وإنه ليخيل إلي أن هذه الأعاصير لا ترسل على الأرض إلا لغرض واحد هو من أمر الله؛ وذلك أن تسفي من كل جهة في الأرض هبوة من التراب فتجمع منه ملائكة الغضب كل ذرة قد كتب لها في الأزل أن تكون في حفرة هذا البطل فينتزع قبره من الأرض، ويمين الله لو فتحت له القبور كلها لما سقط في واحد منها بل يظل يخوض الموت خوضا وكأنه يغسل رجليه في نبع بارد؛ ولو شبت حوله جوانب الأرض سعيرا يتلظى لما عدت أن تكون نارا ينضج بها غذاء تاريخه الشره.
فمتى نفذ حكم السماء وتمت كلمة ربك واستغفرت الأرض من سيئتها التي نزل بها العقاب لأجلها، أحس ذلك الرجل أنه إنسان وأنه بدأ يعرف الحياة واستشعر ظلا يمر على نفسه وهو لا يعرف أنه تراب قبره الذي يتساقط إلى الأرض شيئا فشيئا حتى يجتمع، ولا يكون إلا ريث يتهيأ منه مقدار يواريه حتى يعرف الموت إذ يغدو على الأرض يتفقد الحفر الخالية ويجمع منها الأوراق الذابلة التي نثرها القضاء من شجرة الأعمار.
هذا هو الرجل الإلهي الذي لا ينثني؛ لأنه الحق، ولا ينحرف؛ لأنه العدل، ولا يخاف؛ لأنه البأس، ولا يضعف؛ لأنه القوة، ولا يحيف؛ لأنه الإنصاف؛ ولو تعلق به أهل الأرض جميعا لمشى بهم مطمئنا؛ لأنه في نفسه كقطعة من نظام السماء الذي يجذب الأرض في فضائها.
وهذا هو الرجل الذي يتعرف به الناس معاني الاصطلاحات النفسية القوية، كالشهامة والنجدة والصدق والإخلاص والإيثار وما إليها من سائر المفردات التي يتألف منها معجم الفضيلة.
وهو في كل ذلك كأنه قاعدة من قواعد العلوم، تعطيك المثل الذي تريده لأنها هي ذلك المثل لا لأنها تعطي وتمنع.
فلو أريد ذلك الرجل على الخيانة واللؤم والجبن والتملق ونحوها مما يكون في المتشبهين به لزاد وفاء وكرما وإقداما وأنفة، كما يزيد طيب العود بإحراقه.
أرأيت إذن مقدار الدرهم الذي ينقص الشعب؟ إن أكبر رجال التاريخ لا يزن أكثر من درهم واحد في ميزان الله.
ومن نكد الدنيا أنك لا تزال ترى المصلحين حيث ترى نفسك لا تفقدهم في مكان، ثم لا يزيد الأمر معهم إلا فسادا؛ لأنهم مصلحون بالتشبه والتقليد أو بقوة الإرادة أو بإرادة القوة؛ وإن أحدهم ليريد أن يكون مصلحا فيكون، ثم يبتغي أن يعمل عمل المصلحين فلا يبرح يبحث عن الفساد حتى يجده أو يوجده، ثم لا يتخذ من الناس ما يتخذ الأطباء في تجاربهم من العقاقير، فيستحق طائفة ويمزج طائفة ويذيب طائفة؛ كل هذا والشعب يقيه بنفسه من التلوث بالقذر كالبذلة في نطاق المتبذل؛ وهو دائب على أمره حتى تسفر التجربة عن مزيج ينظر فيه فيعرف من النظرة الأولى أنه عرق الخيبة التي تفصدت به من طول ما أجهدها في عمله ...
خذ أحد القوانين مثلا واقرأه ثم تدبره ثم أرسله من يدك وأرسل ألفاظه من روحك، فإنها ستنقلب رجالا يتسللون، فأتبعهم قلبك وانظر أفعالهم وتغلغل ما استطعت في مكامن النيات وأبعد إلى مطارح الظنون وكن منهم فطنة وحذارا كأنك تستنبئ أخبار كل نفس من ملكيها، فإذا وعيت وتبينت واستبرأت كل ما تشك فيه إلى منقطع اليقين فامسخهم ألفاظا كما كانوا واجهد جهدك في فهمهم بعد، فإنك ستعجب من لغة قانونية وضعت لتفهم كما تثبت في أذهان واضعيها لا كما تتحول في أذهان الناس، وسترى ذلك القانون نفسه كأنه كتاب من كتب النحاة المتأخرين: قلما تعرض فيها قاعدة إلا كان أساسها «زيدا وعمرا وبكرا وخالدا ...» فيدخل هؤلاء المساكين من كل باب ليطبقوا على القاعدة لا لكي تطبق عليهم ... ولا يكون مأتى ذلك إلا من الفهم الميت في معاني الإصلاح، فإن المعاني نفسها تموت معه ويبقى كل لفظ كأنه قبر يتفاءل له بالرحمة وتجري عليه الدموع وتنشق المرارات وهو لا يجيب الناس على كل ذلك إلا بطلب ميت جديد.
لا مفر للخلق من العبودية، وأنى لهم المفر والسماء فوقهم والشرائع تحت السماء والقوانين تحت الشرائع والرذائل تحت القوانين والوحشية تحت الرذائل؟ فويل للمستضعفين الذين يفرون من كل فرجة بين المخالب والأنياب وفي أرجلهم القيود الثقيلة، وويل للإنسان الذي لا يكتفي بالله في سمائه حتى يستعبد لصفاته في أهل الأرض؛ فالجبروت في الملوك! والكبرياء في الحكام، والتقديس في القوانين عادلة وظالمة. والعزة في القوة وماذا بقي لله ويحك؟
अज्ञात पृष्ठ