الإهداء
رسالة
لمحة تاريخية
طعبروس
حفنة ريح
إلى المخرج
الإهداء
رسالة
لمحة تاريخية
طعبروس
حفنة ريح
إلى المخرج
حفنة ريح
حفنة ريح
تأليف
سعيد تقي الدين
الإهداء
إلى التي نادت بي يوم كنت كسيحا: «هيا انهض فاستبق الناس فأنت في ميدان الحياة مجل.»
إلى التي آمنت بي يوم هزئ الناس، وأوشكت أن أسخر بنفسي.
إلى التي جعلت جهنم حياتي جنة.
إلى التي محت عن وجهي ميسم الضعة، وأبدلت به منطح التفوق.
إلى التي طوت كفي المترهلتين، فجعلت منهما قبضتين فولاذيتين أصرع بهما الجبابرة.
إلى التي ملأت قلبي حبا وأملا وأغاريد.
إلى رفيقة أسفاري، بين القصر والكوخ، والكوخ والقصر.
إلى زوجتي
بياتريس تقي الدين
رسالة
تفضل مليك البحث والاستقراء، وبادشاه المؤرخين، سمو البرنس حمد باشا السبعلي، فأرسل للمؤلف كتابا هذا بعضه:
أخي الشيخ سعيد بك آل تقي الدين ... كذلك لم أدر حين دفعت بك عن شريط القطار المداهم
1
أنني أنقذ للبشرية عبقريا يتحف الأدب الخالد بمثل «حفنة ريح» ... فيا للنبوغ الموهوب يقترن بكياسة الصناعة التمثيلية! ويا للرائعة لم يجد بمثلها الأولون ولا المعاصرون من زمن «فاجعة الإغريق» إلى يومنا هذا في صخب «برودواي» ولغبه ... ويقيني أن صلابة الخلق فيك لن تلين فتستمر في الإباء بأن تبيع أدبك - على وفرة ما عرضوه عليك - إلى معمل السخافة والتبذل الذي يسمونه «هليوود».
سلمت يا موليير لبنان، وشكسبير العرب.
لمحة تاريخية
يقول المتهجمون الذين يريدون التنقص من الأدب العربي القديم: إن العرب لم يعرفوا الدرامة.
ونحن لسنا نحاول في هذه الكلمة المقتضبة التبسط في تكذيب هذا المفترى، غير أننا نريد أن نثبت أن الدرامة ذات الفصل الواحد هي من مخترعات العرب الأقدمين، وكانوا يطلقون عليها اسم «مثال» للمغزى الذي يجب أن تؤديه، جاء في «الحواشة السخفولية»:
1
كان للبساطرة - وهم فخذ من قبيلة ثعلة - عادة كلما اكتمل القمر، أن يمثلوا رواية في فصل واحد، فينتحون هضبة يجعلونها مسرحا، ويحجبونها عن القوم
2
بستار، يعلق جانباه على رأسي بعيرين واقفين، بينهما عشر فشخات وأربعة أشبار، فإذا احتشد القوم صاح الحقريف
3
وأناخ الجملين، فهبط الستر وابتدأ التمثيل، فإذا انتهت الرواية ضرب الحقريف البعيرين بعصا فنهضا، فحجب الستار المسرح عن القوم وانتهت الرواية.
وقد أشار إلى هذه العادة أبو العبث الشوفاني في موشحته الأندلسية الشهيرة التي مطلعها:
يا شوق قلبي لل «مثال»، يا ليلة
البدر فيها قد استدار
والجمع حشد كالرمال، يا صرخة
تعلو إذا هبط الستار
ويدي على كتف الحبيب تلاعبه
طعبروس
نهض عريف الآلهة عن كرسيه الحريري، وتمطى تعبا فرحا، ثم انتزع من جيبه الهائل محرمته الحريرية الخضراء، وراح ينظف صولجانه الذهبي متكلما فيما هو ينظف: «يا له من يوم غني الحوادث!» فأجابه صدى من متملقي البلاط: «يا له من نهار غني الحوادث!» وتابع العريف كلامه: «لقد أنزلت عن عاتقي معظم عناء شئون حكم الكرة الأرضية، إن الحكم المباشر كان خطأ، لقد أبهظ كتفي، وإني وجدت الإنسان - مثلما هو في قرارة نفسه - يهوى تعدد الزوجات، كذلك هو في صميم مشاعره يؤثر تعدد الآلهة، لقد أرسلت لبني البشر سربا من آلهة: واحدا للمواسم، وآخر للحب، وغيره للصواعق، لكل شعور، وغريزة، وحادثة إلها، ولم يبق لي إلا أن أقرأ التقارير وأصدر الأوامر.
وأمسك مدير البروتوكول السترة، فأنشب عريف الآلهة في كميها ذراعيه، وفيما هو يتهيأ للانصراف، سمع نأمة من زاوية الديوان تقول: لماذا أهملتني يا سيدي؟
فتطلع عريف الآلهة، فرأى جسدا هائل البطن، وعينين مائعتين بالشر، ويدا مرتفعة، علتها أقذار كأنها برص، وكاد عريف الآلهة أن يبتسم ويمشي؛ إذ استأنف الصوت نأماته: أنا رجلك يا سيدي، أنا طعبروس، أنسيتني؟ ألا تذكر الانتخاب الماضي منذ مليون سنة، كيف كان «أبولو» و«أدونيس» يتخطيانك بالأصوات، وكاد «أبولو»، لو لم أزور لك أصوات الكوكب، حيث كنت رئيس الاقتراع؟ انظر إلى يدي وقد دنست بإثم التزوير! لقد غمستها بالبحر ألف سنة، وغسلتها بحمم البراكين مائة عام، ودفنتها في البحيرة الملتهبة عشرين جيلا، وتمتمت لها تعويذة ديوان المتنبي، وروايات شكسبير، وإلياذة هوميروس، وعلقت في زندي حرزا ملأته بدساتير دول الأرض، وتصريحات يالطا، ونقاط ويلسون الأربع عشرة، وقوانين جمعية الأمم ومنظمة الدول، فما محوت من أقذارها ذرة، وها أنت قد نثرت الوظائف على سواي، وأهملتني أنا الذي وبئ في الجهاد من أجل انتخابك.
وليس آلم على الكبير من معروف سابق يذكره به صغير ...
فعبس عريف الآلهة وأجاب طعبروس: ألم أهبك برميل نفط بعد الانتخاب؟ ولئن كنت ناقما علي، فلم لا تلتحق بصفوف المعارضة؟
قال طعبروس: إني معجب بك يا مولاي، وإني أوثر جهنم الحاكمين التي أعرفها على جنة المعارضة التي لا أعرفها، ثم إن المعارضة لا تملك شيئا تهبه، أما مولاي ...
قال عريف الآلهة: إني آسف لما أنت فيه، ولقد فرقت الوظائف وانتهى الأمر ...
وأجاب طعبروس: أيعجز مولاي عن خلق وظيفة لأحد محاسبيه وهو الذي ملأ الدنيا وظائف؟ وظفني في السلك الخارجي ... أسمع أن دولا كثيرة نشأت في الكرة الأرضية حديثا فهل اعتمدتني لأي منها؟
فهز العريف رأسه وقال: كيف أرضى أن يمثلني شخص موبوء؟!
فأجاب طعبروس: أنسيت يا سيدي أني أملك برميل نفط، وأن هذا السائل من الذهب الأسود مرهم، يلون الأمور والأجساد بألوان زاهية تستحبها الناس؟ ثم إن الطبيب أعطاني وصفة، هي أن آخذ براءة تعييني في الوظيفة فأحرقها، ثم أسحق رمادها فأذره في العيون، فلا ترى بي غير الجميل! إني مؤكد لمولاي أن مرهم النفط ورماد البراءة يجملانني حتى ليخلط البشر بيني وبين أدونيس!
وكان عريف الآلهة من تلك الشخصيات السياسية التي بلغت القمة بعد ألف معركة في الوادي وعلى السفح، ولقد صار من القوة بحيث أمسى في وسعه أن يتناسى الأنصار ورفاق الجهاد، ولكنه نظر إلى طعبروس ثانية وذكر حادثة الكوكب، حيث ترأس طعبروس الاقتراع، وكيف جاءه بصندوق الاقتراع، وفيه 153 مليون صوت للعريف، و35 صوتا لأبولو، و48 لأدونيس.
فابتسم وسرت به رعشة السطوة في القوي إذ يمنح أو يمنع، فصاح برئيس المواصلات أن يسهل لطعبروس سيارة أو «جيب» للكرة الأرضية، فطعبروس ذاهب إلى هناك بصفة غير رسمية؛ عله يحتال بذكائه على أن يخلق طائفة تؤمن به فيكفي بذلك العريف مئونة تعيين إله جديد، وكان وزير المواصلات مكبا على دفتر يقلبه وقد تجمر وجهه، فاقترب من عريف الآلهة وهمس بأذنه: لتتكلم بصوت خافت مخافة أن تسمعنا الصحافة، إن في دفتري قيدا ب 84 سيارة و125 «جيب!» وتذكرون أن سلفي باع أكثرها، ولما نزل نطالبه بثمنها، ثم إن بعضها مخرب، وما بقي فقد أرسلته لاستقبال ابن عمي، وهو راجع من زحل مصطحبا هدية ثمينة لمولاي.
فسأل العريف: أليس عندنا من مخلفات الجيش ما نقدر أن نستعمله؟
فتناول الوزير دفتر «المستحيلات» وقلب صفحاته وأجاب: بلى، يا سيدي، عندنا مظلة هوائية يستعملها القافز من الطيارة، إنما ... إنما ...
وصار الوزير يتلعثم، فحنق العريف وصرخ: إنما ... ماذا؟
أجاب الوزير: لقد اقتطعنا من نيلونها سروالا أهديناه إلى رئيس بلدية «الثريا»، أنت تذكره يا مولاي، رجل مخلص، كذلك انتزعنا الكثير من حبالها لنشر غسيل الوزراء يا مولاي، إذ إن الصحافة ترش عليهم الوحول، فأثوابهم أبدا قذرة يلزمها التنظيف، وإني أخاف إن نحن أعطينا المظلة لطعبروس ألا تنفتح حين يقفز فيهلك، وإن انفتحت، ذلك الخرق ... سروال رئيس البلدية يا مولانا ...
طعبروس إله الغلو والادعاء.
وسرعان ما دار عريف الآلهة وخاطب طعبروس: معاذا أن ينسى عريف الآلهة رجاله المخلصين، إني لا أريدك أن تذهب إلى الكرة الأرضية كرجل عادي في سيارة أو «جيب»، انزل إليهم كبطل، لقد جهزت لك مظلة هوائية جديدة من مخلفات الجيش، ومن صنع الأميركان، وأنت تعرف أنهم لا يصنعون إلا الأجمل والأفخم والأمتن.
فشكر طعبروس للعريف حنانه وشد المظلة إلى كتفيه وقفز، وراح العريف يتطلع من كوة السماء مقهقها فرحا أنه تخلص من شخص يذكره بمعاركه الماضية، واستفاقت «ساديته» فحدق بالأرض يريد أن يرى طعبروس يلتطم بالأرض فيتمزق، غير أن طعبروس حينما وقع لم يصطدم إلا بكومة رمال، فسرعان ما انتصب واقفا على قدميه سالما، فأحرق مظلته وتأبط برميله، ومشى صاخبا يحدث نفسه بالفتك والأخذ بالثأر، ويحلف بأن يثير على العريف سكان البسيطة، وما طال سيره حتى لمح بدويا شرس الوجه يرعى جمالا ويحمل بارودة، فهلع طعبروس وصاح: أنا بوجهك با بدوي .
أجاب البدوي: كنت على همة أن أرديك برصاصة، ولكنك سبقتني إلى الاستجارة، فما أنا بقاتلك، ولكن قل لي: من أنت، وما تريد؟ وهات، أعطني نهلة من هذا البرميل الذي تحمله فإني عطش.
ومد البدوي يده، وقلب البرميل إلى شفتيه، وسرعان ما بصق ما دخل فمه، وشتم طعبروس الشرير الذي يحمل ماء لا يشرب.
قال طعبروس: رويدك يا بدوي، أنا جئت هذا المكان لإسعافك.
ما صنعتك؟
أجاب البدوي: أنا راعي جمال. - ومن هو شيخ القبيلة؟ - درداح الغمدوش. - ولماذا هو شيخ القبيلة وأنت راعي جمالها؟ - هذه إرادة الله، واحد يرأس القبيلة، وآخر يرعى جمالها.
قال طعبروس: ما أنا ممن يخالفون مشيئة الله، صدقت، إنه تعالى قسم المهن والأرزاق، وجعل للقبيلة شيخا يدير أمورها، وراعيا يتعهد جمالها، ولكنك يا بدوي أشجع من درداح الغمدوش، فلماذا لا تحاول أن تكون شيخ القبيلة وتترك هذه الإبل لدرداح؟
فلمعت عينا البدوي وعض على شفتيه، وشع وجهه بحلم جميل، الخيمة الكبرى هو يملكها، و... وتطلع بطعبروس من جديد وأجهم وجهه، وقال: اسمع يا مخلوق، إن كلامك معقول، غير أننا هنا في البادية نصغي إلى من يقول، لا إلى ما يقال، نحن هنا لا نخاف الإعصار، والجوع، والعطش، والأمراض، ورصاص العدو، ولكننا نخشى اللسان الذرب ... إخال كلامك شبيها ببرميلك، تنظر إليه فتحسب فيه ماء يروي، فما إن تنهل منه حتى تعرف طعمه الكريه، وكلامك تسمعه، فإذا هو مقنع، وفي يقيني أن من أراد السير على ما أنت به تبشر، سيعثر، لقد أمنتك على روحك، ولكني أخشى ثورة غضبي فأكفر بتقاليد قومي، هيا انصرف عني، رح إلى هناك إلى بلاد الحضر الملاعين في القرى والمدن؛ حيث الرجال ذوو أيد ناعمة ووجوه حليقة معطرة، هناك يحبون اللسان الذرب، وأحسب أن ستكون بينهم ذا شأن.
وكان طعبروس من أولئك القلائل الذين يفهمون الحكمة من أي سمعوها، ويعرفون أن يلتقطوها حيث كانت؛ لذلك أعجب بقول البدوي، فودعه وراح يقطع البادية ميمما قرى الحضر ومدنها، فأدى به التسيار قبيل الغروب إلى ضاحية قرية ، فرافق بعض فلاحيها، وكانوا منصرفين من حراثة أراضيهم وعائدين إلى قريتهم، وسمع الفلاحين يتحادثون فرحين، وأدى بهم الحديث إلى الدعابة، والدعابة إلى قول «القرادي» فزج طعبروس نفسه بينهم وسألهم: ما هذا الذي تنشدون؟
أجابوا بشيء من الخجل: نحن أناس أميون ننظم القرادي - في بعض الأحيان - للمباسطة وللغناء في الأفراح والمآتم.
أجاب طعبروس: إنكم لا تعرفون أي شيء قيم تملكون، ما هذا «قرادي»، هذا شعر، أنتم شعراء، أنتم الشعراء.
فراحت قلوب أولئك الفلاحين تدق جذلة كأنها أجراس الكاتدرائية في يوم العيد، ونفخوا صدورهم ورموا بمعاولهم وآلات الحراثة وطفقوا يصيحون في القرية: نحن شعراء، نحن شعراء.
وسرت الصيحة في القرى المجاورة ومدن البلاد، وصار كل من نظم في حياته، أو هم بنظم «قرادي» أو أي كلام عامي مقفى، يقف على سطح بيته أو شرفة منزله، ويصرخ «أنا شاعر»، واجتمع الشعراء فانتخبوا لهم أميرا وشيخا، وفرقوا الألقاب والأوسمة فرحين.
أما طعبروس فقد هزه فوزه السريع، فلم ينم تلك الليلة، شأن كل من ينعم ببكر انتصاراته، وفي فجر اليوم الثاني طفق يطوف في طول البلاد وعرضها، ولقي من الصحافيين أعوانا له، فإذا لاعبت فرقة من بيروت بالفوتبول فرقة من حلب سموها «مباراة دولية»، وإذا فاز تلميذ بدروسه سموه «النابغة العبقري»، وأشار على الناس، فأسسوا الجمعيات والمنظمات التي هي في حقيقة مراميها أبواق لطعبروس، وتحالف مع رأسمالي، فبنى مصنعا للمرايا المقعرة متى تطلع فيها الرائي وجد نفسه عظيما، فراجت تلك المرايا، وأغنت صانعها، ومن أرباح ذلك المصنع بنى الرأسمالي مصانع للأبواق والطبول، وأخذ طعبروس يدور على البيوت فيبيعها بدون ربح، حتى أصبح كل من السكان يحمل مرآة مقعرة في جيبه، وبوقا في يساره، ويعلق طبلا في رقبته، تضرب لحنا واحدا: «ما أعظمني!» وكان طعبروس شديد المراقبة، فلمح في تطوافه أن الأسلحة كثيرة في البيوت؛ فخشي على نفسه أن يؤلف الشعب جيشا، والجندي - جنرالا كان أم نفرا - هو مثال الطاعة والنظام والدعة والتواضع، وهذه صفات إن فشت قتلت نفوذ طعبروس، فحمل تلك الأسلحة أصحابها، وصاح بهم : «هيا أطلقوها في الجو!» ففعلوا وطربوا لدويها، إذ ذاك قام طعبروس فيهم خطيبا، وقال: أنتم الأبطال الصناديد، من غيركم يقوى أن يطلق الأسلحة في الهواء؟
فصاروا يطلقون الرصاص لأية مناسبة، فيصم آذنهم عن ضحك شرذمة من الشذاذ جاءتهم غازية واغتصبت بعض دورهم، ووقفت متسلحة يقظة توسع تخوم مغتصباتها شيئا فشيئا، وقد وجدت تلك الشرذمة في «طعبروس» أعظم حليف، إذ شغل القوم عن الدفاع عن دورهم بالإعجاب بنفوسهم، ونفخ ذاتيتهم المتضخمة.
وأصبح طعبروس كلما كثرت انتصاراته اشتد دأبه، فبنى حول تلك البلاد سورا عاليا، وأقنع الناس أن ليس وراء السور من بلدان، بل هو شيد حول كل قرية وشارع وضاحية سورا، وقال للسكان: «هذه هي الدنيا» فضيق الآفاق على الناس، وقصر طموحهم، ولم يعف عن معبد أو مدرسة، فزين للتلامذة ترك دروسهم والمشاغبة في الأسواق أملا بالتزعم، وصرف من كان شأنه تعهد المعبد عن الأغاني الروحية، إلى الصخب السياسي رجاء التسود.
