ومن شدة الحصار بكى قاسم، كان بمجلس والديه الليلي فسأله أبوه عما يبكيه فقال: تذكرت أحمد!
فقطب عمرو وهتف: ذاك تاريخ قديم، حتى أمه نسيته!
ومضى ينظر إلى الأشياء بحزن ويبكي. وقالت راضية لعمرو وهما منفردان: عين أصابت الولد.
فقال عمرو بغيظ: يحسدونه على خيبته!
وبخرته، وجعل يتشمم الشذا الغامض ثم سقط مغشيا عليه. ومضى به أبوه إلى الطبيب فقرر أنها حالة صرع خفيف لا خوف منه ولكن يلزمه راحة وتغيير هواء. وتذكروا مأساة بدرية بنت سميرة. ونظر مرة إلى الفراغ بحضور والديه وقال: سأفعل جميع ما تريدون.
وتساءل عمرو: أهو هذيان مرض؟
فقالت راضية بيقين: بل هو اتصال بأهل الغيب.
وعلم الأهل بحاله؛ فتقاطروا على بيت القاضي يعودونه، وحدجوه بنظرات مليئة بحب الاستطلاع والتوجس، وجرى التهامس في سراي آل عطا فقالت شكيرة لأمها: ما هو إلا عرق الجنون النابض من قديم في أسرة راضية.
وقالت مثل ذلك ست زينب لسرور في بيتها. أما راضية فوكدت لعمرو علمها بتلك الحال وقالت له بثقة ويقين: لا تخف ولا تحزن وكن مع الله.
ودارت بابنها على الأضرحة، وحرقت البخور في أركان البيت من بابه إلى سطحه. أما قاسم فهجر المدرسة باستهانة، وراح يتجول في الحواري، أو يطوف ببيوت إخوته وأخواته وأقربائه في ميدان خيرت وشارع السرايات وبين الجناين، وفي كل موقع يتناول المشروبات وينثر كلماته الغامضة تنبؤا عن المستقبل كما يتراءى له، وتجيء الحوادث مصدقة لنبوءاته حتى عرف بينهم بالشيخ، ولم يعد أحد منهم يجرؤ على السخرية منه. وقال محمود بك عطا لعمرو المحزون: إنها مشيئة الله، وأنت رجل مؤمن، والولد فيه سر لا يعلمه إلا الله، إنه يقرأ خواطري حتى بت أعمل له ألف حساب.
अज्ञात पृष्ठ