ورمقني نفر من دائمي الجلوس على كنبة المحطة؛ إذ هي مكان صالح للجلوس الفارغ، لا أحد يطرد الجالس ولا يطلب منه الثمن، رمقني ذلك النفر بنظرة، لا بد أن كان فيها رثاء، ومشيت والقطار لا يزال واقفا برأسه الأسود البشع السواد، والأصوات الخشنة القبيحة التي لا تكف عن الصدور منه، والعين الواسعة المدورة الحمراء التي تنفتح في داخله بين الحين والحين وتنفث جحيما؛ جحيما أحمر، الرأس الذي طالما أخافنا ونحن صغار بأفظع مما كان يخيفنا رأس أم الغول، هذه المرة، عبرت القضيب الحديدي من أمامه وأنا لا أحفل بشيء ولا أخاف الموت.
وكنت حين أصبح على المشاية الضيقة التي توصل إلى داخل البلدة وإلى دارنا، أحس إحساسا غريبا بأني أخيرا عدت، ودائما كنت أصادف في طريقي ثلاثة أو أربعة من أهل بلدنا منتشرين في تلك البقعة، وأقول لهم: سلام عليكم، ويجيبونني ويرحبون بي، وهم يرمقونني، ويرون ما أحدثته السنون في من تغيير، وأرى ما أحدثته السنون فيهم من تغيير، رأيتهم وأنا طفل، ورأوني وهم شباب، واليوم لم أعد طفلا ولم يعودوا شبابا، الزمن! الزمن الغادر الذي لا أمان له لا يكف عن المضي، ونحن لا نكف عن الكبر، ولا نكف عن الاقتراب من النهاية، ونحن لا نحس بالزمن إلا إذا رأيناه، ونحن نرى ما أحدثه الزمن في الآخرين فنتوقع أننا لا بد أننا نحن الآخرين كبرنا.
وقريتنا دائما هادئة، لا صوت، لا زعيق، لا شجار، لا شيء، هواء يداعب ما على الأسطح من حطب، وقوافل الإوز ساكنة لا تكاكي، وكل شيء من الطين، والأرض فوقها تراب، وفي السماء دخان المواقد، والناس يتحركون في صمت ووجوم وبلا حماس، كمن يدرك ألا داعي للعجلة مطلقا، ولا فائدة في الحركة، الناس صامتون، كأنما ينتظرون يوم القيامة ليتكلموا، أو ينتظرون الموت.
وأعرف أني إذا وضعت قدمي على المشاية فسأرى بيوتا، على عتباتها نسوة، وتعودت من صغري أن أغض طرفي حين أمر، وتعودن أن يتهامسن بعد مروري، يحدقن في وأنا قادم ثم يتهامسن.
والمشاية قطعتها عشرات الآلاف من المرات، إلى الابتدائية ببنطلون قصير، وتعلمت فيها ركوب العجلة، وجريت فرحا بنجاحي في الامتحان، وتزحلقت أيام المطر، ولعبت فيها مع الأولاد بالليل، وفي آخرها بيتنا له سور، وباب من الصاج، وأمامه مباشرة باب جارتنا بديعة، وهي دائما أمام الباب، أطفالها حولها وهم صغار، والنسوة حولها لما كبر الأطفال، ودائما تصنع شيئا، تدعك النحاس، أو تنسف الغلة، أو تسأل عن فرحة ضائعة، ومن لحظة أن تراني هالا من أول المشاية، تلمحني، وتفرح ثم تنهمك فيما تصنعه، فهي تريدني أن أقول لها: «العواف»، تريدني، فقد كنت من سنين طويلة طفلا، أعطش إذا لعبت وجريت وأذهب لأشرب من عندها خوفا أن تضربني أمي إذا ذهبت لبيتنا ورأت ما أنا فيه من إجهاد، وكانت خالتي بديعة تسقيني وتحميني وتخبيني عندها إذا غضبت، وتحوش عني إذا ضربت، ولكني كبرت، وتعلمت، وأصبحت أفنديا طويلا له بدلة، ترى، ألا زلت أذكرها؟ ذاك بلا ريب ما كان يدور في خاطرها كلما رأتني مقبلا من مصر ومعي الشنطة، والسنون قد جففت عودها، وكرمشت جلدها، ولكنها أبقت لها ابتسامتها الوديعة ذات الطيبة.
وقلت لها: «العواف، يا خالة بديعة.»
ورفعت رأسها، ولمحت الفرحة الدافقة في عينها، واضطراب يدها وهي تجلي الحلة بالتراب، وكادت تبتسم، ولكنها عادت ورددت في صوت حنون راث رقيق، وهزني الصوت، فلم تكن خالتي بديعة كذلك، كانت ما تكاد ترد علي عافيتي حتى تترك ما في يدها، وتقوم هالعة، وتفتح بابنا وتكاد تزغرد وتقول: «أهو جه! أهو جه!»
وتحدث حينئذ ضجة هائلة في بيتنا، فهم لم يروني من ستة أشهر أو سنة، ودائما في شوق إلي، وكنت قد تخرجت صغيرا، ومن يوم أن تخرجت لا أراهم إلا لماما، وكانوا يحبونني.
يفتح بابنا، ويخرج أكثر من واحد من إخوتي حافين، وبجلاليبهم، وأحيانا بالفانلة والسروال، ويتعلق كل منهم في جزء من رقبتي، وفرحتهم بأخيهم الكبير لا توصف، فرحة تنفجر على ألسنتهم صياحا وتهليلا، ولا يقولون سوى: «هيه! هيه! هيه!»
وأعانقهم بكل قلبي وأذرعي، هم أخوتي، وأنا أحبهم، والمدينة التي أعيش فيها مليئة بالصراع، وحياتي هناك مقبضة، أدافع فيها عن الوجود؛ وجودي، ووجود غيري، وأقف أمام قوات هائلة، وقلبي وحيد، والناس لا أكرههم، وأرثي لهم، وأصدقائي كثيرون، ولكن مثل هذا الحب لا أتذوقه إلا هنا، حب لا مقابل له ولا حدود، حب ملموس محسوس، لا يخفيه أحد ولا يضن به أحد.
अज्ञात पृष्ठ