وذات يوم طاف طعبروس مملكته، وقد استحس أنه أمسى فيها ملكا مطلقا، فوجد فيها شخصا واحدا قانعا يعنى بتربية النحل، ولا يأبه لشيء غيرها، وعبثا حاول طعبروس أن يقنع مربي النحل أنه شاعر، أو أنه خليق بأن يرشح نفسه للنيابة، وأخيرا جاءه طعبروس وهمس بأذنه: إني أريد أن أسر إليك اكتشافا ... فقد قرأت في «الحواشة السخفولية» أن نابليون هو جدك الأعلى، وأن الملكة اليصابات هي ابنة خالتك لجد جدك، فما بالك تربي النحل وأنت يليق بك أن تتربع دست الوزارة؟
فباع المسكين منحلته، وراح يشاغب على الوزراء رجاء أن يستبدل بواحد منهم.
وأصدر طعبروس طبعة جديدة - ملايين النسخ - من «الحواشة السخفولية» وفيها تواريخ عائلات البشر، وإشادة بذكر جدود الناس أجمعين، فمن عدم شيئا يتبجح به في نفسه، وجد في تاريخ أجداده موضوعا للتباهي يصرفه عن الجهود المفيدة.
هكذا نعم طعبروس في ملكه فكثرت الألقاب، والأوسمة، والحفلات، والمآدب، ونفخت الأبواق، وقرعت الطبول، وكان من الطبيعي، متى ازدحمت الأقدام وضخمت الذاتيات، أن ينشأ العداء، وكان الخصام على أشده في «شارع النيابة»، حيث تقاطر الناس بأجمعهم يريدون أن يجتازوه طريقا إلى «القبة»، حيث علق أكبر بوق وأضخم طبل، في قاعة حيطانها مرايا مقعرة.
واختفى الحب، وضاقت الأخلاق، وانمحى التسامح والحلم، وتكالب الناس على الظهور بمظاهر التفوق، ولم تعد الأسلحة تطلق في الهواء فحسب، بل صارت تطلق في الصدور أحيانا، ونقم الناس على الناس، وكفروا بما كانوا يؤمنون؛ إذ إنهم قبل طعبروس كانوا يؤمنون بأمور منها سخيفة أو ساذجة، ومنها كريمة شريفة، ولكنها كانت في مجموعها إيمانا يملأ النفس ثقة وإقداما، ويغسلها من أدرانها، «ويقولز» عناصرها، أما حينما ضخمت ذاتيتهم فقد فر الإيمان من صدورهم فماعت شخصياتهم، ألا ويل لقوم نفوسهم كهوف خالية هجرها الإيمان.
أما الآلهة فقد ساءهم إعراض الناس عنهم، فما يرتاد مفوضياتهم وسفاراتهم الزائرون، وضعف شأنهم فما يسمعون صلاة ولا ضراعة، فعادوا إلى العريف يشكون أمر طعبروس، ويخبرونه أن البشر انصرفوا إليه يعبدونه، في حين أنه ليست له صفة رسمية، وأن الأمر إذا استمر هكذا، فقد يضطر العريف إلى سحب ممثليه من الكرة الأرضية وشطبها من خارطة مستعمراته.
والحنق أنواع، أشده تلك الحمم التي تقذفها النفس إذ تغضب على نفس كانت لها مرءوسة؛ ولذلك نادى عريف الآلهة على مدير البوليس، وأمره أن يرمي كل كتب القانون في النار، وأن يختار من رجاله أشدهم بأسا وأوسعهم حيلة، وأن يهبط إلى الكرة الأرضية فيرجع منها بطعبروس أو بجثة طعبروس.
وانتصب مدير البوليس بعد لمحة أمام العريف فسأله هذا: ما بالك لم تذهب بعد؟ - سيدي ... إني رجعت ولم أجد من آثار طعبروس إلا برميله الفارغ! أما هو فقد عشش في رءوس الناس؛ لذلك لم أوفق بالعودة به حيا؛ إذ إنه مختف، وإني خشيت إن أنا قتلته أن أقضي على الناس أجمعين فهو في كل رأس، وطي كل قلب، وعلى كل لسان.
وتمطى الإله «فرنسوا»، وهو الإله العملاق الذي قتله الإله «جرمانيوس» بضربة من قبضته، وأعادته إلى الحياة الآلهة التي تكاثرت على «جرمانيوس» فدحرته، ولكن «فرنسوا» - وقد قتل عملاقا - بعث قزما بدون ذراعين، قال «فرنسوا » لعريف الآلهة: سيدي! أعدني إلى البشر حاكما عليهم، وإني أعدك بأن أمزق أعلامهم، وأذلل نفوسهم، وأطرد طعبروسهم، وأفتل ألسنتهم، فلا يتكلمون إلا اللغة التي تريد، وإني فوق ذلك منتزع من كوارتهم ما فيها من مئونة ينعم بها مولاي العريف وأصفياؤه من الحاشية.
غير أن عريف الآلهة أعتاد ألا يصغي إلى «فرنسوا»، ولكن أذنه اشرأبت؛ إذ سمع كبير الحكماء يقول: مولاي ... متى دخل إله قلب المرء ورأسه، وسرى على لسانه، فمن العبث محاولة طرده برجال البوليس، إني على ثقة أنه لن يطرد هذا المارق طعبروس إلا فنانونا، إني أشير على سيدي أن ينادي على النحاتين يبنون التماثيل لطعبروس، تنصب في ساحات الكرة الأرضية، ثم فليرسمه نبغاء مصورينا ولتعلق صورته في كل بيت، كذلك ليصفه كتبتنا وشعراؤنا.
فقلب عريف الآلهة شفتيه ساخرا غاضبا، وقال: ما كنت أحلم أن أعيش إلى يوم أسمع فيه الحمق من فم كبير الحكماء، ها أنا أريد الفتك، يا له شرير يعبدونه، وأنت تقترح التمثال والصورة والقصة والقصيدة لتفخيمه؟
أجاب كبير الحكماء: إني أبغي من ذلك إظهاره للناس ليروه، إن الناس لا يعبدون ما يرون ... إنهم يعبدون ما لا يرون!
وغطس عريف الآلهة في بحيرة التفكير، وراح يسبح حينا، ثم خرج منها مبتهجا، وأعلن أن رئيس الحكماء على صواب، فمتى رأى الناس طعبروس طردوه، لا سيما وقد فرغ برميله من النفط، فلن تخفى أقذار يده، وخلت يده من براءة توظيف يذر رمادها في العيون، ونادى على الفنانين ففرق عليهم جبال المرمر، وأوتار قلوب البلابل، وحفنة من قوس القزح، ونفخة من ريش الحساسين، وعبأ جراباتهم بأغاريد أطفال الملائكة، وصاح: عليكم بطعبروس، هذا عتاد الحرب والنصر بين أناملكم.
حفنة ريح
مهزلة في فصل واحد
بيروت سنة 1950
غرفة أثاثها غوغاء، في منتصف المسرح - إلى الأمام - صحارة قائمة على جانبها الضيق، وفوقها قطعة خشب ضخمة تستعمل في المطابخ؛ إذ يقطع عليها اللحم والخضار، على قطعة الخشب سكين مطبخ، وأشياش عارية، وخلف تلك الطاولة (الصحارة) فوتويل مثلث المقاعد ممزق، خاض الكثير من معارك الحياة، على يمين المسرح طاولة (صحارة) ثانية عليها آلة تليفون، على يسار المسرح فتى موسيقي يدوزن عوده، بضعة كراسي مبعثرة هنا وهناك بعضها مقلوب، في منتصف الحائط الذي يواجه النظارة باب صغير عليه ستارة ممزقة إلى يمين النظارة، يلاصق الحائط الخلفي سرير هو ثلاثة ألواح خشبية متمددة على ثلاث صحاحير، ناموسية السرير مرفوعة، على جوانب السرير، وعلى الناموسية كلسات، وربطة رقبة، وطربوش، وبنطلون وكلسون، إلى اليسار - فيما يلاصق الحائط - حذاء الباب الخلفي، مغسلة مهشمة عليها مرآة مكرسكوبية، وعلى المغسلة فرشاة أسنان وفرشاة ثياب وبعض أدوات الزينة، في منتصف المسرح طاولة صغيرة عليها مزهرية بدون زهور، على الأرض بقايا سكاير وقشر ليمون وزجاجات فارغة.
على السرير، يتقلب وجيه في بيجامته.
على المقعد المثلث يجلس فتى أنيق الثياب قصير نحيل، يلبس طربوشا خمريا يكاد يغطيه حتى أخمص قدميه، بين يديه عصا مذهبة المقبض، تعلم من كثرة تقليبه إياها، أنه اشتراها منذ ساعتين فقط، اسمه الشيخ نسيب وهاب، يسمع دق ويدخل نهاد العسكري، شاب في الثلاثين، خفيف الخطى، زواغ النظر، لطيف.
نهاد :
صباح الخير يا إخوان.
العواد :
صباح الخير.
الشيخ نسيب :
صباح الخير.
نهاد :
أين وجيه؟
الشيخ نسيب :
صار لي نصف ساعة أنتظره (وهو يشير إلى السرير)
نايم.
العواد :
صار لي (متطلعا إلى ساعة اليد التي يلبسها)
ساعة وربع، من ينتظر وجيه أن يفيق من نومه كمن ينتظر عنقود عنب يصير زبيبا.
نهاد :
مسكين ... وجيه تعبان، ليلة البارحة ألقى خطابا هز البلد، جئت أطلب نسخة منه، عدم المؤاخذة (يقترب من العواد مصافحا)
داعيك اسمه نهاد العسكري.
العواد (معجبا) :
صاحب جريدة «نهضة الفجر»؟! حصل لنا الشرف، داعيك «شوقي الحياك» صاحب أوركسترا «جوقة لبنان».
نهاد :
حصل لنا الشرف، سمعت جوقتك عدة مرات على الراديو.
الشيخ نسيب (يقترب منهما بحياء من يركبه ميسم الضعة
1
يمد يده لنهاد) :
أنا نسيب وهاب.
نهاد (هازا يده) :
وهاب ... وهاب ... حضرتك «الشيخ» نسيب وهاب. (الشيخ نسيب يضحك منرفزا.)
نهاد :
الشيخ فرج الله مدير الجمرك هو صديقي، هل هو قريبك؟
الشيخ نسيب :
عمي أخو أبي.
نهاد :
والشيخ عبد الله مدير جمرك الناقورة؟
الشيخ نسيب :
ابن خال عمي.
نهاد :
والشيخ شفيق ... مفتش المعارف؟
الشيخ نسيب :
ابن خال عمتي.
نهاد :
والشيخ عادل مهندس بلدية صيدا؟
الشيخ نسيب :
ابن عمة خالي.
نهاد :
وحضرتك؟
الشيخ نسيب :
البارحة صدر أمر بتعييني مفتشا في جمرك بيروت.
نهاد (يأخذ ورقة من جيبه وقلما) :
هذا خبر هام (يكتب): «يسرنا أن نزف إلى القراء الكرام بشرى تعيين صديقنا الأوفى الأستاذ الشيخ نسيب وهاب مفتشا في جمرك بيروت، والشيخ نسيب هو العبقري المتخرج من ...» (إلى الشيخ نسيب)
من أي كلية تخرجت حضرتك؟
الشيخ نسيب :
أنا لم أتخرج، أولاد صفي تخرجوا.
نهاد : «... والشيخ نسيب من خيرة شبابنا المثقف، وعبقري» (للشيخ نسيب)
لم تتخرج؟
الشيخ نسيب :
لا.
نهاد : «... من خيرة شبابنا المثقف ونابغة وقاد الذكاء» (إلى الشيخ نسيب)
لا تؤاخذني إن قلت: «نابغة» فقط لأني لا أحب المبالغة! (يعيد الورقة والقلم إلى جيبه ويمشي إلى السرير مخاطبا النائم)
وجيه ... وجيه ... قم، ثلاثة أرباع البلد في انتظارك، (مخاطبا العواد والشيخ نسيب)
هل أم ظريف هنا؟ (يتقدم من الباب الخلفي ويصيح)
يا أم ظريف، يا أم ظريف، أهلا وسهلا بعروستي أم ظريف (تظهر أم ظريف كهلة في حوالي الخمسين، صلبة العضلات، ضخمة، بارزة العينين على رأسها عصابة، وفي وجهها نظرة حنان تنكرت قسوة، تستشف من خلال خشونتها نعومة الأنوثة، يضع نهاد ذراعه على كتفي أم ظريف ويماشيها إلى مقدم المسرح) .
نهاد :
هل قرأت ما كتبته عنك في عدد أمس؟ (يريها الجورنال)
أم ظريف (بخيلاء) :
الحمد لله أني أجهل القراءة والكتابة.
نهاد :
هل ترك لي وجيه ورقة معك؟ أو وصية؟
أم ظريف :
ترك لك وصية، قال: يجب أن ترجع قبل أن تبدأ بطبع الجريدة؛ لأن عنده عجائب غرائب من الأخبار.
نهاد :
طيب، قولي له: إني راجع في أقل من ساعة، ألم يترك نسخة خطابه عندك؟
أم ظريف (تمشي إلى المزهرية وتنزع منها أولا كلمات، ثم أوراقا) :
ترك هذا.
نهاد :
هذا هو؟ سلم الله يديك يا أم ظريف ، هذا خطاب وجيه.
أم ظريف :
أوصاني وجيه أن أسألك: إن كنت تحب أن تدفع ثمن الخطاب.
نهاد :
وجيه يعرف أني لا أدفع ثمن الخطابات، أما إذا كان عنده أخبار فهذه أدفع ثمنها، بخاطرك يا أم ظريف، بخاطركم.
نهاد (للشيخ نسيب) :
نسيت أن أسألك عن معاش الوظيفة.
الشيخ نسيب :
أنا لا يهمني معاش، حالتنا المالية حسنة بحمد الله.
نهاد :
خطر على بالي أمر، أحب أن أنشر صورتك تفضل معي، عندنا مصور في الإدارة.
الشيخ نسيب (يقترب من المرآة فيصلح من شأنه، ويلوح بالعصا مزدهيا) :
ولكني أريد مقابلة وجيه.
نهاد :
تقدر أن ترجع بعد ربع ساعة.
نهاد :
بخاطرك يا أستاذ.
الشيخ نسيب :
بخاطرك يا أستاذ.
العواد :
بخاطركم يا إخوان.
نهاد (على الباب) :
يا أم ظريف، قولي لوجيه: إن تلك العجائب - الأخبار التي وعد بها - يجب أن تكون حوادث حقيقية، لا حوادث رآها في المنام.
الشيخ نسيب :
أخبري الأستاذ وجيه أني راجع (نهاد والشيخ نسيب ينصرفان، يرجع عواد يدوزن عوده ويتغنى ب «يا ليل» مرة بعد مرة، أم ظريف تخرج من الباب الخلفي وترجع بمكنسة ومجرود فتطوف في الغرفة مقومة كرسيا هنا ومتاعا هناك، تلتقط أكعاب السكاير خفية وتخبئها في تنورتها، تظهر اشمئزازها من العواد؛ إذ هي تسد أذنيها مرة، وتهم بأن تنزل على رأسه بالمجرود والمكنسة، إلخ ... يرن التليفون فتضع أم ظريف السماعة على أذنها) .
أم ظريف : ... تضرب بعينك (ترجع السماعة) .
العواد :
ماذا جرى؟
أم ظريف :
هلو ... هلو. من قال له: إني أحكي فرنساوي. (تقترب من سرير وجيه وتهزه حانقة.)
أم ظريف :
انهض، قم. (ينهض وجيه ثم يعود إلى السرير متثائبا، فتى دون الثلاثين، قصير، شاحب، طويل الأنف بارز العينين، نحيل، عصبي المزاج، كلامه نبر، ولهجة حديثه ثورة واحتجاج وسخرية.)
العواد :
بقي لي في انتظارك أكثر من ساعة يا أستاذ وجيه.
وجيه :
كم الساعة الآن؟
أم ظريف :
الساعة العاشرة والنصف من صباح 31ك 2، هذا 31 الشهر، أتدري ماذا يجري في آخر الشهر؟
وجيه :
آه من آخر الشهر، آخر الشهر يقبض الموظف معاشه، ولكن أين أنا من الوظيفة؟
أم ظريف (متوعدة) :
آخر الشهر يدفع المستأجر الإجار، أفهمت؟ خمسة عشر شهرا وأنت ساكن هذه الغرفة، أين الإجار؟
وجيه :
يا أم ظريف ...
أم ظريف (مقاطعة) :
آخر الشهر تقول لي: أدفع في أول الشهر، أول الشهر تقول لي: أدفع في آخر الشهر.
وجيه :
يا أم ظريف ... هذا زمن لا يعرف أوله من آخره.
أم ظريف :
كيف تريد أن أعيش في هذه الدنيا؟ لا ابن ولا ابنة ولا زوج ولا قريب، أنا وحيدة.
وجيه :
الله معك يا أم ظريف.
أم ظريف :
هذه غرفة سكن جعلتها مطبخا (ترفع أشياش اللحم وتضربها على الخشبة)
لحم مشوي الصبح، لحم مشوي المساء، لحم مشوي نصف الليل، لحم، لحم ...
وجيه :
الأسود لا تأكل ملفوفا، والنمور لا تمضغ البطاطا.
أم ظريف :
ضيوف وضيوف، جماهير تدخل وجماهير تخرج، انظر إلى الأرض وأقذارها، انظر إلى قشر الليمون، أهذه غرفة سكن أم ياخور (إصطبل).
وجيه :
ياخور (إصطبل) ... يسكنه جواد كريم!
أم ظريف :
خطب وأشعار، وهيصة وصياح، والآن (تقترب إلى خلف العواد صارخة) «يا ليل» (يجفل العواد) .
وجيه :
فنجان قهوة يا أم ظريف، «موتور» دماغي لا يشتغل بدون قهوة.
أم ظريف :
قهوة؟! خمسة عشر شهرا بدون أن تدفع إجار الغرفة، والآن تطلب قهوة؟! والقهوة سعرها بالجو.
وجيه :
ما هذا بعذر. القهوة سعرها بالجو، الطحين سعره بالجو، الثياب سعرها بالجو، الشعب طائر في الجو، الوزارة والحكومة بالجو، كلنا بالجو.
أم ظريف :
وفنجان القهوة بالجو.
