فقال الشيخ: الولد ذكي وعاقل وربما رأيته يوما من رجال الحكومة ..
وقهقه عم بيومي غير مصدق فقال الشيخ: عليك بمدارس الأوقاف فربما قبل بالمجان.
وتردد عم بيومي زمنا ثم تمت المعجزة. ونجح عثمان في المدرسة نجاحا مذهلا حتى حصل على الابتدائية. تميز عن أقرانه الحفاة من أبناء الحارة ورأى بعينيه الحادتين أول شرارة مقدسة تنطلق من فؤاده النابض وأيقن أن الله يبارك خطاه ويفتح له أبواب اللانهاية. والتحق بالمدرسة الثانوية بالمجان كذلك فحقق من النجاح ما لم يصدقه أحد في حارة الحسيني. ومرض عم بيومي مرض الوفاة وابنه في السنة الثانية، فندم الرجل على ما «فعله» بابنه وقال له: ها أنا أتركك تلميذا لا حول له، فمن يسوق الكارو، ومن يحفظ البيت؟
وفاضت روح الرجل وهو حزين، وضاعفت الأم نشاطها مؤملة أن يجعل الله من ابنها كبيرا من الأكابر، أليس الله بقادر على كل شيء؟! ولولا وفاة الأم بغير توقع؛ لأكمل عثمان تعليمه في المدارس العليا. وقد اشتدت لذلك حسرته ، وضاعف من حدتها اكتمال وعيه بطموحه وبأحلامه المقدسة. ومقدسة عنده أيضا ذكرى والديه. وكل موسم يزور قبرهما - وهو من قبور الصدقة - الضائع بين القبور في العراء. وهو اليوم وحيد، مقطوع من شجرة. قتل أخوه الأكبر - كان شرطيا - في مظاهرة، وماتت أخته بالتيفود في مستشفى الحميات. وأخ آخر مات في السجن. إنه يتذكر أسرته فيشقى بالتذكر ويرثي لوالديه، ويقرن تلك الأحداث بدراما عليا يتطلع إليها باحترام ووجل؛ فالمصائر تتقرر في الحارة بفضل الإرادات المتصارعة والقوى المجهولة ثم تتقدس في الأبدية؛ لذلك فهو يؤمن بنفسه بلا حدود ولكنه يعتمد في النهاية على الله ذي الجلال؛ ولذلك أيضا فلا تفوته فريضة وبخاصة صلاة الجمعة في جامع الحسين. وكإيمان أهل حارته لم يكن يفرق بين الدين والدنيا، فالدين للدنيا والدنيا للدين، وجوهرة متألقة مثل درجة المدير العام ما هي إلا مقام مقدس في الطريق الإلهي اللانهائي. ولما كان يعيش بين زملائه بوعي يقظ لماح فقد التقط ما يهمه من المعاني والكلمات، ثم عكف على دراسة خطة دقيقة للمستقبل، ترجمها في ورقة عمل ليذاكرها كل صباح قبل انطلاقه إلى العمل:
شعار للعمل والحياة (1)
القيام بالواجب بدقة وأمانة. (2)
دراسة اللائحة المالية التي يشار إليها كأنها كتاب مقدس. (3)
الدرس للحصول على شهادة عليا ضمن الطلبة الذين يعملون من منازلهم. (4)
دراسة خاصة للغتين الإنجليزية والفرنسية بالإضافة إلى العربية. (5)
التزود بالثقافة العامة وبخاصة الثقافة المفيدة للموظف. (6)
अज्ञात पृष्ठ