واستشار أهل الخبرة، وبفضلهم اشترى أرضا في الخفير، وشرع في بناء قبر مناسب. وكثيرا ما تفقد العمل بصحبة مهندس من الإدارة الهندسية بالوزارة. وسأله المهندس: أليس للأسرة مقبرة قديمة؟
فأجاب بثبات: قديمة جدا، واكتظت بالآباء والأجداد، فدعت الضرورة إلى بناء هذه المقبرة ..
فقال المهندس: شتان بين الجديد والقديم في القبور، القبر الجديد بناء عصري جميل .. - أنا لا أهتم بتملك بيت في الدنيا فشقة مستأجرة تفي بالغرض ولكن لا مناص من تملك قبر وإلا ضاعت كرامة الإنسان ..
فضحك المهندس وقال: في الهند يحرقون الجثث ..
فقال متأففا: أعوذ بالله ..
فضحك المهندس كرة أخرى وقال: أتريد رأيي؟ النار أحفظ لكرامة الجثة من التراب، أليس لديك فكرة من أطوار تحلل الجثة في القبر؟
فقال بضيق: كلا ولا داعي ألبتة لهذه المعرفة!
وتفكر قليلا ثم سأل المهندس: ألا يحسن بناء دورة مياه؟ - ستستعمل في غيابك، وبطريقة مقززة! - ولكن لا بأس من زراعة شجرة أو لبلابة .. - ليكن، ويمكن ريها من الخارج ..
وتم البناء فذهب لتسلمه ودفع باقي الأتعاب. وتفحص القبر بإعجاب. كان بابه مفتوحا، والسلم يرى في تدرجه نحو المنامة متألقا بنور الشمس. وانحنى قليلا ليلقي نظرة على أرضه المنبسطة الجديدة المكللة بالضوء والنقاء والنظافة وشعر باطمئنان غريب غير متوقع. فها هو البيت الباقي قد أعد، ولن تضيع عظامه في زحمة العظام كوالديه. وبخلاف المتوقع أيضا انبجس من أعماقه شعور ناعم غريب يدعوه بهمس كالغزال إلى الرقاد فوق الأرض النظيفة المضيئة، ليتذوق راحة لم تقسم له في حياته، وليستمتع بهدوء لم يعرفه وسط انفعالاته المتلاطمة الحارقة، نداء مجهول ود لحظتها لو يطيعه منفضا يديه من الدنيا بكل همومها وآمالها. ولم يفق من غمرة مشاعره المجهولة حتى غادر القرافة راجعا إلى المدينة. كم يود أن ينقل والديه إلى القبر الجديد ليكمل اطمئنانه إليه ولكنه علم باستحالة ذلك منذ زمن غير قصير. أجل فإن قبر الصدقة يكتظ بالجثث بحيث يستحيل التمييز بينها. وقال متسولا الاقتناع بحكمة تصرفه: ليس من شك في أن حياتي اليوم خير من حياتي أمس ..
وهي لا تعني بحال أنه حاد عن طريق الله وكلمته الأبدية، وإن اعتراه فتور ملحوظ ..
अज्ञात पृष्ठ