وجيه (مؤنبا عاتبا) :
هذا جزاء المعروف! كم مرة نشرت الجرائد صورتك؟! كم مرة كتبوا عن أم ظريف وغرفة أم ظريف؟ عرفتك إلى الوزراء والنواب والصحافيين، غرفة أم ظريف في بيروت أشهر من قلعة بعلبك في بعلبك، أنت أشهر رجل في بيروت.
أم ظريف (على الباب) :
أنا أشهر رجل في بيروت؛ لأني الرجل الوحيد الذي يؤجر غرفة ولا يقبض إجارها (تنصرف) .
العواد :
من فضلك يا أستاذ، صار لي أكثر من ساعة أنتظر.
وجيه (بعد أن يفتش جميع أنحاء الغرفة وجيوبه) :
معك سيكارة؟
العواد (يعطيه سيكارة) :
تفضل.
وجيه (بعد أن يفتش) :
معك كبريتة؟ (العواد يولع له السيكارة.)
وجيه :
تشكرات، هل أعددت اللحن؟ هل اقتضبته؟
العواد :
نعم، فعلت ما تريد، سيعجبك اللحن.
وجيه :
وستعجبك الأغنية.
العواد :
إن شاء الله.
وجيه :
وستشتريها مني.
العواد :
إن شاء الله، إنما من فضلك عجل، صار لي ساعة أنتظر.
وجيه (يطوف الغرفة مفتشا عن شيء لا يجده) :
اسمح لي أن أغسل وجهي أولا، على فوقه، معك صابونة؟
العواد :
صابونة؟!
وجيه :
طبعا ما معك صابونة، سؤال سخيف، (مناديا)
يا أم ظريف، أين الصابونة؟
أم ظريف (من الداخل) :
أي صابونة؟
وجيه :
أي صابونة كانت، حمراء أو بيضاء، طويلة أو قصيرة ... سمينة أو نحيلة، فتية أو عجوز، شيوعية أو ديمقراطية، سلافية أو إنكلوسكسونية، بشرط أن تكون صابونة.
أم ظريف :
آخر صابونة اشتريتها ذابت في أيام الصيف.
وجيه (يقترب من المغسلة ويتكلم إذ هو يغسل وجهه) :
هل لاحظت أن أكثر الصابون مغشوش في هذه الأيام؟ يعني أنه يوسخ أكثر مما هو ينظف.
العواد (متبرما) :
نعم، لاحظت، من فضلك صار لي ساعة أنتظر.
وجيه (وقد فرغ من غسيل وجهه وبل شعره) :
معك منشفة؟ طبعا ما معك منشفة، (ينشف بالستارة التي تزين الباب الخلفي)
معك مشط؟
العواد (يأخذ المشط من جيبه ويعطيه لوجيه) :
تفضل.
وجيه (ممشطا شعره، هنا يستحيل وجيه من فتى ماجن إلى فنان يقظ) :
أسمعني النغم، أريده خطفا كله حياة، نغم ناعم، ولكنه ليس بنائم.
العواد :
الأغنية يا أستاذ، صار لي ساعة أنتظر.
وجيه (يفتش بين الأمتعة فلا يجد الأغنية) :
لعلها هنا (تحت الفراش)
لا، هذه رواية تمثيلية، (يأخذ الحذاء وينزع منه ورقة)
لا، هذه مقالة للمقتطف، ها، ها، (يأخذ الطربوش وينتزع من تحت الإطار الجلدي الداخلي ورقة يعطيها للعواد هذه هي - فيما يلعب العواد هذه القطعة ويغنيها، وجيه يلقي كلماتها شطرا شطرا، بحيث يفهمها الجمهور) .
عاش تعسا من شكا آلامه
وتناسى أمد العيش القصير
صهر اللذة من أوجاعه
كل من يضحك منها ويسير
اللازمة
ماذا لو غاب القمر
ماذا لو صد الحبيب
ماذا لو طال السهر
ماذا إن تمسي غريب
هذه الدنيا سراب
بطلانها مثل الصحيح
هي حلم شارد
بين مهد وضريح
أسرفت في الصمت عن
أسرارها ما إن تبيح
كل ما نجنيه من
إعصارها حفنة ريح
هي نار العيش من يعبدها
أحرقته وهجها ما إن ينير
من جفا الأحلام لم يفجع بها
وازدرى الأموال لا يمسي فقير
اللازمة
لا تبايع مثلا عليا فلا
تطلب في الناس نبلا ووفا
ذاك نهر العيش لن تشربه
نهلة ترويك منه وكفى (خلال الغناء تظهر أم ظريف في الباب الخلفي، فإذا انقطع الغناء تجهش في البكاء، فتمسح عينيها بمريولها، وتنفخ أنفها به وتنهزم إلى الداخل.)
وجيه :
أعجبتك الأبيات؟
العواد :
أبيات بديعة، شعر رفيع.
وجيه :
أعتقد أنك مستعجل، الأفضل ألا تضيع وقتك، مائة ليرا (تظهر أم ظريف) .
العواد (يعيد القصيدة لوجيه ويتهيأ للانصرف) :
آسف؛ أن لا أقدر أن أشتريها.
وجيه :
هاه؟ لم تعجبك؟
العواد :
قلت لك: إنها بديعة. (أم ظريف من خلف العواد ترسم بأصابعها علامة الخمسين.)
وجيه :
إذا كانت المائة ليرا مبلغا كبيرا فيكفي خمسون.
العواد :
لا، آسف أن لا أقدر أن أشتريها. (أم ظريف ترسم بأصابعها علامة العشرين.)
وجيه :
يا سيدي، نحن أبناء الفن إخوان، عشرون ليرا تكفي.
العواد :
لا تؤاخذني ... (أم ظريف ترسم علامة الخمسة.)
وجيه :
خمس ليرات كافية.
العواد :
الحق يا أستاذ أني لا أقدر أن أغني هذه الأبيات في حفلة.
وجيه :
لماذا؟
العواد :
أولا: ما فيها «يا ليل».
وجيه :
زد عليها ألف «يا ليل»، بدون أن أرفع عليك السعر.
العواد :
ثم ... ثم ... ينقصها كثير من الشعر، العيون، النهود، اللعاب، الخدود، الشعر، الجبين، الشفاه.
وجيه (متهكما) :
العيون، النهود، اللعاب، الخدود، الشعر، الجبين، الشفاه، حضرتك تطلب أغنية شعرية أم محاضرة فسيولوجية؟
العواد :
أريد شيئا من القلب.
وجيه :
هل تحفظ السر؟
العواد :
بالطبع.
وجيه (هامسا بعد أن يتطلع حواليه كأنه يتأكد أن ليس من يسمعه) :
لا تخبر أحدا، إنما أنا لا أقدر أن أنظم شيئا من القلب.
العواد :
صحيح؟! لماذا؟
وجيه :
لأنه ليس لي قلب! (حانقا )
اللعاب ... النهود، صدقت أني أبيعك هذه الأبيات بخمس ليرات؟! هاه! عندي مشتر بخمسين ...!
العواد :
إن شاء الله.
وجيه :
ومشتر غيره بخمسماية.
العواد :
إن شاء الله!
وجيه :
وغيره، وغيره بألف ليرا.
العواد :
إن شاء الله، إن شاء الله، بخاطرك، (يختفي في الباب الأيسر) .
وجيه (صارخا خلفه) :
إن شاء الله تقع على الدرج، وتكسر عودك ورقبتك، (إلى أم ظريف)
أسمعت القصيدة؟
أم ظريف :
قصيدة عظيمة، عظيمة، ما فهمت منها ولا كلمة.
وجيه :
هذه القصيدة سينقشونها على صخرة الجلاء، ويحفرونها على جبين «السفنكس»، ويطبعونها على مياه الفرات والأردن، ولكن لا يشترونها بخمس ليرات (يرمي السيكارة فتلتقطها أم ظريف وتبدأ في تدخينها، وجيه يرتمي على المقعد المثلث فتقترب منه أم ظريف مواسية تلاعب شعره) .
أم ظريف :
آه يا بني، آه يا وجيه، لماذا أنت هكذا؟ ما أنت أقرع ولا أعور ولا أعرج ولا غبي ولا أمي، الناس يحبونك.
وجيه :
الناس يحبون الفاشلين، وضعف الخائبين يظهر ما في الناس من قوة.
أم ظريف (مكملة دون أن تفهم ما نطق به وجيه) :
لماذا غيرك يتنعم بالأوتوموبيلات ...؟
وجيه :
وأنا عائش على اللحم المشوي؟ اسمعي يا أم ظريف، أرأيت هذا العواد يدوزن عوده؟ بعض الناس يدوزن عوده بلحظة، بعضهم بسنة، والبعض يولد وعوده مدوزن، أما أنا فكلما حاولت دوزنة عودي وجدته مقطع الأوتار.
أم ظريف :
هذا غضب الله عليك؛ لأنك كفرت به، وقسوت على إحدى مخلوقاته.
وجيه :
هل جننت؟ عمن تتكلمين؟
أم ظريف :
أتكلم عنك، وعن خطيبتك عايدة، سيبيض شعرك قبل أن تتزوج.
وجيه :
هذا أوفق من أن يبيض شعري بعد أن أتزوج!
أم ظريف :
مسكينة عايدة، هي ملاك، لم أسمع بابنة بقيت مخطوبة سبع سنوات إلا عايدة، عجل وتزوج، كم عمرك الآن؟
أم ظريف :
تسعة وعشرون تشرينا أولا، لولا الغرام، لولا عايدة لكانت تسعة وعشرين ثانيا.
أم ظريف :
عايدة! يا لها من فتاة جميلة، مهذبة عاقلة (تبكي)
كل رفيقاتها أصبحن زوجات وأمهات، وهي في انتظارك، لماذا لا تتزوجها؟ ما عيبها؟
وجيه :
فيها عيب كبير.
أم ظريف (تتحداه ) :
عايدة ملاك، كذب كل من نقل عنها خبرا، عيبها كبير؟! ما هو؟
وجيه :
عيبها أن لها أما، اخترعوا طيارة بدون جناح، وقلم حبر يكتب بدون حبر، لماذا لا يخترعون زوجا بدون حماة؟
أم ظريف :
أم عايدة، مدام زعرور، سيدة فاضلة، ما اعتراضك عليها؟ ألعلها تعارض في الزواج؟!
وجيه :
يا ليتها تعارض، كان الأمر هينا، لكنها تريد شيئا مستحيلا، تريد مصاغا، اسمعي ماذا تريد أن أشتري، (يمشي إلى يمين النظارة ويقرأ من الحائط هناك) : (1) خاتم خطبة، ثم خاتم زواج. (2) زوج حلق كوكتيل.
من يفهم علاقة الحلق بالكوكتيل؟ لا أم ظريف تفهمه، ولا أنا أفهمه، ولا أبو حنا تولستوي يفهمه! (3) دبوس بلاتين. (4) إسوار ألماس. (5) (متهجئا)
ب... ن... د... ن... ط ... بندنطيف.
ها لطيف! وأنا من أنواع الجواهر، لا أقدر أن أقدم إلا لحما مشويا، (يرن التليفون) .
وجيه (على التليفون) :
هلو ... هلو ... نهاد، آسف إن كنت نائما، عندي أخبار تهز البلد، لا أريد أن أقولها على التليفون، الأخبار لها ثمن يا أستاذ، أي ساعة تبدأ بطبع الجريدة؟ مر علي بعد نصف ساعة، لا تنس أن تجلب معك عملة، أنا أحب الاشتغال بالنقدي، بخاطرك (يقفل التليفون، إلى أم ظريف)
هذا نهاد العسكري صاحب «نهضة الفجر».
أم ظريف :
ما هي الأخبار التي تهز البلد؟ أخبرني، أنا لا أخبر أحدا.
وجيه :
أنا ما عندي أخبار، وأنت هل عندك أخبار؟
أم ظريف :
ولماذا كذبت عليه؟
وجيه :
ولماذا يكذب غيري على غيره؟ للضرورة، للحاجة، وبعض الأحيان بحكم العادة، على كل حال، مدام زعرور ستشرفنا بعد قليل، وهي دائما حمالة أخبار (يأخذ المكواة من الصحارة فيحملها بيساره، ويضع بنطلونه على كتفه)
لا تخافي على الإجار؛ سأصير غنيا، سأبني بناية كبيرة أسكن في غرفة منها وأنت تتولين قبض الإجارات، (في الباب الخلفي ورافعا المكواة)
سأبني ألف بناية، وسأحتج على قانون الإجار، نحن نغامر برأسمالنا ونبذل مئات الألوف ونبني فوق رءوس الناس سقفا يقيهم المطر، والشمس، والبرد والصواعق، والرعود، ثم في آخر الأمر نمسي عرضة لاستبداد هؤلاء ... هؤلاء ال ... مستأجرين (ينصرف .)
أم ظريف (تلتقط القصيدة وتحاول قراءتها وغناءها) :
ع ... ا ... ش ... تيسا من جفا ... ا ... لا ... مه ... أمه. عاش تيسا من جفا أمه (فيما هي تعيد الأغنية يدخل صانع اللحام من الباب الأيسر، ويقترب ويتنحنح فتجفل أم ظريف وتصرخ خائفة غضبى) .
أم ظريف :
من أنت؟ وما تريد؟
صانع اللحام :
أنا مسعود صانع اللحام، معلمي توفيق أرسلني لكي أحصل من وجيه أفندي.
أم ظريف :
تحصل ماذا؟
مسعود :
أحصل فلوس، عملة، ثمن اللحم، منذ ثلاثة أشهر ووجيه أفندي ما دفع.
أم ظريف :
وجيه ليس هنا.
مسعود (يدير عينيه في الغرفة غير مصدق، ثم يعطيها ورقة) :
على كل حال سلميه، هذه قائمة الحساب، وهذا مكتوب لوجيه أفندي.
أم ظريف :
كم هو الحساب؟
مسعود :
125 ليرا و14 قرشا.
أم ظريف :
والمكتوب ماذا يقول؟
مسعود :
اقرئيه.
أم ظريف (بفخر) :
أنا لا أعرف القراءة والحمد لله، اقرأه أنت.
مسعود (يقرأ) :
حضرة الأجل الأمجد سري الهمم وجيه أفندي المحترم، بعد تقديم واجب الاحترام لشخصكم الكريم، يلعن دين ساعة بعت لحم بالدين، ويلعن دين ...
أم ظريف (مقاطعة) :
رح الله يلعنك ويلعن معلمك (تطرده وتدفعه)
اطلع ... اخرج ... تخيب.
مسعود (على الباب) :
الله يلعني إذا جلبت لكم لحما.
أم ظريف :
الله يلعنك إن جلبت لحما، والله يلعنك إن لم تجلب لحما. (ترجع أم ظريف إلى المقعد تتمتم لنفسها، وتضرب كفا على كف حزينة قلقة) من يوم مات زوجي تزوجني الشيطان، شيطان الفقر، ما آلم أنيابك إذ تعض، وأسمها إذ تلسع، مرض لا يقتل ولا يشفي، تحس أن في عروقك ألف ثعبان، وعلى لسانك أقة فلفل، وعلى عينيك نظارات تريك الدنيا جهنما، والناس أبالسة، (تخاطب شيطان الفقر كأنه جالس إلى جانبها) ابتعد عني، من جاء بك إلى هذه الدار يا لعين؟ ابتعد، قلت لك اخرج! (تركض إلى حذاء الباب الخلفي وتأخذ المكنسة والمجرود، وإذ ترجع ترى أن الشيطان قبالتها)، أنت دائما لاحق بي، ما ألأم هذه الابتسامة على وجهك! سنطردك من هذه الدار، أنا ووجيه، فهمت؟ الله يلعنك! (تنزل بالمجرود والمكنسة ضربا على الشيطان الذي تتوهم أنه قبالتها صاخبة شاتمة، تدخل مدام زعرور.) (بعد هذا المشهد وفي الأوقات المناسبة أم ظريف تخاطب الشيطان، وتضربه متمتمة كلاما غير مفهوم.)
مدام زعرور :
أم ظريف!
أم ظريف :
مدام زعرور!
مدام زعرور :
ماذا جرى؟ من تقاتلين؟
أم ظريف :
أقاتل ال ... برغش.
مدام زعرور :
كيف حالك؟
أم ظريف :
كيف حالك؟ (تعيدان هذا السؤال بضع مرات.)
مدام زعرور :
حالي في الويل، يا ذلي على عايدة.
أم ظريف :
سلامتها، ماذا جرى؟
مدام زعرور :
جرى كل شيء، يا ذلي! (تنتحب، أم ظريف تهدئ روعها ب «طولي بالك، لخير إن شاء الله» ثم كأنها فطنت لأمر فتصرخ: «جرى كل شيء؟!» وتروح تنتحب وتلبث الاثنتان في لغب من دموع ونشيق وشهيق وعصر أنفين.)
أم ظريف :
هل عايدة بخير؟
مدام زعرور :
بخير والحمد لله، تركتها عند الخياطة، وستكون هنا بعد قليل، إنما يا أم ظريف خربنا، صرنا أضحوكة الناس، سبع سنوات خطبة! أين وجيه؟
أم ظريف :
وجيه في المطبخ (مشيرة إلى الداخل)
يكوي بنطلونه، كنا نتحدث في موضوع الزواج هذا الصباح، وجيه مستعد للزواج.
مدام زعرور :
مستعد للزواج؟ بدون صيغة؟ الموت أهون، لا خاتم (ترجع للنحيب)
ولا إسوار!
أم ظريف (منتحبة) :
ولا حلق!
مدام زعرور :
ولا كستاك ذهب!
أم ظريف :
ولا ساعة!
مدام زعرور :
ولا دبوس!
أم ظريف :
ولا عقد!
مدام زعرور :
زواج ابنتي مستحيل!
أم ظريف :
وعدم زواج ابنتك مستحيل!
مدام زعرور :
ما العمل يا أم ظريف؟
أم ظريف :
لماذا لا نجرب الغيرة؟
مدام زعرور :
ماذا تعنين؟
أم ظريف :
اسمعي، الرجال خلقهم الله غيورين، قولي لوجيه: إن عايدة ستتزوج رجلا - أي رجل - ترينه يسحب الخواتم من بزر البطيخ والحلق من قشر الباذنجان، (متذكرة)
المرحوم زوجي رفض أن يدفع لأبي ليرتين إنكليزيتين مهري، حين علم أن لي طالبا دفع ليرتين إنكليزيتين وريال مجيدي.
