الكهل :
يكفيك فقد أسهبت في الشرح والوصف، وأنا أقول لك: نعم يعجبني أن يكون الأمر على مثل ما تسخر منه ما دام من عاقبته عمران البيوت وحفظ الأموال، وبقاء الأحساب وإطعام المساكين، وبر الأقارب وإسداء الخير للأصحاب والجيران، وإدخال السرور على النفوس بما يرضيها ويلائم أذواقها، بهذا ينتفع أهل البلاد ويرضى الناس بعضهم عن بعض ، ولا أرضى أبدا أن ينقلب الحال كما أراه ما دام من ورائه عواقب الخراب وسخط الناس، وعقوق الأهل ولصوق العار، ووقوع الفضيحة وسوء المصير، ومن الذي يعارض فيما أقول من أهل العقول الصائبة، وهو يرى هذا الرجل العريق النسب في أهل الصعيد أهل الشهامة والحمية، وذوي الغيرة والأنفة، ومن حوله الخصيان على ما نشاهده الآن يطالبون أن يأمر الخدم بحمل صناديق الخمر لشرب النساء في الحرم، وهو يعرف حكاية الأعرابي الذي سقوه الخمر في أحد الأعراس، ولم يكن ذاقها من قبل، فلما ثارت سورتها قال لمن حوله من أهل البيت: «إن كان نساؤكم يشربنها فقد زنين ورب الكعبة.» ولست أدري على كل حال ما الغرض الدافع لصاحب هذا العرس إلى احتمال كل هذه الفضائح والمعايب، فإن كان غرضه إرضاء أهل العاصمة بإنفاق تلك الأموال الطائلة في إقامة الاحتفال، فقد أغضبهم وأسخطهم جميعا على ما نسمعه ونراه، وليس فيهم إلا كل منتقد لعمله معترض على فعله يرميه بعضهم بالتبذير ويرميه بعضهم بالتقصير، وإن كان الغرض من هذا التوسع في الإنفاق إذاعة الشهرة بعظم الثروة والغنى بين الناس، وانتشار ذكره بالكرم والجود، فلهذه الشهرة وجوه أخرى تفيده وتفيد الناس، ولابتناء المحامد سبل شتى ترضي النفوس وتسر القلوب، ولو كان اقتصر في إقامة الوليمة على نصف ما أنفقه فيها، وبذل النصف الآخر في باب من أبواب البر والإحسان مثل مساعدة الفقراء وإنشاء الملاجئ، وإقامة المستشفيات وإعانة ذوي الصناعات لخلد ذكره بين قومه بالعمل الصالح، ولأقاموا لمجده صروحا من طيب الأحدوثة وجميل الثناء.
قال عيسى بن هشام: وما نشعر إلا وقد انقطع علينا سماع بقية الحديث بصياح جماعة من خدم المائدة يدعون المدعوين للخروج من القاعة، حيث لم يبق على المائدة من طعام ولا شراب، ويعدونهم بالعودة إليها بعد غسل الآنية وتجديد الألوان، فلم يسمع لهم أحد ولم يلتفت إلى صياحهم، فأخذوا في التصفيق بالأكف تنفيرا لهم كتنفير الدجاج، فلم ينتقلوا ولم يتحركوا، فعمد الخدم إلى آخر حيلة يضطرونهم بها للخروج، فأطفأوا الأضواء، وتركوهم يتخبطون في الظلمات ويتساندون على الجدران يطلبون الأبواب، فسبقناهم إلى الخروج، والتقينا في خروجنا عند الباب بصاحبين يتنازعان في هذه الحال، ويتخاصمان في شدة السكر، فلطم أحدهما صاحبه فسقط على الأرض يتخبط في قيئه، وينشد هذه الأبيات في هذره وهزئه:
شربت الخمر حتى قال صحبي:
ألست عن السفاه بمستفيق؟
وحتى ما أوسد في مبيت
أنام به سوى الترب السحيق
وحتى أغلق «البوفيه» دوني
وآنست الهوان من الصديق
وسمعنا الآخر ينشد وهو ينتفخ تيها وعجبا، ويصغر خده صلفا وكبرا:
अज्ञात पृष्ठ