء يخنق صوتها: «كيف تقول ذلك يا أبتاه، وأنت تعلم قلبي وتعلم أني لا أحب أحدا سواك! وأما هذا الشاب فإن له علينا فضلا لا ينكر؛ هل نسيت الخطر الذي كنا فيه وكيف أنقذنا وعني بإرسالنا إلى هنا؟! ثم إنك أنت الذي وعدته بي، فإذا كنت أحبه فإنما أنت الذي دعوتني إلى ذلك و...»
فقطع عرفجة كلامها وقال: «أبلغت بك القحة إلى أن تقولي لي إنك تحبينه وتعيدي ذكر جميله! إن ذكر هذا الجميل وحده يدعو إلى قتله!»
فاضطربت سمية، وجثت عند قدمي أبيها والدمع يتساقط من خديها ويمتزج بالعرق المتصبب من جبينها وقالت: «رحماك يا سيدي، بالله لا تذكر القتل، دعه لا تقتله ولا تزوجني به ... فأنا لا أخرج عن طاعتك في أمر من الأمور. لا تذكر القتل لأنه يقطع قلبي. افعل بي ما تشاء فإني طوع لك. أشفق علي وارحمني.»
فلما سمع تذللها ظنها ارعوت عن محبة حسن، فأمسكها وأنهضها ومسح دموعها وقال لها: «خففي عنك يا بنية وكوني حكيمة عاقلة، وانبذي أمر هذا الغلام وارجعي إلى أبيك، واعلمي أني لا أفعل إلا ما فيه سعادتك.»
قال ذلك وأجلسها على الوسادة وجلس هو إلى جانبها فاتكأت على صدره، فتحقق أنها أذعنت لأمره واستسلمت له، فلم يعد إلى ذكر حسن ولكنه اغتنم هذه الفرصة وقال لها: «يظهر أنك كنت في جهالة عمياء، والحمد لله على أنك أدركت ما أنويه لك. كيف تعيشين مع رجل تعلمين أنه ذو فضل على أبيك؟ أليس ذلك منتهى الذل والضعف؟ كيف أقدر على حفظ منزلتي بين الناس وفي الدنيا رجل يقول إنه أنقذني من الموت وله على فضل؟!»
فظلت سمية صامتة مخافة أن يعود أبوها إلى ذكر القتل، ولكنها استغربت استنكافه الإقرار بالفضل لأهله، وقد فاتها أن من الناس من يتعمدون الإيقاع بالمحسنين إليهم؛ لأن تصورهم فضلهم يهيج جسدهم حتى يقودهم إلى الفتك بهم ليتخلصوا من ذكر تلك المنة. وأمثال هؤلاء قليلون والحمد لله - وكان عرفجة واحدا منهم - وتلك غاية الدناءة والخسة.
ولم تر سمية خيرا من السكوت، ولكن ذلك لم يغير شيئا من عواطفها بل لعله زادها تعلقا بحسن، تعلق ذهنها بالسعي في تحذيره، وكانت تفكر في ذلك وهي متكئة على صدر أبيها وقد بللت قميصه بدموعها، فأنهضها وقبلها وقال لها: «قومي يا سمية وارجعي إلى رشدك فإني سأزوجك بأعظم رجل يتحدث به المسلمون الآن لتعلمي أني إنما أسأتك بأقوالي لأحسن إليك بأفعالي.»
فنهضت ومشت وهي صامتة تمسح عينيها بكمها حتى أتت حجرتها فدخلت وأقفلت الباب ثم استلقت على فراشها وقد تمثل لها عظم الارتباك المحيط بها والخطر الذي يهدد خطيبها، فأظلمت الدنيا في عينيها وأطلقت لدمعها العنان، ثم استرجعت رشدها وفكرت في أمرها وأمر أبيها وما تعرضت له بسبب حبها لحسن فجعلت تناجي نفسها قائلة: «كيف تعلقت بهذا الرجل الغريب وفي تعلقي به خطر على حياتي وحياته؟ أليس هذا أبي الذي رباني وكفلني ولا يريد لي إلا الخير والسعادة؟ كيف أعصاه وأطيع هواي؟ أليس من التعقل أن أنصاع لرأيه؟ أما حسن فماذا يربطني به؟ الحب؟! وما معنى الحب؟ إن هذا الحب سبب عذابي وعذاب أبي وعذاب حبيبي . لا، إن عذابه عذب، آه ما أحلى الحب وما أشرف عواطف المحبين ... كيف يعيش الناس بدون الحب وما الفائدة من الحياة بلا محبة؟! إني لا أرى في العيش لذة إلا حين أفكر في حسن، آه ما ألطف هذا الاسم! ولكن كثيرا ما كنت أسمعه قبل أن أعرف الحب فلا ألتذ لفظه كما ألتذه الآن، فأنا إنما أتلذذ بالحب، آه ما أحلاه وما أحلى لفظه بفمي وذكره بفكري وما أحلى صورته في عيني!»
अज्ञात पृष्ठ