مدام زعرور (سكرى بالإعجاب) :
الله، ما أوفر عقلك! لو أن دماغك ترابة إفرنجية «شمنتو» لكان رأسك أكبر من معامل «شكا»، صحيح، الرجال غيورون، رحم الله زوجي، ما فاتح أبي وأمي بالزواج حتى ابتدأ ابن عمه يسهر عندنا، إنما أي رجل نقول لوجيه إنه سيتزوج عايدة؟
أم ظريف :
أي رجل كان، (قرع على الباب الأيسر)
تفضل. (يدخل الشيخ نسيب.)
أم ظريف، مدام زعرور (بعد أن تتبادلا النظرات ذات المعنى) :
أهلا وسهلا! أهلا وسهلا! تفضل، اجلس هنا، على هذا المقعد.
الشيخ نسيب (مستغربا هذا التأهيل غير المنتظر) :
نهاركم سعيد، الأستاذ وجيه ينتظرني؟
مدام زعرور :
نحن ننتظرك.
أم ظريف :
نحن ننتظرك.
الشيخ نسيب :
خير إن شاء الله!
مدام زعرور :
هيئتك ابن عائلة، ابن أوادم، أنت شاب، شريف، مهذب ...
أم ظريف : ... أنت أعزب، أليس كذلك؟
الشيخ نسيب :
بلى، أنا أعزب.
مدام زعرور :
اسمع يا ابني، أنا أرملة ...
أم ظريف :
وأنا أرملة ...
الشيخ نسيب (مرتعبا) :
أنا لست طالب زواج ... في الوقت الحاضر.
مدام زعرور :
لم تفهم قصدنا، ابنتي، ابنتي ...
الشيخ نسيب :
الله يرسل لها عريس، أنا لا أطلب الزواج.
مدام زعرور :
اسمح لي أن أشرح لك ...
الشيخ نسيب :
اشرحي ما تريدين، بدون زواج.
أم ظريف :
اصبري حتى أقفل الأبواب، (تقفل الباب الخلفي والباب الأيسر) .
مدام زعرور :
يا ابني، عندي ابنة اسمها عايدة، ابنة وحيدة، مهذبة، جميلة، عصرية، تطبخ، ترقص، تغني، تلعب بيانو ...
الشيخ نسيب :
الله يخليها ويرسل لها عريس، غيري.
مدام زعرور :
صار لها مخطوبة لوجيه سبع سنوات.
الشيخ نسيب (كمن رمى عن كتفه حملا) :
الحمد لله! مخطوبة، شيء جميل.
مدام زعرور :
إنما كلام الناس غير جميل، صرنا أضحوكة وموضع الهزء والسخرية، نريد أن نعجل الزواج، وجيه دائما يؤجل يوم العرس، نرجوك أن تتظاهر أنك خطبت عايدة، هكذا وجيه تلذعه الغيرة؛ فنعجل بالزواج، أرجوك بل أتوسل إليك، هكذا تكون عملت معي معروفا، أنا الأرملة الشقية، ومع صديقك وجيه، احسبها دور تمثيل، احسبها مزحة ...
الشيخ نسيب :
بعض مرات عاقبة المزاح وخيمة ...
أم ظريف :
شاب مثلك وفي عمرك يخاف العواقب؟
مدام زعرور :
أرجوك، أتوسل إليك (تنتحب) .
الشيخ نسيب :
طيب، سأتظاهر، إنما اذكري أن المسألة هي تمثيل فقط. (صوت قرع من الباب الخلفي ووجيه يصيح: «افتحي يا أم ظريف ، لماذا أقفلت الباب؟» أم ظريف تفتح الباب.)
وجيه (لابسا البنطلون مكويا كيا مضحكا، يخرج وهو يصلح من ساقي البنطلون) :
لا يفهم هندسة هذين الخطين إلا البروفسور آنشتين، (ينهض ببصره فيرى مدام زعرور والشيخ نسيب)
أهلا بخالتي هدى! (يقبل يديها، هذه تقف وقفة مقاتل)
كيف حالك؟ أين عايدة؟ كيف حال عايدة؟
مدام زعرور (كلامها مشدد ذو معنى) :
عايدة والحمد لله بألف وأربعماية وستين خير، ستكون هنا بعد قليل، تركتها عند الخياطة.
وجيه (متابعا) :
وأنت يا شيخ نسيب؟ أهلا وسهلا بك، أشكرك لمجيئك، تفضلوا! (الشيخ نسيب يقتعد كرسي العواد، ومدام زعرور الكنباية، ويجلس وجيه على حافة الكنباية، أم ظريف كلها عيون، وآذان، تجلس قرب آلة التليفون.)
وجيه (للشيخ نسيب) :
بالطبع، لا بأس بفنجان قهوة؟
الشيخ نسيب :
أشكرك، أنا ممنوع عن القهوة.
أم ظريف :
ووجيه ممنوع عن القهوة!
الشيخ نسيب :
أرسلت في طلبي، خير إن شاء الله!
وجيه :
يا شيخ نسيب، فهمت من مصدر حكومي عال أنك تعينت في الجمرك.
الشيخ نسيب (مدغدغا جيبه) :
نعم، صدر الأمر.
وجيه :
لذلك سألتك أن تأتي إلى هنا؛ أولا: لأهنئك بالوظيفة ...
الشيخ نسيب :
أشكرك.
وجيه :
وثانيا: لأسألك أن تستعفي من الوظيفة.
الشيخ نسيب (مبهوتا) :
هاه؟!
وجيه :
أريد أن أخبرك أني أنا كنت موعودا بهذه الوظيفة، وأن المرجع الحكومي العالي قال لي: إنك إذا استعفيت أنت، يعطوني الوظيفة لي، أنت فتى تحب عائلتك؟
الشيخ نسيب :
بالطبع أحب عائلتي.
وجيه :
إذن فاعلم أن عائلتك في خطر، إن الناس بدءوا يشمئزون من احتكاركم وظائف الحكومة، حذار! حذار من الرأي العام! من خلع القياصرة عن عرش موسكو؟ الرأي العام، من طرد سلاطين بني عثمان؟ الرأي العام، من أعدم لويس السادس عشر؟ الرأي العام، فيا شيخ نسيب، أريد أن أصارحك أن الرأي العام بدأ يثور على عائلتكم!
الشيخ نسيب :
بلادنا ليس فيها رأي عام، أين هو؟ أنا لا أراه.
وجيه :
خطر الرأي العام في أنه لا يرى، شبه الرصاصة لا تراها حتى ولو خرقت رأسك. افتكر، تمعن في الأمر، المسألة مسألة موت وحياة.
الشيخ نسيب :
سأسأل خالي ، إذا أراد أن أستعفي، أستعفي.
وجيه :
ثم أنا أستغرب أن فتى نجيبا مثلك يدفن نفسه في الجمرك، بالطبع أنت أديب؟
الشيخ نسيب :
آ ...
وجيه :
يعني أنك تنظم الشعر وتجيد النثر، وعندك طموح أن تصبح أديبا كبيرا.
الشيخ نسيب : ... بالطبع ...!
وجيه :
هل سمعت بأديب توظف في جمرك؟ امرؤ القيس هل كان موظفا في جمرك؟ أبو العتاهية، حافظ إبراهيم، خليل مطران، الفرزدق، جرجي زيدان، هل توظفوا في الجمارك؟ هل تريد أن تدفن عبقريتك ونبوغك بين بالات الخام والعنبر كيس؟
الشيخ نسيب :
اسمح لي بسؤال: لماذا حضرتك راغب في هذه الوظيفة؟
وجيه :
لأن الله خلقتني غيورا على المصلحة العامة.
الشيخ نسيب :
وأنا ...
وجيه :
أنت! في عمرك! في نبوغك! غامر! هاجر! من أسس الهلال، والمقتطف والأهرام والمقطم؟ فتيان مثلك هاجروا، من جمع الثروات الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها، فتيان في عمرك هاجروا، لم لا تهاجر؟
الشيخ نسيب :
وحضرتك لم لا تهاجر؟
وجيه :
إن سافرنا كلتنا من يبقى هنا لاستلام حوالات المهاجرين؟ آ، يا شيخ نسيب، إن الغمار والهوى تملأ الدنيا، حيث أدرت عينيك، لو فتحت عينيك (يأخذ جريدة عن الطاولة)
خذ مثلا هاتين الفتاتين الأميركيتين، هذه اللابسة قميص السباحة، شيء جميل آه؟ (يقرأ) : الآنسة نانسي كلاركس ابنة صاحب أكثر فبركة مسامير في أوهايو، الولايات المتحدة، وهذه اللابسة البنطلون (يقرأ) : الآنسة إليزابث ووكر ابنة صاحب فبركة ملاعق في «شيكاغو»، هما هنا في بيروت في لوكندة «زهرة بيروت»، هل تعرف الإنكليزية؟
الشيخ نسيب :
أتكلم الإنكليزية.
وجيه :
ماذا تنتظر؟ اذهب إلى اللوكندة، اقرع الباب هكذا (ممثلا) «نهارك سعيد يا نانسي، أنا أحبك»
Good Morning Nancy, I love you .
الشيخ نسيب (كمن يتمرن على تمثيل دور) :
Good Morning Nancy, I love you
وبعدها ماذا يصير؟
وجيه :
بعد ذلك تصير صاحب فبركة مسامير!
الشيخ نسيب :
يا أستاذ وجيه، بخصوص الاستعفاء، سأستشير خالي وأخبرك، (مدام زعرور وأم ظريف تومئان إليه أن يخبر وجيه بالخطبة)
على ذكر فبركة المسامير أحب أن أخبرك أنني خطبت.
وجيه :
خطبت؟! برافو، ما اسم الخطيبة حتى ننشر الخبر في الجرائد؟
الشيخ نسيب :
اسمها ... (أم ظريف ومدام زعرور تتهجآن الاسم صامتتين)
اسمها عايدة.
وجيه :
غريبة هذه الصدفة! اسم خطيبتي عايدة أيضا، أمر غريب!
الشيخ نسيب :
الأمر أغرب من هذا بكثير!
وجيه : ؟!
الشيخ نسيب :
خطيبتك عايدة، هي خطيبتي عايدة.
وجيه (فوار الفرح) :
ما أجمل هذه الصدفة! خالتي هدى؟ (يقبل يدها ثانية)
أهنئك، شباب، وغنى، ووظيفة، ومشيخة.
الشيخ نسيب :
لا تصدق، هذا تمثيل! هذه لعبة، مزاح، بخاطرك، سأستشير خالي وأرد عليك الخبر بشأن الاستعفاء، (على الباب لمدام زعرور)
قلت لك إن عاقبة المزاح وخيمة، (مدام زعرور ترتمي بين ذراعي أم ظريف وتجهش الاثنتان بالبكاء) .
وجيه :
بعرضكم! عندي دواء لكل داء، إلا بكاء النساء.
مدام زعرور :
خربت بيتنا يا وجيه، صيرتنا أضحوكة بيروت، ابنتي فتاة جميلة.
وجيه :
أجمل من حوالة دولارات على
National City Bank .
مدام زعرور :
ابنتي طلابها كثار.
وجيه :
أكثر من طلاب الوظائف!
مدام زعرور :
ابنتي فتاة مهذبة شريفة عفيفة نادرة!
وجيه :
أندر ممن جمع قرش الفقير وسلمه للفقير.
مدام زعرور :
يا لك من مجرم قاس! إن ابنتي هي روحي وأملي وحياتي، أنا أرملة، وهي يتيمة، ولقد عضنا الفقر وبرحت بنا الفاقة، ولكن يد الدنس لم تلمس عفافنا، وجيه، إنك تطعن ابنتي في شرفها وعرضها؛ إذ تطيل أمد الزواج، ليت ابنتي عشقت جنيا ولم تعشقك!
وجيه (في جد) :
اسمعي يا خالتي هدى، أنت تعرفين أني أحب عايدة، إن نفسي كئيبة تتستر بالعبث والدعابة، ولكنك أم جائرة؛ إذ تصرين على المصاغ، أي علاقة بين الحب والجواهر؟! أنا رجل فقير، من أين لي ثمن مصاغ؟ لنتزوج غدا، لنتزوج بعد هذا الظهر، واتركي أمر المصاغ لبعد الزواج، تتطلبين: خواتم، وأساور، وساعات، وأنا لا أملك ثمن عقرب ساعة!
مدام زعرور (ناحبة) :
يا ذلي! زواج بلا مصاغ؟ هذا مستحيل! الموت أفضل.
وجيه (مؤاسيا) :
انظري يا خالتي هدى (ينتشل علبا صغيرة مخملية من الصحارة) .
مدام زعرور (يكاد يغمى عليها) :
مصاغ؟!
وجيه :
علب المصاغ. (يقرأ عن الحائط)
هذه علبة لخاتم الخطبة (كلما أظهر علبة تنظر مدام زعرور إلى داخلها وتصيح: «فارغة!»)
هذه لخاتم الزواج، هذه لحلق الكوكتيل، هذه لدبوس البلاتين ، هذه لإسوار الألماس، هذه للبندنطيف، اليوم عندنا علب وغدا نشتري مجوهرات! (يدخل خادم اللحام.)
مسعود :
قبل أن تشتري مجوهرات، ادفع ثمن اللحمات! (يدخل اللحام توفيق ولهاثه يكاد يطير سقف الغرفة، يلبس لباس اللحامين، إذ يتدلى عن يمينه سكين اللحام الهائل وعن يساره المسن، يرتمي إلى المقعد عييا، ويتلفظ بكلام ناري غير مفهوم، هيئته مخيفة، مدام زعرور ترتعب وتلوح بمنديلها، أم ظريف تهاجم مسعود بالمكنسة فينهزم، أم ظريف ومدام زعرور تختفيان في الباب الخلفي.)
وجيه (منرفزا) :
أهلا وسهلا بالعم توفيق، اسمح لي أن أتلفن، (يتقدم من التليفون بهدوء وبعد أن يطلب نمرة 34-12 يتكلم هامسا)
هلو ... أمين ... اسمع أمين ... تلفن لي مرة كل ربع ساعة، فهمت؟ إن تلفنت ولم يجبك أحد، أخبر البوليس أن هنا قتيلا، قتيل، فهمت؟ أخبرهم أن الأسباب مالية، تلفن مرة كل ربع ساعة، بخاطرك (يقفل التليفون)
كيف حال العم توفيق؟
اللحام :
حالي بالويل، يا أستاذ وجيه (يأخذ من جيبه دفترا)
في الثلاثة الأشهر الأخيرة اشتريت مني 43 رطل لحم و14 أوقية ثمنها 125 ليرا و14 قرشا، (صائحا)
يا أستاذ، بالعربي الفصيح، بالعربي الطويل، بالعربي العريض، بالعربي المبلطح، ادفع الحساب!
وجيه :
بالطبع سأدفعه.
اللحام :
صاحب بنك أنا؟ أنا لست بصاحب بنك، مليونار أنا؟ ما أنا مليونار، جعفر البرمكي أنا؟ ما أنا بجعفر البرمكي!
وجيه :
أنكرت الحساب أنا؟ أنا ما أنكرت الحساب!
اللحام :
نحن ندفع ثمن البقر والخرفان بالنقدي، أجرة الدكان بالنقدي، أجرة الخادم بالنقدي، حسابك عمره ثلاثة شهور.
وجيه :
ثلاثة شهور؟! ما أسرع مرور الأيام! كم عمرك الآن يا عمي توفيق؟
اللحام (مفكرا) :
لما ماتت امرأتي كان عمري 47، الآن (يعد على أصابعه)
51 (حانقا)
لماذا تسألني هذا السؤال؟
وجيه :
لأني قلق عليك، ما سبب هذا اللهاث؟
اللحام (مشيرا إلى الخارج) :
الدرج، صار صعبا علي صعود الدرج، (متذكرا متألما)
راحت أيام الشباب!
وجيه :
آه على أيام الشباب!
اللحام (كمن تذكر أمرا) :
حسابك يا أستاذ، حسابك لم يعد في أيام الشباب، (ضاربا الدفتر بأصابعه)
لقد هرم وطالت لحيته وابيضت ...
وجيه :
أتدري يا عمي توفيق، إن الشيخوخة ليست بعدد الأيام؟! قل لي مثلا: أي شيء كنت تفعله في أيام الشباب وتعجز عن فعله اليوم؟
اللحام (مقهقها) :
أي سؤال خبيث! أمور كثيرة أعجز عن فعلها اليوم وكنت أقوى على فعلها في أيام الشباب!
وجيه :
مثلا؟
اللحام :
مثلا؟! (يقهقه من جديد)
مثلا ... درج هذه السلم في أيام الشباب ... كنت أقفزه كالأرنبة ولا أتعب، اليوم أتسلقه كالبطة، انظر إلي ... كيف ألهث.
وجيه (متمشيا مفكرا) :
أنا لا أقصد الأمور الجسدية، الفتوة في الروح، قل مثلا: في أيام شبابك كيف كنت تعامل الخادمات في بيع اللحم؟
اللحام (ضاحكا متذكرا) :
في أيام الشباب ... إن كانت الخادمة حلوة أعطيتها أحسن اللحم.
وجيه :
وإن كانت بشعة؟
اللحام :
أعطيتها الجلد والعظام.
وجيه :
مثلا في أيام الشباب، لو عجز زبون عن دفع حسابه، ماذا كنت تفعل معه؟
اللحام :
كنت أقول بوجهه: «الله يسامحك» ومتى أدار ظهره، ألعن دين أب خال أخت عم جد خالة صهر أمه، أما اليوم (متهددا)
فإني من أجل عشرة قروش أقتل 21 رجلا.
وجيه :
عمي توفيق! سر الفتوة هو أن تفعل في كهولتك ما كنت تفعله في أيام شبابك، تقبر المال إن كان المال يقتل فتوتك ويجعل منك رجلا شيخا وأنت في الخمسين، قل لي: «الله يسامحك بالحساب» تر كيف تشتد عضلاتك وتلمع عيناك وتخضر الدنيا وتشع.
اللحام (مشدوها) :
ها؟!
وجيه :
أخرج هذا السم من جهاز روحك، قل: «الله يسامحك بالحساب» ... قلها، لا تخف.
اللحام (بصوت خافت) :
الله ... يسامحك بالحساب.
وجيه :
أعدها! (اللحام يعيد العبارة وكل مرة بصوت أعلى من مرة، ثم هو يجس عضلات ذراعيه ويعرض بصدره ويبتسم.)
