فاعترف له قائلا: لا صبر لي على المذاكرة.
ولما التحق بالمدرسة وجد حسن محمود عطا المراكيبي بالسنة النهائية وحامد بالمرحلة الوسطى، فكان عليه أن يؤدي لهما في نطاق التقاليد المدرسية فروض الذل والطاعة، وكان أهون على نفسه أن يؤدي ذلك لأي جندي ... ومرة تناول الثلاثة الغداء عند راضية، وهناك تحرر من واجباته والتزاماته، وخاضوا ثلاثتهم حديث الأصل، في مفاخرة ساخرة، فذكرهما بأصلهما وعيروه بأصله. قال له حامد: أنتم باشوات حقا ولكنكم من طين الأرض خرجتم.
وتابعت راضية حديثهم باسمة ثم قالت: الكل في النهاية من صلب آدم وحواء، وليس في الأسرة كلها من بطل إلا أبي الشيخ معاوية.
وكان حليم يعتبر راضية من عجائب هذه الدنيا بدروشتها وسحرها وأورادها وعفاريتها، ويقول لأمه: لولا الحظ لاتخذت مكانها الطبيعي بين مجذوبات الباب الأخضر.
وتهتف به أمه: إياك أن تمس بسوء أحب الناس إلي.
كانت تؤمن بها، وعند كل لقاء تدعوها لقراءة فنجانها، وعندما حدست قرب نهايتها في كبرها أوصت بأن تشهد راضية غسلها دون غيرها من أهلها أو أهل زوجها.
وتخرج حليم ضابطا بعد حامد بعام، وبفضل أبيه عين في المراكز الخاصة بالداخلية فقضى أكثر خدمته في حراسة الأميرات والوزراء، وقد مرت به ثورة 1919 وكأنها فيلم مثير يشاهده في إحدى دور العرض لم يعرف طيلة حياته انتماء إلا إلى اللهو والعربدة والمزاح والطرب ... كان أبوه وأخواه من دراويش الأحرار الدستوريين، أما هو فكان درويش الحانات والملاهي الليلية ونوادي القمار، ولم يفكر أبدا في تكوين أسرة أو الالتزام بأي قيد. وقد اختار لنفسه شقة في عمارة بشارع النيل - هي التي دل عليها حامد بعد طلاقه - وزينها بهدايا الأميرات والوزراء، وشهدت من بنات الليل والفنانات أشكالا وألوانا. ولم يكن يتورع ، حتى عندما ارتفعت رتبته، أن يقضي سهرة في عوامة مونولوجست، يسكر ويعربد ويغني، ثم يرجع عند الفجر إلى مأواه وهو يترنح. وقد ساءت العلاقة بينه وبين والده، وبينه وبين أخويه، وبذلت محاولات عقيمة لتزويجه. ومع الأيام غلبهم بروحه المرحة فغزا قلوبهم وبيوتهم حتى سلموا به كشر لا بد منه، بل لعله كان أمتع شر في أسرتهم. ولما قامت ثورة يوليو نقل إلى التفتيش. أجل كان أحسن حظا من حامد وحسن ولكنه عانى العمل الجاد لأول مرة على كبر. إلى هذا فقد أظهر للثورة حنقا من أول يوم، وتساءل كيف يسرق الحكم أناس لا ميزة لهم إلا استحواذهم على السلاح؟ وهل يحق قياسا على ذلك أن يتحول قطاع الطرق إلى ملوك؟ وما هذا الذي يحدث للأسر الكريمة؟ وكيف تلغى الباشوية بجرة قلم؟ وكيف يخاطب بعد اليوم أباه وشقيقه الأكبر؟ وكيف يؤدي هو سلام التعظيم لضابط يماثله في الرتبة أو يقل عنه؟ والأدهى من ذلك كله، أنه يوجد من آل المراكيبي ضابطان يعتبران من الصف الثاني من الحكام؟ وإن حكيم ابن سميرة يلحق أيضا بهيئة الحكام! حقا لقد انقلب العالم فصار عاليه أسفله وصار أسفله عاليه، اضطرمت في قلبه نيران الغيرة والحنق وتجهم بكل غضب للعالم الجديد الذي تجهمه.
وشد ما فرح بالعدوان الثلاثي فظن أن الستار سيسدل على المهزلة ويستقيم حال الدنيا، ولكن الحوادث خيبت أمله، واستقبل الزعيم حياة جديدة كلها فتوة وبطولة. وفي الستينيات توفي أبوه، وتبعه شقيقه الأكبر بعد عامين؛ فتضاعفت غربته وأساه وأفرط وأفرط بلا حرص في لهوه وعربدته. وكان يقضي ليلة في شقة فاخرة تدار للقمار السري عندما كبسها البوليس. وأظهر شخصيته لرئيس القوة ولكنه تعامى عن ذلك وساقه مع الآخرين إلى قسم شرطة قصر النيل، ولم تنته المسألة إلى خير فأرسل إليه وزير الداخلية يطالبه بتقديم استقالته تفاديا لما هو أسوأ، فقدمها على رغمه، ووجد نفسه على المعاش. وقرر في ظلمة اليأس أن يقصر خطوطه. وعرض عليه حامد أن يوسط حكيم ليجد له عملا كما نفعه ولكنه رفض شاكرا. فضل أن يعيش في نطاق معاشه على أن يذل نفسه أمام حكيم، ووجد في المعاش ما يكفي لمعيشته، واستبدل بالويسكي الحشيش لرخصه النسبي وأثره المناسب، وتفرغ بكليته للحقد على العهد ورجاله والسخرية منهم في غرزته الخاصة الحافلة بالحاقدين. ولما وقعت كارثة 5 يونيو، قرر أن يحج لبيت الله الحرام. ولم يكن له من الدين إلا الاسم كغالبية أسرته، ولكنه حج، ورجع إلى حياته لم يغير منها شيئا، وسكنت انفعالاته بعض الشيء، ولكنه أصيب بالسكر، ولم يكن يملك من الإرادة ما يواجه به متطلباته من الرجيم فاستفحل معه، وحصلت له مضاعفات متلاحقة. وذات مساء اتصل تليفونيا بجاره وقربيه حامد وقال له: تعال أنت وعصمت هانم ... إني أحتضر.
وفعلا أسلم الروح تلك الليلة بين حامد وزوجه.
حرف الخاء
अज्ञात पृष्ठ