والآن وقد طلعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاما وتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذا فيغيب، فهلم أبثك نجواي أيها الروح المعذب، وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها. إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجهش للبكاء ما دامت. هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر، ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر، فإن الأرض لا تقدس البكاء، وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضا.
أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السحر من أجفان هاروت وماروت. ويطرد بجملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض؛ وهل تبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء؟ هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية، فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جاف كأنه مصنوع من جلود الكتب؛ وما دمعتي إلا النهر الذي نبت في شاطئه، وهي أطهر شيء وأصفاه؛ لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية من الحب الذي يقابل عنصر النار، ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء، ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء.
ليس كل من عصر عينيه فقد بكى؛ إن البكاء لأشرف من ذلك، وكما يكون الضحك أحيانا حركة في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت، كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسى؛ لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحيانا تسمى حاسة الدموع.
وما إن لقيت باكيا إلا رأيت وجهه مقبلا علي كأنه يسألني: ترى من أين يذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعا، بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق، فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها في الأداء كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها.
ولكن الباكي بها لا يجد من قوة الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق التي لا تمتلئ، مع أن نفس الحر تئد فيها كل يوم ألفاظا كثيرة من عبارات الذل والتمليق فلا ينطق بها، وتئد فيها نفس الذليل كل ألفاظ الإباء والأنفة فلا ينطق بواحدة منها، وذلك لعجز الباكي ولضعف إحساسه بالذل السياسي، أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية، فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها الدموع.
أريد أن أبكي بكائي الطبيعي أيها القمر، لأنه يخيل إلي أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي؛ وإني لا أكون في حاسة إلى البكاء إلى حين تكون هي في حاجة إلى الدموع، ولقد شعرت مرارا بحركة عقلي في تصفح الأسفار، واضطراب نفسي في متاحف الآثار، واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار؛ فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.
وما زلت حائرا في أمر مشتبه لا أصيب الوجه فيه، فلا أدري إذا كانت هذه الدموع المتساقطة تنقض من بناء الحياة لينهد، أو هي تضاف إليه ليشتد: فإني أرى أقواما يحيون بالدموع وآخرين يموتون بها، ولعل عين الإنسان ملئت بالدموع من أصل الفطرة لتكون منها خنادق مستفيضة حول الروح فلا يقتحمها الفكر ولا يرى أبدا إلا ظاهرها، ولولا ذلك ما بقيت الروح من أمر الله، أولسنا نرى الذين يبكون كثيرا من الحكماء والجهال على السواء يؤملون أن يدركوا من أسرار الروح كثيرا إذ يرون تلك الخنادق قد أخذت تمج ما فيها فكأنهم بالماء قد غيض وكأنهم بالأمر قد قضي؟
ولكن الإنسان ليس إله نفسه؛ فهو يبكي صابرا ويصبر باكيا، ومتى انكشفت أرض الخنادق الروحية ظهرت فيها حفرة القبر، وكانت آخر دمعة تجف منها هي دمعة الموت.
بيد أن الحقائق التي تهيئ للبائسين ذلك الأمل بكثرة ما تفيض أعينهم من الدمع، هي في رأي الناس علم وفلسفة؛ لأن الجهل في الإنسان لا حد له، فكل ما ظفر به عده حدا علميا؛ أولا ترى أن أجمل ما في الديانات والشرائع قد تحول إلى حجارة البيع والصوامع والمساجد والأضرحة والحبوس وكثير من مثلها حتى صارت هذه الأبنية تفهم الناس من ضروب المعاني أكثر مما تفهمهم الكتب السماوية في الأرض، والأرضية في السماء؟
ما لي ولك أيها القمر لا أحب أن أفيض عليك دمعتي فقد ترى فيها أشعة كثيرة من ألوان الأسرار المختلفة، بل أنا أراها في قلبي وقد اشتمل بها الخيال الحزين، خيال هذا الأمل الذي يسميه الناس «الحب» وتسميه الطبيعة «الحياة المعذبة» لأن الناس قد مضوا على أن لا يعرفوا الحقيقة إلا بأوصافها، ولا يعرفوا من أوصافها إلا ما يتعرف إليهم من ظاهرها الجميل، أما باطن الحقيقة الذي يحتوي السر المحزن فهذا يعرفه من يفهم لغة الطبيعة، وما لغتها إلا أفعالها.
अज्ञात पृष्ठ