وجيه :
ها إنك اكتشفت سر الخلود، لقد صار الإنسان وحشا يعبد نفسه وينسى الحب والتسامح والحلم، خذ هذه الرسالة وبشر بها في هذا الوطن، ارجع إلى دكانتك، وأعط اللحم للجميلات، وبع العظم والجلد للقبيحات. قل للناس: أعطوا ... سامحوا ... هكذا تبقون فتيانا، أعطوا! سامحوا! (يصفق كمعلم الرياضة)
واحد ... اثنين ... ثلاثة أعطوا، سامحوا! واحد ... اثنين ... ثلاثة ... الله ... يسامحك ... بالحساب. (اللحام في سكرة روحية يقوم بألعاب جيمناستيكية على وقع تصفيق وجيه وتغنيه، التليفون يرن، حينما يدير هذا ظهره، يمشي اللحام نحو الباب الأيسر ثم ينهال بالشتائم مطلقا إياها نحو وجيه، بحيث لا تسمع النظارة تلك الشتائم، ولكنهم يفهمون أنه يفوه بها، اللحام ينصرف.)
وجيه (على التليفون) :
لا يوجد قتيل بعد، إنما داوم على التلفنة مرة كل ربع ساعة، (إلى أم ظريف ومدام زعرور وقد ظهرتا في الباب الخلفي)
أين العم توفيق؟
أم ظريف :
سافر ... (وجيه يسرع إلى الباب الخلفي فيقفله بعنف.)
وجيه (إلى أم ظريف) :
لا تفتحي لأحد حتى نعرف من هو، الحمد لله ... هذا حساب وفيناه! (يتمدد على المقعد المثلث.) (وجيه يخاطب أم ظريف بالإشارة أن تسأل من الطارق.)
أم ظريف :
من أنت؟
صوت من الخارج :
أنا الأستاذ الكعب بن الحميد الطهنشاوي. (وجيه يمثل أن مصيبة وقعت على رأسه ويشير إلى أم ظريف أن تقول للطارق إنه غير موجود.)
أم ظريف :
وجيه في البلد.
الصوت :
هلا فتحت الباب سيدتي؟! (سكوت)
الصوت (بعد سماع قرع على الباب) :
هلا فتحت الباب سيدتي، فإني لتارك لوجيه رسالة. (وجيه يهرب من الباب الخلفي آخذا معه السكين الكبير ومهددا أم ظريف بأنه يقتلها إن أفشت سر وجوده في الداخل، أم ظريف تفتح الباب فيدخل الكعب.)
الكعب :
عمتما صباحا يا سيدتي القعرتين، (يدير نظره في الغرفة)
يا بهجة العيد! يا لها من حجرة ولا قصور الزهراء أو الحمراء، وإني يا سيدتي في غد إلى بغداد ظاعن.
أم ظريف :
لا تؤاخذني، أنا لا أعرف فرنساوي.
الكعب (ضاحكا) :
يا بهجة العيد! وإنه لزام علي أن أكل إلى حضرتكما هذه الأخطوطة، يجوز أن يقال: مخطوطة إنما الأصح أن يقال: أخطوطة، لقد وعدني الأستاذ وجيه بأن يجد لها ممولا ينشرها، يجوز أن يقال: رأسمالي إنما الأصح أن يقال: ممول، يا بهجة العيد! (يضع نظارتيه على أنفه ويتكلم فيما هو ينتشل مخطوطات هائلة)
استقراء مخضوضر مزبطر، (يقلب المخطوطات)
الجزء الأول: امرؤ القيس، اسمه وكنيته، الجزء الثاني: في أن حقيقة امرئ القيس هو «جيدح»، يا بهجة العيد! الجزء الثالث : «في أن امرأ القيس لم يكن اسمه جيدح بل حيدج»، الجزء الرابع: «سر الأسرار ودهش الأخبار في حقيقة امرئ القيس»، سيدتي، إن في هذه الأخطوطة ما لم يره ابن بطوطة. هنا سر الأسرار، وسفر الأسفار، إن هذا المؤلف يجيء ببرهان حنطفوش قاطع أن امرأ القيس لم يكن اسمه حيدج ولا جيدح، إن امرأ القيس كان اسمه امرأ القيس.
مدام زعرور :
يا بهجة العيد!
أم ظريف :
يا بهجة العيد!
الأستاذ (يسلمهما المخطوطات) :
سيدتي! وهل لي أن أسألكما عن فتى يافع غض الإهاب، اسمه الشيخ نسيب وهاب، تراه مر بهذه الدار؟!
مدام زعرور (تريه الجريدة) :
تقدر أن تراه في هذه اللوكندة.
الأستاذ :
يقال: فندق، ولا يجوز أن يقال: لوكندة.
حيمور (يدخل) :
نهاركم سعيد.
الأستاذ :
عم صباحا سيدي (مقدما يده)
أنا الأستاذ الكعب بن الحميد الطهنشاوي.
حيمور :
أنا نايف حيمور مهاجر عائد من غرانيلا.
الأستاذ :
يجوز أن يقال: مهاجر إنما الأصح أن يقال: مغترب.
ألا روى الغيث ضريح الشاعر إذ قال:
يمضي ولا حلية إلا عزيمته
وينثني وحلاه المجد والمال (يعيد «والمال».)
أم ظريف :
يا حضرة الأستاذ، لقد فلقتني!
الأستاذ (على الباب منصرفا) :
يجوز أن يقال: فلقتني، إنما الأصح أن يقال: فججتني؛ لأن فعل فج ورد في مقامات الحريري، أما فعل «فلق» فإنه ما ورد في مقامات الحريري، عمتم صباحا (ينصرف) . (يطل وجيه من الباب الخلفي فيتأكد أن الأستاذ رحل.)
وجيه :
أو ... و... ف ... أنهو نايف حضرتك؟
نايف حيمور :
أرسلني إليك صاحب جريدة «نهضة الفجر».
وجيه :
حضرتك نايف أفندي حيمور؟
نايف :
سي سنيور
وجيه :
رجعت من «غرانيلا» في الأسبوع الماضي.
نايف :
سي سنيور!
وجيه :
بعد غياب 34 سنة؟
نايف :
سي سنيور!
وجيه (بلهجة خطابية) :
إن المهاجرين هم سواعدنا، وآمالنا، والجزء المتمم لوطننا، فيهم قوانا وعليهم اعتمادنا.
يمضي ولا حلية إلا عزيمته
وينثني وحلاه المجد والمال (يعيد «والمال».)
وجيه :
سي سنيور!
نايف :
سي سنيور! (وجيه يفتش بين أوراقه في منتصف الصحارة عن أوراق، منها جريدة كلها بيضاء إلا صورة وبضعة أسطر مطبوعة.)
وجيه :
هذه صورتك ، سنتظهر في الصفحة الأولى، وهذا ما سيظهر تحتها (يقرأ) «عاد من المهجر بعد نيف وثلاثة عقود، المهاجر الكبير نايف أفندي حيمور مثقلا بثمار جهاده، وسيستقر في مسقط رأسه بلدة «عين الخروب»، شيء جميل هاه؟! أعتقد أن 300 ليرا تبرع كافية، هنا مكتبي (مشيرا إلى الغرفة)
مكتب دعاية، كل شيء غال هذه الأيام، خذ إجار هذه الغرفة، أتدري كم هو إجار هذه الغرفة؟
نايف :
نو سنيور!
وجيه :
لو أخبرتك لا تصدق.
نايف (متأملا في الرسم) :
أحب أن يظهر اسمي في الاسبنيولية، نايف حيمور في العربي هو
Nicola Hayme
بالسبنيولي، هل يمكنكم الطبع بالسبنيولي؟
وجيه :
سي سنيور! (صمت)
وجيه :
مسألة الثلاثماية ليرا ...؟!
نايف :
يا أستاذ وجيه، هذه الصورة، وهذا الكلام شيء جميل، إنما هذا أمر عادي، كل مهاجر يعود، تنشر صورته ويقال عنه إنه مهاجر كبير، الذي أريده هو لقب.
وجيه :
نايف بك؟
نايف :
نو سنيور!
وجيه :
الشيخ نايف؟
نايف :
نو سنيور
وجيه :
الأمير نايف؟!
نايف :
نو سنيور!
وجيه :
نو سنيور!
نايف (يفتح حقيبته ويأخذ منها ورقة) :
اسمع! في بلادنا (يقرأ من الورقة)
123514 أمير، 87643 بك، 224511 شيخ، أنا لا أريد مثل هذه الألقاب، أريد لقبا مثل أمير الشعراء يعرف أنه شوقي، شاعر القطرين، يعرف أنه خليل مطران، أريد هكذا لقبا.
وجيه :
ما رأيك باسم «الحيمور الأكبر»؟ (نايف يشمئز)
بالطبع هذا لا يوافق. اسمع، أنت تنظم الشعر بالطبع؟ أسمعني شيئا من نظمك.
نايف (بدلال) :
حينما أرسلت صورتي لخالتي شاهينة كتبت تحتها بيتين.
أهدي إليك صورتي
يا خالتي يا رجوتي
من بعد هذي الغربة
قلبي يحن للرجعة
وجيه :
جميل! جميل! جميل! بديع، أنت من «عين الخروب» واسمك بلبل «عين الخروب».
نايف :
لا بلبل ولا حسون (يقرأ من الورقة)
يوجد في بلادنا 8411 بلبل و6415 حسون، أريد شيئا غير اعتيادي (بعد صمت وتفكير يتطلع الواحد بالثاني) .
نايف :
نو سنيور!
وجيه :
نو سنيور!
وجيه :
ألم تشتغل بالأمور الوطنية؟
نايف :
نعم، وقعت برقية احتجاج على الصهيونية، وتبرعت بثلاثة دولارات للمكتب العربي في نيويورك.
وجيه :
لنسمك «المجاهد الأكبر» أو «ملك المحسنين»!
نايف :
نو سنيور !
وجيه :
نو سنيور! (بعد تفكير وحك رأس وصمت.)
وجيه :
في «عين الخروب» يوجد مدرسة؟
نايف :
مدرسة عظيمة فيها 56 تلميذا.
وجيه (كمن اكتشف أمرا عظيما) :
نطلق على المدرسة اسم «الجامعة الخروبية» أو الجامعة الخروبية تمنحك لقب دكتوراه، دكتور حيمور ... اسمح لي أن أكون أول المهنئين.
نايف :
أشكرك، أشكرك.
وجيه :
دكتور حيمور!
نايف :
أشكرك، (ثم تتراخى ابتسامته إلى عبوسة ويصيح)
نو سنيور!
وجيه :
ولماذا؟
نايف :
دكتور؟! ربما يفتكروني طبيب بيطري ...
وجيه :
لماذا لا ترشح نفسك للنيابة؟
نايف :
ما الفائدة؟ سأخسر بدون ريب.
وجيه :
ترشح نفسك للنيابة ثم تخسر، ويصير لقبك «المرشح للنيابة سابقا». (نايف يظهر اشمئزازه.)
وجيه :
اسمع، ألم يولع معك الغرام ولا مرة في حياتك؟
نايف (متذكرا ضاحكا) :
بلى، ولع الغرام معي مرة.
وجيه :
وماذا كان اسمها؟
نايف :
توماصا
Tomasa .
وجيه :
ما قولك بمجنون توماصا
Tomasa
مثل «مجنون ليلى»؟ (نايف يظهر اشمئزازه.)
وجيه :
نو سنيور!
وجيه (أشرق وجهه وانفعل حماسا كمن حل معضلة) :
وجدتها! وجدتها! نسميك «نابغة النوابغ» ...
نايف (بإباء وكبر وغضب) :
ما هذه الإهانة يا أستاذ وجيه؟ هل دعوتني إلى بيتك حتى تحقرني؟! ابن عمي أسعد حيمور دكانه ببابين سمته جرائد المهجر «عبقر العباقرة» وأنا دكاني بستة أبواب وتريد أن تسميني «نابغة النوابغ» فقط؟!
وجيه (مراضيا) :
لا تؤاخذني يا أخي، الذنب ذنبي، حين لا أشرب القهوة في الصباح تخمل قريحتي.
نايف :
ولماذا لم تشرب القهوة؟
وجيه (مشيرا إلى الداخل) :
لأني ممنوع عن القهوة! طبعا لقب «نابغة النوابغ» غير موافق، ولكنك لو ذكرت لي سيرة غمارك في المهجر - في غرانيلا - ربما استوحيت لك لقبا موافقا، ذكرت أن دكانك كان بستة أبواب، أخبرني كيف جمعت هذه الثروة؟
نايف :
والله يا أستاذ وجيه، لما وصلت إلى غرانيلا كان لي خال في العاصمة - سانتا كروز - عاصمة غرانيلا، فتح لي دكانا في البر في بلدة اسمها «سانتا آنا» وكان خالي يرسل لي مجوهرات، صيغة، الكلام بيني وبينك كانت الصيغة مقلدة، كنت جمعت ثروة عظيمة لولا غلطة، كان الشغل جيدا والأرباح واهية، كان خالي يقيد علي كروس الخواتم بأربعة دولارات، وكنا نبيع الخاتم الواحد بأربعة دولارات.
وجيه :
تشتري الكروس بأربعة دولارات، وتبيع الخاتم بأربعة دولارات؟! هذه تجارة غانمة.
نايف :
تجارة غانمة لولا تلك المصيبة.
وجيه :
أي مصيبة؟
نايف :
كنت أدفع لخالي على حساب الكروس 12 خاتما، ولم أعرف أن الكروس 12 دزينة خواتم.
وجيه :
وخالك، ألم يحاسبك بالفرق؟
نايف :
يا أستاذ وجيه، في التجارة الخال لا يعرف ابن أخته، بلى، كانت طيبة تلك البلاد، كم بعنا من خواتم كذابة، ذهبها نحاس، وألماسها زجاج، وأساور وساعات مزيفة، (متنهدا)
التجارة يا أستاذ وجيه تحتاج إلى مقدرة.
وجيه :
الظاهر هكذا.
نايف :
ما كنت رجعت لهذه البلاد لولا حكومة غرانيلا، الله يلعن تلك الحكومة راحوا انتخبوا رئيسا للجمهورية شابا متحمسا، أتدري ماذا فعل؟ الله يلعنه! الله يلعنه!
وجيه :
ماذا فعل؟
نايف :
فتح في كل بلد مدرسة.
وجيه :
الله يلعنه!
نايف :
الله يلعنه!
فحملت مجوهراتي وأقفلت دكاني ورجعت إلى «عين الخروب».
وجيه :
يعني جلبت مجوهراتك معك؟
نايف :
نعم، (يفتح الحقيبة ويناول وجيه الكثير من الحلق والساعات والخواتم) .
وجيه :
هل تقدر أن تبيعها هنا؟
نايف :
هنا لا يشتريها أحد؛ لذلك أنا أفرقها هدايا، تفضل يا أستاذ خذ منها ما تشاء هدية مني.
وجيه :
أشكرك، أشكرك، سأنتقي كم قطعة (كلما انتقى قطعة يسير بها نحو الحائط، حيث كتبت قائمة المصاغ ثم يرجع ويأخذ سواها، نايف يقفل حقيبته ويتهيأ للرحيل، وجيه يرجع إلى نايف)
يلزمني ساعة يد نسائية.
نايف :
تكرم، هذه كنا نشتريها بالكيلو (يعطيه ساعة) .
وجيه :
يا نايف، إن سيرة حياتك أوحت لي اللقب الذي يليق بك، أنت عصامي، أتعرف ما هو لقبك؟
نايف :
صار لنا ساعة نفتش عليه.
وجيه :
أنت لا تريد لقبا عاديا، أنا لا ألومك، بلادنا كلها أمير، بك، شيخ، مقدم، أفندي، خواجه، أمير الشعر، أمير الزجل، عميد المهاجرين، المجاهد الأكبر، حسون، بلبل، بطل الأبطال، الوطني العظيم، العبقري، النابغة، العلامة، المهذب الأعظم، لقبك أنت هو اسمك المجرد.
نايف :
صحيح؟
وجيه : ... هكذا تكون الشخص الوحيد في هذه البلاد الذي ليس له لقب، لقبك نايف حيمور .
نايف (فرحا) :
لقبي نايف حيمور!
وجيه :
اسمك نايف حيمور فقط لا غير.
نايف :
اسمي نايف حيمور فقط لا غير.
وجيه :
سنذيع هذا الخبر في الجرائد وعلى الراديو ... (نايف يفتح حقيبته.)
نايف :
ثلاثمائة ليرا تكفي؟ (أم ظريف تظهر في الباب الخلفي.)
وجيه :
كل شيء غال هذه الأيام، أتعرف كم أدفع إجار هذه الغرفة؟ أتدري كم ثمن كيلو اللحم؟ أتعرف كم يكلف فنجان القهوة؟
نايف :
صحيح كل شيء غال (يسحب دفتر الشكات ويكتب)
هذا التشاك بخمسماية ليرا.
وجيه :
كثر الله خيرك (نايف يناول التشاك لوجيه فيمد هذا يده ليأخذه، نايف يسترجع التشاك بغضب ويمزقه) .
نايف :
نو سنيور، أنت عملت معي معروفا كبيرا ولن أدفع ثمنه، هكذا تصبح الشخص الوحيد في هذه البلاد الذي عمل معروفا ولم يقبض ثمنه، بخاطرك. (حينما يصبح على الباب)
وأشكرك جدا
Gracias Senôr (ينصرف) .
وجيه :
عبث، عبث، بدون قهوة كل شيء باطل. (يتذكر أمرا فيأخذ قطع الصيغة ويضع كل قطعة في علبة ضاحكا مترنما: عاش تعسا ... ترجع أم ظريف ومدام زعرور فيتظاهر كأنه بوغت وهو في عمل سري.)
أم ظريف :
هل سافر النو سنيور؟
مدام زعرور :
ما هذا؟
وجيه :
آه يا خالتي أم هدى، كنت أريد أن أريك هذه الجواهر متى وصلت عايدة؟ فلماذا فاجأتني؟
مدام زعرور (تفتح العلبة) :
يا ماما، ألماس يا ماما (تفتح علبة ثانية)
يا ماما! بلاتين يا ماما! (تفتح علبة ثالثة)
يا ماما ذهب! ذهب عيار 24 (تهجم على وجيه فتقبله)
يا ابني عفوك عني، يا فخري، يا ولدي، يا صهري، عايدة ستجن بهذا المصاغ، (تخاطب أم ظريف التي اقتربت لترى)
أنت لا تعرفين بالصيغة، أنا ابنة سوق المجوهرات، وجيه لا تخبرني كم دفعت، اتركني لوحدي أثمن، ألماس! هذا أزرق أبيض، قطعة نظيفة اللون، بديعة، (متفرسة به)
لا. لا، خال من كل سقط، أربعة قراريط الخاتم، الحلق والإسوار سبعة، سبعة وأربعة = أحد عشر، والساعة؟! وجيه لقد دفعت ثمن هذا المصاغ أربعة عشر ألف ليرا، مضبوط؟
وجيه :
الصائغ صاحبي، أعطاني إياها أرخص بكثير.
