والفكر نفسه يكون في كثير من الأشياء الجميلة أجمل منها لأنه روحها ولأنه غير محدود في نفسه بالنظر ولا بالصفة الجميلة التي يحدها النظر، إلا الفكر في الحبيبة الحسناء، فإنها دائما أجمل منه؛ لأنها روحه ولأن هذا الفكر مهما اتسع لا يجد نفسه إلا محدودا بجمالها.
فيا سيداتي الجميلات، يا قصائد ديوان الغزل الإنساني، يا معاني شعر الجمال الإلهي، يا ورقات الورد التي نقلت من الجنة إلى الأرض لتنفح برائحتها، ما غلبتن الطبيعة التي لا تغلب، وإنما ظهرتن على الإنسان الضعيف الذي طغى على الطبيعة وتوهم نفسه أشد منها قوة فرحمته من قوتها السماوية وتسلطت عليه منكن بأضعف منه، بل بالتنهد والدمعة والابتسامة من المرأة الجميلة التي ضعفها إنساني ولكنه على ذلك من قوة الطبيعة، وإن ما رأيت كثلاثة أشياء لا تضبط إذا اندفقت ولا ترد إذا اندفعت: موجة البحر المضطرب، ودمعة الحزين اليائس، وإرادة الحبيبة الجميلة!
وهذه الإرادة هي المعنى الذي ينتظم الثلاثة فهو على انفراده بالثلاثة جميعا؛ لأن علم العدد في عرف الطبيعة يناقض أحيانا العلم الذي نعرفه مما تتكرر فيه الوحدة كلما تكرر العدد، فلا يمكن في (حسابنا) أن يكون الاثنان واحدا؛ لأنهما اثنان ولكن الطبيعة في حساب الحب مثلا تعد الحبيبين واحدا، ولا تعدهما كذلك إلا لأنهما اثنان!
الطبيعة جميلة، بل هي فوق أن تكون جميلة؛ لأن هذه اللفظة (الجمال) واحدة من الاصطلاحات المبهمة التي تمثل تصور الإنسان اللغوي، فقد تعاون أفراد هذا الإنسان الضعيف على أن يخلقوا الطبيعة خلقة معنوية فصوروها باللغة وضبطوها على عظمها كما يضبط تاجر اللؤلؤ حساب ما في حقيبته الصغيرة لا حساب ما في البحار وجروا في أكثر المعاني السامية هذا المجرى. فرب معنى تجده ملء السموات والأرض وما تجد له من صفة تحد إلا وهي حد لصفة أخرى، ومع ذلك تراهم يدمجونه في لفظة واحدة مقتضبة لا ليعرف بها معرفة صحيحة تصفه كما هو! ولكن ليؤثر التأثير الذي يقوم في الإنسان مقام المعرفة الصحيحة، فإن الناس يعيشون بهذا التأثير في معظم أمورهم ويعتدونه علما وإحاطة.
وهذه اللغة الناقصة التي تصور الطبيعة وتحدها، هي في ذلك كالعين التي ترى الطبيعة لتصفها باللغة - وما اللغة في الحقيقة إلا نظر عقلي بل هي ألفاظ النظر - وما العين من الطبيعة إلا كالمرآة التي تقابلك بالشيء كما هو لتفهمه أنت كما تريد.
فلفظ «الجمال» مما يؤثر في النفوس، وقد يصح أن يكون وصفا تاما لشيء معين كجمال الحسناء، فإن العين تعرفها بديا بأوصافها ثم يعرفها القلب بمعانيها، ثم يعرفها اللسان فيقول إنها جميلة، فتلبسها اللفظة لا تضيق عنها ولا تقصر؛ لأنها فيها مرونة النظر والإحساس معا، ولكن ذلك اللفظ بعينه لا يلبس الطبيعة ولا يصف للنفس جمالها بل يكون منه كقطرة الماء في البحر: تجري فيه ويجري بها وليست من صفته ولا تكوينه في شيء إلا في القياس المنطقي، وأهون بالإنسان ومنطقه في حقائق الطبيعة.
ومن البلية - ولا بلية مثلها - أن الإنسان لا ينفك يحمل في رأسه فكرا ماديا هو حقيقة عيشه في هذه الدنيا، فإذا عرض له شيء من جمال الطبيعة أسرع هذا الفكر المبتذل فملأ العين وأطل منها فلا تنفذ صفة من صفات الجمال الطبيعي إلا بسلطان منه، فيرى هذا الإنسان الشيء الجميل وكأنه يحدث عنه نفسه الخرساء بأصابع الأعمى الذي يتعرف الأشياء بلمسها، وعلى مقدار ما في الإنسان من هذا الفكر القبيح يكون مقدار قبح الطبيعة الجميلة في عينيه.
وكأي من رجل يمر بين الرياض والبساتين التي هي غزل الأرض ولا يقدر ما فيها من الجمال إلا بمقادير أثمانها ... وآخر يرتقي الجبل الوعر الأشم الذي هو حكمة الشعر الطبيعي ولا يعيبه إلا بأوعاره وأحجاره التي لا تلائم دعته ورفاهته وإن كانت هي في نفسها محاسن الجبل، وثالث يرى البحر الذي هو فكر الطبيعة السيال فيفرق حتى كأنه يرى الموت يتدحرج في أمواجه ليختطفه من الساحل؛ وهكذا ترى الفكر المادي يلبس كل شيء بذلة من بذل المصانع والحوانيت أو كفنا من أكفان القبور أو ثوبا من أثواب الحداد! وأحسب أن التاجر المفلس إذا تأمل في أوراق الوردة الناضرة التي تشبه أن تكون تاريخ ساعة خجل في خد العذراء فإنه لا يرى فيها إلا أرقام دفاتره التي هي تاريخ النكبات والخراب!
فمن أين يجتلي الإنسان جمال الطبيعة وأنى له ذلك وقد مسخها هذا المسخ كله ولم يأخذها من يد الله كما وضعها، ولكن تناولها من فكره كما صنعها، فجاءه بها من ناحية همومه كأنها هم جديد أو ذكرى هم قديم؟
إذا أردت أيها الإنسان أن ترى جمال شيء من الطبيعة فأجعل عينك أقرب إليه من فكرك، بل انزع فكرك هذا، إلا الخفيف منه كما تنضو ثيابك إذا طلبت السباحة في البحر، وإلا الطاهر منه كما تخلع نعليك إذا أردت الصلاة في المسجد، وإلا الصافي منه كما تطرح شغل قلبك إذا وقفت بين يدي الله، فإن أنت سبحت بثيابك فإنما تمثل الغرق؛ وإن دخلت المسجد بنعليك النجستين فإنما تمثل الإلحاد، وإن واجهت ربك وأنت مشغول بنفسك عنه فإنما تمثل نفاق الشيطان؛ وإن نظرت إلى الطبيعة من فكرك المادي فإنما تمثل العمى الطبيعي ...
अज्ञात पृष्ठ