هدأت أعصابها فيما بدا وتناولت ملعقة من الكاساتا وراحت تلوكها في فمها المنقوشة حوافيه بتجعيدات السنين، ثم تمتمت: لا بد من التحري.
فقطب أدهم، وقال الأب ملاطفا: مجرد إجراءات ولكني متفائل.
وتبودلت زيارات، وحظي الاختيار بالرضا، وكان لا بد أن تعلق بنقد ما فقالت لحازم زوجها: أمها جاهلة فيما يبدو.
فعجب الرجل لقولها إذ إنها - سميحة - لم تحصل على البكالوريا ولكنه قال: لا أهمية لذلك.
وتم الاتفاق على كل شيء، واشترى حازم لابنه شقة في المعادي بتسعين ألفا من الجنيهات، استقر ابنه وعروسه فيها في نهاية العام.
ولم يكن أدهم يعرف من شجرة أهله إلا فرع أمه، جده محمد سلامة منشئ المكتب الهندسي وأخواله وخالاته. أما أهل أبيه فكان يعرف - ربما معرفة عابرة - أن جده سرور أفندي عزيز كان موظفا بالسكك الحديدية، وأن عمرو أفندي عم والده كان موظفا بالمعارف، وكان له عمات ولكل أبناء وبنات ولكنه لم ير أحدا منهم. يعرف أيضا أن أسرته من حي الحسين وهو حي يقترن في ذهنه بالفقر والتأخر فلا حاجة به إلى تذكره، ولم يمر به إلا عابرا وهو في سيارة. وكثيرا ما يلتقي بنفر منهم في الميادين أو بعض الأماكن العامة فلا يعرفهم ولا يعرفونه. وتابع أبوه نشاطه بارتياح، واطمأن إلى أنه إذا تقاعد يوما - وهو قريب - فسيترك المكتب لرجل قادر. وقد قال له يوما بمناسبة ما ذاع وشاع عن الفساد: كل الفرص متاحة، لك العلم والذكاء والهمة فتجنب الانحراف، لا تسخر من النصيحة. إن كنت ممن يسخرون من القيم، فعلى الأقل احرص على السمعة واخش السجن!
أمانة محمد إبراهيم
مشرقة اللون، دقيقة القسمات، ناعمة الشعر، صورة جديدة لأمها مطرية لولا بروز ما في ثنيتيها وهي آخر من أنجبت مطرية، وجاء ميلادها قبيل وفاة أحمد بأشهر. وأحبها خالها قاسم ولكنه لم يجرؤ على المطالبة بها كما فعل مع شقيقها الراحل. فجعل يحبها من بعيد حتى انتزعته مأساته الشخصية من هموم الدنيا جميعا. وماتت جدتها لأبيها وهي في السابعة فحزنت عليها حزنا أكبر مما يجوز في سنها. ودخلت المدرسة الابتدائية دون اعتراض بحكم زمنها، وبحكم زمنها أيضا انتقلت منها إلى المرحلة الثانوية. ومع أن مطرية لم يكن يشغل بالها إلا الزواج إلا أنها قالت لزوجها: كبنات أختي سميرة، الدنيا كلها تود أن تتعلم اليوم.
وكان محمد إبراهيم يسلم بذلك دون مناقشة. وكان قد رقي لدرجة مدرس أول مع بقائه في مدرسة أم الغلام بشفاعة عبد العظيم باشا داود. والحق أن أمانة أبدت استعدادا طيبا للتعليم وتجلى تفوقها في الرياضيات، وتراءت لها الجامعة كحلم سهل التحقيق. وحصلت على البكالوريا ولكن في العطلة الصيفية التالية مرض أبوها مرضا لم يمهله فسرعان ما توفي وهو في الخمسين. ورثت الأسرة البيت والمعاش وإيجار دكان في أسفل البيت، وكانت الحرب العظمى الثانية قد انتهت ورحل من الجيل الثاني عمرو وسرور ومحمود عطا، فشعرت مطرية بأنها تواجه الحياة وحيدة. في ذلك الوقت تقدم عبد الرحمن أفندي أمين الموظف بدار الكتب لطلب يد أمانة. رجل يكبرها بخمسة عشر عاما ذو سمعة طيبة، وكان رأي أمانة أن الرجل مقبول ولكنها تود أن تكمل تعليمها. وقالت لها مطرية بعطف: ظروفنا تقتضي تفضيل الزواج.
وشاورت مطرية أمها فقالت راضية: الرجل المناسب أهم من الجامعة ألف مرة.
अज्ञात पृष्ठ