مدام زعرور :
أنا كل يوم في سوق الصياغ، أفحص وأدرس وأسأل عن الأسعار، بكم اشتريت هذا المصاغ؟
وجيه :
الصحيح، خالتي هدى، دفعت ثمنه تسعة آلاف ليرا.
مدام زعرور :
ما أرخصه!
أم ظريف :
ما أرخصه! كل جواهر الأرض لا تسوى رطل بندورة.
مدام زعرور :
أنت يا أم ظريف لا تفهمين قيمة الصيغة، ولا أهمية المصاغ.
وجيه :
ما رأيك بفنجان قهوة يا أم ظريف؟
أم ظريف :
تصرف ألوف الليرات على ... على ... هذه الزبالة، وتطلب مني فنجان قهوة، وإجار الغرفة نائم منذ خمسة عشر شهرا.
وجيه :
هذه بصة النار التي فجرت مستودع الديناميت الآن - هذه الساعة - أعلن الثورة، أم ظريف، هذه الغرفة برسم الإجار، لقد خسرت مستأجرا. (يكمل لبس ثيابه.)
مدام زعرور :
كيف تترك هذه الغرفة؟ ألم تسمع بأزمة البيوت يا ... يا ... مجنون؟!
وجيه :
هذا عيبنا، كلنا عقلاء، هذا الوطن لن يسعد إلا متى كثرت مجانينه، ما أنا بالرجل الشريف إن خضعت لاستبداد أم ظريف.
مدام زعرور :
وعايدة؟ عايدة ستكون هنا بعد قليل.
وجيه :
قولي لها أن تنتظرني.
مدام زعرور :
ولكن أنت ذاهب إلى أين؟
وجيه :
إلى القصر، أو إلى الياخور، إلى حيث يسكبون القهوة في الطناجر، إلى حيث لا أرى أم ظريف. (يريد الانصراف من النافذة التي إلى يمين النظارة.)
مدام زعرور (مشيرة إلى الباب الأيسر) :
الدرج هناك.
وجيه :
سأخرج من النافذة، كل عمري أدخل البيوت وأخرج منها من طريق الباب، من الآن فصاعدا سأدخل البيوت من نوافذها، سأمشي على رأسي وأتفرس بالناس مغمض العينين، سأقبل البشر بقبضتي وأدغدغهم بقدمي، (قرب النافذة)
سأتروق أطفالا مشوية وألعب فوتبول بالقنابل الذرية (يقفز من النافذة، أم ظريف ومدام زعرور تبقيان صامتتين، يرن التليفون فتنهض إليه أم ظريف متمتمة متثاقلة) .
أم ظريف (السماعة إلى أذنها) :
هاه ...! هلو؟! رجعت تحكي فرنساوي يا ملعون؟! (تقتلع الشريط الذي يربط التليفون بالحائط وترمي بالتليفون والشريط إلى الأرض، أم ظريف صامتة غضبى، مدام زعرور تتطلع بالصيغة معجبة.)
مدام زعرور (خلال هذه المحادثة تجرب الصيغة معجبة أمام المرآة، على زندها وأذنيها وأصابعها) :
لقد كنت قاسية على وجيه ، ربما لا يعود.
أم ظريف :
لا يعود؟ لا تخافي، هو يمثل هذا الدور كل يوم، صدقت راح يفتش على غرفة؟ راح يشرب قهوة عند «صالون جعفر»، الذي لا أفهمه هو كيف قدر أن يدفع تسعة آلاف ليرا؟
مدام زعرور :
هذا الغرام، ألم تسمعي بالحب، سبحان من خلقك يا أم ظريف، لا بالمجوهرات تفهمين، ولا بالحب تؤمنين، حضري لوجيه فنجان قهوة، أليس عندك بن؟
أم ظريف :
عندي بن، الذي ينقصني هو الفحم.
مدام زعرور (مشيرة إلى مخطوطة امرئ القيس) :
عندك ورق كثير؟
أم ظريف :
صدقت (تأخذ المخطوطات وتسير إلى الباب الخلفي وإذ تبلغه تخاطب مدام زعرور مقلدة الأستاذ)
يجوز أن يقال: مخطوطة، إنما الأصح أن يقال: أخطوطة! (تختفي.) (مدام زعرور تستمر في تقليبها المجوهرات والإعجاب بها، تتغنى بأغنية إفرنجية، ثم تنتفض إذ تسمع نحنحة خلفها، هي نحنحة نايف حيمور.)
نايف :
أريد أن أكلم الأستاذ وجيه بأمر هام، هام جدا.
مدام زعرور (لم تسمع ما قال) :
رعبتني!
نايف :
الأستاذ وجيه، بالطبع تعرفينه؟
مدام زعرور :
الأستاذ وجيه سيصير صهري. هو مجنون بغرام ابنتي، لما سمع أن غيره يطلب يدها هددنا بالانتحار، أنت تنظر إلى هذه الغرفة الحقيرة، فتظن أن وجيه هو فقير، وجيه متواضع، حينما قلت له: أريد مصاغا لابنتي (تطق بإصبعيها)
لبيك عبدك بين يديك، انظر ماذا اشترى؟ كل هذا المصاغ بتسعة آلاف ليرا فقط، من يصدق؟ من يصدق؟
نايف :
يا سنيورة، أنا صائغ، اسمحي لي أن أفحص هذه الجواهر.
مدام زعرور :
صحيح أنك صائغ؟ ما أكبر حظي! ثمنها لي. (تعطيه قطعة قطعة، وهي خلال ذاك مندفعة في الحديث ونايف يفحصها بتأن، أخيرا يأخذ من حقيبته منظار الصائغين، فيفحص الجواهر، والمنظار على عينه اليمنى ثم اليسرى، ويطيل النظر في العلب المخملية)
أرأيت حجر هذا الخاتم ألاحظت بياضه المزرق؟ الساعة، هل فتحتها؟ هل عددت جواهرها الواحدة والعشرين؟ والإسوار! مثل هذا البلاتين لا يصنع إلا في أمستردام، ألاحظت أن قص هذه الأحجار هو قص لندن؟ كم ثمنها في رأيك؟
نايف :
يا سنيورة، هذا المصاغ يساوي ثروة، أعتقد أنه يساوي لا أقل من ثلاثين ألف باسو
!
مدام زعرور :
باسو؟ ما هو ال
؟ عملة بطلت إن شاء الله؟
نايف (يحسب على أصابعه العشرة) :
نو سنيورة، ثلاثون ألف باسو
يعني خمسة وأربعين ألف ليرا.
مدام زعرور :
وجيه دفع ثمنها تسعة! تسعة آلاف ليرا فقط!
نايف :
وكيف قدر يشتريها بهذا الرخص؟
مدام زعرور :
اشتراها من صديق له.
نايف :
يا سنيورة، في التجارة لا الصديق يعرف صديقه، ولا الخال يعرف ابن أخته، الظاهر اشتراها من ... من ... حمار لا يعرف قيمة الجواهر. (بعد الافتكار)
يا سنيورة، أنا رجل تاجر.
مدام زعرور :
أنت أكبر قدر.
نايف :
لي اقتراح عليك، هذا المصاغ رأسماله تسعة آلاف، أنا أشتريه بخمسة عشر، أعطي وجيه التسعة، وليذهب إلى صديقه فيشتري المصاغ مرة ثانية، هكذا تعملين صفقة تجارية.
مدام زعرور :
أنا لا أريد عمل صفقة تجارية، أريد مصاغا لابنتي.
نايف :
قلت لك: إن وجيه يشتري المصاغ مرة ثانية.
مدام زعرور :
لو فرضنا اشترينا المصاغ مرة ثانية، فماذا نفعل بالصفقة التجارية؟
نايف :
الصفقة التجارية معناها أنك تشترين المصاغ من جديد، وتربحين ستة آلاف ليرا، فيبقى المصاغ معك.
مدام زعرور :
إذا كان هذا صحيحا، فأعطني ستة آلاف ليرا، وأبق المصاغ معي، وخذ أنت الصفقة التجارية، نحن لم ندخل المدارس ولم نهاجر، ولكن يجب أن تفهم أنني لست بامرأة جاهلة.
نايف :
يا سنيورة، صدقت أنك لا تفهمين بالتجارة، أعرض عليك ربح ستة آلاف ليرا فترفضين، بخاطرك (يدير ظهره لينصرف) .
مدام زعرور :
على مهلك، أين الفلوس؟
نايف (يفتح الحقيبة) :
هنا، (يأخذ دفتر التشكات ويريها إياه) .
مدام زعرور :
أنا لا أرى الفلوس.
نايف :
هذا دفتر التشكات، أعطيك تشاك بخمسة عشر ألف ليرا فيدفعه لك البنك.
مدام زعرور :
وإذا لم يدفع البنك؟
نايف :
البنك مجبور أن يدفع.
مدام زعرور :
لماذا؟
نايف :
لأن فلوسي عنده.
مدام زعرور :
ولماذا تسلم فلوسك للبنك؟
نايف :
كل الناس يضعون فلوسهم في البنك، حضرتك يا سنيورة أين تضعين فلوسك؟
مدام زعرور :
إذا كان معي فلوس قليلة أضعها في جزداني ، إذا كان معي فلوس كثيرة أضعها في كلساتي، أما إذا كان معي فلوس كثيرة كثيرة، آ، لن أخبرك أين أضعها ... خلاصة الحديث، ادفع لي عملة، فأعطيك المصاغ.
نايف :
طيب سأدفع لك عملة، كنت مهيئا هذا المبلغ لآخذه معي للجبل لشراء كرم زيتون (يأخذ كدسات فلوس من الحقيبة)
تفضلي، إنما ما دمت تصرين على استلام نقد فإني أصر على أن تعطيني خصم عشرة بالمائة.
مدام زعرور :
إذا أعطيتك خصم عشرة بالمائة، يا دلي، شو بيبقالي؟
نايف :
يبقى لك 13500 ليرا، مبلغ كبير.
مدام زعرور :
صار معي وجع رأس من هذه الصفقة التجارية، الآن أفهم لماذا بعض الأحيان التاجر ينتحر.
نايف (يعطيها الفلوس ويأخذ المجوهرات) :
بخاطرك يا سنيورة، سأزور الأستاذ وجيه بعد رجوعي من الجبل (على الباب)
الله يعوض عليك (ينصرف) .
مدام زعرور :
الله يبارك لك، (تخبئ قليلا من الفلوس في جزدانها وشيئا في كلساتها، ثم تبدأ بحل حزامها إذ ترجع أم ظريف) .
أم ظريف :
القهوة ابتدأت بالغليان، ما هذا؟ ما تفعلين؟
مدام زعرور :
هذه تجارة ... بعت المصاغ.
أم ظريف :
يا ربي تنجينا!
مدام زعرور :
علتك يا أم ظريف أنك لا تفهمين لا بالمجوهرات، ولا الغراميات، ولا التجارات. (فيما هي تفك تنورتها، يباغتها اللحام، فتصرخ وترجع باقي الفلوس إلى جزدانها.)
اللحام :
أين حبيب القلب وجيه؟ هذه هدية له.
أم ظريف :
من أنت؟
اللحام :
أنا اللحام توفيق، أنسيتني؟
أم ظريف :
أين شواربك؟
اللحام :
راحت مع ذنوبي، يا أم ظريف، صرت أمرد، رجعت إلى الصبا، طلعت الدرج بقفزتين، (يقوم بألعاب بهلوانية)
آه ما أجمل الشباب!
مدام زعرور :
كيف رجعت إلى الصبا؟
اللحام :
شربت دواء كريها.
أم ظريف :
ذوقني إياه، ولو كان أكره من زيت الخروع.
مدام زعرور :
أعطني منه قنينة، أعطني خمس عشرة قنينة، أدفع لك ثمن القنينة ألف ليرا، وأعطيك عشرة بالمائة خصم وصفقة تجارية.
أم ظريف :
هذا الدواء للرجال فقط؟
اللحام :
هذا الدواء هو للرجال وللنساء، ليس له ثمن ولا يوضع بقناني (بلهجة خطابية)
اغسلوا أرواحكم ترجعوا إلى الصبا.
أم ظريف (بدأت تفك أعالي أزرار فسطانها) :
أنا أريد أن أغسل روحي وأرجع إلى الصبا.
اللحام :
تريدين أن ترجعي إلى الشباب؟
أم ظريف :
بالطبع.
اللحام :
هل لك على أحد دين؟
أم ظريف :
إجار خمسة عشر شهرا على وجيه.
اللحام (يوقفها وقفة عسكرية عتليتية) :
افعلي كما أفعل، ورددي الكلام من بعدي: الله يسامحك بالحساب، واحد اثنين ثلاثة ... (تردد هذه التمارين بضع مرات، فتبدأ في ضعف ثم تشتد عضلاتها شيئا فشيئا، وتقوى لهجتها، وفي آخر الأمر ترقص في غنج ودلال وترتمي على المقعد مغنية «الهوى والشباب».)
مدام زعرور :
الآن دوري (تقف وقفة عسكرية)
أعطني تمرينا.
اللحام :
هل لك دين على أحد؟
مدام زعرور :
لا.
اللحام :
هل عملت عملا قبيحا؟
مدام زعرور :
ن ... ع ... م.
اللحام :
قولي ما هو.
مدام زعرور :
أمام الناس؟ لا أبوح بشيء أمام الناس.
اللحام :
إذن فابقي عجوزا كل حياتك، عجوزا شمطاء.
أم ظريف :
صارحي الناس بما اقترفت يا مدام زعرور! أخبريهم عن آثامك، ولو أنها أفظع الجرائم. آه ما أجمل الصبا! إني أشعر بسحر الفتوة ودبيب الغرام. (تغني يا حبيبي أكلما ضمنا للهوى مكان.)
مدام زعرور :
لقد بعت مصاغ ابنتي.
اللحام :
واحد ... اثنين ... ثلاثة ... أربعة.
ألغي ... البيعة ... ردي ... المصاغ. (يعيدانها بضع مرات.)
اللحام :
والآن كيف تشعرين؟
مدام زعرور :
أشعر كأنني عصفور في جنائن بعلبك، ولكني بدون جناحين.
اللحام :
هل اقترفت جريمة ثانية؟
مدام زعرور :
لا ...
اللحام :
هل أنت متعصبة لعقيدة هوجاء؟
مدام زعرور :
لا ... أنا لست متعصبة، ولكني لن أزوج ابنتي بدون مصاغ.
اللحام :
آ ... فهمنا، (يوقفها وقفة جمناستيكية مرة ثانية)
واحد ... اثنين ... ثلاثة ... أربعة.
تزوج ... بنتي ... بدون ... مصاغ. (يعيدانها بضع مرات وفي كل مرة تقوى لهجتها، وتتصلب عضلاتها ثم ترقص في غنج حتى ترتمي قرب أم ظريف.)
أم ظريف :
ما أجمل الصبا!
مدام زعرور :
ما أجمل الشباب!
أم ظريف :
أنا أحلم ب ...
مدام زعرور :
وأنا أحلم بنفس الموضوع. (تدخل عايدة حاملة بضع علب كبيرة.)
عايدة :
ماما ... ماما ...
مدام زعرور :
عايدة، حبيبتي! أمك صارت أصغر منك!
أم ظريف :
وأنا صرت أصغر من أمك!
عايدة :
ما هذا الكلام؟ ماذا جرى؟ أين وجيه؟
مدام زعرور :
وجيه خرج يؤلف جيش الثورة!
عايدة :
يا ربي، أنا مجنونة، أم هم مجانين؟! (مدام زعرور تختطف جزدان ابنتها فتفتحه وتتسابق هي وأم ظريف، الواحدة تبودر وجهها، والثانية تحمر شفتيها، ثم تتخاطفان المرآة إلخ ... عايدة تفتح إحدى العلب وترى أمها بعض فساطين وبرانيط.)
عايدة :
ماما، انظري ما أجمل هذا الفسطان! والبرنيطة ... (أم ظريف ومدام زعرور تتخاطفان الفساطين والبرانيط وتهرعان نحو الباب الخلفي.)
أم ظريف (على الباب) :
من بعدك، أنا أحترم العمر.
مدام زعرور :
من بعدك، أنا أحترم العمر، (الثلاث ينصرفن) . (يدخل من الباب الأيسر العواد لاهثا.)
العواد :
أين الأستاذ وجيه؟
اللحام :
لا أدري، أنا في انتظاره، ماذا تريد منه؟ إذا كان لك عليه دين ...
العواد :
ليس لي عليه دين، ولكني أريد أن أراه، الدنيا تغيرت يا أخ، الدنيا انقلبت رأسا على عقب.
اللحام :
يا أخ، أنت غلطان! الدنيا انقلبت عقبا على رأس ...
العواد :
يا أخي، أشفق علي، ولا تهزأ بي، اتفقت على إحياء ليلة غناء وطرب مع جمعية «السلام والتفاهم» حينما سمعوا نشيدي رفضوه، يريدون شيئا عصريا، أفهمت؟ لا يعجبهم «يا ليل والنهود واللمى واللعاب»، ضاعت المروءة والشرف، خلص، انتهى الأمر، خربت بلادنا، أين الأستاذ وجيه؟ سأشتري نشيده بأي سعر كان، (يدخل الشيخ نسيب مع ابنة أميركية لابسة قميصا للسباحة مختزلا) .
الشيخ نسيب (صارت لهجته متأمركة) :
أين مستر وجيه؟
اللحام :
كلنا في انتظاره، ماذا تريد منه؟
الشيخ نسيب :
أريد أن أعطيه (يسحب ورقة من جيبه)
استعفائي من وظيفة الجمرك وأشكره على نصيحته.
اللحام :
أي نصيحة؟
الشيخ نسيب :
تبعت نصيحته، والآن ظفرت بهذه الخطيبة الأميركية، مس جونسون.
اللحام :
وكيف كان ذلك؟
الشيخ نسيب :
رحت إلى الهوتال، قرعت باب غرفتها، أطلت مس جونسون. قلت لها: أنا أحبك
I love you .
