فلما خرج حسن وتبعه عرفجة لوداعه طارت عيناها شعاعا إلى حسن، ولكنه ما لبث أن غاب عن مدى بصرها من ذلك الثقب. فلما رأت أباها راجعا خرجت من الغرفة لملاقاته وقد توردت وجنتاها من عظم التأثر وبانت دلائل الحب في وجهها، فلما رآها عرفجة في تلك الحال انقبضت نفسه وتظاهر بأنه في شاغل عن الحديث معها.
ولكنها لم تصبر على استطلاع أفكاره وأمسكت عن الكلام تهيبا؛ لأنها كانت تخافه كثيرا وتخشى غضبه وقد قاست منه الأمور الصعاب، على أنها كانت تحسن الظن به، فتحولت إلى حجرتها وهي منقبضة النفس، ودخل عرفجة حجرة أخرى وقد لحظ ما في نفس ابنته ولم يفته اطلاعها على ما دار بينه وبين حسن. فبعث إليها فجاءت وليس في المكان سواهما فوقفت وقلبها يخفق وهي لا تستطيع التطلع إلى أبيها ولا تدري ما يريد منها، فأشار إليها فجلست على وسادة بالقرب منه وهي تتشاغل بمداعبة أطراف جدائلها المرسلة، وكانت تضفر شعرها عادة في طرة اشتهرت في المدينة يومئذ بالطرة السكينية نسبة إلى سكينة بن الحسين؛ لأنها أول من ضفرها على تلك الصورة.
لبثت سمية برهة هكذا، وأبوها ينظر إليها ويتأمل في حركاتها فلم يزدد إلا وثوقا بتعلقها بذلك الشاب وهو لا يحب أن يتقرب منه، ولكنه لم يذكر ذلك لسمية صراحة. على أنه كثيرا ما حاول أن يزوجها بسواه فلم تقبل، وكان قد ظن حسنا مات أو قتل لغيابه عن المدينة، أو عدل عنها واشتغل بغيرها، فلما رآه في ذلك الصباح وتحقق أنه ما زال حيا بغت واستعاذ بالله، ولكنه عمد إلى الخبث والرياء فتغلب على عواطفه وبش له واستدناه وأظهر له ما أظهره من اللطف والأنس على أمل أن يفتك به غيلة. فلما رأى اضطراب سمية قال لها: «أراك مضطربة، فما الذي دعاك إلى هذا؟»
قالت وهي لا تزال مطرقة وقد صعد الدم إلى وجهها فزاد احمراره: «وأي اضطراب تعني؟»
قال: «أعني ما يبدو في وجهك من الاحمرار على أثر الاصفرار وكأني أسمع دقات قلبك. فما هذا؟» قال ذلك بنغمة رقيقة رفقا بها واحتيالا في استطلاع سرها، وقد كان يحب رضاءها ولكنه لا يريد أن تعمل عملا تستقل به عنه. وكان أهل المدينة يتحدثون بجمال سمية ولطفها، وكان هو يريد أن يتجر بذلك الجمال فيزوجها بحاكم أو أمير فيكتسب بزواجها منصبا أو مالا . وكانت له مطالب أخرى ترجع كلها إلى الطمع وحب الأثرة مع خبث الطوية. وحب الأثرة مع سلامة الطوية قلما يضر بالناس؛ إذ ليس في البشر من لا يحب ذاته ويؤثرها على غيره من الناس، أما إذ صحبه خبث النية وسوء الخلق فإنه يكون وبالا على الناس؛ لأن صاحبه لا يبالي ما قد يضحيه من الأنفس أو الأعراض في سبيل نيل أغراضه. وكان عرفجة ذا مطامع لا حد لها وكان ذلك شأن كثيرين في ذلك العهد على أثر تزعزع أركان الخلافة وانقسام الناس وكثرة الدعاة وتعدد الدعوات؛ فكان هذا يدعو إلى بيعة عبد الملك، وذاك يدعو إلى بيعة محمد بن الحنفية، وآخر إلى بيعة عبد الله بن الزبير، فضلا عن دعاة آخرين في البلاد الأخرى؛ فأصبح الأمر فوضى وربما خطر لعرفجة أن يدعو إلى أحد هؤلاء أو غيرهم، ولو أتيح له أن يدعو الناس إلى نفسه لفعل ولكنه لم يكن يطمع في ذلك وهو من ثقيف وهم غير أكفاء للقرشيين. وكان الحجاج والمختار بن أبي عبيد ثقفيين أيضا، فلما أراد المختار أن يستأثر بالملك تظاهر بالدعوة إلى محمد بن الحنفية كما قدمنا. •••
لما سمعت سمية سؤال أبيها ولم تر فيه نغمة الجفاء أجابت وهي تكاد تذوب خجلا: «أتسألني يا سيدي عما أنت أعلم الناس به؟!»
فقال وهو يغتصب الضحك اغتصابا: «أظنك تحبين هذا الشاب؟»
قالت: «لا أقول إني أحبه ولكنني أعلم فضله علينا؛ لأنه أنقذنا من الموت وقد اشترط شرطا وعدناه به أفلا نفي بالوعد؟»
وكانت تقول ذلك بلهجة المنتصر وهي تنظر في وجه أبيها متوقعة أن يكون جوابه الإذعان الصريح، ولكنها رأته ابتسم ابتسام الاستخفاف، ثم هز رأسه، وأخذ يلاعب طرف لحيته بأنامله وهو يقول: «ما شاء الله! وأي فضل تعنين يا سمية؟»
قالت: «ألم ينقذنا هذا الرجل من القتل ونحن في الكوفة؟ ألم أخرج إليه محلولة الشعر وأطلب نجاتك فأسرع لإنقاذك؟! ولا أراك تنكر ذلك عليه إلى الآن.» قالت ذلك وهي تنظر إلى وجهه بطرف عينيها وتتوقع إذعانه فإذا هو قد تغيرت سحنته وبان الشر في عينيه وكان بيده مفتاح الحجرة فرمى به إلى الأرض من شدة الغيظ وقال: «لا أقدر على سماع هذا الكلام. إن الذي يدعي علينا مثل هذا الفضل يجب أن يموت.»
अज्ञात पृष्ठ