عيسى بن هشام :
لا تطمعن أيها الأمير - دفع الله عنك المكاره - في مثل هذه المجالس فقد طوتها الأيام ورمستها الليالي، ولم يبق اليوم من يأنس إليها وينافس فيها.
الباشا :
كيف يكون ذلك وأنا لا أزال أسمع ما تزعمونه من كثرة المدارس الآن، وانتشار العلوم والفنون وتعدد الطالبين، وسهولة الحصول على الكتب ووفرة المطابع وإطلاق الأفكار من القيود، وأين هذا مما كنا عليه في الزمن الأول من تعسر الوصول إلى الكتب وتعذر استنساخها لضن أربابها كأنها لديهم خفايا الكنوز، حتى لقد كان الجهلاء الذين لا ينتفعون بها ولا يفقهون منها شيئا هم أول من يفاخر باقتنائها، ويعتبرونها ضربا من ضروب الزينة والزخرف كأنها اليواقيت والجواهر يعجز عنها من يروم الانتفاع بها إن لم يكن ذا ثروة واسعة تمكنه من استنساخها أو ابتياعها، فلا بد اليوم أن يكون في يد كل مصري كتاب يطالعه، وأن يكون كل واحد منهم قد أصبح في العلوم والفنون أليف محاضرة وحليف مذاكرة تزدهى به مجالس الفضل وتزهو أندية الأدب، وكيف لا يكون ذلك وقد ذقت من حلاوة المطالعة والمذاكرة ما أنساني حلاوة كل لذة في العالم؟
عيسى بن هشام :
نعم شاعت العلوم في هذا العصر، وترقت الفنون وكثرت المطابع وسهل على الناس اقتناء الكتب ومطالعتها، ولكن قل بيننا عدد الراغبين فيها والمطالعين لها، فكسدت سوقها وبارت تجارتها وأغفلها من ينتفع بها للاشتغال بسواها من الأمور الباطلة والأشياء التافهة، ورغب عنها من كان يقتنيها للزينة لكثرة الانتشار والتبذل، والناس اليوم في حركة لا شرقية ولا غربية قد اشتغل بعضهم ببعض، واكتفوا من دهرهم بحوادث يومهم فتعطلت بينهم مجالس العلم، واندرست مجامع الأدب، واقتصروا على مطالعة أخبارهم في الجرائد والصحف دون الدفاتر والكتب، وأنى يكون لهم الاستقرار في المجالس وهم لا يستقرون في مكان، ولا يهدأون من حركة ولا ينفكون عن غدو ورواح ولا ينتهون عن نقلة وسفر، وأكثر ما يكون جلوسهم في المركبات، مركبات الخيول أو البخار أو الكهرباء، وأهل اليسار منهم يقضون جزءا من شهور العام مترحلين في بلاد الأجانب متنقلين في ديار الغربة للنزهة والتفكه، وقصارى العلم عندهم أن يتلقى الطالب أشتاتا منه في المدرسة وأطرافا، وهو بالسن التي لم يصل فيها بعد إلى تمام التعقل وكمال الإدراك، فيحفظها ويؤديها كالببغاء، فإن أسعده الحظ في آخر الدراسة ونجح عند الامتحان تأبط صك الشهادة ونفض يده من تلك العلوم، وطرحها عنه طرح الثوب الخلق، ونبذها نبذ القادم على أهله ما أسن من ماء
13
وما جف من زاد انتقاما لنفسه مما عاناه من مشقة، وقاساه من تعب في درسها وحفظها من غير أن يفقه لها مزية في ذاتها أو يذوق لها حلاوة في طعمها، فإذا هو بلغ إربته ودخل في خدمة الحكومة أصبح كالعامل من العمال لا العالم من العلماء، وقل فيهم بعد ذلك من يصبو إلى العلم وأهله أو يحن إلى الأدب وكتبه، ولئن مال بعضهم للمطالعة، فإنها لا تتجاوز حد الكتب المتعلقة بأصول وظيفته، ولذلك أصبحت كتب العلم والأدب مملولة منبوذة، وثقل على الناس مطالعتها لما هم فيه من كثرة الحركة والتنقل، وطول الانهماك في الأشغال المتجددة، فلا يقوى أحدهم على مطالعة صحيفة من كتاب إلا وقد بلله العرق ودهمه الكلال والملال، ونزل به الضجر والسأم، وإنك لترى مثل هذا بينا في حديثهم فهم لا ينصتون إلى قصة متصلة، ولا يتبعون في الكلام قضية مرتبة، ولا يعجبهم منه إلا ما كان متقطعا مبتورا أو مقتضبا مجذوما.
الباشا :
ما أكاد أخليك أيها الصديق من غلو في وصف هذه الحال، وهل خلا أو يخلو زمان في البداوة كان أو في الحضارة من مجالس للعلم، ومجامع للفضل وأسواق للأدب، وما كان زماننا الذي كنت فيه ليخلو من آثارها حتى لقد رأينا فيها كثيرا من الكبراء والأمراء ممن لا نصيب لهم من العلم والأدب لا يغفلون مجالسهم من وجود شاعر مجيد أو فاضل أريب، أو نديم أديب أو محدث ظريف تتفكه به النفوس وتستريح له القلوب، هذا والكتب بين الناس قليلة التداول والعلم بعيد التناول، فما بالكم اليوم على هذه الحال التي تصف والصحف منشورة والكتب مطبوعة وأسماء العلوم مذكورة.
अज्ञात पृष्ठ