أجابتني أنا أحبك
I love you ، بعد نصف ساعة نتزوج.
اللحام :
ولماذا تريد أن تستعفي من الجمرك؟
الشيخ نسيب :
بلادنا لا تحتاج إلى موظفي حكومة، بلادنا تحتاج إلى عمران، ما هي أهم حاجات العمران اليوم؟ البناء، إلى ماذا نحتاج في البناء؟ إلى مسامير، أبوها صاحب معمل مسامير.
اللحام :
هل هي وحدها في الهوتال، أم معها رفيقة؟
الشيخ نسيب :
معها رفيقة أبوها صاحب 200 ألف رأس بقر.
اللحام (يسن سكينه ويهرع نحو الباب) :
ما اسم الهوتال؟
الشيخ نسيب : «زهرة بيروت»، (اللحام ينصرف ثم يرجع) .
اللحام :
على فوقه، رفيقتها لابسة قميص سباحة؟
الشيخ نسيب :
لا، لابسة بنطلون.
اللحام :
بنطلون؟ (يرتمي على المقعد ويمسح عرقه ويرجع سكينه إلى قرابه.)
اللحام :
خطر على بالي خاطر.
الشيخ نسيب :
وهو؟
اللحام :
كل زبائني لا يشترون إلا لحم غنم. (يدخل الأستاذ الكعب ومعه ابنة أميركية لابسة بنطلون.) (الفتاتان الأميركيتان تتعانقان، فرحتين، هلو لزي، هلو نانسي
Hellow Lizzy. Hellow Nancy
ثم تخطف الواحدة طربوش خطيبها وتلبسه وتغنيان راقصتين:
I am marrying an Arab .) (العواد يرافقهما باللحن من نصفه إلى آخره، كذلك اللحام والباقون يرقصون.)
الأستاذ :
قصدت إلى الفندق وقرعت باب الخدر، فبرزت علي هذه الغادة الصنطفوشة البرهموسة المزبطرة (يعانقها)
يا عذر بوجتي الصنطفوشة ... (يعانقها ثانية)
ويا صنطفوشتي العذر بوجه
I love you .
نانسي (بعربية رطنة) :
يا بهجة إلايد (العيد) .
الأستاذ :
وإني قفلت إلى هذا المكان أستعيد مخطوطتي، عجبا! كانت هنا، لعل السيدة خبأتها (تظهر أم ظريف في فسطان قصير، عاري الصدر، وبرنيطة وحذاء عالي الكعب، وجزدان يد)
سيدتي أين العجوز الحيزبون، التي أم ظريف يدعون؟
أم ظريف :
عجوز حيزبون آ؟ أنا أم ظريف وأنت العجوز الحيزبون.
الأستاذ :
أريد مخطوطتي.
أم ظريف :
يجوز أن تقول مخطوطة، إنما الأصح أن تقول أخطوطة، ها ها ها.
الأستاذ :
وأين هي الأخطوطة؟
أم ظريف :
حيدج وجيدح (مشيرة إلى الداخل)
صاروا كلهم رمادا تحت غلاية القهوة.
الأستاذ :
وامصيبتاه! وارباه! واأخطوطتاه! واخريدتاه! (نانسي تهرع إليه مؤاسية فتضع رأسه على كتفها فينشد مغازلا)
واعذربوجتاه! (يدخل حيمور ممزق الثياب، بحذاء واحد، منبوش الشعر، والدم يسيل من أنفه.)
حيمور :
أين السنيورة؟
اللحام :
السنيورة في صيدا! هذه مدينة البقلاوة!
حيمور :
السنيورة - المرأة التي باعتني هذه الصيغة - هذه الجواهر الكاذبة!
اللحام :
وكيف تعرف أن الصيغة كاذبة؟
حيمور :
عرضتها في سوق الصياغ، نادوا على البوليس، صار لي 32 سنة أبيع الناس صيغة كاذبة ، وفي آخر العمر امرأة ضحكت علي وباعتني صيغة كاذبة، أنا نايف حيمور، أمير الصاغة في غرانيلا.
اللحام :
غرانيلا! هذه بيروت يا حيمور!
أم ظريف (تقترب منه مهددة) :
أنت الغشاش الذي يخدع النساء الأرامل ... هاه؟! ألا تستحي أن تحرم فتاة من صيغتها في يوم عرسها، يا خداع يا حرامي!
نايف حيمور :
دفعت ألوف الليرات ثمن صيغة كاذبة، والآن تتهمينني بأني خداع وحرامي! بعد أن أخذتم فلوسي، فلوسي، فلوسي، فلوسي.
أم ظريف :
فلوس، فلوس، فلوس، الدنيا عندكم فلوس ... أنت لن تستعيد شبابك، فهمت؟ فلوسك ترجع لك وأرجع لنا الصيغة، مدام زعرور، رجع حيمور. (تظهر مدام زعرور وقد استعادت شبابها ولبست ثياب فتاة عصرية متأنقة.)
مدام زعرور :
يا منافق!
حيمور :
يا منافقة!
مدام زعرور :
يا نصاب!
حيمور :
يا نصابة!
مدام زعرور :
ألا تستحي أن تخدع امرأة أرملة (تأخذ بنزع الفلوس من جزدانها وكلساتها ومحفظتها ووسطها وترميها بوجهه، حزمة حزمة، وشتيمة شتيمة) .
مدام زعرور :
يا خداع!
حيمور :
يا خداعة!
مدام زعرور :
يا كذاب!
حيمور :
يا كذابة!
مدام زعرور :
يا بومة، يا غراب، يا أزعر، أموال الدنيا لا تشتري جواهر ابنتي!
حيمور (يرجع لها المصاغ) :
جواهر الدنيا تقبر عيونك، أنا راجع لغرانيلا.
مدام زعرور :
ارجع لجهنم! (يسمع صوت رجة من ناحية النافذة، يدخل وجيه فيتحول المسرح إلى غوغاء صاخبة ويفهم من الصياح: «فبركة مسامير ... هذا المنافق ... واخرديتاه ... غرانيلا ... النشيد النشيد ... اللحم ... الصبايا ...)
وجيه (مشدوها) :
اخرسوا كلكم! أم ظريف! أين أم ظريف؟ أنا تارك هذه الغرفة في أول يوم من أول شهر من السنة القادمة، (أم ظريف تدخل من الباب الخلفي، كذلك تظهر عايدة) .
عايدة :
حبيبي وجيه، نتزوج بعد هذا الظهر، أمي سمحت لنا بدون مصاغ.
اللحام :
ألم تعرفني؟! أنا توفيق اللحام، عملت بنصيحتك، أعطيت اللحمة الطيبة لصبية حلوة، والعظمة لشمطاء بشعة، انظر إلي! أنا شاب! (يعمل بعض حركات جيمناستيكية.)
الشيخ نسيب :
هذه عريضة الاستعفاء من الوظيفة الجمركية. (أم ظريف تأتي بفنجان قهوة هائل الكبر وتقدمه إلى وجيه .)
الأستاذ :
حذار من نهلة من هذه القهوة! إنها لقهوة مسمومة! في هذه الطاسة دم امرئ القيس! لقد طبخت هذه القهوة بنار نبوغي! واأخطوطتاه! نانسي تؤاسيه فتضع رأسه على كتفها ويتابع:
I love you .
مدام زعرور (تأخذ الجواهر فترمي بها الأرض وتدوسها) :
كل جواهر الأرض لا تساوي حفنة رمل ... انظر (تلتقط بعض الجواهر)
كيف صارت قدمي تسحق الألماس!
وجيه :
من أنت؟
مدام زعرور :
خالتك هدى (ترقص)
تزوج بنتي بدون مصاغ.
أم ظريف (راقصة) :
الله يسامحك بالإجار، الله يسامحك بالإجار، ابق في هذه الغرفة بدون دفع!
وجيه :
من أنت؟
أم ظريف :
أنا أم ظريف. (يتقدم وجيه إلى حافة المسرح الأمامية مشدوها، مذعورا يخاطب نفسه!)
وجيه :
وجيه ... وجيه ... ولا ... وجيه ... بدون فلوس فهمنا! بدون وظيفة فهمنا ... بدون عقل؟!
وجيه ... وجيه ... وجيه ...! (يدخل الصحافي غاضبا من الباب الأيسر ويصيح ...)
الصحافي :
وجيه!
وجيه (مذعورا) :
وجيه!
الصحافي :
هذه المرة تخنتها، جورنالي أبيض، وموعد الطبع بعد ربع ساعة، خربت بيتي، ما هي العجائب الغرائب التي وعدت بها؟
العواد :
يا أستاذ وجيه، أنا مستعجل، (يأخذ محفظته)
هذه مائة ليرا، اعمل معروف، أعطني النشيد (حينما تلتف أصابع وجيه على الفلوس يخطفها الصحافي) .
الصحافي :
هذه لي، خربت بيتي. هذه تعويض عن العجائب والغرائب ...! أين التليفون؟ (بعد التفتيش على التليفون يلتقطه عن الأرض، ويجرب أن يستعمله فيجده ميتا) ، تليفونك ميت يا وجيه (وجيه، مذعورا، يركض ويربط الشريط بالحائط)
من قطع التليفون؟
أم ظريف :
أنا قطعته، ما بيحكي إلا فرنساوي!
وجيه (يهجم ليستعمل التليفون فيرده الصحافي) :
قطعت التليفون اتركني أتلفن، يا ربي، البوليس، البوليس، سأمسي أضحوكة بيروت.
الصحافي :
لن أسمح لك بالتليفون، جورنالي، جورنالي، (الصحافي يطلب نمرة)
هلو ... ما عندك أخبار ...؟ الجورنال أبيض، هاه! (خلال ذلك يتطلع بوجيه متوعدا)
اسمع، في الصفحة الأولى، انقل عن ابن خلدون ... في الصفحة الثانية انقل عن ابن بطوطة ... في الصفحة الثالثة عن ابن خلكان ... أعرف أننا نقلنا عنهم، انقل عنهم من جديد، الصفحة الرابعة، أين أبو العلاء المعري؟ أبو العلاء المعري مات أعزب؟ وابنه علاء؟ يا عيب ...
الأستاذ :
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
الصحافي (متطلعا بوجيه) :
هذا جناه ...
وجيه :
اسمع! أرجع لي المائة ليرا! أنا وعدتك بأخبار وعندي أخبار.
الصحافي :
مثلا؟
وجيه :
سقطت الوزارة.
الصحافي :
سقطت الوزارة، حلوا المجلس، كلما أفلست من الأخبار تأتيني بهذه الكذبة، هذه المرة أريد حقائق، عجائب غرائب.
وجيه (يشرب فنجان القهوة دفعة واحدة، وينير وجهه كمن استفاق من حلم) :
اسمع هل تعتقد أني كذاب؟
الصحافي :
نعم.
وجيه :
وعدتك بعجائب، هذه هي الأولى: لحام يستعيد شبابه! هذا توفيق اللحام ... أتذكره؟
الصحافي :
أنت توفيق اللحام؟
اللحام (يلعب ألعابا جيمناستيكية) :
أنا توفيق اللحام.
الصحافي (على التليفون) :
اقتل ابن خلكان، وابن بطوطة، وابن خلدون، اقتل جميع بني آدم، اطبع الجورنال إكسترا ملحق، ظهور عجائب في بيروت، العجيبة الأولى: لحام يستعيد شبابه. (إلى وجيه)
العجيبة الثانية؟
وجيه :
امرأتان تستعيدان الصبا.
الصحافي (على التليفون) :
امرأتان تستعيدان ... لا، اقتل المرأتين، اقتل جميع النساء (لوجيه)
رجعت تكذب علي؟! هذه ليست عجيبة. المرأة دائما تستعيد صباها!
وجيه (يتقدم منه الشيخ نسيب ويعطيه عريضة الاستعفاء) :
العجيبة الثانية: شاب يرفض وظيفة حكومية.
الصحافي (على التليفون) :
العجيبة الثانية: شاب يرفض وظيفة حكومية!
وجيه :
العجيبة الثالثة: مالك يسامح مستأجرا بالإجار. (أم ظريف ترقص باختصار.)
الصحافي (على التليفون) :
العجيبة الثالثة: ملاك يسامح مستأجرا بالإجار.
وجيه :
هذه القهوة طبخت بنار مخطوطة أدبية، العجيبة الرابعة: مؤلف أدبي له نفع.
الصحافي (على التليفون) :
العجيبة الرابعة: مؤلف أدبي نفع البشرية.
وجيه (مشيرا إلى مدام زعرور) :
العجيبة الخامسة: أم تزوج ابنتها بدون مصاغ.
الصحافي (على التليفون) :
العجيبة الخامسة: أم تزوج ابنتها بدون مصاغ. (مدام زعرور ترجع إلى دوس المصاغ.)
وجيه :
العجيبة السادسة: ظهر في لبنان رجل يلبس اسمه عاريا عن أي لقب، (يغمز نايف حيمور) .
نايف حيمور :
نعم، اسمي نايف حيمور، لا بيك ولا دكتور.
الصحافي (على التليفون) :
العجيبة السادسة: ظهر في لبنان رجل يلبس اسمه رجل يلبس اسمه عاريا عن أي لقب.
الصحافي (لوجيه) :
انتهت العجائب؟
وجيه :
انتهت. اليوم العجائب، وغدا الغرائب.
الصحافي (على التليفون) :
اطبع هذه الأخبار بأكبر حروف، وأصدر إكسترا، ملحق، (يقفل التليفون) .
الصحافي (لوجيه ) :
وجيه، أنت نابغة! لو قصدت لحملت الجبال على كتفيك.
وجيه :
لو قدرت أن أحمل كيس طحين كنت صرت عتال.
الصحافي :
هذه العجائب ... كم ثمنها؟
وجيه :
ست عجائب، احسب ثمن العجيبة 25 ليرا، يكون المجموع 150 ليرا. (الصحافي يفتح محفظته ويبدأ بعد فلوسه، وكأنما رشق بحجر فينتفض.)
الصحافي :
كم عجيبة قلت؟
وجيه :
ست عجائب.
الصحافي (يركض إلى التليفون) :
يا ويلي! يا خرابي! (بعد أن يطلب نمرة)
اقتل العجائب، انشر ابن بطوطة ... وابن خلكان، يا ربي! خرب بيتي.
وجيه :
لماذا؟
الصحافي :
اسمع، من يريد ست عجائب، عجائب الدنيا سبع، أيام الأسبوع سبعة، المعلقات سبع، من يقرأ جورنالي، إذا نشرت ست عجائب؟
وجيه :
قلت لك: إن المرأتين ...
الصحافي :
اتركني من النساء. امرأة تستعيد صباها، هذا خبر عادي يا مجنون!
وجيه (بعد تفكير) :
احسب رفض الوظيفة عجيبتين، أولا: لأنها وظيفة حكومية، وثانيا: لأنها وظيفة جمركية.
الصحافي :
لا. لا ... شخص واحد، عجيبة واحدة. (يسمع صياحا وضجة، ويدخل عدد من البوليس قابضين على بائع كعك، اثنان يضربانه، وآخران يحملان الطبق والكعك، ضوضاء.)
ضابط البوليس :
أين القتيل؟
وجيه :
أي قتيل؟
ضابط البوليس :
تلفن أمين النابلسي أن في هذه الغرفة قتيلا فجئنا، وقد عثرنا على هذا الشخص خارج البناية في حالة مريبة، والآن اعترف أنه القاتل، أين؟ أين القتيل؟ (يقبض على عنق القاتل ويهزه)
أنت القاتل؟
بياع الكعك :
أنا القاتل!
ضابط البوليس :
أتعترف!
بياع الكعك :
أعترف.
وجيه (للصحافي) :
هذه هي العجيبة السابعة: البوليس يقبض على القاتل والقتيل فار من وجه العدالة!
الصحافي (يركض إلى التليفون) :
اقتل ابن بطوطة ... اقتل ابن خلكان ... اقتل علاء ابن أبي العلاء المعري ... اقتل كل عائلة المعري، انشر العجائب السبع ... العجيبة السابعة: البوليس يقبض على القاتل، والقتيل لا يزال فارا من وجه العدالة، طيب سأخفض صوتي (يستمر بالكلام، بحيث لا تسمعه النظارة) .
العواد :
يا أستاذ وجيه ... صار لي ساعة أنتظر. (وجيه يفتش على النشيد ويعطيه للعواد.)
اللحام (لأم ظريف) :
أم ظريف! أنت أرملة وأنا أرمل، أنت شابة وأنا شاب، هل تريدين أن تكوني ملكة دكاني، وذابحة أغنامي، ومنظفة مصارين ذبائحي؟
أم ظريف :
بشرط أن أستلم المبيع والميزان.
اللحام :
استلمي كل شيء. (يشتبكان ذراعا بذراع.)
مدام زعرور (لحيمور بلهجة مغازلة) :
يا منافق!
حيمور (بميعان) :
يا منافقة!
مدام زعرور :
راجع إلى غرانيلا؟
حيمور :
آ ...
مدام زعرور :
وحدك؟
حيمور :
كيف أكون وحدي وأنت معي! (يشتبكان)
كروس الخواتم كم خاتم؟
مدام زعرور :
الكروس 12 دزينة، والدزينة 12 خاتما، فالكروس 144 خاتما.
حيمور :
الله الله، ما أذكاك! كيف تعلمت كل هذه العلوم؟
مدام زعرور :
ابن أختي درس في الجامعة الأميركية.
حيمور :
يا جواهري!
مدام زعرور :
يا مصاغي! (يتقدم اللحام ويفتح الصرة التي أهداها لوجيه فإذا هي لحم مقطع مفروم.)
وجيه (لعايدة) :
أتحبين اللحم المشوي؟
عايدة :
دخان ناره كحل لعيني. (العواد يدق، والكل يغنون «عاش تعسا».) (وجيه وعايدة يشكان اللحم بالأشياش، الشيخ نسيب والأستاذ يغازلان كل خطيبته، حيمور ومدام زعرور كذلك، أم ظريف واللحام في مواقف غرامية. الصحافي على التليفون هائجا يصدر أوامر بصوت غير مسموع، رجال البوليس يجمعون الكعك المبعثر على الأرض، ويعيدونه إلى الطبق، بعضهم يأكل بعضه، وفي هدأة بين الإنشاد.)
