وكنت قد نسيت حكاية هذا النذر تماما، فقد حدث خلال العام أن انتابتني حالة يأس وأنا أذاكر، واعتراني شبه يقين أنني مهما فعلت فلن أنجح أبدا، وكدت أبكي ساعتها، ولكني ذهبت إلى جدي، وصنعت له قهوة زائدة السكر كما يحبها وحملتها له خلسة (إذ كان يحب القهوة، وكان جدي الأصغر، ابنه، يمنعه عن شربها، فكان بيننا شبه اتفاق، أن أسرق له البن والسكر، وننتحي مكانا قصيا نصنع القهوة فيه، في مقابل أن يحدثني هو بعد أن يزن رأسه عن زمان وأيام زمان الحلوة)، يومها حملت له الفنجال، وانتظرت إلى أن شربه كله شفطة شفطة، ولحس كل البن المترسب في القاع، ثم سألته إن كان يعتقد أني سأنجح، والشيء الغريب أني كنت متأكدا أن جدي الأكبر هذا لا يعرف ما هي المدارس، ولا ما هو النجاح، ومع هذا فحين قال لي لحظتها إنني سأنجح بإذن الله، أحسست أنني لا بد سأنجح، وكدت أطير فرحا، غير أنه اشترط لنجاحي يومها أن أنذر للسلطان حامد نصف دستة شمع أوقدها في ضريحه.
ولم يتركني إلا بعد أن نذرت النذر أمامه، وأعدته مرارا حتى أطمأن إلى أنني لم أخطئ في قوله.
ولم تكن مشكلة أن أحصل على ثمن الشمع؛ فقد كنت ناجحا، وطلبات الناجح، خاصة في يوم نجاحه، لا تلقى معارضة تذكر.
ولم أغفر لنفسي أن الشيطان يومها راودني حين ذهبت إلى الدكان، وفي الحقيقة لم يكن هو الشيطان، كان «البرطمان» الذي يحتوي كمية هائلة من «الكراملة» ويرقد على جانب البنك هو الذي راودني.
وقسمت العرب عربين كما يقولون، واشتريت بنصف ما معي ثلاث شمعات وبالنصف الآخر «كراملة».
وبينما كنت آخذا طريقي إلى حافة «الجبانة» حيث مقام السلطان كنت لا أزال أؤنب نفسي، بل أحيانا كنت أتصور أن السلطان حامد سينتقم للثلاث شمعات التي اغتصبتها من نذره بأن يزورني في المنام مثلا، أو يصيبني بداء الصفرة.
ولست أدري أكان هذا هو السبب في اضطرابي أم شيء آخر كان السبب، فقد بدأت أحس باضطراب شديد حين أشرفت على الجبانة ورأيت مقام السلطان حامد من بعيد، وشيء غريب هذا، فآلاف المرات رأيت مقام السلطان حامد من بعيد، دون أن أحفل به، حتى لون الضريح لم أكن أعرفه، ولا كان يهمني من السلطان في قليل أو كثير، ولكني مع هذا كنت مضطربا، حتى فكرت أكثر من مرة في أن أولي الأدبار وأطلق ساقي للريح عائدا إلى بيتنا، خاصة وأن مسألة النذر هذه لم تكن قد دخلت إلى عقلي، وأنا متأكد أن السلطان هذا ليس له أي علاقة بنجاحي، وأنه لم يساعدني في الإنجليزي ولا غششني في مسألة القسمة المطولة، والنذور والعفاريت وشم البصل يوم شم النسيم، أشياء لم أكن أؤمن بها، لا لأننا كنا قد أخذنا في المدرسة أنها بدع ورجس من عمل الشيطان، ولكن لأن الناس كلهم يأخذونها كالقضايا المسلم بها، فكيف أفعل أنا هذا؟! وما فائدة تعليمي حينئذ وبدلتي؟!
ورغم شدة اضطرابي فلم أرجع، لا خوفا من جدي، ولكن خجلا من نفسي وخوفا من أن أبدو أمامها كالجبان، والظاهر أننا ونحن أطفال نخجل من الفرار أيضا مثلما يفعل الكبار.
وهكذا ظللت أخاف وأتحدى الخوف وأتقدم تدفعني الرغبة في القيام بتجربة جديدة حتى وصلت إلى مقام السلطان حامد، كان قائما في ركن من الجبانة، وبجواره طريق مقطوع لا يمر به أحد، وكانت أول مرة أرى فيها الضريح عن قرب، ولم يكن ضريحا بالمعنى المفهوم، كان أهل بلدنا يسمونه المقام، ولهم حق، فلم يكن يشبه من قريب أو بعيد أضرحة أولياء الله في القاهرة، وكنت قد زرتها مع أبي، ورأيت روعتها، وسجاجيدها السميكة الفاخرة، وشبابيكها المذهبة، ونجفها الفخم الكبير والرائحة الغريبة الغامضة التي تملأ جوها وتوحي بالرهبة والخشوع والإجلال، أما مقام السلطان فقد كان عبارة عن حجرة قديمة وكأنها مبنية منذ الأزل، ذهب الطلاء عن كل جدرانها وبقيت الحجارة الحمراء بارزة متآكلة كضلوع الميت العجوز، ولم يكن يميز المقام عن بقية المقابر إلا أنه مبني من الحجر؛ إذ إن معظمها مبني من الطين، والأغنياء وحدهم هم الذين يطلونها بالجير، ويكتبون أسماء موتاهم عليها، يكتبها لهم عم محمد البنا بطلاء الزهرة وبخطه العاجز الركيك.
ثمت فرق آخر بين المقام وبين القبور، فدونا عنها كانت هناك أشجار كافور طويلة قد زرعت حول المقام، ويبدو أنها زرعت أيضا منذ الأزل، فقد كانت طويلة طولا لا حد له، وجذوعها سميكة لا يستطيع عملاق أن يحتضنها، وكانت مزروعة بنظام حتى بدت كالسور العالي المهيب.
अज्ञात पृष्ठ