أنا منك أيها القمر منذ الليلة كالعقل المنكمش في ظل القصيدة الحكيمة من الشعر السري البليغ؛ تنير له الأبدية بأشعة معانيها لينفذ بالنظرة الصادقة في أعماق الحياة. وقد نظرت طويلا وملأت عيني من نورك وجعلت ما يعترضني معنى إلا بادرت أبدة النظر
2
وأرسل على حقيقته من هذا الضياء، وها أنا لم أكد أبلغ أقرب هذه الأعماق من قلب الإنسان؛ ولقد أراك مستوفزا تجمع أشعتك في هذه الأنفاس من نسمات السحر كما تجمع الحسناء أشعة فكر محبها الملتهب بأنفاس التنهد والعتاب، فبماذا أستضيء فيما بقي من هذه الأعماق الكثيرة؟
لعل الحكمة الإلهية لا تعطى للإنسان إلا بمقدار يلائم طبعه، مخافة أن تفرط عليه أو تطغى إذا حمل منها ما لا يتفق وضعفه كالخف
3
الذي يجده المريض في ناشئة العافية: إن اقتصر عليه انتفع به، وإن هو اندفع يطلب المزيد منه انتكس؛ والطبيعة نفسها تخفي عن الإنسان أكثر الحقائق رحمة منها بالعواطف التي هي قوام نفسه فيحن إلى الأزهار والأشجار مثلا ولا يعلم أنه يتجذب بشعوره النفسي إلى بقايا الإنسان الذي اغتذت به الطبيعة في الأجيال الغابرة وما يليها. فكأنه من ذلك بإزاء قبر نباتي، وإن هو علم واكتنه وغالب الطبيعة على نفسها كشفت له هذه الطبيعة الحقائق الأولى التي يسترها عن جهله الإنساني وهي في نفسها ظاهرة لأنها تستر ما وراءها من العلم الإلهي - ثم تركته عندها حائرا وأبت عليه إلا أن يكون كالعريان الذي يلبس ثوبا من الظل.
فالحقيقة المطلقة كالحياة: حرب لا انتصار فيها على الموت، فلا تضع أوزارها وإنما يقع المتقدم ليتقدم المتأخر فيقف موقفه ويسد مسدة ويجاهد طويلا أو قصيرا ثم يسقط، ولا يثبت من الحقيقة إلا شيء يسير يشبه فرق ما بين التأخر والتقدم، كما لا يثبت من الحياة إلا شرف هذه الخطوة وعارها للجريء الباسل والمفئود الجبان.
لقد ساهرتك أيها القمر لأحادثك، وناجيتك لأستخرج الفكر من نفسي فإنه لا يستدعيه شيء كالحديث، وانتضيت هذا للفكر لأجتلي منه الحقيقة النفسية المحجبة، وتأملت الحقيقة لأرى ذلك الشعاع الإلهي الذي لا يخالطه شيء حتى يذوب فيه إلى شعاع مثله وهو نور الحقيقة الذي رأيناه في حبة القلب فسميناه الحب ولقد ملأت قلبي منه وأسبغته علي إسباغا، ومددت لي فيه حتى تناولت به الجمال السماوي وجعلته في قلبي بجانب هذا الجمال المستفيض كأنه الموجة القلقة التي يمسك منها الساحل طرف البحر فإذا أفلت الآن وقد أمسيت صاحب سري وداخله أمري أفتراك مغلقا وراءك باب الحلم الذي كانت منه يقظة الأمل في هذا القلب، وهل تاركي أنت لا تلتقي مع الصبح هذه البقيا من الأحلام تنفر خفافا وثقالا دون أن تضيء لي معانيها بأشعتك التي تنبعث من مصباح الحب على كل جهة في الأرض فعسى أن تكشف لي منها عن بقية من أحلام تلك الحبيبة التي أسرفت في دلالها حتى إنها لو ملكت البخل لبخلت به فأتبين ما فيها من تصورات نفسها وأمزجها بنفسي؟
آه! ليت الهواء الذي تتناثر فيه قبل الحسناء، وليت نسيم الصبح الذي يحمل إلى الغيب أحلامها - مما يمكن أن يحرز ويدخر؛ إذن لكان في الحب شيء أسمى من الخلود نفسه؛ ولكن هيهات هيهات! فما رأيت كالمحب لا يملك من الماضي إلا ذاكرته، وهي مع ذلك ترد عليه لذات الماضي كلها حسرات! وإن الظفر بزهرة ناضرة معقودة في غصن قد ذوى وتحات ورقة لأيسر منالا من بقاء قبلة واحدة في ذاكرة المحب حافظة نضرتها وعطرها من أنفاس الحبيبة وريقتها!
هكذا كتب على الحب أنه من تولاه فإنه يدعه على حال كأنه فيها روح لا جسم له، فمهما يصب من لذة أو ألم فإنه يتحول معه إلى اللذة والألم جميعا فيكون ألما لذيذا؛ ومن أجل ذلك خص المحبون من بين الناس بكثرة الشكوى؛ لأنهم يستلذون آلامها، والعاشق الذي لا يستطيع أن ينفس من شكاته أو لا يجد من يستريح إلى بثه لاعج الشكوى مما برح به إنما هو في الحقيقة المثال الإنساني الشاذ الذي يمكن أن يتعرض منه العلماء معاني الجنون مع بقاء عقله، فهو المجنون العاقل.
अज्ञात पृष्ठ