بائع الكعك :
العدل أساس الملك، كعك سخن! (الستار)
إلى المخرج
هل تذكر عداءنا في «نخب العدو»؟ لئن كنت مثلي حقودا، فليهنأك هذا الظفر، أما تراني الآن بين قدميك؟
لقد أخبرتك في «نخب العدو» أني أمقتك وأنك تمقتني، وأن رفقتنا في تلك السفرة المسرحية شركة فرضها علينا الفن، وإني أصارحك الآن أن خيلائي كان سببها ثقتي أن «نخب العدو» ناجحة أيا كان مخرجها، أما هذه المسرحية «حفنة ريح» فجناحها ذو لون آخر، هي طائرة صغيرة محكمة البناء، كل قطعة منها جيدة العنصر رصعت حيث يجب أن ترصع، وهي ملأى بالوقود الجهنمي يتفجر قوة، ففي استطاعتك أن تهبط بها إلى الهاوية أو تصعد بها إلى المريخ.
أفهمت لماذا أنا الآن بين قدميك؟
أنت وأنا - المخرج والمؤلف - شريكان في كل جهد مسرحي، غير أن حصتك في هذه الرواية هي الكبرى، حتى لأصبحت أنا كدمية مهملة.
والآن هلا سمحت لي أن أحدثك بكل خضوع عنها؟
وجيه
كنت أتزود من الحياة العبر؛ لأؤلف منها مسرحية كبرى؛ إذ ومضت «حفنة ريح» وتراقص أشخاصها أمام عيني، وتدافعت حوادثها قبالة بصيرتي، وراحت تلح علي أن أدونها قبل المسرحية الكبرى، فلما حبكت تصميمها وجدتها كاملة الأوصاف إلا ... إلا أن «وجيه» بقي على المسرح منذ أن ارتفع الستار إلى أن هبط، وغير خاف عليك أن النظارة تمل من يحتكر المسرح، وأن الممثل يجهده مثل هذا الموقف المستمر، فرحت أتأمل، وما زلت أحتال على «وجيه» وأفكر وأدرس وأشتغل، حتى تيسر لي تنحيته عن المسرح بحادثتين معقولتين.
لقد أفنيت في هذا الجهد - تنحية وجيه عن المسرح - تسعة شهور، أتفهم الآن ما يبرر نزق المسرحيين متى قرءوا نقدا يوحيه جهل الدرامة؟ وهل تدري لم ينقمون على المخرجين إن تكاسل هؤلاء أو أعوزهم الفن؟
هل تفهم معنى هذه اللفظة؟ لماذا احمر وجهك؟ أكثر الناس لا يعرفون معناها، كذلك لم يكن من سلامة الذوق أن أسألك، ففي مقدور أي من الناس أن يفحم صديقه بأن يسأله معنى لفظة ما، وإن أغلط أهل الأرض من يسألك: هل قرأت الكتاب الفلاني؟ موقنا كل اليقين أنك لم تقرأه، لا تهرع إلى القاموس، فلئن وجدت هذه اللفظة هناك فهي تهجي بال
a
لا بال
e . والقاموس يربطها بأرسطاطاليس، وأنت وأنا وشمدص جهجاه لا يهمنا أمر أرسطاطاليس؛ لأنه ميت، ونحن لا نهتم بغير الأحياء، إذن فلنشرح هذه اللفظة بلغة نفهمها، لغة اليوم.
لعل أفضل تعريب لها هي «التأرجح»، وربما سعتقنا
1 «الحربأة» نسبة إلى الحرباء لفظة أجمل لولا ما غلب على أذهان الناس من أن المداجاة ملازمة للحرباء.
في تاريخنا المعاصر نجد مثلين رائعين يفسران هذه اللفظة، أتذكر في الحرب الكونية الأخيرة، كيف كان رومل
Rommel
القائد الألماني في شمالي أفريقيا يحشد جنوده في دائرة، فهو في استطاعته أن يهاجم أي ناحية، أو ينسحب إلى أي جهة؟ ... هذا كان بعض أسباب تفوقه، إذ لم يفصح عن جهة مسيره بشكل ترتيب جيوشه، والمثل الثاني: هل تابعت الأخبار الانتخابية في لبنان؟ هل لاحظت قائمة شمعون، جنبلاط قبيل الانتخاب ؟ ستكون القائمة دستورية، لن تكون دستورية، ستحتضن الكتائب، لن تحتضن الكتائب، سيكون فيها سليم الخوري، لن يكون فيها سليم الخوري، انشطر عنها إميل لحود، اشترك فيها إميل لحود، الحيرة والتأرجح والتردد واحتمال وقوع أي شيء، ضع كل هذا في قنينة وخضها تفز بكوكتيل اسمه
.
ما لك وسعت أحداقك واصفر وجهك؟ إن ما لمح في فكرك صحيح، الأدب العربي خلو من التأرجح؛ إذ إن البدوي بطبيعة بيئته - كان ولا يزال - واضح المرمى، فهو يقصد بئرا يرتوي منها، أو عدوا يقاتله، أو مرعى يشبع منه مواشيه، فليس التردد والدوران والتأرجح مما ينسجم وطبيعة البادية، رومل كان يخاف الهجوم من الجو والبحر، «الشمال» والشرق، والجنوب، ثم جاءه الأميركان من الغرب، أما أخونا البدوي فهدفه وعدوه وحبيبه وطلله، كلهم في نقاط معينة.
وفقدان التأرجح ليس هو في الأدب العربي فقط، بل هو ملحوظ كذلك في التفكير العربي، صاح بي صديق أميركي بعد جدال ساعة في قضية فلسطين: «عجبا لعقولكم أيها العرب، ألا تبصرون من الألوان إلا الأسود والأبيض؟ أليس عندكم فجر رمادي اللون يذوب فيه الليل والنهار؟»
بلى، لقد ثاب إليك وعيك، فذكرت أن التأرجح على أروعه هو في سورة يوسف من القرآن الكريم، وهو كذلك هنالك مقتضب في بعض نوادر العرب، أما فيما عدا ذلك، فدلني عليه في العربية!
وما نحن في بحث اجتماعي لنتبسط في هذا الموضوع، بل يكفي أن نذكر أن وضوح المرمى، ومعرفة الدرب إليه، ليسا من العناصر الدراماتية.
كل ما أريد أن أزعم - يا حضرة المخرج - أن بين يديك في «حفنة ريح» التأرجح في أكمل أشكاله، من اللحظة التي يرتفع بها الستار، إلى «كعك سخن»، ولم يقتصر التأرجح على الكلام الملفوظ، بل إنك لتراه صامتا في المشاهد الصامتة حين يفحص «حيمور» الجواهر عليه أن يتأرجح بالنظارة، فيوهمها أنه اكتشف حلاه، ثم يتردد، ثم يعجب بالحلي، ويظهر جهله لمصدرها، ثم ينفعل ... ثم ... كل هذا بتغيير سحنة أو قلب شفة، أو ... ما أنا بمخرج هذه الرواية لأعرف كيف يكون الإبداع في تمثيلها، كذلك بين «نو سنيور» و«سي سنيور» دنيا للتأرجح فسيحة.
تقي الدين الصلح والكعب بن الحميد الطهنشاوي
الأستاذ الكعب ليس هو بالشخصية الجديدة، لقد خلقته منذ 23 سنة لتقي الدين الصلح الذي أوحاه في رواية سخيفة ألفتها اسمها «قضي الأمر»، لقد نجت تلك المسرحية من عار الخيبة بسبب تمثيل تقي الدين الصلح، كاد الضحك والتصفيق يهدمان حيطان القاعة كلما ظهر الأستاذ، لئن اجتمعت بتقي الدين الصلح فليشرح لك دور «الكعب»، ولقد أبحت لنفسي أن أسرق من إنتاج صباي عبارة يجوز أن يقال: «فلقتني» إنما الأصح أن يقال: «فججتني»، هذه العبارة رعد لها التصفيق منذ 23 سنة، وأعتقد أنه سيرعد، وإن لم تصح هذه النبوءة فما الذنب ذنبي ولا ذنب تقي الدين الصلح ولا ذنب شمدص جهجاه!
رأسي أعريه
إني أرفع برنيطتي بيميني، وأضعها إلى قلبي، وأنحني إلى الأرض، برغم ضخامة وسطي أمام الفتيات اللواتي مثلن أدوار النساء في «نخب العدو» وإني مسر إليك أنني توقعت هذا الأمر لسبب بسيط هو أنني بنيت الأدوار النسائية بحيث لا تأنف امرأة شريفة أن تمثل أحدها، لا قبلات، ولا عناق، ولا اشتباك أكف، وقد كنت أسائل نفسي، وأنا أؤلف «نخب العدو»: هل أرضى أن تمثل هذا الدور زوجتي أو ابنتي؟ وكنت أسمع الجواب: «نعم»! فلا عجب أن مثلت أدوار تلك الرواية فتيات هن من «بنات العائلات»، ترى أهذه هي المرة الوحيدة التي ظهرت بها الفتاة العربية والفتى العربي على المسرح في مسرحية؟ أنت تعلم أنني أعني من الفتيات ابنة العائلة، لا تلك التي أمها عزباء وأبوها مجهول محل الإقامة، وأني ولوع بلفظة «وحيد»، حتى لقد أوصيت أن ينقش على قبري «هذا ضريح الرجل الوحيد الذي أعجب بسعيد تقي الدين.»
استشهدت بما سبق؛ لأثبت لك أنني رجل عملي يواجه الحقائق، حينما كنت أكارا كانت دابتي في معظم الأحيان محملة سائرة في الطريق لا مربوطة إلى معلف، وهذه الرواية «حفنة ريح» لم أكتبها لتحفظ في متحف بل لتمثل، وستمثل بنجاح على الرغم من أنك مخرجها؛ بسبب أني تفرست فيها بوقائع الحياة، فنحن ليس عندنا من المسرح حتى ولا أخشابه، وأنت ترى في «حفنة ريح» أنها ذات مشهد واحد من السهل إعداده، فلا رياش ثمين، ولا مناظر غير عادية، ولا تغيير مشاهد تتطلب السرعة والاستعانة بالآلات الميكانيكية أو الأنوار الكهربائية الملونة، أو تزييف الضوء وتغييره بين سطوع وسواد وما بينهما من ألف لون.
كذلك أعرف أن منظماتنا غير محترفة؛ لذلك جاءت «حفنة ريح» قصيرة تفسح المجال لرئيس جمعية «الفلاح والكفاح» أن يرش على النظارة شيئا من اللعاب خلال ممتع الخطاب، أو لقائمقام القضاء أن يظهر افتتانه بأعضاء الجمعية النبهاء الذين يمثلون الرواية، أو لفرقة التلامذة أن يغنوا (نظم الأستاذ محروس بك النابه) نشيد الجمعية:
كلنا نبغي الفلاح
في مساء أو صباح
ولكن أذكر أن كل هذه الحوادث الجسام تجري قبل الرواية لا بعدها، وأن كل ما يسبق الرواية يجب ألا يستغرق أكثر من 29 دقيقة، تسعا وعشرين دقيقة، لا ثلاثين، أفهمت؟
حين مثلوا روايتي «لولا المحامي» في بغداد للمرة الأولى، نهض شاعر لم يظهر اسمه على البرنامج ليلقي بضعة أبيات، فلما فتح فمه وقع ميتا بطعنة خنجر، ولم تهتد الحكومة حتى اليوم إلى معرفة القاتل، أريد أن أعترف لك بأنني أنا الذي قتلته، إن لي شبحا يرافق رواياتي في ليالي التمثيل، وهو يطعن بخنجر مميت كل من يخالف وصاياي.
أغلاط طفيفة
أحذرك من اقترافها؛ مثل أن يجلس أحد الممثلين بين الجمهور بعد أن ينتهي من تمثيل دوره على المسرح، هذه عادة سمجة تقتل الرواية، في تلك الليلة أنت جاد في أن تظهر على المسرح قطعة من الحياة تحاول أن تجعلها حقيقة واقعة، فيأتي أحد ممثليك، فريد أسعد معزور، وبعد أن ينتهي من إبداعه يرجع إلى القاعة، فيجلس بين أفراد عائلته، وهم عادة في المقاعد الأمامية، لئن فعل ذلك فاقبض على رقبته وارم به خارجا، وبعد أن تدغدغ مشفريه بلطمة ساحقة بلغه سلامي، وقل له: رويدا حتى ترجع إلى بيتك فستعانقك الماما فرحة بنجاحك، وستخف إليك في صباح الغد ابنة الجيران بعبارات التهنئة والمديح، أما الآن فابتعد عن الجمهور؛ إذ إننا لا نريد أن نقتل «حفنة ريح». «ترابة إفرنجية»، «سمنت»، «شمنتو»
ليس في الأدب العربي كتاب يفوق «الحواشة السخفولية» قيمة، إذا وقعت بين يديك نسخة منها، فأنت ترى في باب المسرحيات أن الممثل يتمتع بجميع الحقوق التي ينعم بها الشاعر؛ مثل تسكين أواخر حروف الكلمات، وصرف ما لا ينصرف، فلتكن لهجة ممثليك ونطقهم الكلمات أقرب ما يكونان إلى اللهجة العادية في المحادثات، لاحظ قولي «اللهجة العادية» لا «اللهجة العامية»، ولئن اقتتل الفن وعلم النحو، النحو والصرف، فلا تنس أن هذه التي في يمينك هي راية الفن، واذكر أنني أول من اقترح إقامة تمثال للأستاذ إسعاف النشاشيبي، وكنت البادئ بافتتاح الاكتتاب؛ إذ تبرعت بدينار مزيف! ... ولكن لكل موقف رجل، وأنت إذن تكشف أمام جمهور ناحية من نواحي الحياة، تريد أن تحدثهم بكلمات يفهمونها، وإلا كان الأمر حماما بدون مياه؛ إذن فلك أنت أن تستعيض عن «سمنت» ب «شمنتو» أو «ترابة إفرنجية» أي منها أكثر شيوعا وأقرب إلى قلوب الجمهور، وهذا ما ينطبق على «ياخور» أو «إسطبل»، لا تقتل النكتة أو الرواية؛ رغبة بإرضاء الأستاذ إسعاف، الحكومة اللبنانية أرضته، منحته وساما، سأخترع يوما من الأيام شيئا هو عكس الوسام.
خذ عبارة «لو كان دماغك ترابة إفرنجية، لكان رأسك أكبر من معامل شكا» هذه العبارة تكون ناجحة في بيروت، أما في بغداد مثلا، فإنهم لا يعرفون معامل «شكا»، وإني أفوضك بأن تستبدلها بما يفهمه الجمهور العراقي، في بغداد التمر كثير، فيها بالطبع تاجر كبير له عنابر هائلة، لنفرض أن اسمه «جاد الله»، إذن فالعبارة تصبح «لو كان دماغك تمرة، لكان رأسك أكبر من عنابر جاد الله» هكذا يفهمها الجمهور البغدادي.
أنت مخرج ولك أن تخلق وتتفنن، من يمنع أم ظريف من حك مؤخرتها كلما أرادت التفكير أو عرتها حيرة؟ من قال لك: إني أغضب عليك إن وضعت تحت سرير وجيه آلة عتلتة
2
يخرجها ليتروض بها ويهتم برفع أثقالها؛ إذ يرجعها بحركة مضحكة سريعة ولا يتروض.
اليمين واليسار
متى وقعت عيناك على هاتين اللفظتين في هذه الرواية، فهما تعنيان يمين النظارة ويسارها، و«خلف»: معناها ذلك الجزء من المسرح الأبعد عن الجمهور، و«أمام»: معناها ما قرب من المسرح إلى الجمهور.
على الباب
الانصراف من المشهد هو موقف مسرحي رائع، وأنت - لا ريب - تلاحظ أن كلا من أشخاص هذه الرواية يفوه بكلام فخم أو مضحك حينما ينصرف، فلا تدعن ممثليك يتركون المسرح جارين أرجلهم، بل لتكن وقفة كل واحد منهم «على الباب» وقفة مسرحية، فيطلق العبارة الأخيرة قبل انصرافه بحماس وحياة، هذه الوقفات «على الباب» هي من عناصر قوة «حفنة ريح»، وهي يجب أن تستثير تصفيق الامتحان، على أن جماهيرنا تجهل أنه من «اللياقة» أن يصفقوا للممثل حين ينصرف، وبعضهم لا يدري إن كان أدب الفن يسمح بالتصفيق عند الانصراف، فعليك أن تثقف الجماهير بأن تزرع بين النظارة من يبدأ بالتصفيق عند مشاهد «على الباب»، واترك للجمهور أمر إظهار الاستحسان ضئيلا كان أم هائلا.
السطر
هذا تعبير أميركي، يقولون: فلان له «سطر»، ويعنون بذلك أن له طريقة في الكلام، أو عبارة يرددها، في «حفنة ريح» ترى «السطر» على لسان العواد: «صار لي نصف ساعة أنتظر.» فليرددها، واعتبر في غرابة عقلية الجماهير التي يضحكها أمر بسيط هو ترداد عبارة مشهدا بعد مشهد، وليس لي أن أشير عليك بأن تقوي هذا «السطر» بأن تحمل الممثل ساعة يظهرها حين ينطق بسطره، وأحيانا يظهر الساعة من غير أن ينطق بالسطر.
من مبررات الإعدام
حدثتك عن شبح يحمل خنجرا يطعن به من خالف وصاياي، ولقد فاتني أن أحدثك أنه كذلك يحمل رشاشا يصب رصاصه على كل مخرج يعطى لشخص واحد أكثر من دور واحد في أي رواية، فحذار حذار.
إفرنجيتان
في هذه الرواية فتاتان أميركيتان لا تنطقان إلا ببضعة ألفاظ، واحدة تلبس قميص سباحة، والثانية تلبس البنطلون، لن يصعب عليك أن تقنع فتاة بلبس البنطلون، ولئن خانتك ذرابة اللسان عن الإقناع ، فأت بفتاة إفرنجية تلبس قميص السباحة، غير أنه ما زال همنا - أنت وأنا وشمدص جهجاه - أن نخرج بالفتاة العربية من خدرها، فاقبل بفتاة تلبس الفسطان العادي، وضع على لسان الأستاذ عبارة «إن حلة الانغماس بالبحر التي يسمونها قميص السباحة لمقدر وجودها تحت الفسطان.»
والآن - وقد سمعت أوامري - انهض من بين قدمي، فإني أريد أن أعانقك؛ فنحن بدأنا الحديث وأنا على قدميك، وأنهيناه وأنت بين قدمي، ثم ختمناه بعناق، أفهمت الآن معنى «التأرجح» أو«الحربأة» أي ال
؟
27 أكتوبر سنة 1947، مانيلا، الجمهورية الفلبينية
अज्ञात पृष्ठ